L'Appel de la Vérité
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
Genres
ولا عجب في هذا بعد أن أصبحت الفلسفة على يديه شيئا مختلفا عما يفهمه الناس عادة عنها، وتحررت من الملل الأكاديمي الذي ران على صدرها! ولم تعد مهنة «لأكل العيش» تدرس في كليات مهنية وتقسم إلى مواد منهجية كالأخلاق والجمال والمنطق ونظرية المعرفة وما شابهها، بل صارت فكرا ينبع من حقيقة وجودنا في العالم، ويفتش عن المعنى الكامن في كل ما هو موجود، أصبحت فكرا لا يسعى إلى غاية تحيط بها هالة غامضة كالعلم أو المعرفة؛ لأن غايته الوحيدة هي السعي نفسه، أي الحياة ذاتها، لقد عرف هيدجر وجود الإنسان بأنه وجود للموت، وهذا صحيح من حيث إن الموت هو نهاية الحياة وقانونها المحتوم، ولكن الإنسان لا يحيا لأجل الموت، بل لأنه كائن حي، وهو لا يفكر لكي يصل إلى نتيجة معينة، بل لأنه بطبيعته كائن مفكر باحث عن المعنى،
7
وتحولت مهمة معلم الفلسفة من تكديس الحقائق والنظريات والمعلومات إلى طرح قضايا وإشكالات يشتعل حولها الحوار، بعثت كنوز الماضي ودبت فيها الحياة، ولم يعد المعلم يتكلم «عن» أفلاطون ونظريته في المثل كأنها شيء مضت عليه ألفا سنة، بل يناقش نصوصه خطوة خطوة بحيث تصبح مشكلة حاضرة حية يتصل بيننا وبينها الحوار.
ولعل الدرس الذي نستطيع أن نتعلمه من هذا الفيلسوف لن يخرج في نهاية الأمر عن هذه العبارة: الطريق هو كل شيء، أما الهدف فلا شيء، فهل تصحبني الآن على هذا الطريق؟
السؤال عن الوجود
السؤال عن الوجود لا ينفصل في تفكير هيدجر عن السؤال عن الحقيقة؛ فهما الباعث لهذا الفكر، أو هما النغمة المزدوجة التي تطغى على لحنه المتدفق وتبث فيه الحركة والحياة، ولا بد لنا منذ البداية من الإشارة إلى أن كلمة الحقيقة بمعناها التقليدي لا توضح دلالتها الأصلية التي لا يعنيها هيدجر، وهي «الأليثين» بمفهومها اليوناني الذي يفيد التكشف أو اللاتحجب، ولهذا ينبغي علينا كلما ذكرنا كلمة الحقيقة على الصفحات القادمة أن نتذكر معناها الأصلي الذي يعتمد عليه فيلسوفنا في عرضه المشكلة وتصوره لها، ويمكننا أن نمهد لهذا المعنى إذا قلنا: إن كلمة «الأليثين» - التي نترجمها عادة بالحقيقة ويترجمها هيدجر باللاتحجب - هي إحدى الكلمات الأساسية في لغة اليونان وفهمهم للوجود.
1
فكل تعامل أو اتصال بالموجود لا يتم إلا إذا خرج هذا الموجود من تحجبه وتكشف وظهر بنفسه، هذا اللاتحجب لا يضاف إلى الموجود أو لا يحمل عليه عن طريق الحكم، بل الأولى أن كل قول نعبر به عن الموجود لا يكون ممكنا إلا إذا سبقه ظهور هذا الموجود نفسه (أو لاتحجبه) الذي يعد خاصية أساسية فيه، ولهذا سوى أرسطو على سبيل المثال بين «الأليثين» (اللاتحجب) وبين الأون (الموجود) وأصبح الموجود في نظره هو الكائن الحاضر، بمعنى الموجود الذي يتمتع بنوع من الثبات، ويتصف بشكل معين وحدود ثابتة، ومن ثم كانت «الفيزيس» عنده هي هذا الكائن الحاضر على الأصالة.
أما الإنسان، فهو الذي يملك القدرة على إدراك الموجود على نحو ما يظهر ويتجلى من ثنايا الاحتجاب، وهو القادر على أن يجمعه في وحدته عن طريق «اللوجوس» الذي يكشف عن هذه الوحدة (إذ إن اللوجوس من ناحية اشتقاق الفعل المشهور «ليجين» يعني عنده التجميع)، وهكذا نجد أن الإنسان - في تفسير هيدجر للتجربة اليونانية - ليس هو مركز هذه التجربة ومحورها؛ لأن الموجود اللامتحجب هو الذي يشغل هذا المركز؛ ومن ثم يستطيع الإنسان عن طريق اللوجوس أن يتجه إليه وينفتح عليه، ومعنى هذا بطبيعة الحال أن نفهم الإنسان من جهة الحقيقة (أي اللاتحجب) لا أن نفهم الحقيقة من جهة الإنسان.
السؤال إذن ذو شقين، ومن حوله يدور تفكير هيدجر في كل أعماله، وسنحاول أن نبين مدى ارتباط هذين الشقين أو هذين الجذرين الأساسيين لشجرة هذا الفكر، ولن يتسع المجال بطبيعة الحال لتتبع هذا السؤال في كل ما كتبه هيدجر؛ ولهذا سنقتصر على تناوله من خلال بعض أعماله التي تعد علامات واضحة على طريقه الطويل وبخاصة الوجود والزمان، وماهية الحقيقة، وهما أول ما يرد على الخاطر من مؤلفاته عند السؤال عن الحقيقة، ثم نتناوله في بعض محاولاته التي تتناوله من وجهة نظر معينة أو مجال محدد، كما في بحثه عن «الأصل في العمل الفني» ورسالته عن النزعة الإنسانية، ومحاضرته عن «ماهية اللغة» وكتابه عن «نهاية الفلسفة ومهمة الفكر».
Page inconnue