دخلت منزله فلم أجد المنزل ولا صاحبه؛ لأني لم أجد فيه ذلك الروح العالي الذي كان يرفرف بأجنحته في غرفة وقاعاته، ولم أر دخان المطبخ ولم أسمع ضوضاء الخدم، ولا بكاء الاطفال ولا رنين الأجراس، فكأنني دخلت القبر أزور الميت لا المنزل أعود الحي.
ثم تقدمت نحو سرير المريض فكشف كلَّته البالية عن خيال لم يبق منه إلا إهاب١ لاصق بعظم ناحل، فقلت: أيها الخيال الشاخص ببصره إلى السماء قد كان لي في إهابك هذا صديق محبوب، فهل لك أن تدلني عليه. فبعد لأي ما٢ حرك شفتيه وقال، هل أسمع صوت فلان، قلت نعم مم تشكو، فزفر زفرة كادت تتساقط لها أضلاعه وأجاب، أشكو الكأس الأولى، قلت: أي كأس تريد، قال: أريد الكأس التي أدوعتها مالي وعقلي وصحتي وشرفي، وها أنا ذا اليوم أودعها حياتي، قلت قد كنت نصحتك ووعظتك وأنذرتك بهذا المصير الذي صرت إليه اليوم، فما أجديت عليك شيئا، قال ما كنت تعلم حين نصحتني من غوائل هذا العيش النكد أكثر مما كنت أعلم، ولكنني كنت
_________
١ الإهاب: الجلد.
٢ يقال فعله بعد لأي أي بعد إبطاء وما زائدة.
1 / 57