وقال دون باساتو: «إني رأيت الإمبراطور مائة مرة ينتقل ليلا من معسكر إلى آخر، ويقف هنا وهناك لدى النيران ويسأل عما يغلي في القدر ثم يقهقه من الأجوبة المضحكة التي كان يسمعها من الجنود.»
وقال القومندان كلود برجيه في «تاريخه»: «يا لله! ما أعرف نابوليون بالجندي الفرنسوي، وما أقدره في مخاطبته والضرب على أشد الأوتار تأثرا في قلبه - أعني وتر الشرف - ولقد وصف نابوليون نفسه الجندي الفرنسي في صفحة جميلة قال فيها: إن الجندي الفرنسوي رجل مفكر قاسي الحكم فيما يتعلق بشجاعة ضباطه ومواهب رؤسائه، وهو يجادل رفيقه في شأن الخطط والأساليب الحربية، ويستطيع القيام بأي عمل من الأعمال إذا كان لرؤسائه حرمة في نفسه، وإذا كان هو يستحسن مجرى الأحوال الحربية، أما إذا كان الأمر على العكس فلا يمكن الاعتماد على الفوز، وابن فرنسا هو الجندي الوحيد بين جنود أوروبا الذي يستطيع القتال ويقوم بجليل الأعمال وهو ضامر البطن مطوي الأحشاء على الطوى، ومهما طال زمن المعركة، فإنه ينسى الأكل في سبيل الفوز، حتى إذا انتهى القتال صارت مطالبه أكثر من مطالب غيره، والجندي الصغير من الفرنسويين أشد اهتماما بإحراز النصر من ضابط بروسي وهو يدعي أن الفضل الأكبر في كل نصر يرجع إلى فيلقه، وجملة القول أن جنود الأمم الأخرى تصبر يوم الوغى بحكم الواجب، والجندي الفرنسوي يحارب إجابة لصوت الشرف، فإذا أصابه فشل شعر بأن نفسه ذليلة، وإذا فشلت الجنود الأخرى عادت غير مكترثة.»
وربما كان رأس الأمور التي حملت نابوليون على تسمية الوسام الذي أحدثه ب «وسام جوقة الشرف» ما كان يعرفه من رسوخ ذاك الشعور في نفس الفرنسوي. وإذا رجعت إلى الأوامر العسكرية وخطب التحريض التي كان يلقيها عليهم أبصرته يحاول فيها كلها أو جلها أن يظهر للجندي ما يحرزه من الشرف والفخر هو وآله إذا عاد وإكليل النصر يزين جبينه، ولقد كان الأعداء أنفسهم يعرفون أن قوة الجندي الفرنسوي إنما هي بعواطفه وشواعره لا بقوة ساعديه وعرض كتفيه. قال أحد القواد البروسيين بعد معركة يانا: «لو كان علينا أن نقاتل الفرنسويين بسواعدنا فقط لأدركنا النصر في وقت قريب؛ لأن الجندي الفرنسوي صغير ضئيل، يستطيع ألماني واحد أن يتغلب على أربعة مثله، ولكن هؤلاء الجنود الصغار ينقلبون إلى طبقة فوق طبقة البشر تحت النيران، ويندفعون بنخوة لا نستطيع إيضاحها ولا نرى لها مثيلا في جنودنا.» ولا شك في أن هذا الإقرار من ضابط بروسي كان من أجمل الشهادات التي تسطر للجنود الفرنسوية.
وكان نابوليون لا يكتفي بإظهار الاحترام والميل إليهم من أجل تلك الفضيلة، بل كان يحبهم حبا صادقا، قال المؤرخ الذي ننقل عنه: «إن جنوده كانوا أولادا له بالمعنى الصحيح يشرف على أمورهم ويسهر عليهم كما يسهر الأب على بنيه، ويحضر توزيع المآكل عليهم ويتناول الحساء «الشوربا» معهم.»
وكان نابوليون يضع اللين في محله والقسوة في موضعها، فيعفو عن الجندي المذنب إذا رأى وجها لعذره أو ما يخفف ذنبه، ولا يتسامح إذا وجد التسامح مضرا بالمصلحة الحيوية، وإليك حكاية تدلك على شيء من خلقه: حدث أيام معارك بروسيا أن الجنود الفرنسوية ضربت مضاربها لتستريح بعد السهر المضني ثلاث ليال متوالية، ولما جاءت العتمة خرج نابوليون يتفقد أحوال الحراس في أطراف المعسكر جريا على عادته في كثير من الأحيان ولا سيما في الأوقات العصيبة، فاتفق أنه رأى حارسا برح به الوصب وتسلط عليه النوم بعد السهر الطويل، فهوى إلى الأرض ونام تاركا بندقيته إلى جانبه، فأراد نابوليون أن يوقظه، ولكنه أبصر في تلك الدقيقة طوافة من الضباط قادمة نحوه، فأخذ بندقية الحارس النائم ووقف مكانه حتى لا يدع الضباط يبصرون به ويعاقبونه، ولما طلبت الطوافة سر الليل أجابها نابوليون فسارت في طريقها لإتمام التفتيش، وفي تلك الأثناء استيقظ الحارس النائم فوجد بندقيته بيد رجل غيره، فأسرع نحوه فإذا هو قائده ومولاه، ولكن نابوليون سرى عنه قائلا: «لا تخف»، ثم سأله: «كم مضى عليك من الزمن بلا نوم؟» فقال: «ثلاثة أيام، ومع ذلك فإني ما كنت لأنام لولا ما أصابني من الجروح»، ثم أبصر نابوليون أن الجندي كان مصابا بجرحين، فأعجب به ومنحه وساما، ثم قال وهو يبتعد عن ذاك البطل: «لا ريب أني أستطيع فتح العالم بهؤلاء الرجال ...»
وكان نابوليون يعرف وجه الضعف في رجاله فيأخذهم به، ويضرب على الوتر الحساس من أوتار قلوبهم، فمن شأنه المعروف أنه كان مع شدته في المحافظة على النظام العسكري يسمح لرجال الحرس القدماء الذين حضروا المعارك وأبلوا البلاء الحسن بأن يخاطبوه بصيغة المخاطب المفرد بعكس ما يقضي به أدب الحديث في اللغة الفرنسوية، ولا سيما إذا كان المخاطب كبيرا والمخاطب صغيرا، فإن استعمال صيغة الجمع في الكلام واجب لا يصح إغفاله، على أن نابوليون كان يعلم أن عادة أولئك الأبطال التي تدل على انتفاء الكلفة صارت إليهم من روح الجمهورية وأنها تنطوي على همة واحترام يسهل في سبيلها بذل المهج الغالية.
وكان نابوليون قبيل عرض الجنود يدعو الكولونل ويسأله عن أسماء الذين امتازوا في المعارك الماضية ويطلب بعض أخبار عن أهله، ثم يمر وقت العرض بأولئك الجنود الممتازين، فيذكر لكل منهم اسم المعركة التي امتاز فيها والمكافأة التي أخذها ويسأله عن أمه العجوز إن كانت حية أو عن غيرها من آله الأقربين، فيطير الجندي منهم فرحا وطربا حين يرى قائده الأعظم يتذكر خدمته ويعنى بأمره، ثم يصبح نابوليون حديث النهار وسمر الليل بين الجنود كلهم، فيأخذ كل منهم يحكي حكاية عن ذاكرته العجيبة ومعظم تلك الحكايات من بنات المخيلات.
وكان من أكبر العوامل في تفاني الجنود أن كل واحد منهم بات يحسب نابوليون منصفا للشجعان وذوي الكفاءة الحربية، وكان كبار القواد أقوى البراهين الحية لديهم على صحة ذاك الاعتقاد، فإنهم خرجوا من قلب الجيش، وبعضهم استوى على العروش مثل المارشال مورات الذي عين ملكا لنابولي، وبرنادوت الذي استوى على سدة أسوج، ومعظم الجنود كانوا يرون الرقي إلى أحد العروش رتبة عالية من الرتب التي كان نابوليون يمنحها لرجاله، فيقولون مثلا: «فلان صار ملكا.» كما يقولون: «فلان رقي إلى رتبة كولونل.» مع مراعاة النسبة بين الرتبتين.
وهناك أمر آخر كان نابوليون يعنى به عناية خاصة، وهو تعزيز ما يسمونة «روح الفيلق» في الجيش، ومعناه بعبارة أخرى أن يفرغ القائد جهده في زيادة التنافس الشريف بين فيالق جيشه، فتتسابق في مضمار الشجاعة والبأس، ولقد نجح نابوليون نجاحا باهرا في هذا السبيل حتى صار كل فيلق من فيالقه، بل كل ألاي من ألاياته، يعد نفسه في مقدمة الجيش، ومما يذكر عن سمو الأساليب التي كان يتبعها نابوليون لبلوغ المرام أنه كان إذا رأى التعب والجوع والبرد تنهك تلك الجنود الفولاذية كما كانوا يلقبونها، نزل هو وسار مع الجنود، فأخذ كل واحد من هؤلاء يقول: «الإمبراطور ... الإمبراطور»، وتغيرت مشية الفيلق كله كأنما تيار كهربائي سرى إليه من أوله إلى آخره.
هكذا كان نابوليون، وهكذا كانت جنوده، وكل فريق منهم خليق بالآخر.
Page inconnue