مقدمة
1 - النسر الأعظم في فقره ومسكنته
2 - فتش عن المرأة
3 - في سبيل المجد
4 - اليسر بعد العسر
5 - هيام نابوليون بجوزفين
6 - نابوليون بعد الزواج
7 - سلوك جوزفين في ميلان
8 - نابوليون مع أسرته
9 - المشاغل الحربية في ذاك الوقت
Page inconnue
10 - إلى مصر
11 - العاطفة الأبوية عند نابوليون
12 - تقرير الطلاق
13 - زواج نابوليون وماري لويز
14 - ولادة ملك روما
15 - خيانة ماري لويز
16 - أخلاق نابوليون
17 - نابوليون وجنوده
18 - نابوليون وقواده
19 - نابوليون وأهوال الحرب
Page inconnue
20 - تأييد نابوليون للعلوم والفنون
21 - نابوليون في شاهق العظمة
22 - كيف كان مع أعدائه؟
23 - هل كان نابوليون شجاعا بالمعنى الصحيح؟
24 - طالع النحس
أسرة بونابارت
مقدمة
1 - النسر الأعظم في فقره ومسكنته
2 - فتش عن المرأة
3 - في سبيل المجد
Page inconnue
4 - اليسر بعد العسر
5 - هيام نابوليون بجوزفين
6 - نابوليون بعد الزواج
7 - سلوك جوزفين في ميلان
8 - نابوليون مع أسرته
9 - المشاغل الحربية في ذاك الوقت
10 - إلى مصر
11 - العاطفة الأبوية عند نابوليون
12 - تقرير الطلاق
13 - زواج نابوليون وماري لويز
Page inconnue
14 - ولادة ملك روما
15 - خيانة ماري لويز
16 - أخلاق نابوليون
17 - نابوليون وجنوده
18 - نابوليون وقواده
19 - نابوليون وأهوال الحرب
20 - تأييد نابوليون للعلوم والفنون
21 - نابوليون في شاهق العظمة
22 - كيف كان مع أعدائه؟
23 - هل كان نابوليون شجاعا بالمعنى الصحيح؟
Page inconnue
24 - طالع النحس
أسرة بونابارت
النسر الأعظم
النسر الأعظم
تأليف
يوسف البستاني
مقدمة
لقد أصبت خير جزاء على إخراج رواية «فرخ النسر» إلى اللغة العربية بما رأيته من ارتياح القراء إلى وقائعها وحوادثها التاريخية المؤثرة، ورأيت اليوم أن أصور لمحبي التاريخ أبا فرخ النسر، الذي لقبه بعض المؤرخين بأفضل لقب يجمل بعلائه وعظمته؛ أي: «النسر الأعظم».
وليس من غرضي أن أنقل تاريخ حروبه التي وضع لها المؤلفون الغربيون مئات المؤلفات وترجم بعضها إلى لغتنا، بل غرضي كله أن أذكر ما يظهر للقارئ «النسر الأعظم» ورب الحرب بصفاته ومزاياه وعواطفه الخاصة، فيراه شابا فأخا فعاشقا فزوجا فأبا ... إلخ.
وما اخترت هذا الشطر من سيرة ذلك الرجل الفريد إلا لأمرين؛ أولهما: أن فيه من اللذة والعبرة ما تحلو مطالعته. والثاني: أني لا أجد - أو لا أعرف - من المؤلفات والمترجمات العربية ما هو جامع لذاك كله، وإنه لحقيق بكل كاتب عربي أن يهتم بنقل النفائس الأجنبية التي ترجمت إلى لغات عديدة ما خلا لغتنا؛ لأن فيها من فرائد الفوائد ما ينير الأذهان ويزيد «الثروة الأدبية والتاريخية»، وإنا لنخدع أنفسنا إذا قلنا أن «ثروتنا» تكفي طلاب الرقي الفكري، أو أنها تضارع ما تملكه الأمم العظمى.
Page inconnue
أما المؤلفات التي اعتمدت عليها في هذا الموضوع، فأخصها مؤلف «المسيو أرتور لافي»، وهو لم يكتبه إلا بعد أن درس عشرات من المذكرات والكتب التي خصت ب «النسر الأعظم»، وحسبي لإظهار شأنه قول «فرنسوا كوبيه» الشاعر الشهير في مقدمة كتبها له: «اقرأ كتاب المسيو أرتور لافي تعجب بما تراه من الترتيب الفكري، وسكون النفس، وعمران الضمير، والترفع عن التحزب كما يجب على كل مؤرخ بالمعنى الصحيح.»
وإذا صح أن ما يؤثر في نفس الكاتب يؤثر في كل قارئ، فإن هذا المؤلف الصغير الذي أقدمه للقراء الكرام لا يكون أقل أثرا في نفوسهم من «فرخ النسر»؛ لأنهما من معدن واحد، وإذا أخطأ ظني الغرض، فحسبي ما نويته من الخدمة العامة، وإنما الأعمال بالنيات.
يوسف البستاني
الفصل الأول
النسر الأعظم في فقره ومسكنته
في الخامس عشر من شهر أغسطس سنة 1769 شعرت لاتيتيا زوجة شارل بونابارت بآلام الولادة وهي في الكنيسة، فأسرعت إلى بيتها حيث ولدت على سجادة غرفتها ولدا سمته «نابوليون»، فهل كان في تلك السجادة سر من طراز ما يذكرونه في الأقاصيص والحكايات؟ إنا لا نتصدى لمثل هذا البحث ولا نريد مشاركة أهل الخرافات، وإنما نجتزئ بذكر ملاحظة في شأن المحيط الذي ولد فيه النسر الأعظم، وهي أن أمه صرفت الأعوام التي تقدمت زواجها في محيط تجاري مالي عند رجل سويسري من أرباب المصارف اسمه فيش - لأن هذا الرجل تزوج أم والدة نابوليون بعد وفاة زوجها الأول - فتعلمت الضبط والترتيب والنظام، فإذا صح ما يقوله الفلاسفة من أن الأم تورث بنيها من أخلاقها ومزاياها، فإن ما اشتهر به نابوليون الأول من حب النظام والتدقيق في الحساب كان من فضل أمه لاتيتيا، وأول ما شعر به نابوليون حين ترعرع أن حالة بيته كانت تقتضي النظر والتدقيق؛ لأن الحروب أورثت آله الضنك والضيق، فلم يكن لأبيه إلا ملك صغير لا يربو ريعه عن ألف أو ألف وخمسمائة من الفرنكات في العام، ولكن أمه الفاضلة قابلت تلك الحال بثبت الجنان وسكون الجأش، ولجأت إلى حكمتها في تدبير المنزل، وأضمرت حزنها في قلبها الكبير.
ولما بلغ جوزيف كبير ولدها وأخوه نابوليون العمر الذي يجب فيه طلب العلم ووضع الأساس للمستقبل، أخذ أبوه يلتمس هنا وهناك من أرباب الكلمة والشأن أن يسعوا لولديه المذكورين في الحصول على مراكز مجانية في بعض مدارس فرنسا.
وبعد التعب والوصب وتوالي الرجاء والالتماس تمكن أسقف أوتون - وكان حفيد حاكم كورسيكا مسقط رأس نابوليون - من إدخال جوزيف في مدرسة أوتون وإدخال نابوليون في مدرسة بريان رجاء أن يدمجه يوما في سلك البحرية، ولكن نابوليون اضطر قبل الذهاب إلى مدرسة بريان أن يدخل إلى حين مدرسة أوتون ليتعلم اللغة الفرنسوية ويصبح قادرا على الانتظام في عقد البحرية الفرنسوية، وما مضت ثلاثة أشهر على نابوليون حتى صار قادرا على التحدث والكتابة بها.
وكانت أقوال المؤرخين الذين وصفوا نابوليون وهو في مدرسة أوتون منطبقة على عواطفهم الخاصة، فجعله بعضهم أعجوبة الذكاء والعبقرية، ووصفه آخرون ب «طالب متكتم عنيد ميال إلى الاستبداد وسفك الدماء»، وربما كان القول الحق ما ذكره شاتوبريان، وهو أن نابوليون لم يكن إذ ذاك إلا صبيا صغيرا لا يتميز تميزا كبيرا عن الأقران؛ لأنه دخل تلك المدرسة وهو لا يعرف اللغة الفرنسية ولا يعرف عادات الطلاب التي كانت تختلف عن عادات أهل كورسيكا، ولا يشعر إلا بتفوقهم عليه في الثروة ومميزات أخرى، فلا عجب لدى هذا كله أن يكون قليل الكلام، قليل الامتزاج بالطلاب، مستشعرا أثر الغربة ووجوب العزلة، ولما انتقل إلى مدرسة بريان أخذت مواهبه العقلية تظهر وتتجلى، ولكن حالته المادية كانت سيئة ومؤثرة في مسلكه بدليل قوله لكولنكور سنة 1811؛ أي بعد أن صار إمبراطورا: «إني كنت في بريان أشد فقرا من زملائي؛ فهم كانوا يجدون المال في جيوبهم وأنا لم أكن أجد شيئا، على أني كنت عيوفا أنوفا، أفرغ جهدي حتى لا أدع أحدا يشعر بإفلاسي، وكنت لا أعرف الضحك واللهو كسائر الطلاب ... إن التلميذ بونابارت كان حاصلا على علامات جيدة في دروسه، ولكنه لم يكن محبوبا.»
فالقائد العظيم والإمبراطور الأعظم الذي عشقه الجيش والشعب زمنا مديدا يعترف بأنه لم يكن محبوبا في المدرسة، والسر في هذا النفور منه يظهر للباحث في أمرين؛ أولهما: اجتناب نابوليون أسباب النفقة وضروب المعاشرة لفراغ جيبه. والثاني: سخر الطلاب به وتلقيبه ب «الكورسيكي» لما رأوه من ذاك الانقباض ومن اختلاف عاداته وحالاته عما ألفوه في جمهورهم، والحقيقة أن نابوليون لم يكن يخشن إلا لمن ناوأه وهزأ به؛ بدليل ما قاله لبوريان الذي كان أحد الطلاب: «أما أنت فأحبك؛ لأنك لا تهزأ بي ...»
Page inconnue
وروي أن نابوليون قال مرة لأحدهم: «إني سألحق بمواطنيك الفرنسويين كل ما أستطيعه من الضرر.» فبنى بعض المؤرخين على هذا الكلام علالي وقصورا، ولكن المنصف لا يوافقهم على كل ما استنتجوه، بل ينظر إلى الأحوال التي قال فيها نابوليون تلك العبارة؛ فهو لم يقلها إلا في ساعة غضب، وفي الرد على صبية أوسعوه سخرية ولقبوه بالكورسيكي فلقبهم هو بالفرنسويين، وإن هذا كله إلا زلة لسان، وكلمة طالب لا يزن ما يقوله ولا يفكر إلا في جرح خصومه.
وكان نابوليون مع ضيق ذات اليد وشدة المعاكسة مكبا على الدرس، منقطعا إلى البحث، ناجحا في كل فروع الدروس ولا سيما الرياضيات، وكان همه بعد الدرس منصرفا إلى إخوته وآله، ولما علم أن أخاه جوزيف كان يريد الانتقال إلى مدرسة بريان أو متز اهتم بالأمر، وكان عمره لا يزيد عن ثلاث عشرة سنة، فكتب إلى أبيه كتابا قال فيه: «إن أستاذي في الرياضيات - الأب بترول - لا ينوي السفر، فيمكن أخي جوزيف أن يأتي إلى هنا، وإذا أراد أن يشتغل فإنه يذهب معي للامتحان والدخول في سلك المدفعيين ...» فأي صبي في هذا العمر يظهر أفضل من تلك العواطف الأخوية؟
ولقد رمى كثيرون نابوليون بالأنانية ونكران الجميل ونسيان الأصدقاء بعد الصعود إلى ذروة المجد والعز، ولكن أهل القسط والإنصاف من المؤرخين نفوا عنه ذاك العيب، ومما قدموه من البراهين الدامغة تعيين بوريان الذي كان صديقه منذ عهد المدرسة كاتب سر خاص، ثم اهتمامه بأمر «زميله» لوريتسون الذي رقاه إلى رتبة جنرال وعينه بعد حين سفيرا له في العاصمة الروسية، فكان آخر سفير لنابوليون، وقس عليهم كثيرين من الذين كانوا زملاء أو أساتذة أو أصدقاء للبطل الكورسيكي منذ أيام المدرسة. وصفوة ما يقال أن نابوليون كان حسن العواطف في المدرسة وشديد الحرص على اتباع وصايا أمه الفاضلة، ومتجه الفكر والقلب نحو آله، ومحترما من أساتذته ومحترما لهم.
وفي 15 سبتمبر سنة 1783 امتحن الشفالييه وكيل المدارس الحربية الملكية ذاك الطالب الذي يضمر له المستقبل كل عجيبة حربية، وكتب عن نتيجة امتحانه الكلمات الآتية: «إنه سيكون بحارا بارعا، ويستحق أن ينقل إلى مدرسة باريس.»
على أن البحرية لم تقبل نابوليون؛ لأن عدد تلاميذها كان محدودا؛ ولأن كثيرين من الطلاب كانوا يتهافتون عليها ويلتمسون نفوذ الكبراء في الوصول إليها.
فاضطر نابوليون أن يبقى في مدرسة بريان، ثم رأى أن الواجب عليه لأهله يقضي بأن يترك مركزه المجاني لأخيه لوسيين؛ لأن القانون لم يكن يسمح بتعليم أخوين مجانا في وقت معا، ولما رأى نفسه مضطرا إلى العدول عن البحرية كتب إلى أبيه يسأله أن يلتمس له محلا في مدرسة المدفعية أو الهندسة.
وفي أكتوبر سنة 1784 تمكن من الدخول في مدرسة باريس الحربية، فدخل العاصمة الفرنسوية وليس عليه شيء من هيئة ذاك الذي سيدخلها فاتحا وإمبراطورا عظيما، بل دخلها غريبا تدل مشيته على حداثة وصوله، حتى وصفه دمرتيوس كومين أحد مواطنيه بأنه «كان من أولئك الذين يعرفهم المحتالون الطرارون بمجرد النظر إليهم»، وليس بعجب أن يكون نابوليون على تلك الحال؛ فقد وصل العاصمة الفرنسوية وليس له من العمر إلا خمس عشرة سنة، وعينه لم تألف منظر مدينة كباريس، وجيبه ضامر لا يسمح له بأن ينفق عن سعة كسائر تلاميذ المدرسة الحربية، وزد على هذا كله أن فقر أبويه كان ماثلا نصب عينيه وحائلا دون تمتعه بشيء من الترف والاشتراك في اللذات والحفلات، وكان صديقه برمون يشعر بما خامر نفس نابوليون فيعرض عليه أن يقرضه مبلغا من المال، فيجيبه نابوليون: «إن أعباء أمي كثيرة، فلا أريد أن أضيف إليها حملا آخر بإسرافي، ولا سيما إذا كان الباعث عليه جنون زملائي ...»
وتكلم نابوليون مرة سنة 1811 عن حالته في المدرسة فقال: «إن تلك الهموم كدرت علي صفاء الشباب، وأثرت في طبعي، وأكسبتني الرزانة قبل وقتها ...» ومما زاد حزن نابوليون وهو في المدرسة وفاة أبيه سنة 1785 وليس له من العمر إلا تسع وثلاثون سنة، وهاك ما كتبه إلى أمه:
أمي العزيزة، تعزي واصبري؛ فإن الأحوال توجب علينا العزاء والصبر، ونحن سنضاعف العناية بك والاعتراف بجميلك، فإذا تمكنا من تعويضك بعض الخسارة من فقد زوج عزيز، كنا سعداء الطالع.
وكتب إلى عمه:
Page inconnue
لقد فقدنا أبا، والله أعلم ما كان في صدر هذا الأب من الحنو والحب لنا ... كل شيء وا أسفاه كان يدلنا على أن الفقيد سيكون عوننا وعضدنا في زمن الشباب، ولكن الله لم يرد أن يبقيه لنا، وإرادة الله نافذة لا مرد لها، وهو وحده قادر على تعزيتنا.
وإذا نظرنا إلى نجاح نابوليون في درسه بعد انتقاله إلى المدرسة الحربية في باريس وجدناه لم يأت شيئا عجبا يدل دلالة قوية على مستقبله الباهر، فقد كانت نمرته 42 بين 58 طالبا، وكان أستاذه في الألمانية «بولير» يقول: «إن نابوليون حيوان لا يفهم»، خلافا لما توسمه أهل النظر الصادق ولما حققه الزمان.
ولما كانت سنة 1785 صدر الأمر بتعيين بونابارت ملازما ثانيا في ألاي لافير، فسر سرورا عظيما كما يحدث لشاب مثله لم يتجاوز السادسة عشرة، وأسرع فأوصى بصنع ملابسه العسكرية، ولكن الأخبار متفقة على أن الهندام والزخرف كانا بعيدين عن ذياك الضابط الصغير، وأنه اشترى حذاء ضخما ثقيلا، وأن فخذيه النحيفتين توارتا في البنطلون الجديد الواسع، ولما رأته فتاتان صغيرتان اسمهما سسيل ولور - والثانية هي التي صارت الدوقة دابراتيز - لقبتاه ب «القط المبيطر»، فلم يغضب نابوليون من هذا اللقب، بل ذهب وأتى بمركبة فيها قط يلبس حذاء ومعه قصة مضحكة.
ولما سافر نابوليون إلى فالانس رافقه ألكسندر دي مازي الذي عين مثله ضابطا في ألاي لافير، وعند وصوله إلى فالانس حيث كان الألاي استقبله جبريل دي مازي أخو ألكسندر، وكان ليوتينان في الألاي نفسه، ونزل بونابارت عند امرأة عزبة مسنة اسمها «مدموازيل بو» وكانت صاحبة قهوة، وهناك أخذ يظهر جانب من خلق بونابارت وهو التشبث بعاداته، فإنه بقي عند تلك المرأة سحابة المدة التي صرفها هنا، وكان كلما عاد إلى فالانس وحده أو هو وأحد إخوته ينزل عند «مدموازيل بو».
وكان نابوليون في فالانس مثل كل شاب لا يزيد عمره عن سبع عشرة سنة يريد أن يظهر في مظاهر الرجال، وهناك بدأ يذوق شيئا من طعم الحياة الطيبة بعد الضيق والمسكنة، فتعلم الرقص على يد أستاذ اسمه دوتيل، وأخذ يزور المجالس والأسر المعروفة ويرمق الفتيات ببعض النظرات.
على أنه لم يكن يخص باللهو وترويح النفس إلا بعض أوقات الفراغ، ولم يغفل المطالعة والكتابة بل أخذ يشتغل بوضع تاريخ لكورسيكا، ولما فرغ من الفصلين الأولين أرسلهما إلى الأب رينال فسر بهما وحضه على إتمام هذا التاريخ.
وبعد حين من الزمن دعي ألاي نابوليون إلى ليون حيث خيف من حدوث اضطراب، فقضى شهرا في تلك المدينة، ثم طلب إذنا في السفر إلى كورسيكا، ولما انتهت «إجازته» سافر إلى أوكسون حيث كان ألايه، وكان صدره منقبضا وقلبه منفطرا لما رآه من الضيق الذي حل بأمه وإخوته، وانقطع عن الملاهي والملاذ التي بدأ يألفها في فالانس، ونزل عند المسيو لومبار أستاذه في الرياضيات، وما كان يترك شغله إلا ليتناول غذاءه في بيت صديقه أمون الذي كان أمام منزل أستاذه ثم يعود إلى غرفته ويكب على الدرس. ويمكننا أن نحصر وصف حياة نابوليون إذ ذاك في الكلمات الآتية التي بعث بها إلى أمه، قال:
إني لا أملك شيئا سوى الشغل، ولا أغير ملابسي إلا مرة واحدة في كل ثمانية أيام، ولا أنام إلا قليلا منذ عراني المرض، وأنا أرقد الساعة العاشرة مساء وأستيقظ الساعة الرابعة صباحا، ولا آكل إلا دفعة في اليوم نحو الساعة الثالثة بعد الظهر.
ولخوفه من زيادة الغم والهم على قلب أمه ختم بقوله: «وهذا موافق جدا للصحة»، على أن خوفه وقلقه على آله وتواصل الدرس وشظف العيش كل ذلك أضنى نابوليون وأصابه بفقر الدم، حتى إن المسيو بيافالو طبيب الألاي خاف عليه سوء المغبة، وفي أول سبتمبر سنة 1789 حمله ضعف جسمه والشوق إلى آله على طلب إجازة أخرى فنالها وسافر إلى كورسيكا. •••
ولما شفي نابوليون من ضعفه الشديد عاد من كورسيكا إلى أوكسون ومعه أخوه لويس، وكان بوده أن يعود وحده ولكنه رأى أمه في ضائقة مالية فأراد أن يخفف من أعبائها بتعهد أمر أخيه والإنفاق عليه، وما كان للويس من العمر في ذاك الوقت إلا ثلاث عشرة سنة، على أن هذا الشعور الشريف لم يخفف إلا قليلا من أثقال أمه الفاضلة؛ لأنها بقيت مضطرة إلى تربية سبعة أولاد ما عدا لويس، وحسبك لتعلم التقتير الذي لجأ إليه نابوليون من أجل أخيه أن تتصور أنه لم يكن يقبض في آخر الشهر إلا راتب ملازم ثان؛ أي 92 فرنكا، فكيف يكفي هذا المبلغ القليل ضابطا شابا وأخا محتاجا إلى العلم والغذاء والكساء؟ إن نابوليون وجد طريقة للاكتفاء به وهي أن يحرم نفسه الجلوس في القهوات وحضور الحفلات وملاذ الزيارات، وأن يأكل في كثير من الأحيان خبزا جافا وينفض غبار ملابسه بيده.
Page inconnue
وحدث يوما بعد ما صار نابوليون إمبراطورا أن أحد الموظفين شكا قلة راتبه وكثرة عياله، فقال له نابوليون: «أنا أعرف كل ما تقول ... أعرفه يوم كنت ملازما أول آكل الخبز الجاف، وأوصد الباب على فقري ومسكنتي.»
وكان نابوليون في أوكسون يهتم بأقل الأمور في غرفته الوضيعة، وكان من جملة ما وجد مكتوبا بخط يده في دفتر خياط اسمه بيوت ما يلي:
المطلوب من نابوليون بونابارت.
س
فرنك
4
4
صنع بنطلون من الجوخ
4
1
Page inconnue
صنع كلسون عدد 2
4
1
صنع تطريز
ثم ذكر أن الخياط أنزل له شيئا قليلا من أجرة الكلسونين.
وكان نابوليون يهتم بتعليم أخيه في بعض أوقاته الحرة ويصرف الباقي منها في الكتابة الأدبية؛ لأنه كان يرجو منها بعض الربح المادي، ولقد كابد نابوليون تلك الحال بصبر وحزم ولم يظهر شيئا من التذمر والتأنف، قال المسيو جولي الذي قابله وهو على تلك الحال: إني رأيت نابوليون طلق المحيا، ولما دخلت عليه قال لي: «لا شك في أنك لم تحضر القداس هذا الصباح فتعال إذا شئت لأسمعك إياه»، ثم أخرج من صندوق ملابس كهنوتية لقسيس الألاي ...
وقال المسيو سوجور: إن عناية نابوليون بأخيه زادت احترام الناس له فأخذوا يبالغون في إكرام وفادته، ولكن زياراته للناس كانت نادرة جدا، وقيل إن الآنسة بيليه كانت تأسف لقلتها وإن مدام نودين كانت تنظر بعين السرور إلى زيارته لزوجها ...
ولكن نابوليون وقف في أوائل المنحدر فلم يهو في درك الهوى، وقد كتب حديثه عن الحب وهو في أوكسون نفسها فقال: «إني أرى الحب مضرا بمصلحة المجتمع وبسعادة الفرد، وأرى على وجه الجملة أن ضرره أكثر من نفعه.»
وليس بعجيب أن يصدر مثل هذا القول عن شاب لا يجد رزقه ورزق أخيه إلا بشق النفس وتراكم الشغل، فإن الحب لا ينمو عادة في قلب مشغول بالماديات، كما أن الزرع اللطيف لا يعيش في أرض كثيرة الأشواك، وسيرى القارئ من رسائل الحب التي أرسلها نابوليون بعد ارتقائه، أن قلب البطل الكورسيكي كان يخفق بين ضلوعه شوقا وغراما، كما يخفق قلب كل إنسان يحب الحسان. •••
وفي مايو سنة 1791 رقي نابوليون إلى رتبة ملازم أول وألحق بألاي المدفعية الرابع، فعاد إلى فالانس ومعه أخوه لويس، وذهب توا إلى غرفته القديمة عند «مدموازيل بو» فوجدها مشغولة فأبى أن يغير عادته وبقي في بيت «بو» حتى خلت الغرفة، وما كانت حالته المالية في ذاك الوقت أفضل مما كانت في أوكسون، فاضطر إلى اجتناب الزيارات والحفلات كما كان يفعل قبل نقله إلى فالانس، وبقي مثابرا على تعليم أخيه لويس، فلم يترك له كثيرا من أوقات الفراغ ولا من المرتب الضئيل، وكان يدفع المبلغ القليل الذي يبقى له بعد النفقة الضرورية قيمة اشتراكه في المطالعة بإحدى المكتبات.
Page inconnue
وكان نابوليون منذ ريعان الشباب يتحمس لفكرة الثورة ويميل إلى الحرية، واندمج هناك في «جمعية أصدقاء الدستور» وعين كاتب سر لها، وقد حفظ أعضاء تلك الجمعية آثار خطبه المملوءة نخوة وحمية، وكان ميله إلى الأفكار الحرة سببا في تغير بعض رؤسائه ورفاقه عليه وخصوصا الشفاليه ديدوفيل الذي كان مثله ملازما أول.
ولما صار نابوليون إمبراطورا كان ديدوفيل في الهجرة، فأوعز إليه نابوليون بالعودة إلى الوطن وعينه في إحدى الوظائف، ولما استقبله نابوليون بعد رجوعه قال لحاشيته: «هذا أحد رفاقي القدماء الذين اشتد النزاع بيني وبينهم في فالانس لأجل دستور 1791.»
وبعد حين التمس بونابارت من الجنرال تايل أن يحصل له على إجازة، ففعل برغم معارضة الكولونيل الذي كان الألاي تحت إمرته، فسافر بونابارت وأخوه لويس إلى كورسيكا حيث قابل أمه وإخوته، وهناك عين في رتبة «قائمقام» للمتطوعين الوطنيين، وقيل إنه ما التمس هذا المركز إلا لرغبته في مساعدة أمه وإخوته من الوجهة المالية.
واتفق أن كولونيل الألاي أصدر إليه أمرا موجبا للشك والريب، فأبى تنفيذه، فعزله، ثم دعي نابوليون إلى باريس فأوضح الأمر لوزير الحربية، فأعاده إلى الجيش العامل وأمره بأن يعود إلى كورسيكا ليستلم فيها قيادة الحرس الوطني.
ومما يذكر هنا أن نابوليون قاسى ضيقا شديدا سحابة المدة التي قضاها في باريس لتبرئة نفسه والرجوع إلى الجيش، حتى اضطر إلى رهن ساعته عند فوفيليه أخي صديقه وزميله بوريين، ولما التقى بذاك الصديق في باريس سر به سرورا بالغا، وذكر بوريين ما كان من أمرهما، قال: «إن صداقتنا عادت إلينا تامة كما كانت في المدرسة، على أني لم أكن سعيدا مع نابوليون؛ لأن وطأة الضيق والمسكنة كانت ثقيلة عليه، فكنا نقضي أيامنا كما يقضيها شابان في الثالثة والعشرين وليس في جيبهما إلا شيء قليل من النقود، وكنت أنا أحسن حالا منه ، ولطالما بحثنا عن ضروب من المضاربة لنكسب من ورائها شيئا.» وكان من جملة ما خطر ببال نابوليون حينئذ أن يستأجر عدة بيوت جديدة ليؤجرها لآخرين ويربح الفرق، ولكن أصحاب الملك أقاموا في سبيلهما العقبات لقلة مالهما، وكانا يأكلان في مطعم صغير في شارع فالوا، وكثيرا ما كان بوريين يدفع كل المطلوب؛ لأنه كان أحسن حالا كما تقدم.
ولقد شهد نابوليون في ذاك الحين هياج العامة ورأى نحو خمسة أو ستة آلاف من الرعاع المسلحين يصيحون ويتجهون نحو قصر الملك، فقال لصديقه بوريين: «تعال نتبع هؤلاء السفلة»، ولما رأي الملك لويس السادس عشر وسطهم لابسا قبعة حمراء صاح نابوليون قائلا: «كيف تركوا هؤلاء الرعاع يدخلون؟ لقد كان من الواجب أن تنظف قنابل المدافع أربعمائة أو خمسمائة منهم ثم تدع الباقين يركضون.»
وفي ذاك الحين أخذ يشعر نابوليون بنفور شديد من ترك السلطة للعامة، وكتب إلى أخيه جوزيف في 3 يوليو سنة 1792 يقول: «إن زعماء الثائرين من زمرة المساكين، فكل منهم يبحث عن مصلحته الخاصة، والدسائس اليوم هي أدنى مما كانت في كل زمان ... وجل ما يتمناه المرء هو دخل أربعة أو خمسة آلاف فرنك والحياة الهادئة ومحبة الآل والإخوان ...»
وفي ذاك الحين أيضا رأى نابوليون مقتل بقية أنصار الملك وسوقه إلى الجمعية الوطنية، فشعر بخوف شديد على أمه وإخوته من الحوادث المتوقعة في كورسيكا وغيرها، ولكن انتظار القرار المنوط بوظيفته اضطره إلى البقاء في العاصمة.
وفي 13 أغسطس من تلك السنة صدر الأمر بإخلاء جميع المدارس الملكية، فذهب نابوليون مسرعا إلى سان سير، فأخرج أخته إليزا من مدرسة البنات، وفي 30 من الشهر المذكور صدر الأمر بإعادة نابوليون إلى رتبة كابتن في المدفعية، وبالإذن له في السفر إلى كورسيكا، فسافر هو وأخته إلى ليون ثم برحها عن طريق نهر الرون، فقابلته مدموازيل بو صاحبة الفندق الصغير في فالانس والسيدة ميزانجير وقدمتا له سلة من العنب، وفي 17 سبتمبر وصل نابوليون وأخته إلى أجاكسيو حيث اجتمعت عائلة بونابارت كلها لأول مرة منذ ثلاث عشرة سنة، ولولا الفقر والمسكنة التي كانت تحيق بها لكان سرور أعضائها عظيما، وقيل إن المورد الوحيد الذي كانوا يعتمدون عليه حينئذ ويرجون منه دفع غائلة الجوع هو مرتب نابوليون.
وكانت أم نابوليون تجلس معه بعد رقاد أولادها الصغار وتظهر قلقها الشديد على مستقبل بناتها، فيعمد نابوليون إلى تطييب نفسها وتسكين جأشها، وقد قال لها مرة: «إني سأذهب إلى الهند ثم أعود بعد سنوات قليلة بمال وافر وأخص كل واحدة من أخواتي الثلاث بمبلغ منه ...»
Page inconnue
وفي تلك الأيام اشتدت دسائس زعيم كورسيكي اسمه باسكال باولي وقام نزاع شديد بينه وبين نابوليون؛ لأن باولي كان يريد إلحاق الجزيرة بإنكلترا، وحدث وقتئذ أن الجنود الفرنسوية فشلت في جزيرة مادلين وكاجلياري، فاشتد ساعد باولي وتمكن من تأليف حكومة وقتية لكورسيكا وأمر بنفي آل نابوليون كلهم، وكان نابوليون قد استشعر الخطر المقبل فبرح كورسيكا، ولكنه علم في طريقه بالقرار المتعلق بآله، فأخذ يتنازعه عاملان عامل الواجب لعائلته وعامل الخطر الذي يتهدده، ولكن تردده لم يطل فعاد قاصدا بلده لينقذ أهله، ولما وصل إلى باب مدينة أجاكيسو علم أن أمه وسائر آله غير مهددين بخطر داهم، وأنهم انطلقوا إلى كالفي، فأسرع إلى حيث كانوا، ثم أبحروا جميعا إلى مرسيليا بينما كان رجال باولي يحرقون وينهبون أملاكهم.
وكان وصول نابوليون وأمه إلى مرسيليا في يونيو سنة 1793، وقد وصف أخوه لوسيين حالة «لاتيتيا وأولادها» في مذكراته فقال: «كان نابوليون يخص معظم مرتبه بتخفيف أعباء أمه وسد حاجة إخوته، وتمكنا من الحصول على جراية من الخبز وبعض المساعدة بصفتنا مهاجرين وطنيين، فكان هذا العون كافيا لنا على قلته؛ لأن أمنا الفاضلة كانت مدبرة مقتصدة.»
وكان من جملة الذين ساعدوا أرملة بونابرت وأولادها في مرسيليا الموسيو كلاري من كبار تجار الصابون، فإن قلبه رق لحال تلك السيدة وأولادها، وتوثقت العلاقات الودية بين الأسرتين، وما مضت سنتان حتى تزوج جوزيف جولي ابنة ذاك التاجر، ثم جرى حديث عن قرب اقتران نابوليون بأختها دزيريه، ولكن يد الدهر كتبت لها أن تكون بعد حين زوجة لبرنادوت.
وبعد حين سافر نابوليون من مرسيليا إلى مدينة نيس حيث كان الألاي الرابع مع جيش القائد كارتو، فأخذ ينتقل معه من مدينة إلى أخرى في جنوبي فرنسا ليخمدوا فتنة الذين هبوا لمعارضة الدستور.
وفي ليل 27-28 أغسطس حدثت الخيانة العظيمة بتسليم ثغر طولون للإنكليز، فأسرع جيش بارتو - ومعه ألاي بونابارت - نحو تلك المدينة لاسترجاعها، فاستولى أولا على موقع أوليول، وفي إبان القتال جرح قائد الطوبجية دومارتين، فعين نابوليون خلفا له، ومع أن الجنرال دي تايل كان صاحب الأمر في المدفعية لم يشأ خوفا من المسئولية أو ثقة بالضابط نابوليون أن يتولى هو القيادة الفعلية للمدفعية، وهناك كان ابتداء شهرة نابوليون وفاتحة مجده الحربي.
وفي 22 ديسمبر أي بعد إخراج الإنكليز من طولون ببضعة أيام صدر الأمر بترقية نابوليون إلى رتبة جنرال، على أن اسمه لم يكن معروفا بين الفرنسويين، ولما أبلغ الضابط جونو أباه أنه سيكون ياور الجنرال بونابارت كتب إليه يقول: «لماذا تركت القائد لابورد، ولماذا تركت فرقتك؟ ومن هو الجنرال بونابارت، وأين خدم؟ إني لا أعرف أحدا يعرفه ...»
وكان عمر نابوليون في ذاك الحين لا يزيد عن خمس وعشرين سنة، فلم يأخذه الزهو والكبر لحصوله على تلك الرتبة العالية ولم ينس أمه وإخوته، بل ازداد عناية بهم وعطفا عليهم، قال أخوه لوسيين: «إن ترقية نابوليون أدت إلى تحسين حالنا، وقد ذهبنا إلى قصر ساليه لنكون على مقربة من معسكره العام، فكان يقضي معنا كل أوقات الفراغ.»
وتمكن نابوليون من تعيين أخيه لويس ياورا براتب ملازم أول وأبقاه معه، وأدخل أخاه جوزيف في إحدى الوظائف.
وفي ذاك الحين أراد روبسبير الصغير أن يولي نابوليون قيادة الحامية الباريسية، فأخذت أسرة بونابارت تتحدث في هذا الشأن، فقال نابوليون: «إن روبسبير الصغير رجل عامر الذمة، ولكن أخاه لا يمزح وهو يريد أن أخدمه وأنفذ مقاصده، وأنا لا أريد أن أخدم مثل هذا الرجل ... أنا لا أرى لي محلا شريفا في هذا الوقت إلا في الجيش، فلا تضيقوا صدرا واعلموا أني سأكون قائد باريس ولكن بعد حين ...»
على أن الزمان أراد أن يدخله الحبس قبل أن يذهب به إلى باريس قائدا وإمبراطورا ويصبح قادرا على إخراج المساجين، وسبب حبسه أن «القومسير ريكور» فوض إليه مهمة سرية وأرسله إلى جنوى، فقامت الشكوك والريب حول نابوليون، ولما عزل ريكور صدر الأمر بالقبض على بطل طولون للتحقيق فجيء به من نيس إلى حصن كاريه، فاستولى القلق العظيم على أمه وإخوته وأصدقائه، واسودت الدنيا أمام ذاك القائد الشاب؛ لأن الحبس في ذاك الوقت كان على الغالب أول مرحلة من طريق الغليوتين.
Page inconnue
ولكن نابوليون لم يسترسل إلى الجبن واليأس، بل ظهر في المظهر الذي تميز به سحابة العمر، مظهر الثبات والحزم أمام الخطوب والكروب، وكتب إلى ألبيت وساليساتي اللذين استصدرا الأمر بالقبض عليه قال: «إني خدمت الوطن في طولون وأحرزت شيئا من الامتياز، وكان لي نصيب من الفوز الذي ناله جيش إيطاليا في سورجيو وتارانو، فكيف أنزل تحت الشبهات قبل سؤالي وسماع جوابي؟ إنهم جعلوني موضع الريب، ثم ألقوا الحجز على أوراقي، مع أن الواجب يقضي بحجز أوراقي وطلب الإيضاح مني، وبعد ذلك أرمى بالشبهات إن كان هناك مسوغ.»
رمى جماعة من المؤرخين نابوليون بالتجرد من العواطف الإنسانية الطيبة، فإذا أراد القارئ أن يعرف قيمة هذا الزعم وجد البرهان الدامغ على بطلانه فيما جرى بينه وبين ساليساتي، فإن البطل الكورسيكي علم في يونيو من سنة 1795 أي بعد سنة لحبسه أن ساليساتي - وكان وقتئذ فارا من وجه الحكومة - لجأ إلى منزل بيرمون حيث كان نابوليون يتناول الغداء كل يوم، فتجاهل نابوليون وجود ذاك الرجل الذي اضطهده، واكتفى بأن يرسل إليه بعد هربه إلى بوردو كتابا قال فيه: «رأيت يا ساليساتي أني كنت قادرا على مقابلة الشر بمثله، ولو فعلت لثأرت لنفسي من رجل أنزل بي الضر وما رميته بإهانة أو شر، فاذهب بسلام وابحث عن ملجأ تأوي إليه ريثما يتحسن شعورك الوطني.» •••
ثم رجع نابوليون إلى مدينة نيس في 24 أغسطس بعد أن قضى ثلاثة عشر يوما في الحبس، وهناك اشترك في مظاهرة قام بها الجيش، وصدر الأمر بتعيينه قائدا لبطاريات الحملة البحرية التي أرسلت إلى سيفيتا فكشيا، ولكنه ما لبث أن عاد مع حملته إلى طولون؛ لأن البوارج الفرنسوية لم تستطع يومئذ أن تقهر البوارج الإنكليزية، وبعد أيام صدر الأمر بصرف رجال الحملة فأصبح الجنرال نابوليون بلا منصب، وفي أوائل إبريل سنة 1795 سافر إلى مرسيليا حيث تلقى أمرا بالسفر إلى مركز الجيش الفرنسوي المعروف بجيش الغرب والموكل بإخماد الفتنة الأهلية، فاستاء نابوليون من هذا الأمر؛ لأنه قضي بنقله إلى جيش يصادم الفرنسويين بدلا من أن يكون في جيش يقاتل الأجانب، وما نزل على قلبه شيء من التعزية إلا عند تفكيره في تحسين حالة أمه وأخواته الثلاث وأخيه جيروم - أما أخواه جوزيف ولوسيين فقد كانا متزوجين يومئذ.
وبعد حين تولى وزارة الحربية كابتن قديم اسمه أوبري فعين نفسه فريقا ومفتشا عاما للبطاريات، وأمر بنقل نابوليون إلى إحدى فرق المشاة، فتبرم نابوليون واعترض على هذا التعيين، فأجابه أوبري: «أنت لا تزال شابا ... فيجب أن يتقدمك المسنون»، فقال له نابوليون: «إن الشباب يسن عاجلا في ساحة القتال»، ولكن أوبري أصر على رأيه العتيق، فأبى نابوليون أن ينتقل إلى المشاة، وأصبح في موقف حرج، ولكن بعض ذوي الشأن الذين عرفهم في طولون توسطوا له عند ذاك الوزير، وبعد الجهد الشديد استنزلوا له أمرا بالبقاء في العاصمة على سبيل «الإجازة»، إلا إنه كان محروما من مرتبه. أما السبب الذي حمل نابوليون على رفض الانتقال إلى صفوف المشاة فهو أن ضباط البطاريات كانوا ينظرون بعين الاستخفاف إلى ضباط المشاة، فعد نابوليون نقله حطا من قدره كما قال مارمون في «مذكراته»، وكتب نابوليون نفسه إلى أحد أصدقائه يقول: «أرادوا أن يعينوني جنرالا للمشاة في جيش فنديه فلم أقبل؛ لأن كثيرا من الضباط يمكنهم أن يقودوا المشاة ويكونوا فيها أبرع مني، أما البطاريات فقليل أولئك الذين ينجحون في قيادتها.»
فاستنتج بعض المفكرين أن مطامع نابوليون لم تكن عظيمة وأحلامه لم تكن كبيرة في ذاك الوقت؛ لأن جنرال البطاريات إذا كان محترما فهو لا يجد أمامه مجالا لإشباع المطامع العظيمة كقائد المشاة الذي يصدر الأوامر إلى قواد البطاريات، ويرى أمامه متسعا للأعمال الباهرة وتحقيق الأماني الجميلة.
وفي تلك الأثناء اضطر الجنرال بونابارت أن يعدل عن الكماليات ويكتفي بالضروريات، فباع مركبته وأخذ يصرف جانبا من وقته في زيارة أهل النفوذ والسلطان ليوضح لهم أمره، ثم يصرف الجانب الآخر في زيادة علومه ومعارفه بزيارة المعاهد العلمية والفنية وغيرها، وكان بين حين وآخر يذهب مع صديقه جونو إلى بعض الحدائق فيتحدثون عن إخوته وأخواته، ولقد عشق «جونو» «بولين بونابرت» وطلبها من نابوليون، فأجابه بلطف: «إنك ستكون صاحب ريع، ولكنك لم تحصل عليه حتى الآن، وأبوك لا يزال جيد الصحة، وكل ما تملكه رتبة ملازم في الجيش، والخلاصة أيها العزيز أنك لا تملك شيئا وبولين لا تملك شيئا، فخير لنا أن ننتظر ...» وكانت حالة نابوليون في ذلك الوقت تزداد اشتدادا لحبس راتبه عنه، فكان مضطرا مع صديقه جونو إلى الاكتفاء بما كان يرد على هذا الصديق من أهله، وإذا اتفق أن جونو كان فارغ الجيب ذهب به نابوليون إلى منزل السيدة برمون - التي صارت ابنتها دوقة أبرانتيز بعد صعود نابوليون إلى ذروة العز والمجد، وكان نابوليون يقول عند وصولهما ضاحكا: «إن حمل الذهب لم يصل حتى الآن ...»
وليس يدلنا على الحالة النفسية التي كان نابوليون عليها في ذاك العهد مثل الكتب التي بعث بها إلى أخيه جوزيف؛ فقد كتب إليه في 23 يونيو من ذاك العام: «إني أفعل كل ما في وسعي لأجد وظيفة لأخينا لوسيين.»
وكتب في 24 منه: «لم أتمكن من الحصول على مركز للويس في فرقة المدفعيات، ولكني سأرسله إلى شالون؛ لأن عمره لم يتجاوز السادسة عشرة، فلا تمضي سنة حتى يصير ضابطا.»
وكتب في 25 منه: «إذا أضمرت السفر وكنت معتقدا أن غيابك يطول مدة من الزمن فابعث إلي برسمك، إنا عشنا معا سنوات عديدة فتمازجت قلوبنا وتقاربت أرواحنا وأنت أعلم بحبي لك ...»
وكتب إليه في 19 يوليو: «لم أر منك كتابا حتى الآن مع أنك سافرت منذ شهر ... أظن أنك تغتنم فرصة وجودك في جنوى لتاتي بآنيتنا الفضية وأشيائنا النفيسة.»
Page inconnue
وكتب في 29 منه: «تجد ضمن هذا الكتاب الجواز الذي طلبته، وسيأتيك غدا كتاب من لجنة الأمور الخارجية لتعضيدك في أشغالك.»
وكتب إليه في أول أغسطس: «إن لويس مكب على الشغل في شالون فأنا مسرور منه ... أكثر لي من أخبارك، وحدثني عن الآنسة أوجيني فإنك لا تذكر لي شيئا عنها ولا عن الأولاد الذين يجب عليك إبرازهم ... إنك تنسى نفسك في هذا السبيل ... ألا فاعطنا حفيدا ... اشرع في الأمر ...»
وكتب إليه في 20 أغسطس: «سأسعى في تعيينك قنصلا وفي تعيين فيلنوف - هو حمو جوزيف - مهندسا فيذهب معي إلى تركيا.»
ثم عاد فكتب إليه في 25 منه: «آمل أن تصير قنصلا في مملكة نابولي بعد عقد الصلح معها ...»
وكتب في 6 سبتمبر: «كتبت إلى قرينتك، أما لويس فأنا مسرور جدا منه؛ لأنه محقق أملي فيه وناهج على ما أريد؛ فهو نشيط، ذكي، جيد الصحة، حسن المواهب العقلية، طيب القلب، محب للتدقيق، وأنت تعلم أيها الصديق أني لا أعيش إلا بالسرور الذي أنزله على قلوب أهلي ...»
فحسبنا ما تقدم لنعلم أن رب الحرب كان محبا لآله، كثير التفكير في مصالح إخوته وأخواته حتى في أحرج المواقف التي وقع فيها.
قال بعض النقاد: إن المطامع الشخصية كانت تملأ قلب نابوليون في ذاك الوقت، ولكن مذكرات صديقه بوريين ومذكرات مارمون لا تقوم دليلا على صحة هذا القول، وإذا نظرنا إلى الكتب التي بعث بها إلى أخيه في تلك الأيام أبصرنا في خلال سطورها حقيقة ما كان يشعر به؛ فقد كتب إليه: «أنا قائد لواء في مشاة جيش الغرب، على أني مريض ومضطر إلى طلب الراحة مدة شهرين أو ثلاثة، وسأرى ما يحسن فعله بعد الشفاء.» «الدستور يتلى اليوم، والناس يرجون منه السعادة والراحة، وسأرسل صورته إليك بعد أن يطبع ويمكنني الحصول عليه.»
ثم قال عبارة تدل على حزنه وانقباض صدره وهي: «إن الحياة حلم يمر على جناح السرعة»، وبعد أيام قليلة بعث بكتاب آخر لم يتكلم فيه عن نفسه، وهاك فحواه:
في كل يوم يصدر أمر بالموافقة على بعض مواد الدستور، ولا تزال الراحة وطيدة، على أن الخبز لا يزال مفقودا والجو يبدو رطبا باردا فيؤخر الموسم، ومع ذاك كله فإن الفخفخة واللهو والفنون المستطرفة عادت على منوال مدهش، فمثلت أمس رواية فيدر في الأوبرا وخص دخلها بإحدى الممثلات، فأقبل الجمهور عليها إقبالا كبيرا مع أن الأسعار زادت ثلاثة أضعاف، وحيثما تذهب تجد المركبات وأهل اللباقة وترى النساء رائحات غاديات إلى المسارح والمتنزهات والمكتبات، وإذا دخلت مكتب العالم نفسه وجدت فيه السيدات البارعات في الجمال، إن النساء في هذا البلد دون سائر المعمور لجديرات بأن يدرن دفة السفينة، والرجال مجانين بهن لا يفكرون إلا فيهن ولا يعيشون إلا بهن ولأجلهن ... أما جونو (صديقه) فيعيش هنا كالشيطان وينفق من مال أبيه كل ما يقدر على ابتزازه، وأما مارمون الذي صحبني من مرسيليا فيقيم الآن في مركزه بمدينة مايانس.
كل شيء هنا على ما يرام، والهياج محصور في الجهات الغربية دون سواها، والحوادث التي قام بها جماعة من الشبان هنا لا تخرج عن أعمال الصبية، والمعروف أن جانبا من أعضاء «لجنة الخلاص العام»، سيجدد في الخامس عشر من هذا الشهر فعسى أن يكون الاختيار حسنا.
Page inconnue
ومما يلاحظ هنا أن تجديد هؤلاء الأعضاء كان يخلص نابوليون من أوبري وزير الحربية الذي أظهر له منتهى العدوان كما تقدم.
وكتب في جواب: «إن حالتي حسنة، وكل ما يعوزني هو حضور إحدى المعارك؛ لأن الواجب على الرجل الحربي أن ينتزع من عدوه رايات النصر أو يموت على مهد المجد.» «إن باريس هي هي، فكل الأفكار منصرفة إلى المسارح والمراقص والمتنزهات والأشياء النفيسة الجميلة ... أما أنا فلا أتشبث بالحياة ولا أرمقها بعين الارتياح ... وسينتهي بي الأمر إلى حد أن أصرف النظر عن أية مركبة تمر ...»
وقال في كتاب آخر: «أنا ملحق اليوم بمكتب الطوبوغرافيا (رسم الأرض) المختص بإدارة الجيش في «لجنة الخلاص العام»، ولو أني أشاء السفر إلى تركيا برتبة جنرال لتنظيم مدفعيات السلطان من قبل الحكومة الفرنسوية لتمكنت من الحصول على مرتب وافر ولقب أعتز به ...» •••
رأينا أن قلب نابوليون كان يخفق أحيانا للنساء الجميلات كما يقع لكل شاب في ربيع الحياة، ثم رأيناه مسترسلا إلى الحزن والأسى، وربما كان ضغط الحوادث والمصاعب على نفسه مولدا عنده ضربا من اليأس، وكان نابوليون كما قال بوريين في مذكراته يميل إلى الزواج ويغبط أخاه جوزيف الذي تزوج الآنسة كلاري ابنة تاجر شهير، ويفكر في الاقتران بالآنسة دزيريه كلاري أخت زوجة أخيه، على أنه لم يكن واثقا بأنها تحبه كما كان يحبها؛ بدليل ما كتبه إلى أخيه وهو أن «دزيريه طلبت رسمي وسأرسله إليها إن كانت لا تزال راغبة فيه، وإلا فأبقه عندك.»
وكتب إلى أخيه يوم كانت دزيريه معه في جنوى: «إن دزيريه لا تكتب إلي منذ سفرها إلى جنوى»، ثم كتب إليه ليعلم أخبارها من غيرها: «أظن أنك اجتنبت الكلام عن دزيريه عمدا، فأنا لا أدري هل هي في قيد الحياة أم لا؟ ...»
وبعد خمسة أيام أمل أن يسافر إلى مدينة نيس فكتب إلى أخيه يقول: «إذا سافرت إلى نيس فإني أراك وأرى دزيريه أيضا ...» وفي التاسع من أغسطس كتب إلى أخيه - بعد أن جاءه كتاب من دزيريه - فأظهر رغبته الشديدة في الاقتران بها، ثم توالت رسائله إلى أخيه في هذا الموضوع، ولكن قلب دزيريه - التي اقترنت أخيرا ببرنادوت ووضعت على رأسها تاج أسوج بدلا من تاج فرنسا - لم تكن تشاطر نابوليون ذاك الحب.
وهنا يجمل بنا أن نشير إلى رأي بسطه بعض المؤرخين المحققين، وهو أن نابوليون لم يكن ينوي أو يؤمل أن يقوم بالمهمة العظمى ويعمل عمله التاريخي الكبير حين أراد الاقتران بتلك الفتاة؛ لأنه لو كان يضمر شيئا مثل ذاك العمل العظيم لأجل اقترانه إلى فرصة أخرى، والواقع أن نابوليون كان في ذاك الوقت حزين النفس، ضعيف الجسم، يطوف في شوارع باريس بقدم متزعزعة وهمة فاترة، ويضع على هامته برنيطة واسعة تنزل إلى عينيه ، ويلبس ذاك «الردنجوت» الرمادي الشهير، ويرسل يدين ضئيلتين طويلتين ويأبى أن يشتري قفازا؛ لأنه يقتضي نفقة زائدة لا حاجة إليها، ويحتذي حذاء ثقيلا متشبعا من الغبار، ولولا نظرته وابتسامته لما كان في مظهره شيء مستحب، وكان يفكر على الدوام في مورد رزق مخافة أن يدهمه أمر العزل في ساعة لا يتوقعها.
قالت السيدة بوريين: «إنه على أثر رجوعنا من ألمانيا سنة 1795 وجدنا نابوليون في «القصر الملكي»، فتقدم وعانق بوريين كما يعانق رفيقا وصديقا محبوبا يتوق إلى رؤيته ويسر بقربه، ثم ذهبنا إلى «المسرح الفرنسوي»، فحضرنا رواية «الأصم أو الفندق الممتلئ»، فكان جميع الحاضرين يقهقهون ويبتهجون ما عدا نابوليون، فإنه كان صامتا واجما، فأثر منظره في نفسي تأثيرا كبيرا، إن فكر نابوليون كان سارحا مشغولا بأمور أخرى، وقلبه بات خائفا أن يأتيه خبر يقضي على أمله، وكان من جملة الأشغال التي فكر في اتخاذها موردا للرزق إذا جاءه أمر العزل تجارة تصدير الكتب إلى الخارج، وقد بدأ فعلا بإرسال صندوق مملوء من الكتب إلى مدينة بال فكان نصيبه الخسارة، وبعد هذا الفشل عاد إلى مشروعه القديم؛ أي السفر إلى تركيا لتعليم فرقة المدفعية هناك.» •••
رأينا أن نابوليون لم يكن يلقى من كل مسعى إلا خيبة الأمل، وأشد ما فت في عضده وأدمى قلبه أن اضطهاد وزير الحربية «أوبري» أودى بثمرة جده وخدمته في إيطاليا وغيرها، وأن أصدقاءه أو حماته - كما يقول - مثل باراس وفييرون لم يقوموا بكل ما رجاه منهم، وزد على كل ما تقدم أن الفتاة دزيريه لم تشاطره الحب ولم ترغب فيه زوجا.
وإنه لعلى تلك الحال إذا بنور الفرج يبدو له من حيث لا يؤمل ولا يرجو؛ ذلك أن الموسيو بونتيكولان - العضو في لجنة الخلاص العام - عين في اللجنة الحربية ونيطت به إدارة الأعمال العسكرية، على أن الفوضى كانت تضرب أطنابها في ديوان الحربية، حتى إنهم فقدوا خطة حرب البيرنيه كما قال سيجور، وبعد البحث الطويل وجدوها في قمطر مستخدم صغير، ثم اتفق ذات يوم أن الموسيو بونتيكولان حدث الموسيو بواسي دانجلاس عما رآه من الخلل والعلل، فقال له الموسيو بواسي: «إني لقيت أمس جنرالا معتزلا يتكلم عن معرفة وعلم في أمر الجيش الفرنسوي الذي حارب في إيطاليا وهو يستطيع أن يقدم لك نصائح نافعة»، فطلب إليه الموسيو بونتيكولان أن يرسل إليه هذا الجنرال، فأبلغ الموسيو بواسي طلبه إلى نابوليون.
Page inconnue
وبينما كان الموسيو بونتيكولان جالسا إلى مكتبه في الطبقة السادسة - حتى يخلص من كثرة الرجاء والالتماس - دخل عليه إنسان نحيل ضئيل ممتقع اللون متقوس الظهر - كما قال مونتيكولان نفسه، فدهش لرؤية هذا المخلوق الذي وضعه الموسيو بواسي تحت حمايته، على أنه ما تجاذب معه حديث الحرب الإيطالية التي كانت تهمه حتى رأى أن أفكاره لم تكن مريضة مثل جسمه، ورغب إليه أن يكتب كل ما ذكره في حضرته ثم يعود إليه.
على أن نابوليون أدرك من محادثته للموسيو بونتيكولان أن هذا الوزير الذي فوضت إليه أمور الحرب كان يجهل الأمور الحربية، واعتقد أن المذكرة التي طلبها منه ستطرح كغيرها في محفظة بعض المستخدمين، فأبى أن يرجع إلى بونتيكولان.
وبعد أيام قليلة لقي بونتيكولان الموسيو بواسي فأعرب له عن تعجبه وقال: «إني رأيت رجلك، ويظهر إنه مجنون»، فقال له: «لقد كان يؤمل أن تدعوه للشغل معك»، فقال بونتيكولان: «لا بأس، فليعد غدا.»
فقابل المسيو بواسي نابوليون ونصح له ملحا بأن يكتب مذكرة عن جيش إيطاليا إجابة لطلب بونتيكولان، فكتب بضع صفحات أودعها صفوة آرائه، ثم حملها إلى وزارة الحربية، وعاد بدون أن يقابل بونتيكولان، فلما طالع هذا الوزير مذكرة نابوليون دهش من كفاءة واضعها وسعة معارفه الحربية، وأرسل يطلبه من غرفة الانتظار لظنه أن نابوليون كان منتظرا أوامره، فلم يجد الرسول أحدا، ولكن نابوليون عاد في اليوم التالي ليرى تأثير المذكرة، فاستقبله الموسيو بونتيكولان باسما وقال له: «أتريد أن تشتغل معي؟» قال: «مع السرور والارتياح ...» ثم جلس إلى أحد المكاتب في الديوان، وأخذ يقوم لبونتيكولان بالخدمة التي سجلها التاريخ، فأعجب هذا الوزير بها وسأل نابوليون «عما يريد»، فطلب نابوليون أولا أن يعود إلى فرقة المدفعية، فذهب بونتيكولان إلى الموسيو لتورنور الذي كان موكلا بأمر الترقية، فعرض عليه رغبة نابوليون وهو معتقد أنه يمكن تعيين شاب مثل نابوليون جنرالا ما دام يمكن تعيين شاب مثله وزيرا، ولكن لتورنور كان لسوء الطالع قصير النظر، فأجاب الموسيو بونتيكولان أنه «لا يمكن قبول هذا المطمع من نابوليون؛ لأن رفاقه القدماء في صفوف الفرق العلمية - يريد المدفعية - ما زالوا في رتبة كابتن.»
فانظر كيف عاند الحظ نابوليون في أوائل عهده، فإنه امتاز بدرايته وشجاعته أمام العدو، ونظم وزارة الحربية بعد أن كان الخلل ضاربا قبابه فيها، ثم وضع الخطة الحربية للجيش الذي احتل فادو، ومع هذا كله أبى لتورنور أن يرجعه إلى صفوف المدفعيات، والمظنون أن السبب في تلك المعاكسة هو أن لتورنور نفسه لم يكن له إلا رتبة كابتن في الجيش، فلم يستطع أن يرى نابوليون متفوقا عليه بين حماة الوطن وإن كان هو وزيرا آمرا.
على أن نابوليون لم يضمر له شرا ولم يحمل شيئا من الحقد عليه؛ لأن النفوس الكبيرة تتعالى عن الضغينة وتعفو عند المقدرة، وهذا ما وقع لنابوليون فإنه لما ارتقى إلى ذرى المعالي عين لتورنور مستشارا في وزارة المالية، ثم دعا المسيو بونتيكولان وقال له: «أنت منذ اليوم عضو في مجلس الشيوخ»، فأجابه بونتيكولان: «لا يمكنني قبول النعمة التي تنعمون بها؛ لأن القانون يقضي بأن يكون عمر العضو أربعين سنة، وأنا ليس لي من العمر إلا ستة وثلاثون عاما»، فقال له نابوليون: «إنك تعين مديرا لبروكسل أو لمدينة أخرى إلى أن تبلع الأربعين فتأتي وتستلم منصبك ... أنا أود أن أظهر لك أني لم أنس ما صنعته لي ...»
واتفق بعد سنوات أن المسيو بونتيكولان ضمن صديقا مدينا بثلاث مائة ألف فرنك، وأن هذا الصديق عجز عن الدفع فشدد الدائن على المسيو بونتيكولان في وجوب الوفاء قياما بالعهد، وبينما كان الوزير القديم في أحرج المواقف علم نابوليون بأمره، فدعاه إلى قصر التويلري وعنفه على البقاء نحو ثلاثة أشهر في ذاك المأزق دون أن يخبره بالأمر، ثم قال له: «اذهب إلى الخزينة الخاصة واقبض المبلغ ...»
ولما كان الشيء بالشيء يذكر وجب علينا أن نذكر للحقيقة أن بنتيكولان كان أول الذين عارضوا في بقاء الإمبراطورية البونابارتية في الجلسة التي عقدها مجلس الأمة الفرنسوية في 22 يونيو سنة 1815؛ أي سنة الشؤم على نابوليون. •••
ولما أبى الموسيو لتورنو أن يحقق أمل الجنرال نابوليون بنقله إلى صفوف المدفعيات، استقال نابوليون من وظيفته في وزارة الحربية وعاد بمساعدة بونتيكولان يتذرع بالذرائع اللازمة لتحقيق أمنيته القديمة، نعني السفر إلى تركيا، وجاءت ساعة كان فيها الأمر بسفره مكتوبا معدا، والأمل بنجاحه وطيدا، وما بقي عليه إلا انتظار نتيجة الاستعلام الذي قامت به «لجنة الخلاص العام»، في شأن الضباط الذين اختارهم لتأليف بعثته، على أن الخلل كان متسربا إلى فروع تلك اللجنة؛ فبينما كان نابوليون ينتظر أمر السفر صدر الأمر بعزله؛ لأنه رفض الوظيفة التي عينت له في جيش الغرب، والحقيقة أن نابوليون عزل خطأ وظلما؛ لأنه أقيل على وجه قانوني من الوظيفة التي عينت له أولا في جيش الغرب، ثم عين في وزارة الحربية وقام للحكومة بخدمات جليلة، ولكن سوء الطالع كان ملازما له والدهر الداهر واقفا في صف خصومه.
ولما دهمه أمر العزل فت في عضده، ورأى أن خير وسيلة إلى إلغاء هذا الأمر الذي حرمه من رتبته العسكرية هو أن يذهب إلى أصدقائه وحماته، ويوضح لهم ما جرى له لعلهم يكشفون عنه تلك الظلامة، فنجح أولئك الأصدقاء في مساعدته، وكتب نابوليون في 26 سبتمبر؛ أي بعد أمر العزل بأحد عشر يوما إلى أخيه جوزيف يقول: «إن مسألة سفري هي اليوم أقرب إلى التحقيق منها في كل آن.»
Page inconnue
الفصل الثاني
فتش عن المرأة
وفي تلك الأثناء صدر أمر «لجنة الخلاص العام» بأن يعطى ضباط الجيش العامل قطعة من الجوخ كافية لصنع ردنجوت وصدرية وبنطلون، فذهب نابوليون إلى أمين مخزن الجيش وطلب قطعة الجوخ، فرفض أن يعطيه إياها بحجة أن نابوليون لم يكن في الجيش العامل، فلجأ نابوليون إلى مدام تاليان فأعطته كتابا إلى الموسيو ليفوف الموكل بذاك الأمر في الفرقة السابعة عشرة، فتكرم عليه بقطعة الجوخ، وما كان سعي نابوليون في هذا السبيل ناشئا عن رغبته في الهندام والإتقان والترف، بل كان ناجما عن سبب آخر ذكره البارون فين، هو أن ملابسه خاضت معه العجاج ولقيت النار مرارا فأخلقت جدتها.
وكانت السيدة تاليان معشوقة المسيو باراس صاحب الكلمة والحول، فصار كل امرئ يطمح إلى تعضيد من باراس أو يلتمس منه عفوا مضطرا في غالب الأحيان إلى زيارة مدام تاليان، حتى أصبحت ردهتها ملتقى المطامع والمطامح من نساء ورجال، وكان نابوليون من جملة الذين يختلفون إلى منزلها، فيرى فيه الزوار والزائرات يؤلفون لجانا مسترسلة إلى أحاديث فيها من كل شجرة ثمرة ومن كل ينبوع قطرة، وكثيرا ما كانوا ينسون لدى تلك السيدة الجميلة خطر الحال في فرنسا. على أن نابوليون كان أقلهم كلاما وأقلهم مظهرا، وإذا تكلم فلا تكلف ولا تصلف.
وحدث يوما أن نابوليون كان منشرح الصدر، حديد الفكر، فأخذ يد مدام تاليان يقرأ فيها ويكثر من الفكاهات والسخافات ليزيد سرور الحضور، فبدا للعين منظر جدير بأن يصوره المصورون ويحفظوه على مر القرون، فمن جهة سيدة بارعة الجمال، كثيرة الدلال، تكتنفها السراء، وتشملها النعماء، وتنصرف إليها الأنظار والأفكار، ومن جهة مخلوق ضئيل نحيل، أصفر اللون، معروق لحم الوجه، يلبس ثوبا عسكريا لا يملأ العين، ويرسل شعرا طويلا عند السالفين.
وهناك سرب من النساء الجميلات جالسات ينظرن إليهما ويضحكن من منظرهما، وبينهن سيدة من ذوات الجمال الضارب إلى السمرة الخفيفة مسترسلة بلا تكلف إلى ذاك المشهد المضحك، اسمها جوزفين، أرملة بومارشيه التي صارت بعد خمسة أشهر قرينة ذاك الجنرال المضحك، ثم صارت بعد ثلاث سنوات إمبراطورة الفرنسويين وتلقت إكليل الزواج من يد البابا، فهل كان نابوليون الذي حاول استطلاع طلع المستقبل للسيدة تاليان، هل كان يقرأ في يده ما أعدته يد الزمان، وهل قرأ في صفحة المستقبل أنه سيصير ملك الملوك وسيد أرباب التيجان؟
الفصل الثالث
في سبيل المجد
وفي تلك الأيام كانت نيران الثورة كامنة تحت رماد السياسة في باريس، والأفكار قلقة مضطربة، وسبب هذا الاضطراب أن كثيرين من الفرنسويين لم يكونوا راضين بالدستور المعروف بدستور السنة الثالثة، فاغتنم الملكيون فرصة استيائهم وهبوا لتعضيدهم، وفي 12 فندميير (الشهر الأول من سنة الجمهورية التي ألغي حسابها) حدث شغب في باريس، فأخرجت حكومة الكونفانسيون الجيش لتفريق المتجمهرين بقيادة الجنرال مينو، فلم يفلح في مهمته، بل اتفق مع الخوارج اتفاقا لا يؤيد سطوة الحكومة، وترك الثائرين في مواقعهم، فما طار هذا الخبر إلى حكومة الكونفاسيون حتى اهتزت أركانها وأمرت بالقبض على الجنرال مينو وبعزل الجنرال ديبريير والجنرال ديبور وغيرهما، وأخذت تبحث عن قائد آخر صحيح العزيمة وطيد الأمانة؛ لأن موت الكونفانسيون وحياتها كانا متوقفين على نجاح الثوار وفشلهم، وبعد المفاوضة الطويلة والمد والجزر اتفق رجال الكونفانسيون على تسليم القيادة إلى واحد منهم خوفا من الخيانة، فعينوا باراس قائدا أكبر للجيش.
على أن باراس كان يحب الترف والنعيم، وهذا لا يتفق مع الواجب العظيم الذي نيط به، فارتبكت أفكاره لدى ذاك الخلل الذي أصاب الجيش نفسه، وأوقف صديقه الموسيو كارنو على أمره، فنصح له الموسيو كارنو بأن يطلب مساعدة أحد القواد، وذكر له ثلاثة ومنهم الجنرال بونابارت، ثم عرضت أسماء قواد آخرين، فقال باراس: «إنا نحتاج إلى جنرال عالم بأمور المدفعية»، فألح المسيو فريرون في وجوب اختيار نابوليون، ثم ذهب وأتى به، فقال له باراس: «أتريد أن تكون قائدا ثانيا لجيش الكونفانسيون؟» فسكت نابوليون فقال له باراس: «أعطيك ثلاث دقائق فقط للتفكير.»
Page inconnue
ففي تلك الدقائق الثلاث تقرر حظ نابوليون وفرنسا وأوروبا، ولما فكر نابوليون في واجبه بدا له أن واجب كل محب لفرنسا كان يقضي بإسقاط حكومة الكونفانسيون التي نشرت الهول والرعب وضمت إليها كثيرين من أهل الجهل والخلل، ولكنه نظر من جهة أخرى فتصور خمسين ألف نمسوي على أبواب ستراسبورغ وأربعين بارجة إنكليزية أمام برست، فقال في نفسه أن صد العدو الخارجي هو رأس الواجبات، واختار ما جعله كل فرنسوي أساس وطنيته، وما نراه في الحرب العظيمة الناشبة في هذا الوقت، وهو أن «تعضيد كل حكومة واجب على كل وطني في وقت الخطر الخارجي.»
على أن نابوليون لم يقبل ذاك المركز الصعب إلا بشرط، وهو «أن لا يغمد الحسام قبل إعادة النظام» فقبل باراس شرطه، وكان هذا الاتفاق نحو الساعة الواحدة بعد نصف الليل؛ أي ليل 13 فندميير، وما جاء مساء 14 منه حتى تغلب نابوليون على الثوار، وفي اليوم ذاته صدر الأمر بترقيته إلى رتبة قائد فرقة (فريق)، ولما اجتمع أعضاء الكونفانسيون قال لهم فريرون الذي قدمه لباراس: «لا تنسوا أن الجنرال نابوليون الذي عين في ليل 12-13 لم يكن لديه إلا صباح ذاك اليوم لاتخاذ الوسائل التي رأيتم نتائجها»، ثم وقف باراس بعد فريزون فذكر الخدمة الجليلة التي أداها نابوليون، وطلب تثبيته في منصب قائد ثان للجيش الداخلي.
ثم انتقل اسم نابوليون من الكونفانسيون إلى الجرائد، وتداولته الألسنة بعد الأقلام، وفي 26 أكتوبر من تلك السنة عين قائدا عاما للجيش الداخلي، وأقام في المعسكر العام الذي كان وقتئذ في شارع الكبوشيين، وعين الجنرال دوفينيو رئيسا لأركان حربه، ثم ضم نابوليون إليه جونو ومارمون وغيرهما ممن كان لهم شأن وسمعة طيبة في حروبه.
الفصل الرابع
اليسر بعد العسر
وانتقل نابوليون من العسر إلى اليسر بعد انتقاله إلى المعسكر العام، وأصبح الباريسيون يشيرون إليه بالبنان، ولم يعد الجنرال بونابارت يحتذي ذاك الحذاء الملطخ بالوحل ويلبس الملابس العتيقة ويسكن في منزل عليه مسحة المسكنة، بل صار يعنى بنفسه ولا يخرج إلا في مركبة فخمة.
ولعل القارئ يسأل هنا: كيف كان تأثير النعمة التي جاءته بتلك السرعة وليس له من العمر أكثر من ست وعشرين سنة؟ هل تغيرت عواطفه وتبدلت أخلاقه أو بقي كما رأيناه في سنواته المنصرمة؟ إن الأعمال التي قام بها والكتب التي أرسلها تتضمن خير جواب على هذا السؤال؛ فقد كان في مقدمة أعماله بعد وصوله إلى شرفة المجد أنه توسط للجنرال مينو «سلفه في المنصب» فبرأه مما أتهمته به حكومة الكونفاسيون، وفي 13-14 فندميير «الموافق 5-6 أكتوبر » كتب إلى أخيه جوزيف يقول:
انتهى كل شيء، وكان أول ما فكرت فيه إرسال أخباري إليك، وقد أمرت حكومة الكونفاسيون بنزع السلاح من قسم لابيلسييه، وعين باراس قائدا عاما وعينني قائدا ثانيا، فأعددنا جنودنا ثم قهرنا الأعداء الذين هاجمونا عند التويلري ونزعنا السلاح من جميع الأيدي ووطدنا الراحة، ثم رجعت كما تعودت؛ أي دون أن أصاب بأقل جرح ... الطالع السعيد لي والسلام الجزيل لأوجيني وجولي.
ثم كتب إليه في 26 أكتوبر: «عرفت من الجرائد كل ما يتعلق بي، فقد عينت قائدا ثانيا لجيش الداخلية وعين باراس قائدا أول، ثم تغلبنا على الخصوم وبات كل شيء نسيا منسيا ... أودعك وأنا لا أنسى شيئا مما ينفعك ويساعدك على نيل السعادة.»
وكتب إليه في 18 أكتوبر: «إن أحد مواطنينا المدعو بيلون - وأنت تعرفه كما يؤكدون لي - طلب بوليت، ولكنه لا يملك ثروة، وقد كتبت إلى أمي ورغبت إليها أن لا تفكر في أمره، وأنا أستزيد اليوم من الاستفهام والاستعلام.»
Page inconnue
وكتب إليه في أول نوفمبر: «صار لوسيين قومسيرا في جيش الرين ... قبل عني امرأتك ودزيريه.»
وكتب إليه في 9 منه: «إن العيلة لا تحتاج إلى شيء؛ فقد أرسلت إليها نقودا وأرواقا مالية ... إلخ.»
وكتب إليه في 17 منه: «يحتمل أن أطلب العيلة إلى هنا ... زدني من أخبارك وأخبار قرينتك وأوجيني ... وإني لا أشعر بوحشة إلا من بعدك، فإذا لم تكن امرأتك حبلى فتعال بلا إبطاء إلى باريس لتقضي فيها حينا من الزمن.»
وكتب إليه في 31 ديسمبر: «لا يأخذنك شيء من القلق على العيلة فإنها حاصلة على كل شيء ... وصل جيروم إلى باريس، وسأدخله في إحدى المدارس الموافقة له، وأنت ستصير قنصلا في وقت قريب فلا يحق لك أن تقلق، وإذا تولاك الملل في جنوى فتعال إلى باريس حيث تجد مائدة ومركبة رهن إشارتك، وإذا كنت لا تود أن تكون قنصلا أمكنك أن تختار هنا الوظيفة التي توافقك.»
وكتب إليه في 11 يناير: «إن كثرة أشغالي وأهمية الأمور التي تشغلني تمنعني من مواصلة الكتابة إليك، أنا سعيد ومسرور، وأما العيلة فقد أرسلت إليها ما قيمته 50 إلى 60 ألف فرنك من نقود وأوراق وغيرها، فلا يشغل أمرها فكرك، وأما أخونا لويس فهو ياور لي وأنا مسرور جدا منه، ومارمون وجونو ياوران أيضا، وجيروم يتعلم في المدرسة اللغة اللاتينية والحساب والرسم والموسيقى ... إلخ، وأنا لا أرى أقل مانع لزواج الشقيقة إذا كان الطالب غنيا.»
فأنت ترى أن نابوليون هو هو مع أهله، لم يغير اليسر ما ظهر من أخلاقه وعواطفه أيام العسر.
الفصل الخامس
هيام نابوليون بجوزفين
على أنه إذا كان نابوليون لم يغير سلوكه مع أهله بعد ذاك الفوز الباهر فإن منصبه كان يضطره إلى الظهور في مظهر الأبهة في المجالس، فكنت تراه يدخل الردهات دخول الظافر المعتز لا دخول الجنرال الوضيع المعوز كما رأيناه، وكان بحكم منصبه يقابل كثيرا أعضاء الحكومة، فيكرمون وفادته ويلقبونه تحببا ب «جنرالنا الصغير».
ولم ينقطع الجنرال نابوليون عن زيارة «صالون» السيدة تاليان وهناك كان يجد نخبة من السيدات والرجال، وهناك عرف جوزفين دي بومارشيه وعشقها أشد عشق. قال مارمون: «إن هذا أول عشق داخل قلب نابوليون على ما يظهر، وكان عمر نابوليون لا يزيد حينئذ عن سبع وعشرين سنة وعمر جوزفين يبلغ اثنتين وثلاثين، على أن فقدها لنضارة الشباب لم يحل دون تملكها لقلبه»، والظاهر من أقوال أخرى أن مارمون جار على جوزفين في حكمه؛ لأنها لم تكن محرومة من نضارة الشباب بالقدر الذي يدل عليه كلام مارمون، وإذا كان جمالها لا يضارع جمال مدام تاليان، فإنه كان كافيا لاجتذاب قلب لم يعرف الغرام كقلب نابوليون.
Page inconnue