وليس من الغريب أن يتبع الفرنساويين إخمادهم الفتنة بالانتقام من المصريين عمن قتل من أبناء جنسهم، سواء من الملكين أو من الحربيين، كيف لا وقد قتل منهم من القواد الجنرال ديبوي وكان محبوبا لبسالته وجرأته، وكذلك قتل العربان كما ذكرنا الكولونيل سولوسكي وكان ضابطا يولوني الأصل من ذوي الفضائل والمكارم، وأي فضيلة أشرف من فضيلة الوطنية لدى رجل أبت نفسه أن يبقى في بلاده بعد أن هدمت المطامع الأوروبية سور استقلالها فارتحل عنها المجد والحرية، فجاء مصر يفعل فيها مثل ما فعل في بلاده!! حتى لقي حتفه في أرض ما عرفت الحرية، ولا ذاقت طعم الاستقلال، ولقد أحبه نابوليون حبا جما حتى لقد سالت الدموع من عينيه حين عمل بمقتله، وكثيرا ما ذكره وأثني عليه، ولقد رثا «دينون» مقتل سولكوسكي بكلمات هي السحر الحلال وقال: كان ذلك الضابط الجميل الرشيق صديقا حميما، طموح النفس، عالي الهمة إلى آخر ما أسبغ عليه من الثناء والإطراء.
ويقدر نابوليون في تقريره عدد من قتل من المصريين في هذه الثورة السخيفة بنحو ألفين إلى ألفين وخمسمائة، وقدر خسارة الفرنساويين بنحو ستين نسمة من الجنود الملكيين.
وأما المعلم نقولا الترك فيقدر الخسارة بأكثر من ذلك أضعافا مضاعفة فقال: «وقد كان مات بهذه الواقعة ألفا صلدات «استعمل المعلم نقولا هذه الكلمة عن الجنود وهي فرنسية
Soldat
عسكري» ومن أهالي المدينة ما ينيف عن خمسة آلاف.» وهي مبالغة لا شك فيها خصوصا فيما يتعلق بخسارة الفرنسيين.
وإلى القارئ سلسلة انتقامات الفرنسيين من المصريين نسردها واحدة فواحدة، فنبدأ بما رواه الجبرتي، ثم نأتي على أقوال الفرنسيين أنفسهم.
نقتطف من الجبرتي في الجزء الأخير من مقامته الثورية العبارات الآتية قال: «ثم تردد الفرنسيس في الأسواق ووقفوا صفوفا، مائتين وألوفا، فإن مر بهم أحد فتشوه، وأخذوا ما معه وربما قتلوه، وتحزبت نصارى الشوام، وجماعة أيضا من الأروام، واغتنموا الفرصة في المسلمين، وأظهروا ما هو بقلوبهم كمين ... وانتدب برطلمين للعسس، على من حمل السلاح واختلس، وبعث أعوانه في الجهات، يتجسسون في الطرقات، فيقبضون على الناس بحسب أغراضهم، وما ينهبه النصارى من أبغاضهم، فيحكم فيهم بمراده، ويعمل برأيه واجتهاده، ويأخذ منهم الكثير، ويركب في موكبه ويسير، وهم موثوقون بين يديه في الحبال، ويسحبهم الأعوان بالقهر والنكال، فيودعونهم السجونات، ويطالبونهم بالمنهوبات، ويقررونهم بالعقاب والضرب، ويسألونهم عن السلاح وآلات الحرب ... وكثير من الناس ذبحوهم، وفي بحر النيل قذفوهم ... ومات في هذين اليومين وما بعدهما أمم كثيرة لا يحصى عددها إلا الله!».
وليت شعري هل أحصى نابوليون تلك الخلائق الذين فتكوا بهم بعد إخماد الثورة وخلود الناس إلى السكينة، فيما قدره من خسارة الثائرين في تقريره الآنف الذكر، أو كان الألفان أو الألفان ونصف ألف خارج هذا العدد «الذي لا يحصبه إلا الله»، على رأي الجبرتي، طيب الله ثراه. (ثانيا) ألقوا القبض على عدد كبير من كبار القوم المتهمين بإشعال جذوة الثورة، ومن هؤلاء ذكر الجبرتي الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان، والشيخ أحمد الشرقاوي، والشيخ عبد الوهاب الشبراوي، والشيخ يوسف المصيلحي، والشيخ إسماعيل البرواي، وفي اليوم التالي «23 أكتوبر» أصدر نابوليون أمرا «محفوظا في مخاطباته بنمرة 3427» إلى الجنرال «بون» قومندان القاهرة «بأن يقتل أولئك المشايخ، ومن قبض عليهم من زعماء الثوار، وذلك بأن يؤخذوا ليلا إلى شاطئ النيل بين مصر العتيقة وبولاق ثم يقتلوا وتلقى بجثتهم في مياه النهر».
وقد بقي أهل القاهرة عدة أيام لا يعرفون ماذا جرى لأولئك المشايخ والفرنساويون يخفون عليهم الأمر، والشيخ الجبرتي يقول: «أخذ الفرنساويون المشايخ من بيت البكري وعروهم عن ثيابهم وصعدوا بهم إلى القلعة فسجنوهم إلى الصباح، ثم أخرجوهم وقتلوهم بالبنادق وألقوهم من السور خلف القلعة وتغيب حالهم عن أكثر الناس أياما.»
وكان ذلك ليلة الأحد 25 جمادى الأول، مع أنهم كانوا قتلوا قبل ذلك بعدة أيام وطرحت جثتهم بالنيل ويظهر أنهم حقيقة عروهم عن ثيابهم وأخفوا رءوسهم، وإلا لو طرحت في النهر لطفت رممهم وتعرفهم الناس في أماكن مختلفة، ولا ندري من أين جاء المعلم نقولا التركي بأن الفرنساويين عقدوا مجلسا وحاكموا الذين ألقى القبض عليهم محاكمة قانونية، مع أن الفرنساويين، وهم أولى بالدفاع عن أنفسهم، لم يذكروا شيئا من هذا! أفنكون ملكيين أكثر من الملك.
Page inconnue