وأدارت لحاظها في جوانب الغرفة، كأنها تفتش على مهد فتوتها، على الحقول الجميلة والكنيسة البسيطة، لمعت عيناها لحظة وعاد إليها الجمود، فانطرحت على فراشها؛ إذ وقفت أمامها تلك الصفحة السوداء التي كتبها الزمان ولم تعد تقوى على محوها يد بشرية، انطرحت بكل قوى اليأس وهي تقول : اذهب أيها الماكر، أنا أمقتك، دعني، لقد كفاني الخداع الذي أحتمل ويلاته من الدنيا، فلا أريد أن تشترك السماء بالغضب علي؟
وأخذت الفتاة تردد كلمات متقطعة غير مفهومة، والكاهن الشيخ واقف يصلي، ودموعه سائلة ببطء على لحيته الطويلة البيضاء. •••
أنيرت الغرفة.
وكان الكاهن الشيخ واقفا أمام النافذة وسلمى جالسة على المقعد، وكانت تتكلم بصوت مرتجف وفي عينيها لمعات تلوح وتنطفئ كآخر شعاع الشمعة الذائبة. - نعم يا أبي بعد أن هربت من مزرعتي المحبوبة حاملة لعنة والدي على رأسي ودموع أمي بقلبي، بعد أن ودعت ابتسامة أختي الصغيرة وتغريد شحارير الحقل الذي شرب عرق جبيني سنوات عديدة، بعد أن طوى الدهر صفحة فتوتي وعفافي حضرت إلى هذه المدينة مفتشة على قاتلي، فوجدته يتأهب للزفاف، وجدته في لوكندة أميركا وغرفته مملؤة بالأثواب الجاهزة لعروسته، فانطرحت على أقدامه، ووضعت يده على قلبي ليسمع فيه نبضات قلبين فكان جزائي الطرد والإهانة، وبعد يومين من ذلك الملتقى الهائل شهدت حفلة زواجه ذليلة صاغرة، ورجعت إلى النزل وعلى رأسي جبال من الحزن، فرأيت هنالك رجلا يعتبره الناس، وهو يتكلم عن الدين والتقوى والأدب، وكانت غرفته إزاء غرفتي فأردت أن أفتح له قلبي، وأطلب منه مشورة ورحمة، فكانت تعزية هذا الفاضل لي إهانة لأشجاني وتطاولا على جسدي المضنى، وقد كان لابسا ثوبا يشبه ثوبك يا أبي، ولهذا ذعرت إذ فتحت عيني ورأيتك، فاغفر وقد عرفت السبب.
لقد قال لي جميل إن الفضل ليس إلا ستارا للفظائع، فلم أصدق ولكنني في ذلك الحين شككت بوجود الله وقد احتقرت الدنيا ومن عليها فقمت متملصة من يد الرجل هاربة تائهة على ساحة البرج، وهنالك استوقفتني مناظر مريعة، هنالك رأيت وردة ابنة القرية المجاورة لنا لابسة أثواب الحرير تتخطر ضاحكة ثاملة، وكنت أحسبها من قبل ميتة إذ سافرت من قريتها ولم ترجع ولم يسمع أحد عنها شيئا.
أدخلتني إلى غرفتها حيث مجالي الفخفخة والراحة، وبعد حديث طويل فهمت من الدنيا ما لم أكن أعرفه من قبل، عرضت علي وردة البقاء معها فرفضت، وقلت لها إنني أريد الموت، قلت لها إن جميل مسافر غدا مع عروسته، فأريد أن ألقي بنفسي إلى البحر الذي سيحمله، بكيت كثيرا وكنت خائفة واجفة في ذلك المكان الذي ترتفع حوله جلبة الفسق وأصوات المدينة السكرى، فأردت الخروج ولكن وردة لم تتركني، تعلقت بثوبي قائلة: ابقي هنا يا سلمى، نامي على سريري آمنة من كل طارئ، فأنت الآن في حرم صديقة طفولتك، لقد اشتغلنا سنتين في معمل الحرير، فلك علي حق الرفيقة وواجب الصداقة، نامي يا أختي، وها أنا ذا ذاهبة لأقوم بفروضي الثقيلة الهائلة، ولا بد أن تعرفي يوما ماهية هولها يا سلمى.
ذهبت وردة وأقفلت الباب وكنت تعبة محطمة من اليأس فاستغرقت في نوم ثقيل حتى الصباح.
في وسط الفساد والضلال كنت آمنة على نفسي، وفي المجتمع الطاهر الظواهر لم أكن غير حمامة في مخالب النسور.
بنت الهوى حمتني، وفاضل الناس أراد إهانة روحي الجريحة ليأخذ من ضعفها ما يسلي بطره وضلاله.
أنا مذنبة يا أبي، أما جميل فمجرم ... هو دفعني إلى الضلال مفسدا اعتقادي أولا، ثم توصل إلى إلحاق الدنس بي فترك في أحشائي نطفة حياته وتبرر منها ... فها أنا ذا أرملة وزوجي حي.
Page inconnue