المفتكر كالنسر يلمس المحسوس لمسا فلا يرى إلا دائرة محدودة لا يتجاوزها بصره، يريد أن يرى كل شيء، فيحلق في عالم الخيال، وإذ يصل إلى أعلى ذروة يتسنمها الفكر يلقي نظره على الأرض فيراها منبسطة أمامه واسعة الأرجاء، يحدها الأفق من جوانبها الأربع ... ولكن ... ماذا يرى؟ يرى كل شيء ولا يرى شيئا ... تكاد الجبال تغور في السهول وتختلط الأمواه بالصحراء الفاصلة، فلا تتبين عينه المحدقة بإرادة المعرفة غير جرم بعيد لا يفهم منه شيئا.
هذي هي الدنيا وأسرارها أمام العقل الإنساني الذي يريد أن يفهم خفايا العناية الأزلية المدبرة الكون تحت مظاهر الظلم والشقاء، تلك القوة غير المفهومة التي تنزل الرحمة دموعا والسرور شقاء والكرامة هوانا.
إذا أراد الفيلسوف أن يعرف الدنيا وأحوالها بواسطة الاستقراء الحسي، فإنما هو لامس جزءا صغيرا من الطبيعة المنظورة، هو يستقري، هو يلمس، ولكنه لا يلمس أكثر مما تصل إليه اليد في هذه الدائرة المحدودة التي يسمونها أفق العقل المادي ... فتكون أحكام المفتكر بهذه الحالة صحيحة على ما يرى، وفاسدة على ما لا يرى ... أما إذا ارتقى إلى ما فوق ليبحث فهو بعيد جدا عما ينظر، يرى كثيرا ولا يفهم شيئا، يشعر بالحقيقة ولكنه لا يلمسها، يتأكد بأن الأرض ليست إلا شبحا وهميا يسبح في الأطلس الفسيح، وحقيقة ذلك الخيال ثابتة إلى الأبد في مكان مجهول ... يقتنع ويؤمن، ولكنه لا يتمكن من إقناع سواه ممن لا يصدقون بغير ما يلمسون.
على تلك الذروة العالية كان الكاهن الشيخ واقفا في تلك الساعة ناظرا إلى ما وراء أفق البحر، إلى السفينة الحاملة المجرم المتمتع بالحرية ولذة اللقاء وهو يبسم لعروسته ولأموالها، ثم يلقي أنظاره على القروية النحيلة الفاقدة الرشد الساقطة وهي بريئة تحت حمل الشقاء والرازحة تحت ضربة القضاء الهائل.
كان الكاهن يرى بعيني جسده شقاء المهانة وسعادة المهين، أما روحه المرتقية إلى ما فوق فكانت ترى غير ذلك، كانت ترى العروس وعروسته محاطين بضباب أسود كثيف، والقروية المخدوعة المتروكة محاطة بهالة النور اللامعة التي تكلل رءوس الشهداء ولا تنظرها العيون الترابية.
تململت سلمى على فراشها وفتحت أجفانها، وكان الظلام قد هجم بطلائعه على المدينة، ودخل منه ضباب رمادي إلى الغرفة، فتحت عينيها وشخصت إلى السقف وهي تقول: جميل آه ما أقساك!
فوقف الكاهن على مهل وتقدم إلى قرب السرير، وقال بصوت الطبيب الذي يكلم جريحا: لقد أكثرت من ذكر جميل وأنت غائبة عن الرشد يا سلمى، فعرفت سرك الهائل، افتحي عينيك واجلسي يا ولدي؛ فقد أتت ساعة التعزية بالله.
فحدقت الفتاة بأبصارها وإذ تبينت قربها شبح الكاهن الأسود تراجعت إلى زاوية السرير وغطت عينيها بيديها وتمتمت بصوت خافت يرتجف خوفا: إلى أين تتبعني أيها الرجل؟ لقد رميت بنفسي إلى قعر البحر تخلصا من عذابي، وها أنت واقف أمامي لم تزل تطاردني، اذهب عني ... دعني في سكون الموت ... احترم الفناء إذا كنت لا تعتبر الشقاء ...
فوقف الكاهن مبهوتا مما يسمع، وقد داخله شك هائل! أي رجل تعنين يا سلمي؟ أنا الأب بطرس كاهن قرية ... أنا أبو سعدى صديقتك، أنا الذي باركت زواج أبيك وأمك، أنا الذي سكب ماء المعمودية على رأسك، فلماذا تخافين مني؟
وما سقطت هذه الكلمات على قلب سلمى الجريح حتى جرى الدم بشدة في عروقها فجلست وفركت عينيها كأنها مستفيقة من حلم عميق، وقالت: الأب بطرس ... أبو سعدى، ويلاه أين أنا؟
Page inconnue