Vers une philosophie scientifique
نحو فلسفة علمية
Genres
لا، ليس في مستطاع الإنسان أن يدرك في نفسه «قوة» كهذه، وكل ما يدركه إذ هو يقوم بفعل إرادي هو عزمه الإرادي من ناحية، ثم الحركة الجسدية المترتبة على ذلك العزم من ناحية أخرى؛ وأعيد القول بأنه ليس في الإرادة ذاتها ما يدل على أنها لا بد أن تتبعها حركة الجسم تنفيذا لعزمها، بدليل أننا لا نستطيع أن نحرك بالإرادة إلا بعض أجزاء الجسم دون بعضها الآخر، ولو سئلنا قبل الخبرة: أي أجزاء الجسم في مستطاع الإرادة تحريكه، وأيها تعجز الإرادة عن تحريكه؟ لما كان في وسعنا أن نجيب؛ إذ لا بد أن ننتظر الخبرة لتدلنا ماذا نستطيع تحريكه من أجزاء الجسم بالإرادة وماذا لا نستطيع. لماذا يكون للإرادة قدرة على تحريك اللسان والأصابع ولا يكون لها قدرة على تحريك القلب والكبد؟ كنا نجيب عن هذا السؤال لو كان لنا علم بقوة معينة موجودة في الحالة الأولى وغائبة في الحالة الثانية، لكن ليس لدينا مثل هذا العلم. نعم، لو كان لنا علم بقوة باطنية معينة هي التي تجعل الرابطة ضرورية بين السابق واللاحق - كما يزعم الزاعمون - لعلمنا بالتالي، وقبل الخبرة، ماذا تستطيع تلك القوة أداءه وماذا لا تستطيعه.
إن من يصيبه الشلل بغتة في ساق له أو ذراع، ليحاول بإرادته أن يحرك العضو المصاب كما ألف أن يحركه من قبل، إنه يحاول ذلك وهو على أتم وعي بعزمه الإرادي، تماما كما كان على وعي بعزمه الإرادي حين كان يريد تحريك ساقه أو ذراعه قبل أن يصيبهما الشلل. ولو كانت تلك القوة المزعومة (التي تربط بين الإرادة وفعلها) مما يستطيع الإنسان إدراكه، لعرف هذا المشلول قبل محاولته الإرادية تحريك العضو المصاب أنه لن يستطيع ذلك لأن القوة قد غابت عنه، لكنه لا يدرك هذا العجز إلا بعد أن يحاول دون جدوى؛ ومعنى ذلك أن الخبرة وحدها هي التي تدلنا إن كان العزم الإرادي سيصحبه الفعل المعين أو لا يصحبه، وليس في العزم الإرادي نفسه ما يدل على ذلك قبل الخبرة ؛ فالخبرة وحدها هي الدالة على أن حدثا معينا يتبع حدثا، دون أن تدلنا على موضع الرابطة الخفية التي تربط بين الحدثين، بحيث تجعل الحدث الثاني أمرا محتوما في تبعيته للحدث الأول.
وما قلناه عن الإرادة في تحريكها لجزء من أجزاء البدن، من حيث إننا ندرك الطرفين ولا ندرك ما بينهما من رابطة، نقوله أيضا عن الإرادة واستحداثها لفكرة معينة؛ ذلك أنك قد تستطيع بعزيمة إرادية أن تحضر إلى الذهن فكرة لم تكن حاضرة فيه، وها هنا كذلك يمكنك أن تدرك عزمك الإرادي من ناحية، والفكرة التي استحضرتها إلى ذهنك من ناحية أخرى، ولكنه محال عليك أن تدرك الرابطة التي بينهما؛ وإذن فكل ما يجوز لك أن تتحدث عنه هو طرف السبب وطرف المسبب، أما أن العلاقة بينهما هي كذا أو كيت، فمما يجاوز حدود المستطاع.
وكما أن الإرادة في استحداثها لحركات الجسد محدودة بحدود، بحيث يمكنها تحريك بعض الأعضاء دون بعضها الآخر لعلة لا ندريها، سوى أن الخبرة هكذا تدلنا على الإرادة وحدود فعلها، فكذلك الإرادة في استحضارها للأفكار في الذهن محدودة أيضا بحدود، فيمكنها أن تستحضر هذه الفكرة ولا يمكنها أن تستحضر تلك لعلة لا ندريها سوى أن هذه هي خبرتنا وما تدل عليه، إننا لنلاحظ عن أنفسنا أننا أقدر على استحضار الأفكار في أذهاننا في بعض الحالات دون بعضها، فنحن أقدر في حالة الصحة منا في حالة المرض، وأقدر في حالة هضم الطعام منا في حالة التخمة، فهل يستطيع أحد أن يدلنا على علة لهذا كله غير معتمد على خبرته؟ هل يستطيع أحد أن يسبق الخبرة بحيث يقرر بادئ ذي بدء أنه أقدر على استحضار أفكاره في حالة الجوع منه في حالة الشبع، أم لا بد له أن ينتظر خبرته لنفسه وهو جائع ثم خبرته لنفسه وهو مليء ليقول بعدئذ عما قد عرفه في نفسه بالخبرة؟ وإذن فالخبرة وحدها هي المصدر الذي نستقي منه العلم بأن كذا من الظواهر يتبع كيت، دون أن نعلم شيئا قط عن علاقة ضرورية تربط بينهما ربطا محتوما يجعل الطرف الأول وحده كافيا للدلالة على أن الطرف الثاني سيتبعه، سواء وقع لنا ذلك في الخبرة السابقة أو لم يقع.
هكذا ذهب هيوم، وهكذا نذهب معه نحن أنصار التجريبية العلمية، بأن علمنا بالرابطة السببية في جميع حالاتها لا ينشأ عن التفكير العقلي الخالص، الذي يستغني عن الخبرة الحسية في تقريره لما يقرره، أو بعبارة أخرى، ليس علمنا بالرابطة السببية في أية حالة من حالاتها علما «قبليا» مستقلا عن مصادر الخبرة الحسية في إثبات صدقه، بل هو علم مستمد دائما وفي جميع الحالات من الخبرة الحسية التي تقدم لنا الشيئين اللذين نحكم بأن بينهما رابطة السبب بالمسبب، تقدمهما لنا متصلا أحدهما بالآخر في كل حالة يقعان فيها لنا في خبراتنا. وإذا لم يحدث لشيء معين أن يقع لنا في خبراتنا الحسية أبدا، بحيث لا ندري شيئا عن سوابقه أو لواحقه أو مصاحباته، ثم سئلنا: ماذا يكون سببه أو ماذا يكون مسببه؟ لاستحال علينا استحالة قاطعة أن نجيب عن ذلك بشيء، مهما تكن لدينا القدرات العقلية على أتم ما تكون قوة وكمالا؛ فآدم - على افتراض كمال قدراته العقلية - ما كان ليستدل من سيولة الماء وشفافيته أنه يختنق به لو غرق فيه، أو يستدل من الضوء والدفء اللذين ينبعثان من النار أنه يحترق لو وثب فيها؛ ذلك أنه محال على الإنسان أن يستدل من بعض الخصائص الحسية لشيء ما بعضها الآخر، دون أن تكون هذه وتلك قد اقترنتا في خبراته الماضية اقترانا يبرر له استدلال بعضها هذا من بعضها ذاك. وبعبارة أخرى نقول إن التفكير العقلي وحده، أعني التفكير العقلي الخالص الذي لا يستند إلى خبرة حسية، محال عليه أن يستدل شيئا قط عن طبيعة العالم الخارجي الواقع.
2
الخبرة الحسية وحدها - إذن - لا التفكير العقلي الخالص، هي المصدر الذي نستقي منه علمنا بعالم الواقع، ويستحيل علينا بغير تلك الخبرة أن نتوقع ما عساه أن يحدث من حوادث ذلك العالم، وإلا فكيف يمكن لإنسان بعقله البحت أن يحكم على قطعتين ملساوين من الرخام التصقت إحداهما بالأخرى أنهما لو جذبتا في اتجاه عمودي لتنفصل إحداهما عن الأخرى فلا بد لهما من قوة عظيمة، على حين تكفي قوة يسيرة لانفصالهما إذا ما دفعت الواحدة منهما دفعا أفقيا لتنزلق على الأخرى؟ كيف يمكن للإنسان بغير خبرة حواسه أن يعلم شيئا عن دوي البارود إذا ما تفجر، أو جذب المادة الممغطسة للمعادن؟ كيف يمكن بغير الخبرة أن نعلم أن اللبن والخبز غذاء صالح للإنسان، وغير صالح للأسد أو النمر؟
ومع ذلك فهنالك من خصائص الوقائع الطبيعية ما يخيل إلينا أننا مدركوه بغير خبرة حسية، وأن العقل الصرف قادر وحده أن يدرك بعض العلاقات السببية بين الأشياء حتى ولو لم تقع لنا حالة واحدة من حالاتها في ماضي خبراتنا، مثال ذلك ما نتوهمه إزاء كرة البلياردو حين تتحرك حتى تصدم كرة أخرى فتحركها؟ فها هنا ترانا نظن أن تحريك الكرة الأولى للكرة الثانية أمر كان يمكن الحكم بوقوعه بمجرد التفكير العقلي، وأن الضرورة لا تقتضي أن ننتظر حتى يحدث ذلك في خبراتنا لنحكم بعد ذلك بإمكان وقوعه، لكنها العادة هي التي تخدعنا عن حقيقة الموقف بأن تجعل لنا الأمر على درجة من الإلف بحيث نتوهم أنه أمر ظاهر اليقين، وأن الإدراك الفطري وحده كاف للكشف عنه.
لكن العقل المحض يستحيل عليه أن يجاوز حدود الأمر الواقع بحيث يقول إنه سبب لكذا أو مسبب لكذا، فمهما حللت بعقلك البحت واقعة ما، فلن تجد فيها ما يدل على أنها كانت مسبوقة بكذا، أو أن كذا سيصاحبها أو سيلحق بها؛ فالسبب شيء والمسبب شيء آخر؛ السبب والمسبب حادثان مختلفان، وتحليل أحدهما تحليلا عقليا لا يدل وحده على الآخر؛ فحركة الكرة الثانية من كرتي البلياردو حادث قائم وحده بالنسبة إلى حركة الكرة الأولى، وليس في أي من الحركتين أقل علامة تشير إلى ضرورة وجود الأخرى. اقذف بحجر في الهواء، واتركه غير مستند إلى شيء، يسقط على الأرض من فوره، لكن لا بد من الخبرة الحسية السابقة لأعلم منها هذا التلاحق بين الحادثتين، وإلا فالعقل البحت وحده مهما أمعن في تحليل الموقف، فلن يجد أن السقوط إلى الأرض متضمن بالضرورة في وجود الحجر في الهواء؛ إذ ليس عند العقل الصرف ما ينفي أن يستمر الحجر في صعوده إلى أعلى بدل سقوطه إلى أسفل، أو ما ينفي أن يتحرك الحجر إثر رميه في الهواء نحو اليمين أو نحو اليسار،
3
Page inconnue