Vers une philosophie scientifique
نحو فلسفة علمية
Genres
2
المبدأ الأساسي عند هيوم هو أن أفكارنا كلها ليست إلا صورا مما كانت حواسنا قد انطبعت به انطباعا مباشرا، فيستحيل علينا أن «نفكر» في شيء لم يكن قد سبق لنا أن «أحسسناه» بإحدى الحواس الظاهرة أو الباطنة؛ فإذا كانت لدينا فكرة مركبة، واستطعنا تعريفها بسلسلة من ألفاظ وعبارات، كان ذلك نفسه معناه أننا نحاول أن نحصي ما فيها من أفكار بسيطة، بحيث يكون لكل فكرة بسيطة منها الانطباع الحسي الذي يقابلها باعتباره مصدرا لها. إن الفكرة المركبة لتتضح وضوحا تاما كاملا محددا إذا حللناها إلى الأفكار البسيطة التي منها ركبت، ثم إذا التمسنا لكل واحدة من هذه الأفكار البسيطة مصدرها الحسي؛ ذلك لأن الانطباع الحسي محدد وواضح ولا تعدد لمعناه. وهكذا يكون رد الفكرة المركبة إلى مقدماتها البسيطة، بحيث نعود فنرد كل واحد من هذه المقومات إلى الانطباع الحسي الذي هو أصله ومصدره، بمثابة المجهر الذي نتعقب به دقائق أفكارنا لنميز زائفها من صحيحها.
وفي هذا الضوء خذ فكرة «الرابطة الضرورية » التي يقول الفلاسفة العقليون إنها تصل ما بين السبب والمسبب، وسل نفسك: ما الانطباع الحسي الذي كان مصدرها؟ ماذا انطبعت به هذه الحاسة أو تلك، بحيث بقي الانطباع في أنفسنا فكرة هي التي نقول عنها إنها فكرة «الضرورة»؟
إننا إذا ما تلفتنا حولنا متجهين بأنظارنا إلى الأشياء الخارجية، باحثين فيما نسميه «أسبابا» لنرى ما فعلها، فلن نجد في أية حالة من الحالات كلها ما يكشف لنا عن «رابطة ضرورية» بين السبب ومسببه، إننا لن نجد أبدا صفة تنطبع بها حواسنا وتكون هي الصفة التي تربط المعلول بعلته ربطا يجعل ذلك المعلول نتيجة محتومة لعلته، يتبعها دائما ولا يتخلف عنها بحكم ضرورة في طبائع الأشياء تقتضي ذلك؛ فكل ما نراه هو أن النتيجة تتبع سببها فعلا، فنري - مثلا - أن كرة البليارد المتحركة إذا ما صدمت كرة أخرى ساكنة، فإن هذه الثانية تتحرك كذلك. إن الذي ينطبع على حواسنا «الظاهرة» هو صورة كرة أولى تتحرك وصورة كرة ثانية تعقبها في الحركة، وليس هنالك من الحواس «الباطنة» ما يطبع العقل بانطباع آخر له علاقة بتعاقب هاتين الصورتين؛ وإذن فلا الحواس الظاهرة ولا الحواس الباطنة تأتينا بانطباع يوحي بفكرة العلاقة الضرورية المزعومة بين السبب والمسبب.
إن الصورة التي يظهر فيها الشيء لنا لأول مرة، لا تنبئنا بالحالة التالية التي سيكون عليها ذلك الشيء؛ إذ إن مظهر الشيء في حواسنا لا يكفي وحده أن يعيننا على معرفة ما سيعقبه بحيث يجوز لنا أن نقول إن هناك رابطة ضرورية تحتم أن يعقب الشيء الفلاني الشيء الفلاني، على اعتبار أن ما يحدث منهما أولا فيه من الطاقة الطبيعية ما ينتج الشيء الذي يحدث منهما ثانيا. ولو كان في مستطاع العقل أن يكشف في «السبب» عن قوة أو طاقة، لاستطاع بالتالي أن يتنبأ ب «النتيجة» قبل وقوعها دون أن يعتمد في ذلك على خبرة حسية ماضية. نعم كان يكفي العقل عندئذ أن يتأمل «فكرة السبب» ليستنتج منها استنتاجا منطقيا صرفا «فكرة المسبب».
إنه ليس في مادة الكون كلها جزء يكشف بما يبديه من خصائص محسوسة عن قوة يخفيها، كلا ولا هو يمدنا بالأساس الذي يبرر لخيالنا أن يتصور أنه لا بد أن ينتج كذا وكذا من النتائج بحكم طبيعة ذلك الشيء نفسها؛ فللأشياء - مثلا - صفات الصلابة والامتداد والحركة، وكل صفة من هذه الصفات قائمة بذاتها لا تعتمد في إدراكنا لها على صفة أخرى، لكنها في الوقت نفسه لا تدلنا أبدا على أية نتيجة مما يتحتم أنه يترتب عليها. نعم إن مشاهد الكون دائبة التغير، يتبع شيء منها شيئا في تعاقب لا ينقطع، غير أننا لا نعلم من هذه الأشياء المتتابعة إلا هذا التتابع الظاهر بينها، ولا نملك بحال من الأحوال أن نجاوز حدود المشاهدة المستطاعة بحيث نستطلع ما وراءها لنقول إن وراء هذا التتابع الظاهر قوة خفية هي التي تربط ربطا ضروريا بين السابق واللاحق.
قد يقال إن الرابطة الضرورية التي تصل بين الحوادث لاحقها بسابقها، وإن تكن غير بادية للحواس فيما يقع للحواس من انطباعات جزئية، يمكن لنا إدراكها إذا ما تأملنا عقولنا وهي في فاعليتها ونشاطها، نعم قد يقال ذلك استنادا إلى أن الإنسان في كل لحظة من لحظات حياته الواعية مدرك لهذه القوة الباطنية وهي تفعل فعلها في ربط السبب بالمسبب، فانظر إلى نفسك وأنت تهم بتحريك ذراع أو قدم، أليست إرادتك تأمر، وأعضاء البدن تطيع؟ وإذن فها هنا قد أدركنا القوة التي تربط معلولا بعلته؛ ومن ثم استطعنا أن نعمم القول بأن بين كل سبب ومسببه مثل هذه الرابطة الخفية التي وعيناها في دخيلة أنفسنا حين وعينا الإرادة وهي تحرك جارحة في أبداننا أو تستثير فكرة في ذاكرتنا؛ فليس بنا حاجة إلى التماس فكرة «الرابطة الضرورية» في انطباعاتنا الحسية، ما دمنا قد وجدناها عند التأمل في عقولنا وهي تعمل، وفي إرادتنا وهي تحدث الأحداث.
قد يقال هذا؛ وإذن فلا بد من وقفة نحلل فيها هذه القوى الباطنية المزعومة، كقوة الإرادة مثلا، أعني قدرتها على تحريك أعضاء البدن، وأول ما نقرره في هذا الصدد هو أن تأثير الإرادة في هذا لا سبيل إلى إدراكه إلا إذا مارسناه بأنفسنا وأصبح بهذه الممارسة خبرة من خبراتنا، شأنه في ذلك شأن الحوادث الطبيعية كلها، التي لا سبيل إلى معرفتها إلا إذا باتت جزءا من خبراتنا. أريد أن أقول إن الإرادة هنا باعتبارها سببا يسبب تحريك هذا العضو أو ذاك من أعضاء الجسم، شأنها شأن أي حادثة أخرى من حوادث الطبيعة مما نعده سببا لحادث يتلوه، لا بد لنا من تجربة تدلنا على هذا التتابع بين الحادثين لنقول عنهما إنهما سبب ومسبب، وليس في طبيعة الحادثة الأولى نفسها ما يدل على أن الحادثة الثانية ستتلوها، وكذلك قل في الفعل الإرادي، حين يكون هنالك إرادة من ناحية وجزء من الجسم يتحرك تبعا لها من ناحية أخرى، فليس في الإرادة ذاتها ما يدل على أنه من الحتم أن تتبعها ما يتبعها من حركة بدنية.
نعم إننا في كل لحظة من لحظات حياتنا الواعية ندرك أن حركة البدن تتبع أوامر الإرادة، لكن هل نعي شيئا في أنفسنا غير هذا التتابع بين الأمر الإرادي وتنفيذه الجسدي؟ هل نعي رابطة بينهما بحيث نقول إنها الرابطة الضرورية التي تحتم أن يكون الطرف الأول متبوعا بالطرف الثاني؟ كلا، إذ لو وعينا العلاقة بين الجانب الإرادي من جهة والجانب الجسدي من جهة أخرى، إذن لانحل لنا لغز من أعقد وأغمض ما يصادفنا في الطبيعة كلها من ألغاز، ألا وهو العلاقة بين النفس والجسم، التي يقال فيها إن عنصرا روحانيا فينا له القدرة على التأثير في عنصر مادي، أو بعبارة أخرى، إن الفكر الخالص من ناحية له القدرة على تحريك المادة من ناحية أخرى؛ فليس تحريك إرادتك لذراعك بأقل غرابة من أن تجلس مفكرا في الجبل مريدا له أن يتزحزح من مكانه، فيتزحزح الجبل تنفيذا لفاعلية فكرك؛ أقول إنه لو كان في مستطاعنا أن ندرك في أنفسنا «قوة» هي التي تصل الإرادة بفعلها، لاستطعنا بالتالي أن نعرف علاقة النفس بالجسد، أو علاقة الفكر بالمادة وكيف يؤثر الأول في الثانية.
1
Page inconnue