Vers une philosophie scientifique
نحو فلسفة علمية
Genres
ومهما يكن أمر التغير الظاهر أحقيقة هو أم وهم وباطل، فإن ما يهمنا منه في سياقنا هذا هو حالات التغير التي يقال عنها إنها مجال للعلاقة السببية بين الحالة التي بدأ منها التغير والحالة التي انتهى إليها؛ فماذا تكون العلاقة التي تربط بين ما نسميه «سببا» أو «علة» وبين ما نسميه «مسببا» أو «معلولا»؟
لقد تناول أرسطو موضوع السببية أو العلية بالبحث؛ لأن مهمة علم الطبيعة - في رأيه - هي معرفة أسباب ما يحدث فيها من تغير، وعنده أن هذه الأسباب أربعة أنواع، هي العلة المادية والعلة المحركة والعلة الصورية والعلة الغائية، وليست هذه العلل تتعاقب بعضها بعد بعض، كلا وليس بعضها يقوم في حالة على حين يقوم بعضها الآخر في حالة أخرى، بل إنها جميعا تعمل معا في كل حالة من حالات الوجود ؛ فالعلة المادية لشيء هي المادة التي يتكون منها الشيء كالبرنوز للتمثال، والعلة المحركة هي القوة التي عملت على تغيير المادة لتتخذ شكلا جديدا، كالمثال الذي يصنع من البرنوز تمثالا، والعلة الصورية هي الصفات التي تجعل من الشيء ما هو، كالشكل الذي يصب فيه البرونز ليكون تمثالا من طراز معين، والعلة الغائية هي المقصد الذي تتجه الحركة لبلوغه، فالعلة الغائية التي في سبيلها تناول المثال قطعة البرونز ونحتها صورة معينة بإزميله، هي التمثال نفسه الذي نتج.
وإنا لنلاحظ أن المعاني التي قصد إليها أرسطو بكلمة «علة» أو «سبب» تختلف عما يفهم من هذه الكلمة في استعمالنا اليومي وفي استعمالنا العلمي اليوم على السواء؛ فإذا سألت في سياق الحياة اليومية الجارية، مشيرا إلى تمثال برونزي، قائلا: ما علة صنع هذا التمثال؟ لما كان الجواب أنه وجود قطعة البرونز؛ ولا كان الجواب أنها الماهية التي صيغ البرونز عليها فجعلته تمثالا؛ أي إن الجواب لا يكون بذكر العلة المادية ولا بذكر العلة الصورية، وإنما يكون دائما بذكر العلة المحركة أو العلة الغائية، أو بذكرهما معا، فنقول إنه المثال هو علة صنع التمثال، أو نقول إن إنتاج هذا التمثال المعين كان هو علة صنعه. وكذلك في استعمالنا العلمي لهذه الكلمة اليوم لم نعد نقصد هذه المعاني الأربعة كلها، فليست الغاية المقصودة جزءا من العلة في لغة العلم، كلا ولا الماهية التي تجعل من الشيء ما هو جزءا من العلة، فلا يجوز - مثلا - إذا أردت أن أعلل كسوف الشمس أو فيضان النهر أن أسأل ما الغاية المقصودة من هذه الظاهرة أو تلك، ولا أن أسأل على أي صورة تكون ماهية الظاهرة، بل السؤال ينصرف إلى ما قد حدث قبل حدوث الظاهرة بحيث يكون حدوثه مطردا دائما مع حدوثها؛ فلو استبدلنا بكلمة «محركة» في لغة أرسطو كلمة «سابقة» كانت العلة في لغة العلم الحديث - كما سنشرح بالتفصيل فيما بعد - هي الحادثة السابقة للظاهرة أسبقية لا تتخلف ولا تمتنع.
وكان «ديفد هيوم» (1711-1776م) هو أول من نقل فكرة العلية أو السببية هذه النقلة الواسعة التي كان لها أبعد النتائج في تفكيرنا العلمي المعاصر، بحيث أصبح معناها هو الاطراد الملحوظ بين حادثتين أو مجموعتين من الحوادث، اطرادا يجيز لي أن أتوقع حدوث المجموعة التالية إذا حدثت المجموعة الأولى، دون أن يكون في المجموعة الأولى التي هي «سبب» ما يحتم بالضرورة أن تصدر عنها المجموعة الثانية، وسنتناول هذا الرأي بالشرح والتحليل.
سل من شئت: ماذا تعني بقولك إن تيار الهواء في الغرفة هو «سبب» إصابتك بالبرد، أو إن جرعة السم التي شربها سقراط هي التي كانت «سبب» موته؟ تجده يجيبك أول الأمر بوضع كلمة مكان أخرى ظنا منه أنه بذلك قد أوفى الجواب، كأن يقول مثلا: إن الشيء يكون «سببا» في شيء آخر إذا «أحدثه»؛ فتيار الهواء هو الذي «أحدث» الإصابة بالمرض؛ ولذلك فهو «سبب» المرض، وجرعة السم هي التي «أحدثت» الموت؛ ولذلك فهي «سببه». ولكن صاحبك - كما ترى - لا يفسر شيئا؛ لأنك لا تزال في موقفك الأول إزاء المشكلة، وبعد أن سألته ماذا تعني حين تقول إن شيئا ما «سبب» في شيء آخر، فأنت الآن مضطر إلى سؤاله من جديد: ماذا تعني حين تقول إن شيئا ما «أحدث» شيئا آخر؟ ف «السبب» و«الإحداث» لفظان مترادفان، وليس المطلوب هنا هو أن نضع مرادفا مكان مرادف، بل أن نحلل ما نعنيه بالمترادفين كليهما، فنحن ها هنا لا نطلب تعريف لفظ بلفظ كما تعرف كلمة «الليث» بأنها «الأسد»، بل نريد تعريف لفظ بالإشارة إلى مسماه، كما تعرف كلمة الأسد بالإشارة إلى فرد من الحيوان المسمى بهذا الاسم؛ فإلى أي شيء في الطبيعة تشير إذا أردت أن تحدد معنى كلمة «سبب»؟
قد يخطو صاحبك هنا خطوة نحو الإجابة الصحيحة حين يستعرض بضعة أمثلة من حالات نقول فيها إن شيئا ما «سبب» في شيء آخر، فيجد عنصرا مشتركا بينها جميعا، وهو أن ما نسميه «سببا» سابق دائما على مسببه، بحيث يجوز لنا أن نقول إن معنى السببية بين الطرفين هو هذه «الأسبقية» في الحدوث ، ولكنك سرعان ما تلفت نظره إلى أنه ما كل أسبقية في الحدوث نقول عنها إنها علاقة سببية، فربما حدث صدام بين قطارين منذ لحظة في موضع من الوجه القبلي بمصر، لكن هذا الصدام ليس «سببا» في أني قد أمسكت بقلمي الآن لأكتب وأنا في القاهرة، رغم أن الحادثة الأولى كانت أسبق في الزمن من الحادثة الثانية؛ فأسبقية الحدوث - إذن - ليست كل عناصر العلاقة التي نطلق عليها اسم «السببية» وإن تكن عنصرا ضروريا.
وقد يقول قائل هنا: ألا يجوز أن يكون المستقبل «سببا» للحاضر؟ إنني إذا أردت السفر بعد أسبوع، فربما بدأت منذ الآن أعد حقائبي وسائر ما يلزمني في رحلتي المرتقبة، أفلا يكون السفر في هذه الحالة (وهو حادث مقبل) سببا في سلوكي الراهن؟ لكن مثل هذا القول قائم على تحليل ناقص، فليس السفر نفسه في هذه الحالة هو «سبب» سلوكي؛ لأن عائقا ربما حدث فحال دون حدوثه، فأين يكون «السبب» المزعوم عندئذ؟ كلا، إنما السبب في هذه الحالة هو «فكرتي» الراهنة عما أريده لنفسي بعد أسبوع، وفكرتي هذه سابقة بالضرورة على سلوكي الذي جاء تنفيذا لها.
أسبقية الوقوع إذن شرط ضروري في «السبب»، لكنها ليست كافية وحدها لتجعل أي سابق سببا لأي مسبوق؛ فمحال أن تكون الرصاصة التي انطلقت هنا الآن هي السبب في قتل من مات هناك بالأمس، ولا أن يكون المطر النازل هذا الصيف هو السبب في ازدهار النبات في الربيع الماضي؛ فالسبب لا يلحق نتيجته أبدا، بل لا بد أن يسبقها في الوقوع، ولكن إلى جانب هذه الأسبقية لا بد من توافر شروط أخرى، فماذا عساها أن تكون؟
في محاولة الإجابة عن هذا السؤال سنلتقي وجها لوجه بالمشكلة الكبرى التي شطرت الفلاسفة إزاءها شطرين؛ فعقليون من جهة وتجريبيون من جهة أخرى، وهي نفسها المشكلة التي وقف هيوم حيالها موقفه المعروف في تاريخ الفلسفة، وهو الموقف الذي أيقظ «كانت» من سباته كما قال عن نفسه؛ ذلك لأن النظرة التقليدية إلى الأمر كانت تؤدي بالفلاسفة العقليين إلى أن يقولوا إن بين الشيء الذي نقول عنه إنه «سبب» والشيء الآخر الذي نقول عنه إنه «مسبب» علاقة ضرورية بحيث لا يكفي أن يكون الأول قد سبق الثاني في الوقوع، بل إلى جانب هذه الأسبقية هنالك ضرورة توجب أن يكون هذا السابق متبوعا بلاحقه هذا المعين؛ فإذا قلت عن شيئين «س» و«ص» إن بينهما علاقة سببية، فقد قلت - في رأي الفلاسفة العقليين - إن بينهما علاقة ضرورية الحدوث ليس عن قيامها بينهما منصرف ولا محيص؛ إذ يستحيل عندئذ أن يحدث أحدهما ولا يحدث الآخر في ترتيبه الذي جاء به، كأنما الشيئان قد شد أحدهما إلى الآخر شد حلقة إلى أخرى من حلقات السلسلة الواحدة.
كان هذا هو الرأي الذي جاء هيوم فصب عليه من تحليله ونقده ما انتهى به إلى رأي جديد.
Page inconnue