Vers une philosophie scientifique
نحو فلسفة علمية
Genres
تذكر أني لم أطلب إليك أن تضرب للتقوي مثلين أو ثلاثة، بل أن تشرح الفكرة العامة التي من أجلها تكون الأشياء التقية كلها تقية. أنبئني ما حقيقة هذه الفكرة حتى يكون لدي معيار أنظر إليه وأقيس به الأفعال، سواء في ذلك أفعالك أو أفعال سواك، وحينئذ أستطيع أن أقول إن هذا العمل المعين تقي وإن ذلك فاجر.
2
فواضح في هذا الحوار أن سقراط يريد ممن يحاوره أن يطرح من الموقف السلوكي الجزئي الذي كان يمارسه أوطيفرون ساعتئذ كل ما هو جزئي خاص بذلك الموقف وحده؛ ليرتد راجعا به إلى المبدأ الذي على أساسه عد أوطيفرون موقفه عندئذ (شكواه أباه في المحكمة لقتله عبدا) حالة من حالات التقوى.
هذا السير الراجع من الأمثلة الجزئية إلى ما وراءها من مبادئ عامة ليس من شأنه أن يكشف لنا عن معرفة جديدة؛ فلن نزداد علما بالحالة الجزئية الواقعة أمامنا والتي اتخذناها نقطة ابتداء، بل كل ما هنالك من أمر هو أننا سنجعل المتضمن صريحا؛ فقد كان المبدأ في عقولنا يعلن عن نفسه في سلوكنا؛ أي إنه يخرج من عالم العقل إلى عالم الفعل ملتفا في تفصيلات السلوك العملي، ونريد الآن أن نزيل عنه لفائف الجزئيات السلوكية ليقوم وحده عاريا فيتضح.
من هنا كانت طريقة سقراط في إلقاء الأسئلة على محاوره يستولد المبادئ العقلية الكامنة فيه، والتي هي مصدر سلوكه؛ فالموازنة هنا واقعة بين ما هو خارج أنفسنا وما هو داخلها، بين ما هو موضع الإدراك الحسي وما هو موضع الإدراك العقلي، بين ما يعتمد على المشاهدة وما يستند إلى الفكر؛ فسلوك الإنسان في المواقف المعينة ظاهر للعين، لكنه ليس عند سقراط علما مهما شهد من دقائقه، وإنما العلم هو أن يغوص وراءه إلى المبدأ الذي هو الأصل العقلي لذلك السلوك الظاهر.
ولم تكن هذه الموازنة بين المعرفة التي تأتي من مشاهدة الحوادث الخارجية والمعرفة التي تنبع من الفكر، أقول إن هذه الموازنة لم تكن جديدة، بل تناولها فلاسفة قبل سقراط ، نخص منهم بالذكر بارمنيدس؛ ومن ثم فقد كان هؤلاء الفلاسفة قبل سقراط بمثابة من يوازنون بين نوعين من العلم؛ العلم بالطبيعة من جهة والعلم الرياضي من جهة أخرى، وكانوا يدركون أن العلم بالطبيعة معرض للخطأ، وأما العلم الرياضي فيقيني ثابت.
لكن الجديد الذي استحدثه سقراط هو أن ينقل البحث في الأخلاق من مجال العمل الطبيعي إلى مجال العلم الرياضي، فلا يركن فيه إلى مشاهدة الحواس بل إلى منطق العقل؛ لأننا لو جعلنا السلوك الجزئي المتغير موضوعه، كان موضعا للاختلاف في الرأي بين إنسان وإنسان، وأما إذا أردنا له اليقين واتفاق الحكم بين الناس جميعا، فسبيلنا فيه هي أن نبدأ من السلوك الظاهر سائرين القهقرى حتى نصل بالتأمل العقلي إلى المبادئ التي انبنى عليها ذلك السلوك.
ونعود الآن إلى ما قد أسلفناه من قول أرسطو في فضل سقراط على التفكير الفلسفي، إذ قال إن شيئين ينبغي أن ينسبا بحق إلى سقراط، وهما انتهاج الطريقة الاستقرائية والبحث عن التعريف الشامل؛ فنلاحظ أن ما قد أسماه أرسطو في الطريقة السقراطية منهجا «استقرائيا» ليس شبيها بالاستقراء الذي تنهجه العلوم الطبيعية اليوم إلا في شيء واحد، وهو أن كليهما يبدأ من مواقف جزئية، ثم يختلفان بعد ذلك، فبينما استقراء العلوم الطبيعية الحديثة قائم على إدراك الروابط بين أكثر من حقيقة واحدة، كأن ندرك الرابطة بين الرياح الشمالية وسقوط المطر، ترى الاستقراء السقراطي قائما على تحليل مدرك واحد - كالتقوي مثلا كما تتبدي في أحد مواقفها السلوكية - لينفذ خلال ذلك المدرك إلى ما هو جوهري فيه؛ وبالتالي إلى تعريفه الكامل الشامل.
المنهج السقراطي هو حفر في السلوك الجزئي المشاهد لنستخرج منه المبدأ الكامن فيه، كما يحفر المثال قطعة الرخام ليخرج منها تمثالا معينا يريد إخراجه؛ فيروى أن سقراط قد رأي أباه - وكان مثالا - رآه ذات مرة وهو ينحت من الصخرة رأس أسد ليقام على نافورة ماء، فتناول قطعة الرخام وأخذ ينقرها بإزميله الغليظ، ثم بأزاميل وأدوات أكثر دقة، وهكذا أخذت تظهر تفصيلات التمثال المنشود شيئا فشيئا؛ أخذ الفم في الظهور، ومن فوقه الأنف الأفطس والعينان واللبد؛ فسأل سقراط أباه كيف عرف الطريقة التي يضع بها إزميله وإلى أي عمق يضربه، فأجابه أبوه قائلا : عليك بادئ ذي بدء أن ترى الأسد كامنا في قطعة الرخام، تراه رابضا هناك تحت سطح الحجر، حتى إذا ما تصورت في وضوح أين يقع وما حدوده، كان عليك بعدئذ أن تطلق سراحه. وكلما أحسنت بادئ ذي بدء رؤية الأسد في موضعه من الحجر، عرفت أين تضرب بالإزميل وإلى أي عمق تغوص به.
والبحث الفلسفي عن الحقيقة في نفس صاحبها هو عملية حفر كهذه؛ ولذلك لا يجوز للفيلسوف أن يقدم الحقائق إلى تلاميذه معدة «جاهزة»، بل عليه أن يعطي أزاميل الحفر لهؤلاء التلاميذ، وأن يهديهم أن يضربوا بها ليخرج إلى العلن ما قد كان كامنا في أنفسهم من مبادئ يسلكون على أساسها دون أن يعلموا ماذا عساها أن تكون في شكلها وحدودها، أو على الأقل هذا هو ما ظن سقراط أنه فاعله مع محاوريه؛ لأننا نراه كثيرا ما يخرج على منهجه؛ إذ لم يكن دائما يترك فئوس الحفر في أيدي تلاميذه يحفرون بها تحت إرشاده، بل كثيرا ما كان ينفرد هو وحده بالكلام، مكتفيا من محاوريه بقولهم «نعم» و«هذا صحيح». والحقيقة أننا كثيرا ما نعجب لهؤلاء المحاورين كيف يوافقون سقراط بهذه السرعة على ما يوافقونه عليه، مع أنه قد يكون أمرا أبعد ما يكون عن الوضوح.
Page inconnue