والناس الذين تسخطوا، والقوم الذين استعجلوا، يدركون ذلك كله، ويعلمون جميع هذا وغيره، ولكنهم يتذرعون بكل وسيلة، وإن وهت ورثت أسبابها لنقد الوزارة، والإساءة إليها، وتحريش الأمة بها، ولكن الوزارة لا يسوءها شيء مما يقولون، ولا يسوء ظن الأمة بها لما يدعون؛ لأنها تعلم أنها لا تلبث أن تحمل بيدها إلى مجلس الإنابة بسطة ما قدمت وأخرت؛ إذ هي ليست السلطة المطلقة آخر الحياة؛ وليست اليد المحركة طول العمر، وقد اجترأت على احتمال عبء المسؤولية، وستسأل عنها، وعن الأمانة فيما أودع من حق الأمة في ذمتها، فليقل هؤلاء ما تشاء أنفسهم أن يقولوا، فإن الأمة مجتمعة في ندوتها، قائلة بعد ذلك كلمتها، صادعة بحكمها الفصل، وقولها الذي لا نقض له. •••
وكذلك ظلت هذه اللجنة جادة في عملها، غير مستمعة لشيء غير ما تمليه عليها وطنيتها، وقد ألقي إليهم عمل خطير، وقلدوا منصبا تعتوره المسؤولية من جميع جهاته، ولم يكونوا بالقوم الذين يستهينون بعملهم؛ فيمضون فيه ركضا، ويوفضون فيه مغذين السير، لا يهمهم غير أن ينتهوا منه على أي وجه ساروا به، وأية نتيجة ستكون منه؛ لأنهم في موقف من مواقف الظفر بالخلود؛ إذ يضعون للأمة الخالدة مشروعا لدستور خالد، ويدركون أنهم إذا قصروا وتهاونوا فلن يصيبوا غير سوء السمعة، واحتقار الشعب، وهم من سعة الإدراك، ونبل الوجدان، وشرف العاطفة، وصدق الوطنية بحيث لا يتقبلون أن تجرح كرامتهم إذا جلسوا مجلس المذعان إلى سلطان غيرهم عليهم، وما كان صاحب الترجمة وهو هو عزة نفس، وسمو وجدان، ومتانة إخلاص بالرجل الذي يعمد إليهم مجتمعين أو منفردين فيهمس لهم في آذانهم أن اكتبوا في الدستور هذا، وامحوا ذاك، وتشبثوا بتلك، وعارضوا سوادكم في هذه؛ لأنه لا ينزل نفسه هذه المنزلة، ولا يرضى أن يكون الهامس المشاء بالخديعة ، وهو لم ينتخبهم من الطريق حتى يكونوا أداة صامتة تتحرك بمشيئته، وليس لهم من وراء عملهم جعل فيغريهم أن يزيدهم عليه جعلا، وليسوا يسألون جزاء فيكال لهم الجزاء كيلين، وإنما هم يتوقعون أن يرضوا الأمة، وإن أسخطوا الوزارة، فهم يخشون إذا هم انحرفوا عن هذه البغية، وسلكوا غير هذه السبيل أن لا يصيبوا منها غير السخط، والغضب واللعنات.
ولهذا لا غرو إذا كان الوزير وأعضاء اللجنة قد مضوا في عملهم قدما، لا يثنيهم شيء عن واجبهم، فأما الوزير ففي سبيله إلى رد حقوق الأمة كاملة، وإن جشمه هذا الواجب كل مصعبة، وركب له كل شامس جموح، وأما أعضاء اللجنة فمنكمشون إلى مهمتهم، مرتقبون أن يحسنوا إلى أمتهم غير مسيئين إلى أنفسهم، ومكانتهم فيها، وسيرى الله أعمالهم، وستشهد الأمة غدا ما فعلوا، وها هم أولاء قد أوشكوا أن يتموا العمل، ويفرغوا من سن قانون الانتخاب، فإذا ابتدأت الانتخابات للمجلسين النيابيين فلن تشترى رجال من الأمة ليبيعوا الأمة كلها، ولن تدس هذه الوزارة يدا خفية تحت الانتخابات؛ لتجتمع لها في مجلس الإنابة الأبواق، والقيثارات، والأعواد مترنمة بها، حتى تكون الندوة مصلحة من مصالح الحكومة، للتغني بعمل الحكومة بجملة مصالحها وإداراتها، فإننا لا نظن هذه الأمة التي تصرخ طالبة الحياة الصحيحة المكتملة الناهضة بائعة غدا نفسها للمشتري، وإلا إذا هي فعلت فقد سجلت على نفسها خجلة مناقضة، شائنة معيبة سافلة، وليس هذا الوزير بالرجل الذي تسول له نفسه أن يفسد على هذه الأمة خلقها؛ لأن فساد الخلق لم يمتزج بنفسه، حتى يجعل الأمة صورة من طبائعه، ومرآة تتراءى فيها نفسيته؛ بل هو لا يملك في هذه الأمة غير وجدانه، وجهده ونيته، واعتزامته، وللأمة ضميرها طليق، لا حكم لأحد عليه، وهي قمينة أن تتبع ضميرها، فلا تنتخب غير من تريد ليكون لها في ندوة الإنابة ما تشاء من سلطان، فلن تكون حلقات الانتخاب أسواقا للمتاجرة بالأصوات، ولن تجد الحكومة دلالين يقفون على ثنيات السوق، وتلعاتها؛ ليظفروا لها بالمشايعين، والممالئين في المزاد؛ وما دام هذا الوزير رجلا نبيلا كما عرفناه، شريف الدخلة كما تبينا من خلقه، وما دامت الأمة حريصة على مطلبها المقدس، وغرضها الأسمى، فالحرية في الانتخاب مكفولة، ومجلس الإنابة غدا مكتظ بالنواب العاملين الأحرار، الصادقين في الوطنية والجهاد ...
الخاتمة
ما كان لنا أن نكتب اليوم كلمتنا هذه عن المترجم به، وما كان لنا أن نستعجل القدر، ونستقدم من عظمة هذا العظيم ما تأخر، فغدا سيسجل التاريخ، وغدا سيشهد الزمن، وفي غد سيكتب الشعب، وتدون أقلام الخلود، ويفتح سجل الأبد، ولكنا قسنا بما كان ما سيكون؛ وتوسمنا فيما فعل الخير فيما سيفعل؛ فإن عظائم الفعال لا تزال أمامه، وحسام الأمور على مرتقب منه، وفي العمر - إن شاء الله - بقية، وفي الأجل نسيئة، ومن قوة الرجولة مدخر، ومن النشاط والخفة إلى خدمة هذه الأمة مجتمع ومختزن، ولقد أدى الوزير لبلاده أعظم صنيع، وأسدى إليها أكبر منة، وفي الحق لقد تجلت مقدرته السياسية في فترة قصيرة محرجة، عصيبة رهيبة، بما لم تتجل به عبقريات أكبر ساسة الدنيا في بضع سنين، وعلى فترة من الزمن متراخية متطاولة، حتى لقد عجز الخصوم الذين حاولوا أن يفسدوا عليه عاطفة أمته، فلم يبلغوا شيئا مما أرادوا، عن إنكار مقدرته، وتجاهل قوة عارضته، وجلال بديهته، وسعة حيلته، ولم يستطيعوا أن يكذبوا على مواهبه، أو يدعوا الجهل بعبقريته، وحدة تفكيره، وسرعة إنفاذه، وتوقد ذكائه.
وكان خليقا بأمة كأمتنا أن لا يكون فيها فريق يختصم فريقا، وحزب يناضل حزبا، وأن تصبح الأمة - كما رأينا - طرائق وشيعا، كل يقول: زعيمي بالزعامة أولى، ورأسي بالولاية.
ولقد كنا أقوياء ملتئمي الصفوف، مكتملي الوحدة، مؤتلفي القلوب، متصافي الأفئدة، يوم الثورة الكبرى، وعهد النهضة المتقدة الجياشة، المستعرة يوم طاح الردى بالشباب، وسكن الذين اضطجعوا تحت الثرى دفاعا عن الذين فوقه، وكنا خلقاء بأن نكون اليوم أكثر اتحادا، وألم شعثا، وأقل خصومة، وأجمع كلمة؛ حتى تتم لنا بقية الحقوق، وتتحقق جملة المطالب، وحتى نناضل صفا واحدا الغاصب، ونقف سدا في وجه العدو، ولكنا وا ضلتاه لا نزال نقول وزاريين ومعارضين، وحكوميين ومتخاصمين، والوطن واحد يطالب أهله أن يكونوا شيعة واحدة، ومصر للجميع، وحقها على الجميع، وكان الجمع كله مخلصا، والشيعة بجملتها بالعقيدة الوطنية مؤمنة.
وما أردنا - علم الله - بهذا الكتاب كما قلنا في مستهله أن نرفع هذا الوزير، وأنصار هذا الوزير على مكانة أحد، ونهدم من هذا الوطن جانبا لنعلي بنيان جانب، فإن سعدا وصحبته، وثروت وفرقته كلهم بنو أب واحد هو النيل العظيم، المستفيض الضاحك المبتسم، وأولاد أم واحدة هي مصر، هذه العزيزة الحبيبة إلى كل نفس، ولم نضع كتابنا هذا ليكون قصيدا جميلا خالي النزعة، كاذب الدخلة، فما كان هذا نصب عيننا يوم أمسكنا بالقلم، ولا نحن بالخارجين على الأمة فننادي الجميع إلى الخروج، ولا بالذين يمشون في الصفوف بكلمة الفرقة، والنفار، والاضطراب، والخصام، والاشتجار، بل رأينا الروح الحزبية الهوجاء المقيتة قد سرت في النفوس، واستحوذت على المشاعر، ودين الوطنية الصادقة قد خرج عليه ألوف من الملاحدة، والناكرين، والكافرين، وهذا شر ما تصاب به أمة في بهرة حركتها، وأقتل ما تفجع به بيئة في مستحر نهضتها، ولكن الحق قمين بأن يبدو لهؤلاء الذين أنكروه، وخليق بأن يعيد إلى الأمة من عارضوا أنصارها، ومشوا بالخصومة بين أهلها.
اللهم ما ظلمنا أمتنا، ولا أنكرنا عمل مخلص من أبنائها، ولا جحدنا فضل زعامتها، ولكنا أردنا أن نقرب بين الأخوين، ونمتهد للحق طريقا معبدا، وننادي الناس إلى إكبار شخصية عظيم من عظمائنا لم يأثم، ولم يقعد عن السعي في سبيل أمته، ولم يمالئ عدوا على وطني، ولم يحاول قتل وطني لإحياء عدو، وقد برزت هذه الشخصية إلى الميدان قوية ناهضة منتعشة، تسعى إلى الخلود؛ فكان حقا على الأدب أن يظهر للناس ما خفي من هذه العظمة المقدسة الإلهية.
Page inconnue