وقد قال الوزير: «إن ما بني على هذا النظام لا يلبث أن ينهار، ويتداعى بناؤه إذا زال أساسه، فإذا ألغيت الأحكام العرفية سقطت كل التشريعات التي اتخذت بمقتضاها، وأصبح من الممكن أن تنقض كل الحقوق المدنية التي بنيت على أحكام تلك السلطة وأوامرها، بل يصبح من الممكن أيضا أن تفتح على السلطة أبواب مسؤولية واسعة، ولم يصبح أمر إلغاء الأحكام العرفية مرهونا بإرادة السلطة العسكرية، بل هو اليوم بيد الحكومة المصرية من وجهة المبدأ، ولكن الشروط التي لا يشك أحد في وجوبها لإلغاء تلك الأحكام لا تتحقق بين غمضة عين وانتباهتها، وليس منا من لا يرغب في إلغاء الأحكام العرفية، وهذا تأخير، ولكن كل منا يشعر بأننا لا يمكننا إلغاؤها دون إقرار التصرفات الماضية، ولا عبرة بما يراه غير المسؤولين الذين يرون أنه يكفي أن تطلب فتجاب.» «عرف الناس ذلك، وسمعوا أنه يجب إصدار قانون لإقرار التصرفات الماضية، فقال قوم: إنه إنما أريد به تقرير الحماية، وتنظيم أحكامها، وهم يعلمون أن ذلك القانون لا يخرج أمره عن أن يكون تصفية للماضي، ولا علاقة له بالنظام المستقبل، وتسمية هذا القانون بقانون التضمينات هي التي أفسحت المجال للمضللين أن يذهبوا في التأويل ما شاءوا، وحقيقة الأمر أن ذلك القانون يسمى بالإنكليزية
Bill of Indemnity ، ومعناه الصحيح: القانون الذي يقيل من المسؤولية ويرفعها.» «على أن بعض الذين يشكون من وجود الأحكام العرفية، ويطالبون بإلغائها يعملون في الوقت ذاته على عرقلة مساعي الحكومة في ذلك، وقد وعدت هذه الوزارة بأنها اعتمادا على حسن موقف الأمة ستسعى في الحصول على الرجوع فيما اتخذ من التدابير المقيدة للحرية طبقا للأحكام العرفية، ولكن الذين لا يرعون حرمة الأمة يحرضون على الفتنة، ويشجعون على الإخلال بالنظام، وأعمال التهييج والاضطراب، فهل ترون في ذلك شيئا من الخير للبلاد؟! ولكن هذه الحكومة لن يمنعها مانع من القيام بواجبها، وستمضي في عملها بما تمليه عليها ذمتها وضميرها، ولا تلقي بالا لهذه الحركات التي لم يقصد بها وجه الله، أو مصلحة الوطن؛ حتى إذا فرغت من عملها، وتقدمت به إلى الأمة أدرك كل باغ ومعتد أن صفحتها بيضاء، وأن إخلاصها عظيم.»
هذه عدة الوزير، وتلك عهوده، وما كان الرجل العظيم ليعد الناس ثم يخلفهم، ولم تصب العظمة في تاريخها برجل ضعيف الذاكرة ينسى ما قال، ويمطل الناس ما يعد، ويسكتهم بالمنى الكاذبة لينال منهم ما يريد، ولا يريد أن ينالوا هم منه شيئا، وليست ضعف الذاكرة تعيش إلا بجانب ضعف الذهن؛ لأن الذاكرة لا تزال حجرة من حجرات العقل، فإذا كان هذا واهي الأساس، متداعي البناء؛ ضعفت تلك وتساقطت، ولم تستطع تماسكا، ولم تقدر على النهوض بنفسها، ولن يتحلل صاحب الترجمة من تلك الدعوة؛ لأن في ذلك التحلل إهانة لضميره، ولن يرجع فيما قال؛ لأن الرجوع في القول ليس من ديدنه، وإنما هو يتمهل للفرصة، ويضع الأمة تحت الاختبار، وهو منجز وعده يوم النجاز، بار بعهده يوم توفى العهود، فأما أولئك الذين يريدون أن يستعجلوا القدر، وينفذ ما تريد الأمة في طرفة عين وانتباهتها كما قال الوزير ووصف، فأولاء ليسوا مخلصين في استعجالهم، صادقين في احتثاثهم بيض النية في إغرائهم، وإنما هم يتخذون هذه الشكاة ذريعة، ويستمدون من أناة الوزارة عجلة السخط، ومن حزم الوزير طيش الطلب، على حين يدركون أن أمتهم اليوم في عصر تطور اجتماعي خطير، تغشاه المخاطر، وتحف به الخطوب، وأن الحكومات في عصور كهذه لا يخلق بها العجلة، ومسارعة الأمور، والجري ركضا إلى التغيير والتبديل، بل لا غنية لها عن الحزم فيما تقدم، والصبر على معالجة ما بين يديها، وقد ترى الشدة واجبة في حين يرى القوم الملاينة حاسمة، ولا يكون لهؤلاء القوم من مأرب في تلك الملاينة، ومقصد إلى حض الحكومة على العرف والرفق، إلا لتفسح المجال لهم حتى يركبوا رؤوسهم، ولكي تخلو الطريق أمامهم لمتابعة أهوائهم؛ إذ تكون الحرية الفسيحة الميدان الموسعة، الموطأة الأكناف مفسدة، ومبعثا للخطر، ومثارا للفتنة والشغب، والبلاء المحقق.
في سبيل البرلمان
عهد صاحب الجلالة الملك في أمره الكريم الذي وجه فيه رئاسة الوزارة إلى صاحب الدولة ثروت باشا بإعداد مشروع النظام الدستوري لهذه البلاد، وقال له في نطقه الكريم: أن يعمل على أن يكون ذلك النظام كفيلا بأن يحقق مبدأ التعاون بين الأمة والحكومة.
فكان أول ما توفر عليه الوزيران يحقق تلك الرغبة، وينفذ ذلك الأمر غير متوان، ولا متمكث، ولا متمهل في الانصياع إلى أمر الملك، فلم نلبث أن شهدنا الحكومة تجد دائبة جهدها لتضع للبلاد تلك الأنظمة التي تسقط الحكومة الماضية عن سيطرتها القديمة، وتدنيها إلى الشعب، وتجعلها راكعة عند قدمي الأمة، نازلة على أمرها، متلقية منها إرادة الحكم، وكلمة السلطان، وقد اعترف هذا الملك الدستوري الذي لم يعش في ماضي حياته يوم كان يلقب بلقب الإمارة، وينعت بنعوت السمو على أرستقراطية الأمراء، ولم يخلد إلى عزلة النبلاء، وينكمش إلى عيشة القصور، ويتجلى بكبرياء الملوك وأشباه الملوك، بل لقد عرفناه في ماضي حياته، وفي بضع السنين التي اعتلى فيها منصب السلطنة، رجلا ديمقراطيا يحب الشعب، ويعمل للشعب، وطالما ألفيناه يضع يده في خدمة الأمة، ويلقي باله وعنايته في سبيل رقي الحضارة في وطنه، وإعلاء كلمة العلم في ربوع بلاده، ولقد أشرف على جامعة الشعب أميرا، ورعى العلم وأهله سلطانا، ونزل إلى الأمة خادما، كما نزل فردريك العظيم، يوم نودي به ملكا، وهو لا يدين بعقيدة الملوك الذين يدعون أن مناصبهم إلهية، وأنهم جاؤوا من قبل ملك السماء؛ ليكونوا بالنيابة عنه ملائك الأرض، بل هو يزري بهذه العقيدة التي لم تصل إلى السماء، ولم تسقط إلى الأرض؛ لأنها لا تجد هناك مكانا، ولا ترى لها في هذا الكوكب عابدين قانتين، وإن رأت لها في الناس مالقين منافقين، وهو لم يكن يوما ممن يؤمنون بحقوق الملوك المقدسة، بل يعلم من نفسه، ومن الروح الديمقراطية التي نشأ عليها، ومن الوسط الذي تربى فيه، ومعاهد العلم، والجامعات التي درس في باحاتها، أن عقيدة الحقوق المقدسة قد أصبحت اليوم عقيدة حقوق البرلمانات المقدسة، وهو يدرك أن لويس الرابع عشر، الملقب بالشمس على عظمة سلطانه، ومجد مملكته، واتساع مدى حكومته، لم يكن يوم قال كلمته المعروفة عنه ... «أنا الحكومة!» أروع ولا أعقل، ولا أحكم، ولا أنصف من فردريك ويليم في كلمته المتواضعة الشعبية المخلصة المفعمة ديمقراطية متينة، وروحا صادقة، متفانية في أمتها، وهي: «أنا خادم الأمة!»
وإذا كان مليكنا المحبوب ينزل إلى شعبه، يتقرب من أمته، ويسعى سعيه المحمود لخير بلاده، فما كانت تلك كلها منه بالأمر المستغرب الذي يصيب من أهل هذا العصر دهشتهم وحيرتهم، فقد عاش أكثر شبيبته في بلاد الغرب، وعرف كيف يحترم حقوق الشعب، ويقدس حرية الأمة، وهو الذي نشأ في إيطاليا التي جاهدت عدة السنين في سبيل الظفر بحريتها، وديمقراطية أنظمتها، ومجلس برلمانها، ثم لا يزال الإخلاص إلى الشعب، والدأب على مصالح الجماهير، والسهر على رعاية شؤون الأمة في دمائه متغلغلة في صميم روحه، آخذة بكيانه، متمكنة من مزاجه الطبيعي؛ لأنه سليل ذلك الأمي العظيم الذي بز العبقريين، حفيد ذلك الرجل الخطير الذي أدهش أساطين العلم، بأمية غريبة؛ هي أجل وأروع من كل ما أخرجته الأذهان الجبارة، وأنتجته العقول المريعة الفياضة.
ولا تزال تلك الأمية التي «كتبت» لنفسها المجد، ورفعت مصر إلى مصاف أكبر الأمم، وعمت هذه البلاد نورا وعلما، وقوة وفخارا، هذه الأمية التي فتحت المدارس الكبرى، وبعثت البعوث، وأرسلت الإرساليات إلى جامعات الغرب، معجزة من معجزات العبقرية القوية بنفسها، التي لا تجد لها من غيرها غذاء، ولا تستمد من المواهب المكتسبة ما ينميها، ويكمل جوانبها، ويجمل حواشيها، بل هي عظيمة من نفسها، جليلة بمبتكر جلالها، تستمد ريها من تلك الدماء القوية الخالصة التي تجري في عروقها، ومن الروح الخشنة المستحصدة المفتولة التي أشبهت التربة التي نبتت منها ... تلك الصخور الشم التي طلعت من ناحيتها، وذلك الجو الجاف القاسي الذي اشتمت هواءه، وتلك التربة الصلبة التي ظهرت فيها، ولقد خرجت تلك العبقرية في العصر الذي وثبت فيه على ألوف من الأميال منها عبقرية أخرى حربية مثلها، ولكنها كانت جندية، لا يزال نصف عبقريتها وليد «سان سير»، ونتاج الفنون التي تعلمتها في المدرسة ، وتلقنتها على عديد الأساتذة، ولكن عبقرية محمد علي العظيم كانت أنبل وأمتن وأغزر من العبقرية البونابرتية؛ لأن تلك لم تحطم نفسها، ولم تكسر على منزع الغرور جناحها؛ ولم تنطح الصخر برأسها، بل توفرت على إصلاح أمة، وانكمشت إلى ترقية شعب، وتفانت في سبيل خير مملكة، فمضت بذكرى طيبة؛ وأثر صالح، ولم تمت كالعبقرية النابوليونية عقيمة جدباء، غير ذات زرع وثمر، مريضة محصورة، حبيسة في جزيرة قفر نائية.
نعم، لقد اعترف ملكنا المفدى لأمته بحقها عليه؛ ووهبها من نفسه ما كانت تصبو إليه، ونزل لها عن ملكيته لديمقراطيتها؛ وأوحى إلى وزيره الأول أن يعمل لنظامها، ويغلب حقوقها على حقوق وزارته، فحق على الأمة أن تلتف حول عرشه، وتؤيد ملكه، وترفع علم الإخلاص إلى سدته، وحق على الوزير أن يدين له، ويستهل خطابته بالوفاء إلى العرش، وتأييد صاحب الجلالة؛ فالأمة كلها اليوم صافة حول مليكها، تفتديه بأرواحها، وتؤيده بقلوبها، وترفع أكف الضراعة إلى الله أن يحفظ جلالته، ويرعى عرشه، ويعلي شأن بلاده، ويمده بقوته، ويتم في عهده عصر النور والحرية، والنظام، والرفاهية، والاستقلال.
ونحن نعلم أن الملك في أمره الكريم قد نزل للأمة عن مطلقية حكمه، ووهب صاحب التاج شعبه دستورها، فهو صاحب الحق قد منحه، وسيد الدستور؛ ومؤسس الديمقراطية؛ وكان هو الذي أحق بأن يشرف على وضع الدستور، ويعهد إلى حكومته بأن تقوم على تنسيق أساليبه، ووضع خططه، ولكن لم تكد الحكومة تبدأ العمل، وتخطو الخطوة الأولى، حتى ثارت في البلاد دعوة غريبة، وخرجت فكرة طائشة، ووقف وراءها قوم يؤيدونها، ويحشدون أساليب الدفاع عنها، وهي تأليف جمعية وطنية، ينتخب أعضاؤها من أفراد الأمة لتضع دستور البلاد، وتهيئ أنظمة التشريع والتنفيذ، حتى إذا أتمت عملها، وأكملت ما وكل إليها؛ انفرطت، وتلتها الانتخابات العامة لمجلسي الشيوخ والنواب، وما أقاموا نظريتهم تلك، وما أسسوا فكرتهم التي بسطناها إلا على حجة واحدة، وهي أن الأمة ينبغي أن تقيم أساس الدستور الذي تريده بنفسها؛ ولا ينبغي لأحد أن يشرف عليها في عملها، ولا صاحب الحق نفسه ، ولا الوزارة التي قامت بأمره، ولا يجب أن يكون ثمت حدود لرغبتها، أو مرشد يرشدها، أو أمثلة عليا تقدم إليها لتحتذي حذوها، ولم يكن أولئك الذين بثوا تلك الفكرة، وحاولوا ترويجها؛ قد أصابوا بها الحق، وسهلوا بها مصاعب العمل، وذللوا الطريق إلى بلوغ الغاية، بل لقد أرادوا أن يفسحوا بها مجالا واسعا للأنانية، ويرسلوا في البلاد ريح الفتنة، والاهتياج السياسي، والتطاحن بين أفراد الشعب على نوال صوت من الأصوات في تلك الجمعية الوطنية، كأن لا حساب على الوزارة من هذا الدستور نفسه يوم يعمل به، ويوم تقف أمام نواب الأمة مسؤولة عما عملت، مطالبة بتبرئة نفسها، أو الدفاع عن خططها إن هي أخطأت، أو تبين للنواب أنها وهمت، وجارت، وأفسدت، وكأنها ستجمع لتأليف الدستور، وتنظيم أساليب الحكم جموعا من عامة الناس، وستسقط على أجهل الناس لتقول للأمة: هؤلاء أعلم القوم بأساليب الحكم، وأنظمة الدول، وآخر ما اهتدى الساسة والمشرعون إليه من شرائع الدستور، وكأنها تحسب تأليف لجنة لوضع قانون البلاد لا يزيد شيئا عن هيئة تكلف بتنظيم قانون لمحاكم الإخطاط!
Page inconnue