ونحن ما رأينا في كبار رجال الحكومة، ولا في الوزراء الذين اعتلوا منصات الحكم في بلادنا هذه رجلا محدثا عذب المحضر، رفيق الحاشية، لطيف السمر، بسام المحيا كوزيرنا الأول؛ فإنه ليتبسط في الحديث، رافعا الكلفة، متجاوزا عن كبرياء المنصب، ناسيا روعة المقعد في الحكومة، فلا يمل المستمع له حديثا، ولا يرى على كلامه ومنطقه شيئا يتكرهه أو يغضبه، أو يغريه بالنهوض من مجلسه، أو التعجل في الاستئذان من حضرته حتى لترى أبلغ الناس حديثا؛ وأظرفهم فكاهة، وألطفهم في الكلام مدخلا على النفوس ليفقد نفسه في حضرة هذا المحدث الرقيق البديع الحديث أكثر من متكلم، وتضؤل فكاهه بجانب فكاهة جليسه، ولا ترى لصاحب الترجمة فيما قرأنا عن النوابغ، والعبقريين شبيها له من هذه الناحية قرينه من هذه الوجهة الممتعة غير صمويل جونسون الكاتب الشاعر المخلد، فقد كان أبدع أهل عصره حديثا، ودعابة وسمرا، حتى إنه يوم وضع القلم لا يكتب؛ مضى نشيط اللسان، فياضا بالحديث؛ يضع سلطانه على نفوس سامعيه، ويجتذب أفئدة القوم برقة ندواته، وكانت مواهبه الكلامية لا تقل عن نبوغه الشعري، فكل كلمة تخرج من شفتيه تحمل السامعين إلى أبعد ما يأخذهم المدح والإعجاب، ولكن لم يكن على كلامه أثر من تلك «الشطحات» المترامية التي كانت في شعره، بل كانت أحاديثه آية البساطة والسهولة واللطف، والمتانة في آن واحد.
وكذلك كان الخطيب والسياسي المخلد إدموند بيرك معاصر جونسون، فقد كان إذا غاب هذا عن الندوة تولى هو التحدث، والتسامر مع الأعضاء، وكانوا جميعا من كبار رجال العصر بين كتاب وشعراء، وساسة وأشراف وحكوميين، فلم يكن بيرك يقل في فكاهاته، ولطف أحاديثه عن صديقه الغائب، ورأس المحدثين الفاكهين في عصره ذاك.
وإذا نحن تدبرنا هذه الشجاعة الأدبية التي نرى في كل يوم آثارها من صاحب الترجمة، وجمعنا إليها هذه الفضيلة الكلامية الحلوة، العذبة المحضر، ذكرنا ما كان من القائد مالبرا؛ إذ قال عنه الشاعر الروائي ويليام ثكرى: إنه ليقف أمام فوهة المدفع مبتسما، كما يقف في قاعة الاستقبال لتحية الأضياف. •••
وكان من أثر هذا النبوغ المبتكر أن دخل المترجم به مدرسة الحقوق في الربيع السادس عشر من عمره، وذلك عام 1889 أي في تلك السن التي كان أقرانه في هذا العمر لا يزالون في المدارس الابتدائية طلبة طوالا، قد نبت عذارهم في صفحات وجوههم، وفرعت قاماتهم، وصلبت أعوادهم، ويوم كانت برامج التعليم أدق منها اليوم، وأوسعها مادة، وأكثر دروسا، وإذا عرفت ذلك، ثم علمت أنه كان أول فرقته في جميع سني مدرسة الحقوق، أدركت روعة هذا النبوغ الذي بدأ منذ صباه ناضجا فارعا مستفيضا، وكان خليقا بذلك الصبي الذي يمشي في باحة المدرسة أن يكون له شأن يذكر في مقتبل عمره، ومستهل كهولته؛ لأن الطبيعة أعدته منذ ذلك اليوم لعمل عظيم، وأرادت به حدثا خطيرا في تاريخ هذه الأمة، وقادته إلى طريق الحقوق؛ لأنه كان أبدا سبيل النوابغ إلى الوزارات، ومعهد تخريج قضاة الشعب وقادته، وزعماء الرأي فيه، وقد كان له في تلك المدرسة أقران ولدات، ولكن الطبيعة لم تنتخب منهم لعملها الذي انتوته لبلدنا هذا أحدا غيره، وقد خمل أولئك، ونبه هو؛ لأنه من صفوة من اختارتهم الطبيعة لقضية الشعوب، وأماني الأمم.
ولا غرو إذ اهتدت الحكومة إلى مواهبه منذ صباه، وتوسمت فيه ما حدث منه في رجولته؛ إذ اختارته بعد نوال إجازة الحقوق من تلك المدرسة للسفر إلى بلاد الغرب؛ لإتمام علومه، ونوال إجازة الدكتوراه النهائية؛ إذ أوحي إلى ناظر المدرسة يومذاك وهو مسيو تستو أن في أثواب ذلك الفتى بواكر عبقرية متجلية ساطعة النور؛ فرفع إلى أولي الشأن تقريرا يوصي بأن لا تفرط الحكومة في تلك المواهب، وتتزاور عن هذا النبوغ الفتي المتقد، وأن ترسله إلى أوروبا ليأخذ من فيض ذلك العلم الذي نبع نبعه في تلك البلاد، فنزلت الحكومة على رأيه، وصدقت نبوءته، ورضيت بمقترحه؛ فأجازت سفره، وقررت له مرتبا استثنائيا يكفل له النفقة مدة دراسته، ولم تكن تلك الفترة فترة بعثات علمية ولم يكن عصر الإرساليات، ولم تكن العادة أن ينقد الطالب في جامعات الغرب راتبا ينفق منه؛ ولكن الحكومة كانت في ذلك متابعة سنة من سنن الإلهام السياسي؛ إذ بينا ترى الحكومات يوما مشترعة نظاما إذ هي مبطلة مثله، وهي لا تدري لم أنفذت ذاك، وأبطلت غيره، ثم لا يلبث الزمن أن يظهر فساد ما فعلت، أو صلاح ما اشترعت.
على أن القدر أبى أن تتم الفكرة، وشاءت الظروف أن تحول دون تنفيذ هذا المقترح؛ إذ اتفق أن كان والد المترجم به يومذاك مريضا مرض موته، طريح الفراش على سرير منيته؛ فتضاربت في فؤاد ذلك الفتى عاطفتان، كل منهما تدفع الأخرى وتجتذبها، وتريد الغلبة عليها، عاطفة الشوق إلى العلم، وعاطفة الرحمة والبر بأبيه، ولكن لم تلبث الغريزة أن انتصرت على نزعات الذهن، ولا تجد الغريزة مصطدمة، وأية عاطفة إلا انتصرت في النهاية فائزة.
وهكذا آثر الفتى أن يبقى بجانب أبيه المريض على أن يحمله طلاب التوسع في العلم إلى بلاد قصية، وأبوه في محضر المنون، وأشفق من أن يلفظ الرجل أنفاسه التي طالما أجهدها في سبيل تربية فتاه، والقيام على رعايته، وهو عنه غائب، فلا يودعه الوداع الأخير.
ولم يسافر المترجم به كما كانت النية، ولم يرتحل عن مصر كما كان مقترح الحكومة، وماذا كانت تلك الإجازة التي كانت تنقصه لتجدي عليه أو تنفعه، وله من ذهنه الخصيب، وتفتح الكتب أمام عينيه ، والتربية الاستقلالية التي كانت عند منال يده؛ ما يذلل له سبل الاكتمال من العلم، والتوسع في القانون، ويفتح أمامه مغاليق الفكر والرأي، ولعمركم متى كانت المدرسة معهد النبوغ، ومتى مضت الجامعة منتجة العبقريات، وهل النوابغ يستمدون من الجامعات شيئا من مواهب نبوغهم إلا أن يحرزوا المبادئ الأولية لإظهار قوة أذهانهم، وحدة ذكائهم، ثم ينطلق نبوغهم بعد ذلك ركضا لا يلوي على شيء.
وقد رأينا شبابا خرجوا من المدارس فكانوا أعظم أذهانا من معلميهم، وأكبر أسماء من أساتذتهم، فذاع ذكرهم، ومضى معلموهم خاملي الذكر، مغمورين، لم يصيبوا هم من الخلود شيئا، وأصابه تلاميذهم، وأين الذين علموا أمثال: شكسبير، وجونسون، وديكنز، وراسين، وكورني، وبت، وبسمارك، ومولتكي، وغيرهم، لقد جهلتهم الإنسانية، ولم تحفل بمعرفة أساميهم، أو البحث عن حياتهم وماتوا، وكأنهم لم يكونوا، وكأن أولئك المخلدين العظماء لم يتلقوا عن معلم، ولم يتخرجوا عن أستاذ، ولم يأخذوا عن أحد في حلقة درس، وفي فرقة من فرق الجامعة أو المعهد، بل كأنما خرجوا من يد الطبيعة جاهزين مفصلين، يحملون العلم من المهد، ويشعرون في أعماق قلوبهم بوحي الفنون كلها، وكيف يحتاج النوابغ إلى المعلم، وتعوزهم إجازات المعاهد، وهم الذين يخلقون العلم، ويكشفون أقطارا جديدة منه، ويأخذونه إلى الشاطئ؛ فينظفون ما يعلق من الأوساخ به؟ وما جملة علوم هذه المدينة وفنونها وآدابها إلا من عمل النوابغ والعبقريين، لا من صنع حملة الشهادات، والمزهوين بالإجازات، والألقاب العلمية، والكنى الأدبية التي تجعل لأسمائهم ذيولا طويلة وراءها.
ونحن قد بعثنا إلى الغرب وجامعاته عددا عديدا من شبابنا، وأطلقنا فتيانا من سجون مدارسنا إلى حرية المعاهد في بلاد الحضارة والقوة والعلوم، وقد تكاثر في الأعوام الأخيرة علينا أولئك الذين عادوا بإجازاتهم العالية، وباللحى المعفاة، وبالمناظير الأستاذية، وبالألقاب السربونية، وغير السربونية مما لا نعرفه، ونفزع منه، وتأخذنا الهيبة عند سماع نبئه.
Page inconnue