وتناديني دون أن أسمع لها صوتا: أنت فين؟
وكلانا أعمى محموم بالرغبة، يتحسس بالغريزة وحدها والسليقة طريقه إلى الآخر، وأبدا أبدا لا يفقد الأمل. وكم بدت المهمة سهلة أول الأمر! إن هي إلا بضعة أمتار مربعة باستطاعتي أن أمسحها طولا وعرضا وحتما سأنتهي بالعثور عليها. ويمضي الوقت بطيئا، قاتل البطء، وتستحيل الأمتار القليلة إلى غابة مترامية الأطراف من المحال أن تلتقي برفيقك أو يلتقي بك بمجرد بحثك عنه وبحثه عنك.
ولكن، حتى بقانون الصدفة المحضة كان محتما أن نلتقي، فما بالك وثمة قانون مقدس أعلى كان يحكمنا في ذلك الوقت، قانون الأنثى والذكر. ولم أكن في تصوري أطلب المستحيل، وأعتقد أني سأستطيع التحدث إليها عبر الإناءين، بحيث تسمعني وأسمعها في وضوح. كان يكفيني مجرد أن أسمع صوتها الأنثوي، مجرد أن أستطيع تمييز نطقها المخالف، وأطمئن بالدليل المادي إلى أنني لا أحلم ولا أتصور ولا أبني انفعالاتي على وهم، وإنما هناك وراء هذا الحائط أنثى حقيقية من دم ولحم. وحين حدث اللقاء وبدأت أذني المنتبهة أدق انتباه تلتقط ما يأتيني عبر الحائط، كدت أصاب بخيبة الأمل، فقد جاء الصوت وكأنه ليس نافذا من خلال الحائط، وإنما كأن الحائط، أو ما هو أثقل بكثير من الحائط، كأن جبلا بأكمله قد مر على كلماته وحروفه، فسحقها كما كان القطار يسحق ما نضعه فوق قضيبه من مسامير ونحن صغار، فيحيلها إلى رقائق معدنية كحد الموسى. لم تكن كلمات أو حروف، وإنما مسحوق همس لا تستطيع تمييز جمله، تهشمت ودكت بحيث استحالت إلى أصوات متصلة أو متقطعة، كالأنين مرة وكالصفير مرة أخرى، كسين طويلة بطول السطر، أو كمائة دال متتابعة، وأيضا لا تعرف حتى نوع الصوت الآتية به؛ فهو أحيانا غليظ كأصوات الرجال، وأحيانا دقيق رقيق كأن مصدره عصفور كناريا. ولا بد أن صوتي هو الآخر كان يصلها على نفس الصورة، ولكن كما لم تستطع الجدران أن تحول بين قانون الذكر والأنثى، وبين أن يأخذ مجراه، فكذلك لم تقف اللغة المهشمة والهمس المسحوق حائلا، بل مثلما أحلنا الجدار الذي كان مفروضا أن يفصل بيننا إلى وسيلة اتصال، فكذلك أحلنا اللغة المهشمة إلى أداة تفاهم.
وبالهمس المسحوق رحنا نتحدث، حديث المحبين الخجول المتعثر المفضي دائما إلى الحديث عن النفس، والاعتراف، وكان كل منا قد وجد القلب الحنون الذي يهدهد على كلماته، ويغفر أخطاءه، ويجد المبرر لذنوبه وعثراته.
ومن همسها المسحوق راحت تتجسد لي، وكما يستطيعون في الطب الشرعي أن يعيدوا صنع الإنسان بأكمله إذا عثروا على أصبع من أصابعه مثلا، أو جزء من أعضائه؛ إذ لا بد لكل أصبع من اليد التي تناسبه، ولا بد لليد من الذراع والجسد والأقدام التي تناسبها، وكل أنف له الأذن والعين والوجه الخاص به، وهكذا يعيدون تركيب الإنسان ليصبح صورة طبق الأصل للضحية. واستطعت من همسها المسحوق أن أراها كاملة، وأقربها، وأضمها، وأعانقها، وتصل منابت شعرها إلى أنفي؛ إذ هي أقل مني طولا، وعيناها سوداوان غامقتا السواد، وعلى جانبي وجهها المستطيل ينهدل شعرها الأسود الناعم، ومن خلال جلباب السجن الأزرق ينفر ثدياها متباعدين بلا «سوتيان» كثديي بكر ، ولا بد بإزميل فنان صنع فخذيها؛ فهما طويلتان ممتلئتان، تتوجهما تلك الاستدارة الطرية الملساء الكاملة. اسمها حتما فردوس وفي عروقها دم بدوي، وعلى ذقنها بالضبط فوق الغمازة وشم لا يتعدى ثلاث نقاط رمادية باهتة، وفمها ليس صغيرا كفم البنات، ولكنه ممتلئ مقلوب الشفة العليا لا تملك لحافتها المشرعة إلى أعلى، مقاومة، لها في السجن ثلاث سنوات، كان زوجها يستخدمها في تهريب المخدرات، وضبطت بالبضاعة في ديزل الإسكندرية.
وككل إنسان، كثيرة هي المرات التي يخوض فيها تجربة الجسد مع النساء، حتى لو كان الجسد لحبيبة، ولكني ما حييت لن أنسى كيف استطاع الحديث بيننا أن يرتفع بدفئه درجات مقربا ما بيننا، حتى بدأت أحس بأجسادنا تتلاصق وتتداخل صانعة البداية لأروع متعة ظفرت بها في حياتي. وأنا من خلال ذلك التيار الصوتي الدائر بيننا أحيل جسدي كله وذكورتي كلها إلى أصوات أنفثها عبر الوعاء الألومنيوم ويسحقها الحائط، ولكني أحس بها تغادره أكثر حدة والتهابا، تخترق وعاءها المعدني وجسدها، وتصل إلى مكمن الحياة فيها. وبدوري أتلقف أنوثتها الذائبة في الصوت المطحون المبحوح القادم يئن عبر الحائط، أجذبه وأمتصه، وأجذبها هي نفسها وأمتصها، حتى منديل رأسها، وبعنف أكبر تغيبني هي في نفسها حتى أظافر القدم.
ولم ننم ليلتها.
ولم أتحرك من زنزانتي طوال اليوم التالي ممددا فوق «البرش» أجتر سعادتي، وأحس وأنا في أقبح مكان في الكون بجمال للعالم، وطعم للدنيا لم يذقه بشر، أشعر أني أصبحت أقوى من سجني وسجانتي ومن سجنوني. كل لحظات الضعف واهتزاز الثقة راحت وتبخرت، والرجل في قد عاد للحياة تماما، فعاد للحياة سحرها ومعناها. والرجل في حالة حب، حب لم يذقه في كل ما سبق من قصصه؛ فقد كانت تجارب للصراع المحموم وكبح النفس والإحساس بالخجل وتأنيب الضمير، ولا أدرك أنه كان حبا إلا هناك حين ينتهي كل شيء، وتعود الحياة إلى بلادتها. الآن ومنذ اللحظة الأولى أعترف وأستمتع وأعيش للحب وسعادتي الكبرى أن فردوس تحبني. قد تكون غير متعلمة أو مثقفة أو تجيد استعمال الماكياج، وأخذ المواعيد من الترزي. قد لا تستطيع أن تدرك معنى أنني شاعر، أو تفهم تماما سبب سجني، ولكن حسبي أني رجلها، وأنها أنثاي، وأن كل ما حدث لي أو حدث لها قبل لقائنا، وبالذات قبل ليلتنا الماضية، كان سرابا وخداعا، وأننا منذ الأمس فقط بدأنا لأول مرة في حياتنا نعيش.
وجاء المساء.
هذه المرة لا جنون ولا استعجال إنما هو الاطمئنان العظيم يغلف كل شيء، وبمثل ما كان للقلق والخوف والترقب من متعة، فللاطمئنان متعة أكبر وأشهى وأعمق.
Page inconnue