فصحيح أنه لم يكن قد مر أكثر من ساعتين منذ عرفت الخبر، لكن المشكلة ليست أنه استثارني أو هيج كامن أشجاني، المشكلة أني لم أعد أنا، أني فجأة وجدت نفسي أمام إنسان آخر انتفض من داخلي ماردا عملاقا رهيبا، لا علاقة بينه وبين الإنسان الذي كنته طوال ذلك اليوم والأيام الكثيرة التي قبله، الإنسان الذي كنت قد اعتدته وعرفت حدوده وخصاله ومزاياه. لم أدرك أنه كان على تلك الدرجة من الموت إلا حين انبثق ذلك الآخر، إلا حين أحسست وكأنما أرى بعيني الحياة تتدفق - لدى ذكر النساء وعالمهن واستحضار المرأة في ذهني - غريزة وحشية مكتسحة كأمطار الصيف فوق خط الاستواء، تنهال على سطح البحيرة الآسن الراكد البليد، الذي ألت إليه بجسدي وأفكاري وأحلامي وانفعالاتي. مجرد وقع الكلمة على الأذن «النساء» بذلك التضاد القاهر المكهرب معك، المناقض تماما لك، الذي تحن إليه وترغبه وتريده كما تريد الحياة نفسها، مجرد تصورك لأجسادهن المختلفة، لانبعاجاتها المثيرة، لملابسهن حتى ملابس السجن الواسعة، لروائحهن الخاصة، دائما خاصة كبصمات الأصابع، لأصابع أقدامهن الصغيرة كالجرذان الوليدة المنكمشة على نفسها، لأياديهن النحيفة زرقاء العروق ، للعيون، عيونهن وإحساسك أنها عيون امرأة ورموش أنثى، ترسل نظرات تدرك أنها نظرات أنثوية منتزعة من أعماق امرأة، ومرسلة إليك مضمخة بأنوثة تلون حتى شعاعات البصر. المرأة، الصدر الحنون والقلب الرحيم، والكلمة الحلوة الرقيقة، والأفخاذ التي يفقد بينها الرجل صوابه. بركان تفجر لا سبيل إلى إيقافه، قوى وافدة، غريبة، ملايين من شحنات كهربية حية أحسست بها من منبع خفي في جسدي تتفجر كالنهر الغاضب في فيضانه يكتسح. جن وعفاريت وأفكار مجنونة حافلة بذكاء لامع براق، وطموح هائل، وأحلام شهية تتولد وتتكاثر وتغمر الدنيا بأسرها. هكذا لا بد فتك ذلك اللومانجي بالحائط، فقد كان باستطاعتي ساعتها أن أثقب الجدران أو أهدها أو أحطم المعبد. قوى لم أعد أقوى على السيطرة عليها، فأصبحت حرة تستطيع أن تفعل ما تشاء، تقدم على الفرار أو تقتل حارس الليل، أو تضاجع الحجر. العشاء التهمته في غمضة عين، ودار حارس الليل على الزنازن يلم لي ما بقي من طعام، وبنهم جشع رحت أدخن، حتى أتيت على نصيب الأيام القادمة الذي قسمته بعناية وادخرته. أحيانا كنت أمسك رأسي بيدي، وأضغط عليه بشدة مخافة أن ينفجر، وكل أملي أن تأتي ساعة النوم وأهدأ، ولكني كنت متفائلا جدا؛ فها هو برد الزنزانة يشتد، والظلام يقل علامة طلوع الفجر، وليس في عيني أو كياني كله لمحة نوم واحدة. •••
في اليوم التالي لم أنتظر «التمام» النهائي في الخامسة، في ساعة القيلولة دققت دقات عنيفة مختلسة يائسة، وفي نهاية اليوم دققت، وكثيرا ما منعت نفسي أن أدق الحائط برأسي غيظا، غير متصور أبدا أن يكون حظي بهذه التعاسة، وأن تظل الزنزانة خالية أيضا لليوم الثاني. والمضحك أن أسبوعا بأكمله مضى وأنا كل يوم أدق، وأفعل هذا مع أن حريتي في الدق كانت محدودة بتلك الدقائق التي تعقب «التمام» مباشرة؛ حيث بعد السكون الشامل المفعم تنطلق في أنحاء العنبر ثمانمائة حنجرة تصرخ كلها في وقت واحد، ويزاول أصحابها متعة الكلام بعد إجبار طويل على السكوت. ومع انتهاء الضجة تنتهي محاولاتي وفرحتي، ومع هذا فما أكثر ما غامرت ودققت في ساعات الصمت! وأنا أحاول بكل قواي أن أكتم الصوت، بل أحيانا كنت أستيقظ من النوم لأجد نفسي قبل أن أفيق تماما أدق!
ولا أذكر كيف فقدت الأمل؛ فقد كان لا بد طال الوقت أم قصر أن أفقده. كان واضحا أن «عنبر» الحريم يشكو قلة الزبائن، وأنهم يؤثرون هناك أن يجعلوا المنطقة القريبة من «عنبر» الرجال آخر ما يستعمل. وعلى غير ما كانت البداية حادة ومتفجرة وعنيفة كانت النهاية بطيئة طويلة ممتدة، وكأنما عن عمد، وكأنما رفضا للفقدان التام للأمل، والتلكؤ لعل وعسى تحدث المعجزة.
وحتى تلك النهاية التي بدت كالحدث الفاجع أول الأمر، انتهت هي الأخرى كنهاية، ومع الأيام ذابت كي يعود الموات إلى كل شيء، وتصبح البحيرة الراكدة أهدأ ما تكون وآسن ما تكون. كل ما في الأمر أن طعما مريرا ممتدا، طعم الفشل، كان قد أضيف إليها، طعما كنت متأكدا أنه هو الآخر لا يلبث أن يزول، ولا تلبث الحياة أن تعود بي إلى ذلك الإنسان الآخر الذي كنته.
بالاستطاعة إذن إدراك هول الزلزال المفاجئ الذي هز أركان نفسي، حين سمعت - أجل سمعت - بأذني هذه دقات تأتيني عبر الحائط السميك، في ضجة ذات «تمام».
وشكرا للسجن الانفرادي أن أحدا لم يرني ساعتها، وأنا أقفز في الهواء، وأدق الحائط من أعلى ومن أسفل، ثم أستجمع كل قواي، وأثب وثبة هائلة أتعلق بها في حديد النافذة، وأصرخ وأغني وأقلد طرزان وأتشقلب، رأسي إلى الأرض، وساقاي في الهواء، وأعوي، بأعلى صوتي أنادي جاراتي جميعهن ناعتهن بألفاظ لا تخطر على بال سكران، وأعود أدق وأدق فقط كي أدق، وأنا فرح فرحا حقيقيا أحس به. ونحن في الحياة العادية التي نتعامل فيها مع الفرح والحزن والاكتئاب والتفاؤل نفقد الإحساس بهذه الانفعالات بكثرة المزاولة، «نعرفها» بحيث لا نعود نتوقف عندها أو نكتفي بها. إذا نجح فينا أحد يجد نفسه يكاد لا يحس بالنجاح ساعة وقوعه؛ إذ هو على الفور يبدأ يتساءل عما بعده، عما يفرح أكثر، فالنتيجة أننا لا نفرح في السجن حين يحدث ما يفرح من طول افتقادنا للفرحة، نحس بها، نلمسها وتضطرب بها أجسادنا، وتحفل بطاقات من نشاط الفرحة الغامر، ونرى أبواب أمل واسعة في صدورنا تتفتح، وتنبهر بالنور الكثير يكتسح أمام أعيننا الظلام الكثيف الرابض داخلنا، فعلا نفرح، لا يهمنا كثيرا ما بعده بقدر ما يهمنا أنه جاء وأننا نحياه. لكأن كلما ضيقت علينا الحياة اتسع إحساسنا بها، وكلما قلت كميتها أصبح لكل دقيقة من دقائقها وقع أروع وأثمن.
ولم أفطن إلى زوال ما بعد «التمام» إلا حينما بدأت أعي أني الوحيد الذي يحدث ضجة، وكما كان على «العنبر» أن يئوب إلى هدوئه الليلي كان علي أن أبدأ بروية أكثر. ها بعد طول صبر ويأس وانتظار قد غمزت السنارة، وها أنا ذا متأكد أن صيدا سمينا كبيرا على الناحية الأخرى، صيدا قادما من تلقاء نفسه، وهو الذي بدأ، وعلي بكل ما أوتيت من قدرة وحذق أن أظفر به كاملا. وبانتظام بدأت أدق وأرهف أذني - وهذا هو الأهم - كي أتسمع الرد. كانت تأتيني أصوات خافتة بعيدة كالقادمة من أعماق بئر، وكانت أذناي تلتقطها وتترجمها وتنقيها وتحولها من دقات إلى لغة، ومن لغة تتكلمها اليد إلى لغة يحسها الشعور ويدركها العقل. إنها مثلي بمفردها، وهاتان الدقتان السريعتان المتصلتان معناهما أنها قلقة هي الأخرى، خائفة مثلي أن يحدث ما يقطع الاتصال؛ تلك الدقة الوحيدة التي لم ترفع اليدين عن الحائط بعد دقها، إنها ابتسامة اطمئنان، ألمحها؛ فمثلما يطمئنني قلقها لا بد أن قلقي يطمئنها، ما أعذب هذا! ما أروع أن أعثر في وسط صحراء مترامية الأطراف، في آخر الدنيا هنا، حيث لا حضارة ولا أنس ولا بشر، حيث انتهى العالم من زمن، أعثر على أنثى! أدق لها فتدق لي، وأضطرب خوفا من فقدانها، فتبتسم لي في حنان واطمئنان. لقد عرفت الحب أكثر من مرة، الحب المحموم المجنون الذي ينهش الصدر ويعتصر الروح، الحب الذي ينسيك من تكون، وما كنته، وما يجيء به الغد، الحب الذي من طينته خرجت قصص الغرام الكبرى، وجن قيس وانتحر فرتر وماتت جولييت. بعد الحديث القصير الذي تم بالأيدي أحسست وكأنني عثرت على سيدة عمري، أحسست أن حبي الثالث ذلك الذي لا يقاس بجواره أول أو ثان، ذلك الذي طالما حلمت به وخشيته، وطالما هفوت إليه وأرعبني مجرد التفكير فيه، عرفت أنه هكذا ودون كلمة أخرى قد بدأ. إن قصتي مع المرأة حرب دامية طويلة، بدأت من يوم مولدي، ومع أول امرأة عرفتها، أمي! حرب انتهت بخوفي من المرأة إلى درجة عبادتها، والحقد عليها إلى درجة الرعب المقيم أن يتحول الحقد إلى حب، فأودعه كل شوقي المريض إلى المرأة منذ أن كانت أمي إلى أن أصبحت غريمتي وعشيقتي، وأفقد في تلك المعركة، في الحب، نفسي تماما. وهكذا بمقدار تعطشي للحب كانت محاولاتي للهرب، ولكني هذه المرة بإرادتي المدلهة أختاره، حتى لو كان فيه - وحتما فيه - هلاكي، هذه المرة لا صراع ولا محاولات مستمرة للتراجع. إني أدفع بكل قواي وأدق وأكاد أموت متعة وتلذذا، والرد يأتيني دقا أنثويا واهنا مبحوحا، أرى اليد التي ترسله بيضاء صغيرة ذات شعر ميكروسكوبي أصفر، وأظافر بلون دم الغزال الشاحب، يد أعرفها وأقبلها وأقبل كل أصبع فيها، وبلساني ألثم ما بين الأصابع.
وأصبح واضحا من دقاتنا المتتالية المتشنجة أننا في حاجة لاقتراب أكثر. لم تعد لغة الأيدي القاصرة قادرة على ترجمة ما يغلي داخلنا من انفعالات، كان لا بد أن نتكلم! وللمساجين طريقتهم الشهيرة في التخاطب عبر الجدران هي وضع «كسرولة» الطعام الفارغة من ناحية فتحتها على الحائط، وتقريب الفم من قاعها للتكلم، أو إلصاق الأذن به للاستماع. ورحت من خلال «الكسرولة» أتحدث وأحاول الإنصات، ولم أعجب حين بدا وكأن لا صوت هناك، كنت أعرف أن الجدار سميك، وهكذا رحت بأعلى وأحد ما أستطيع أهمس محاذرا أن يسمع الحارس همسي، والوقت يمضي ومحاولاتي لا تكف، وحنقي وضيقي قد بلغا درجة أصبحت معها لا أحفل، حتى أن يسمع الحارس. كانت تعاستي تكاد تذهب بعقلي، وأنا أرى نفسي لا يفصلني عن الأنثى التي استجابت لي، وبدأت معها مغامرة العمر الثالثة إلا جدار عمره ما وقف حائلا بين مسجونين، أقرب ما تكون مني، أبعد ما تكون عني، وأنا بين النقيضين مشدود أتمزق غيظا وألما.
ولم يكن لي من منقذ إلا أن تحدث معجزة، فيتفق وضعي لل «كسرولة» مع وضعها، بحيث تلتقيان عند نفس النقطة من الحائط، فيمر الكلام مباشرة من إنائها لإنائي، وكيف لي أن أعلم أنها هي الأخرى وصلت إلى نفس استنتاجي، وبدأت تبحث عن مكاني مثلما بدأت أبحث عن مكانها؟ ويا له من مشهد ذلك الذي كان مقدرا أن يراه الرائي لو أتيح له أن يشاهد كلينا في نفس الوقت، بحيث يتابع تلك اللعبة الخالدة الدائرة ربما منذ بدايات الخليقة، ذلك البحث الدائب عن ملتقى بين اثنين أقرب ما يكونان وأبعد ما يكونان، لا يفصلهما سوى بضعة سنتيمترات من حجر أو طبقة أو جنس أو لون!
أناديها بأعلى وأقوى ما أستطيع من همس: سامعاني؟
Page inconnue