ومن الحجة على من زعم أن إرادة الله متقدمة لفعله أن يقال له: ألست تزعم أن إرادته متقدمة لأفعاله؟ فإذا قال: كذلك أقول. قيل له: ألست تعلم في صحيح العقول أن ذلك إن كان كذلك أنهما شيئان اثنان، الإرادة شيء، والفعل شيء؟ فلا يجد بدا من أن يقول أجل. فيقال له: فأي الإثنين تقدم صاحبه فكان وحدث قبله؟ فإن قال: الإرادة حدثت قبل الفعل. فسواء كان بينهما قليل أم كثير، فقد أوجب وأدخل بذلك على ربه النية والضمير، والانطواء على ما لايجوز في اللطيف الخبير، ومتى قال بذلك قايل فقد شبه ربه بالمخلوق الزائل ذي الجوانح المضمرات، والأدوات المتصرفات، والأراء المتناقلات، وهذا فإبطال التوحيد، ونفس الكذب على الواحد الحميد، ونقض ما نزل في الكتاب المجيد. فإن هو قال: بل الفعل سبق الإرادة. وقد علمنا أن الفعل هو المخلوق فقد قال: إن الخالق للمخلوقين غير الله رب العالمين؛ لأن الله سبحانه وجل عن كل شأن شأنه لا يخلق إلا ما يشاء، ولا يشاء إلا ما يريد من الأشياء، وكذلك قال الرحمن فيما نزل من الفرقان:{ وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة } [القصص: 68] وقال سبحانه:{ إن الله يفعل ما يريد } [الحج: 14]، وقال سبحانه:{ ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء } [الحج: 18]، ففي كل ذلك يخبر أنه لن يفعل إلا ما يشاء ولن يشاء إلا ما يريد من الأشياء، وكذلك الله تبارك وتعالى. أولا ترى أن الفاعل لما لا يريد فجاهل مذموم من العبيد، فكيف يقال بذلك في الله الواحد الحميد؟!
ومن الحجة على من قال: إن الإرادة من الله سابقة للمراد، وإنها في الله ذي العزة والإياد كالعلم والقدرة، وإنه لم يزل مريدا كما لم يزل قادرا عالما أن يقال له: هل كان الله في الأبد والقدم خالقا لما أراد أن يخلق، إذ لم يزل في قولك مريدا للخلق كما أنه لم يزل عالما بما يكون، قادرا على فعل ما يشاء إذا أراد فعله وشاءه؟ فإن قال: نعم؛ فقد أثبت الخلق مع الخالق في القدم، فتعالى عن ذلك ذو الجلال والكرم، إذ قد جعل معناه ومعنى غيره من العلم والقدرة سواء، ومتى كانا سواء فلم يفترقا في سبب ولا معنى، فكل ما نزل بأحد هذه الثلاثة الأشياء من العلم، والقدرة، والإرادة فهو نازل بصاحبيه، وحال بمشاكليه، ومحيط بمناظريه، ولا يخلو من جعل المشيئة والإرادة كالعلم والقدرة من أن يحمل العلم والقدرة على معنى المشية والإراده، أو أن يحمل معنى المشية والإرادة على معنى العلم والقدرة، فإن حمل العلم والقدرة على معنى الإرادة والمشية والخلق جعلهما مخلوقين محدثين بأحق الحق، وإن حمل معنى الإرادة والمشية والخلق على معنى العلم والقدرة جعل الإرادة والمشية والخلق شيئا قديما أزليا، وفي أزلية الإرادة أزلية الخلق، وفي ذلك إبطال التوحيد، والشرك بالله الواحد الحميد. فقد بطل قول من قال بأحد هذين المعنيين لما بان لأهلهما فيهما من الفساد في كلتا الحالتين، وثبت ما قلنا به من أنه لا فرق بين إرادة الله ومراده، وأن الإرادة منه هي المراد وأن مراده هو الموجود المدبر الكائن المخلوق المجعول، إذا أراده فقد كونه، وإذا كونه فقد أراده، لاتسبق له حالة حالة في الفعل منه سبحانه والإرادة، فسبحان علام الغيوب، ومقلب القلوب، ونسأل الله الواحد الحميد أن ينفعنا بما علمنا، وأن يمن علينا بإيزاع الشكر فيما امتن به علينا.
Page 137