وقال الله ذو الجبروت والإنعام، يحكي عن نبيه عيسى عليه السلام في قوله: { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب } [المائدة: 116]، يعني صلى الله عليه تعلم غيب أمري وعلانيتي وسري، ولا أعلم ما غاب من فعلك ولا أطلع إلا على ما اطلعتني عليه من وحيك، فهذا معنى ما عنه سألت ، لا ما إليه من فاحش القول ذهبت في الله رب الأرباب، ومسبب ما يشاء من الأسباب. بل كيف يزعم المشبهون، ويقول على الله المبطلون، إن الله جسم وصورة، وأن فيما ذكروا من الصورة له نفسا تجول فيه من مكان إلى مكان!! وقد يسمعون ويرون ما يقول الرحمن الرحيم، فيما نزل على نبيئه من الوحي الكريم، حين يقول جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله: { كل نفس ذائقة الموت } [الأنبياء: 35] فماذا يقولون لو كانت نفسا كما يزعمون تعالى عن ذلك الرحمن، وتقدس ذو العرش والبرهان، أتموت وتفوت، أم لا تموت ولا تفوت؛ فإن قالوا تموت كفروا، ومن الإسلام خرجوا، وعند أنفسهم فضلا عن غيرهم من أضدادهم ومناظريهم افتضحوا، وإن قالوا: لا تموت ولاتفوت، قيل لهم: من أين قلتم ذلك، وكان عندكم كذلك، وقد تسمعون ما حتم به الرحمن، على كل نفس في القرآن، ولم يستثن في ذلك نفسا له ولا لغيره، كما استثنى في غير ذلك من قوله: { كل شيء هالك إلا وجهه } [القصص: 88]، وقوله: { كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } [الرحمن: 26] واستثنى عند هلاك الأشياء، أنه الباقي الوارث لكل الأحياء، واستثنى عند الزوال والفناء وجهه ذو الجلال والبقاء - والوجه من الرحمن، فليس غيره تعالى ذو العزة والسلطان، ووجهه في اللغة والبيان فهو ذاته بأبين البيان، فذاته وجهه، ووجهه سبحانه ذاته، ليس بذي تحديد ولا أعضاء، وهو الله الواحد العلي الأعلى - ولم يستثن عند هلاك الأنفس وموتها نفسا لخالقها ومدبرها ومشيئها؛ أفأنتم في قولكم أعلم بالله منه بذاته، إذ قد نسبتموه إلى غير ما نسب إليه نفسه من صفاته؟! ولو كان كما تقولون، وإليه في قولكم تذهبون، إذا لاستثنى نفسه من الأنفس التي تموت وتفنى، كما استثنى بقاه من الأشياء التي تزول وتبلى، تعال الله عن ذلك الرحمن الرحيم، وتقدس الواحد الكريم. فمن أين قلتم إنها له نفس في صورة تبقى، دون الأنفس التي حتم عليها بالفناء؟ أوجدونا بذلك حجة وتبيانا واشرعوا لنا فيه قولا وبرهانا ، في الكتاب والتنزيل، والسنة والتأويل، فلا تجدون ولله الحمد حجة ولا قولا، ولا تستطيعون إلى إثبات باطل سبيلا، وكيف يكون ذلك، أو تقدرون على شيء من ذلك، والله ذو الطول فيما نزل من الفرقان يقول: { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون } [الأنبياء: 18] فإن انصفوا كانوا من قولهم خارجين، وإلى قول المحقين راجعين، وإن كابروا وجحدوا وتمردوا وعتوا، كانوا عند جميع الخلق مفتضحين، وبضد الحق متعلقين، والحمد لله رب العالمين وسلام على المرسلين.
Page 156