Le Grand Pari de l'Histoire: Sur quoi Gorbachev parie-t-il?
مقامرة التاريخ الكبرى: على ماذا يراهن جورباتشوف؟
Genres
وفجأة يعلن جورباتشوف قبول هذا الشرط، ولا يجد الأميركيون مفرا من توقيع المعاهدة بعد أن يكونوا قد فقدوا ذريعة الرفض أمام العالم أجمع. وبالمثل فإن مشروعات كثيرة لنزع السلاح كانت تصطدم دائما برفض أميركي مبني على شروط مثل ضرورة الإقلال من حجم القوات التقليدية السوفياتية في أوروبا، وبعد أن يرسخ هذا الشرط في أذهان العالم، يعلن جورباتشوف فجأة عن خفض كبير في قواته وأسلحته التقليدية، فيسقط في يد المتشددين، ولا يملكون إلا الاستجابة لطلبه.
ولقد كان يبدو أن جورباتشوف لا يقدم، في مسألة نزع السلاح إلا التنازلات، وأنه يستجيب دائما للشروط الأميركية، ولكن الأمر الذي ينبغي أن يتنبه إليه من ينتقدونه على هذه التنازلات، أن الهزيمة في هذا الميدان انتصار، والضعف فيه قوة، فلو وقف السوفيات بدورهم موقف التشدد لكان معنى ذلك تصعيد سباق التسلح، وتبديد موارد هائلة يحتاج إليها اقتصادهم المخطط مركزيا أشد الاحتياج، على صنع موديلات جديدة من الأسلحة سرعان ما تصبح عديمة الجدوى بعد ظهور «جيل» الأسلحة الأحدث منها، أما التنازل، الذي يبدو في ظاهره هزيمة، فهو في حقيقة الأمر انتصار كبير؛ إذ إنه يرغم الخصم على التراجع وقبول الشروط التي وضعها هو ذاته ويضعف اقتصاد الخصم الذي ينعشه التسلح المكثف، بينما يقوي اقتصاد الطرف المتنازل، فيجني من هذا الضعف الظاهري مزيدا من القوة.
بمثل هذه الأساليب البارعة استطاع جورباتشوف أن يزيل بالتدريج وهم «الخطر السوفياتي» الذي رسخته أجهزة الإعلام الغربية، والأميركية بوجه خاص، في أذهان الناس في العالم غير الاشتراكي. ولقد كان ذلك الخطر المزعوم وهما بالفعل، لا لأن السوفيات ملائكة، بل لأنهم أكثر شعوب الأرض معاناة من ويلات الحروب، فضلا عن الاستنزاف الذي لا يتحمله اقتصادهم، ولكن هذه الأسطورة كانت ضرورية لكي تقوم الأحلاف العسكرية، وتعمل مصانع الأسلحة بكامل طاقاتها، وتهنأ الحياة بفضل تجارة الموت.
كل هذا بدده جورباتشوف بأفعال واقعية ملموسة، ولكم حاول المتشددون التشكيك في هذه الأفعال، ولكنه كان يثبت جديته بمبادرات متجددة بلا انقطاع. كانت قصة الذئب والحمل تتكرر، ولكن بطريقة معكوسة؛ إذ كان الحمل في هذه المرة واعيا، فلم يسمح للذئب بأن يلتهمه، بل لم يعطه فرصة اتهامه بتعكير الماء الذي يشربه.
وما إن انقضت سنوات قلائل من حكم جورباتشوف، حتى اختفت تماما صورة «الدب الروسي» المسلح حتى الأسنان، والمتأهب دائما للعدوان، وأصبحت شعوب العالم مقتنعة بأن جورباتشوف يريد بحق سلاما شاملا، ويقرن كل ما يقول في هذا الصدد بالأفعال. وكان امتناعه عن التدخل في أحداث أوروبا الشرقية الأخيرة، في جانب منه، تعبيرا عن الرفض النهائي لسياسة حل المنازعات بالقوة المسلحة، وتمسكا بالصورة السلمية التي رسمها بصبر وحرص شديدين طوال السنوات السابقة. بل إن أميركا والاتحاد السوفيتي تبادلا الأدوار في الشهر الأخير من العام الذي انقضى: إذ تدخلت الجيوش الأميركية تدخلا سافرا في بنما، وساقت من أجل ذلك حجة لا تختلف عن حجج عتاة الاستعماريين في القرن التاسع عشر، على حين أن القوات السوفياتية رفضت إطلاق رصاصة واحدة في أوروبا الشرقية، بل رفضت التدخل الذي أغرتها عليه أميركا وفرنسا، ضد الحاكم الطاغية في رومانيا، ولم تقع في الفخ، وأصبحت صورة المعتدي ملتصقة، في نظر العالم، بأميركا وحدها.
سباق التسلح المجنون نزف موارد الاتحاد السوفيتي لعشرات من السنين.
في هذا الجو، يحاول صقور التسلح، مثل ديك تشيني، وزير الدفاع الأميركي، أن يعودوا من آن لآخر إلى عزف النغمة القديمة، ولا سيما حين يقترب موعد تحديد ميزانية التسلح، ولكن صيحاتهم لم تعد تجد من يستمع إليها. ومن المؤكد أن أي حديث عن «حرب النجوم» قد أصبح في أيامنا هذه صوتا نشازا وسط جو التهدئة والتفاهم الذي أشاعته سياسة جورباتشوف وأنعشت به الآمال في سلام دائم.
ويكاد المرء يلمح في تصريحات المسئولين الأميركيين نوعا من الحرص المكتوم على بقاء حلف وارسو العسكري، على الرغم من أنه هو الحلف المناوئ لهم؛ إذ كيف يمكن تبرير المبالغ الضخمة التي تستقطع كضرائب من المواطن الأميركي من أجل صنع السلاح، ما لم يكن هناك حلف مضاد يصور للناس على أنه مصدر خطر دائم؟ لقد ظلت الاستراتيجية الأميركية تستهدف مواجهة حلف وارسو والتفوق عليه، ولكن حين ظهرت بوادر لحل هذا الحلف أو تغيير طبيعته العسكرية، بدأ القلق ينتاب واضعي هذه الاستراتيجية من ألا يجدوا أمامهم «خصما» يتسلحون من أجله. وهكذا فإن حلف وارسو هو، بالنسبة إلى العسكرية الغربية، خصمها ومبرر وجودها في آن واحد، ومن أجل هذا كان المرء يستشعر، في تصريحات بعض القادة الغربيين، نغمة قلق خفي من الأحداث الأخيرة التي يفترض أنها كانت انتصارا كبيرا لهم.
لقد كان سباق التسلح إذن عاملا حاسما في ذلك التغيير الثوري الذي أدخله جورباتشوف على سياسة بلاده، وكان في الوقت ذاته من العوامل الهامة التي أدت إلى سلسلة الانقلابات المفاجئة في بلدان المعسكر الاشتراكي؛ ذلك لأن أعباء التسلح كانت توزع على الجميع، وكان لكل بلد اشتراكي نصيبه من تلك النفقات الباهظة التي تتكلفها عملية مجاراة التطور السريع والمتلاحق في صنع أدوات الدمار. ولم يكن إسهام هذه الدول في أعباء التسلح يتخذ بالضرورة شكل المشاركة في صنع السلاح أو في الميزانية العسكرية، بل كان في أحيان كثيرة يتخذ شكل تقديم منتجات وسلع من إنتاجها إلى دول أخرى في المعسكر نفسه، تعويضا لهذه الأخيرة عن الخسائر التي تتكبدها في صنع السلاح. وهكذا كانت الخسارة تعم الجميع، ويترتب عليها حتما تدهور عام في الاقتصاد، وانخفاض في مستويات المعيشة، وافتقار مواطني أي بلد معين لكثير من المواد الأساسية التي يعلمون أن بلادهم تنتجها بوفرة.
ومع هذا كله فإن تأكيدنا لأهمية سباق التسلح في تفسير الأحداث الأخيرة، سواء منها «هجوم السلام» الكاسح الذي يقوم به جورباتشوف أو تمرد البلاد الاشتراكية العنيف ضد أنظمتها - هذا التأكيد، مع أهميته القصوى، لا ينبغي أن يحجب عن أذهاننا مجموعة أخرى من العوامل الهامة؛ ذلك لأن التركيز على الأضرار المترتبة على التسلح المرهق، قد يولد لدى القارئ اعتقادا بأن سوء الأوضاع الاقتصادية وربما الاجتماعية والسياسة أيضا، كان أمرا مفروضا من الخارج على هذا المعسكر، وبأن أنظمة هذه البلدان كانت ضحية خطة ذكية رسمها المعسكر المضاد، ولكن هذه النتيجة أبعد ما تكون عما أرمي إليه، فحقيقة الأمر أنه كانت هناك، إلى جانب العامل الخارجي السابق، أخطاء داخلية فادحة، وكان النظام الاشتراكي يتعرض لأسوأ تطبيق وأفظع تشويه يمكن تصوره، على أيدي من يفترض أنهم حراسه والأمناء عليه.
Page inconnue