1 - المقدمات
2 - لعنة التسلح
3 - الخلل في الداخل
4 - هل تصمد النظرية الاشتراكية؟
5 - هل ثبتت رؤية هلال الرأسمالية؟
6 - صورة المستقبل
7 - وأين العرب من هذا كله؟
1 - المقدمات
2 - لعنة التسلح
3 - الخلل في الداخل
4 - هل تصمد النظرية الاشتراكية؟
5 - هل ثبتت رؤية هلال الرأسمالية؟
6 - صورة المستقبل
7 - وأين العرب من هذا كله؟
مقامرة التاريخ الكبرى
مقامرة التاريخ الكبرى
على ماذا يراهن جورباتشوف؟
تأليف
فؤاد زكريا
الفصل الأول
المقدمات
لا أظن أن التنبؤ بالمسار الذي سيتخذه التاريخ، حتى على المدى القريب، كان في وقت من الأوقات أصعب مما هو في اللحظة الراهنة. أقول هذا وأنا على وعي تام بأن الأساليب العلمية لتكوين صورة معقولة عن الأوضاع المستقبلية قد تقدمت في الآونة الأخيرة تقدما هائلا، حتى أصبح هناك علم قائم بذاته، هو «المستقبليات»، له أساتذته المتخصصون ودورياته العلمية ومعاهده ومؤتمراته، ويستعين بأحدث طرق البحث وأدق الحاسبات الإلكترونية، ومع ذلك فإن التحول الذي طرأ على العالم في الربع الأخير من العام الذي ودعناه أخيرا، قد خرج بحدة عن كل توقع، وقفز بعنف خارج كل إطار كان يوضع فيه المسار المحتمل للتاريخ. وأغلب الظن أن الصورة التي سيذكرها المؤرخون عن عقد الثمانينيات بأكمله سيكون أغلبها مستمدا مما حدث في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عامه الأخير، كما أن أحداث عقد التسعينيات سوف تتحدد، إلى مدى بعيد، بما حدث في هذه الأشهر الثلاثة الحاسمة.
إن التاريخ، الذي كان يبدو في نظر إنسان النصف الثاني من القرن العشرين مستأنسا طيعا، يمكن حساب العوامل المتحكمة في تحولاته، واستشفاف مساراته المقبلة بقدر معقول من الدقة، يبدو اليوم، ونحن نستهل العقد الأخير من هذا القرن العجيب، أشبه بالحصان البري الجامح، في قفزاته العشوائية وانطلاقاته المفاجئة واستعصائه على لجام العقل.
لقد تنبه الكثيرون في الشرق والغرب، بعد التقلبات الأخيرة الصاخبة، إلى التشابه الواضح بين عام 1789م، عام الثورة الفرنسية، وعام 1989م، عام الثورة في المعسكر الاشتراكي، ووجدوا في كل من العامين مفترق طرق حاسما في تاريخ البشرية، ولكن هل خطر هذا التشابه ببال أحد ممن سجلوا على صفحات جرائد العام كله توقعاتهم عن العام الجديد، عند نهاية عام 1988م؟ وهل طاف هذا التشابه بذهن أحد في الوقت الذي كان فيه العالم يحتفل مع فرنسا، بمرور مائتي عام على ثورتها في شهر يوليو (تموز) الماضي؟ هل توقع أحد خلال هذه الاحتفالات التي لم يمض عليها سوى خمسة أشهر، أن تصبح للعالم خلال الشهور القليلة التالية صورة مختلفة تماما عن تلك التي اعتدناها، وبنينا عليها جميع تحليلاتنا وتوقعاتنا خلال السنوات الأربعين الماضية؟ وهل تخيل أحد ممن عرضت عليهم شاشات التلفزيون صورة تشاوشيسكو في نوفمبر الماضي، وهو يخطب في اجتماعه الحزبي الأخير، فيرفض في صلف وغرور وعناد كل التغييرات التي اجتاحت أوروبا الشرقية، ويستقبله ألوف الحاضرين (من يزعمون أنهم ممثلو الشعب) بالتصفيق الحاد عند كل مقطع في خطابه، والوقوف إجلالا عند دخوله وخروجه - أقول هل تخيل أحد عندئذ أن هذا الزعيم الجبار سيرتمي في الوحل، مع نظامه كله، ممزقا بالرصاص بعد أقل من أسبوعين في أعقاب ثورة شعبية بطولية ضحت بالكثير من أجل إزاحة الطاغية في زمن قياسي؟
كذا يبدو التاريخ، في أيامنا القليلة هذه، أشبه بنهر ظل يسير في مجراه هادئا، ثم تحول فجأة إلى شلال هادر يصم الآذان، ولا يملك كل من يقف يتأمل مجبرا التدفق الصاخب بعد هدوء طويل، إلا أن يوقن بأن مجراه لن يعود أبدا بعد هذا الشلال، مثلما كان.
إن الحيرة هي السمة المميزة لكل محاولات التحليل التي تقدم للوضع الراهن في العالم بعد الأحداث العاتية التي عصفت بنظامه المستقر منذ أربعين عاما. وحين يكتب أعقل العقلاء عن هذا الوضع العالمي الجديد، فإنه لا يستبعد احتمال حدوث شيء يقلب تحليلاته وتفسيراته رأسا على عقب في اليوم التالي لظهور مقاله. لقد حلت المفاجآت محل التوقعات، والدهشة محل التنبؤات، وانعدمت الرؤية حتى أمام من يملكون أعظم المعلومات وأدق أدوات التحليل.
ولكن، في قلب هذا التحول الخاطف الصاخب يقف رجل واحد في العالم لا يبدو عليه أي قدر من القلق إزاء ما يحدث، بل إن خصومه، الذين تبدو التغييرات وكأنها تسير في صالحهم، هم الذين يبذلون جهودا هائلة من أجل إخفاء توترهم وقلقهم، هذا الرجل هو ميخائيل جورباتشوف، الذي أسهم في تغيير عالمنا بأكثر مما أسهم به أي فرد آخر في التاريخ المعاصر. وعلى الرغم من أن المثقفين في جيلنا قد اعتادوا ألا يبالغوا في تضخيم دور الفرد في التاريخ، وظلوا يؤكدون دائما أن الصانع الحقيقي للتحولات الكبرى في مجرى العالم هو الجماهير، والقوانين الموضوعية التي تحكم تحركاتهم، وأن أي فرد مهما كانت مكانته لا يعدو أن يكون محصلة العوامل الاجتماعية الكبرى التي تتحكم في مسار التاريخ؛ على الرغم من هذا كله، فإن المرء لا يملك إلا أن يربط بين الثورة التاريخية الكبرى التي نعيش الآن أهم مراحلها، وبين شخص جورباتشوف على وجه التحديد، سواء نظرنا إليه على أنه فرد عبقري، أم على أنه تجسيد لقوى تاريخية أوسع نطاقا وأعمق تأصلا منه.
وليس أدل على ذلك من تلك المفارقة الغريبة التي نلمسها في تقييم خصومه له: فألد أعدائه، في أميركا وإنجلترا مثلا، يكيلون له المديح ويتغنون بحكمته وشجاعته، في نفس الوقت الذي يؤكدون فيه أنه هو الخاسر الأكبر، وأن النظام الذي ينتمي إليه قد انهار، وأن شعوبه قد اختارت التحول إلى النظام البديل.
ومعنى ذلك أن الإنسان المعاصر، سواء أكان ممن يعترفون بأن التحولات التاريخية في المعسكر الاشتراكي هي تحولات إيجابية، أو كان ممن يرون أنها تمثل النهاية الحتمية لهذا المعسكر ولكل المعركة الأيديولوجية بين الرأسمالية والشيوعية، يؤكد في الحالتين أن هذا الرجل بعينه هو الذي يلعب دور البطولة على مسرح الأحداث الحاسمة في عالم اليوم، ولكن السؤال الهام، والحاسم، يظل قائما: فإذا كان العالم كله يعترف لجورباتشوف بالفضل الأكبر - وربما الأوحد - في إدارة عجلة التاريخ نحو هذا المنعطف الحاسم، فهل كان دوره يقتصر على البدء في تحريك الأحداث، والسماح للتطورات بأن تسير في مجراها بحرية، دون تدخل من الدبابات السوفياتية التي منعت من قبل تحولات كثيرة داخل المعسكر الشيوعي، أم أن المسار الذي تتخذه الأحداث بعد هذه البداية العاصفة، هو أيضا من صنعه؟ هل كان جورباتشوف، مثل إله أرسطو، هو «المحرك الأول» للأحداث، ثم سارت هذه الأحداث بعد ذلك في طريقها الخاص دون تدخل منه، وأفلت زمامها من بين يديه، أم أنه، بعد أن أعطى إشارة الانطلاق الأولى، ما زال ممسكا بالدفة؟
إن العالم كله يعترف لجورباتشوف بالأمر الأول، أعني البدء في تحريك الأحداث التي أدت إلى تحول حاسم في التاريخ المعاصر، أما الأمر الثاني، أعني مدى تحكمه في المسار اللاحق لهذا التحول، فهو مدار خلاف كبير. من أصعب الأمور في اللحظة الراهنة، التي ترتفع فيها حرارة الأحداث إلى درجة الغليان، أن يتخذ المرء موقفا بين هذا الرأي وذاك؛ لأن وضوح الرؤية يحتاج إلى وقت حتى ينقشع ضباب التقلبات العنيفة والمفاجئة.
ومع ذلك فإن الرأي الذي أدافع عنه، بقدر ما تسمح لي الأحداث الراهنة بالحكم، هو أن جورباتشوف يقوم بمقامرة من أكبر مقامرات التاريخ، وفي كل مقامرة مغامرة، ولكن هل هي مغامرة محسوبة، أم أنها متروكة للظروف؟ في اعتقادي أن جورباتشوف قد خاض هذه المغامرة بعد أن أجرى حسابات فيها قدر كبير من الدقة، ولكن لما كانت حركة التاريخ أعقد كثيرا من تلك الأرقام التي تحملها الأوجه الستة لمكعب النرد (الزهر)، فمن المتوقع أن تخطئ تلك الحسابات في كثير من التفاصيل، ومع ذلك فإن ما أتصور أن جورباتشوف توقعه حين خاض هذه المقامرة بوعي كامل هو أنه سيبدو خاسرا على المدى القصير، ثم يبدأ تراكم المكاسب على المدى الأطول. هذه هي حساباته، كما أتصورها وإن كان احتمال الخطأ فيها يظل واردا على الدوام.
وفي اعتقادي أن معظم الأخطاء التي ترتكب في محاولة فهم الوضع الراهن لعالمنا المضطرب، بعد سلسلة الأحداث المفاجئة الأخيرة، ترجع إلى أن المفكرين والمحللين ينظرون إلى الأحداث التي تدور في اللحظة الراهنة كما لو كانت هي التي ستظل قائمة في المدى البعيد، وهذا ينطبق على مؤيدي جورباتشوف ومعارضيه على حد سواء، فمؤيدوه يقفون مشدوهين وهم يرونه يتأمل بهدوء انهيار إمبراطورية المعسكر الاشتراكي من حوله، ويعربون عن أسفهم لاختفاء معسكر قوي كان على الأقل يشكل توازنا مع المعسكر الرأسمالي الأشد عدوانية، وكثير منهم يتمنون في قرارة أنفسهم لو كان جورباتشوف أكثر حزما، ولو أحكم قبضته بدرجة معينة حتى لا يفلت منه زمام الأمور، بل إن بعض أنصار الاشتراكية المتحمسين يصل بهم الأمر إلى حد اتهامه، سرا في معظم الأحيان وعلنا في أحيان قليلة، بالخيانة والعمالة للرأسمالية العالمية، وبأنه هو الزعيم الذي أخذ على عاتقه مهمة تصفية المعسكر الذي ينتمي إليه. أما خصومه فإنهم لا يخفون سعادتهم لأن شعوب المعسكر الشيوعي قد انقلبت عليه، واختارت طريق الرأسمالية، فما يحدث الآن هو في نظرهم نهاية الخصومة بين المعسكرين والتضاد بين الأيديولوجيتين، لا من أجل تحقيق الوفاق بينهما، بل لصالح أحدهما وعلى حساب الآخر، وهم يؤكدون أن النتيجة الواضحة للتحول الحاسم في عام 1989م هي الانتصار النهائي للرأسمالية، وأن الأحداث قد أثبتت بصورة لا تقبل الجدل أن الرأسمالية هي «النظام الطبيعي» للمجتمع الإنساني، أما الشيوعية فهي عرض زائل أو «موضة» مزعجة ظلت مسيطرة بقوة الحديد والنار في مجتمعات معينة خلال بضعة عقود من السنين، لا تعد بمقياس التاريخ البشري شيئا يذكر، ولكن كان لا بد لهذه الأيديولوجية الشاذة أن تنتهي يوما ما، وها هي ذي الأحداث تعلن إفلاسها بصوت مدو؛ لكي يعود البشر جميعا، دون تفرقة بين معسكر وآخر، إلى «نظامهم الطبيعي».
هذه كلها، في رأيي، تحليلات متسرعة، قصيرة النظر، والمشكلة فيها كلها، سواء تلك التي يقوم بها أنصار جورباتشوف أم خصومه، هي أنها تنظر إلى الوضع الراهن على أنه الوضع النهائي، وتحكم على المسار البعيد للتاريخ من خلال ما يجري في المدى القصير. وفي اعتقادي أن العنصر المحسوب في تلك المقامرة الكبرى التي قام بها جورباتشوف، هو أن ثمارها لن تظهر إلا بعد فترة غير قصيرة من الصدمات والخسائر؛ ومن ثم فإن من يصدر حكما على التجربة ينبغي عليه ألا ينخدع بتلك السلبيات الضخمة التي تقفز على السطح في المرحلة الأولى من تلك التحولات.
إن جورباتشوف يراهن رهانا كبيرا شديد الخطورة، ولكنه ليس رهانا على أرقام مجردة تتساوى جميعا في احتمال ظهورها أو عدم ظهورها، وإنما هو رهان على الطبيعة البشرية، وعلى الأهداف التي ينبغي أن يسعى الإنسان إلى تحقيقها في المرحلة الحاسمة من تاريخه، فلا بد في نهاية الأمر من أن يثور هذا الإنسان على القمع والاضطهاد وحشر المتشابه والمختلف في قالب واحد، ولكنه لا بد أيضا أن يثور على الظلم الاجتماعي الصارخ والتفاوت الحاد بين الطبقات والتسلح المهدد لاستمرار الحياة والتهديد المميت للبيئة التي ستعيش فيها أجيال الأولاد والأحفاد. على هذه الأمور جميعا يراهن جورباتشوف، ولا بد لكي يكسب هذا الرهان على المدى الطويل من أن يخسر قليلا أو كثيرا على المدى القصير.
ولكي أدلل على صحة هذا الافتراض الذي أحاول به أن أجعل هذا الموقف المعقد والمتقلب مفهوما بدرجة ما، وأن أضفي شيئا من المعقولية على أوضاع تبدو خارجة عن سيطرة كل عقل، دعونا نطرح سؤالا لم يطرحه أحد من قبل، ربما لأنه يبدو سؤالا شديد السذاجة، مع أنه ينطوي في رأيي على كثير من مفاتيح اللغز: فما الذي أرغم جورباتشوف على أن يفعل ما فعل؟ لقد انتخب جورباتشوف رئيسا بعد تشيرنينكو، الذي كان ميتا حيا، وظل طوال حكمه القصير راقدا على فراش المرض. وتشيرنينكو جاء بعد أندروبوف، الذي كان بدوره يحمل منذ البداية بذور داء قاتل أودى بحياته بعد وقت قصير، كذلك فإن أندروبوف جاء بعد بريجنيف، الذي كان في السنوات الأخيرة من حكمه جثة تتظاهر بأنها حية، وكان واضحا أن قواه البدنية والذهنية لا تسمح له بأن يدير مزرعة للدواجن، لا معسكرا عالميا عظيم القوة فادح المسئوليات.
جاء جورباتشوف إلى الحكم شابا في الرابعة والخمسين «بالقياس إلى الموتى الأحياء الذين سبقوه»، وكان يكفيه أن يعطي الحكم مزيدا من الحيوية، ويسير في الخط الذي انتهجه سابقوه بهمة أعظم ونشاط أكبر، حتى يكون قد أنجز شيئا هاما يميزه بوضوح عن أسلافه، ولكنه لم يقبل ذلك، وإنما اختار عمدا أن يسير في طريق مختلف «نوعيا» عن ذلك الذي سار فيه أي زعيم سوفياتي آخر منذ لينين.
ولو كان جورباتشوف قد سار على درب أسلافه، مع إعطاء الحكم مزيدا من الحيوية والشباب، لما تعرض لشيء من المتاعب التي تعصف الآن بالمعسكر الشرقي. وأعتقد أنه كان يستطيع - نظريا - أن يفعل ذلك، فكل ما يقال الآن عن أن هذا التغيير الذي أحدثه جورباتشوف كان حتميا بسبب المتاعب الاقتصادية الهائلة التي تواجهها الكتلة الشرقية، أو حاجة شعوب هذه الكتلة إلى الحرية؛ كل هذا، وإن كان صحيحا كل الصحة، لا يكفي لتفسير ما حدث، فقد ظلت هذه الشعوب محرومة من التعددية ومن حرية التعبير وحرية السفر والتنقل أكثر من أربعين عاما، وبرغم ذلك فقد استطاع النظام أن يستمر، وحين كانت تقوم فيها انتفاضات شعبية، كما حدث في المجر عام 1956م وفي تشكوسلوفاكيا عام 1968م، كانت الدبابات السوفياتية تتكفل بسحق كل صوت معارض، وكذلك كانت المتاعب الاقتصادية واضحة منذ زمن طويل، ومع ذلك ظل النظام متماسكا أمام العالم، وكان بفضل قوته العسكرية يؤلف معسكرا جبارا يعمل له خصومه ألف حساب.
أجل، كان في استطاعة جورباتشوف أن يكون امتدادا أكثر شبابا وحيوية، لعهد بريجنيف، ومهما واجه من متاعب فإنها لن تكون أسوأ من تلك التي استطاع المعسكر كله تحملها طوال ستة عشر عاما من «عصر الجمود»، وكان في استطاعته - باستخدام أساليب القوة والتمويه السائدة من قبل - أن يسير في طريق مأمون، ويجنب نفسه كل ما يتعرض له الآن من مشكلات، ولكنه لم يفعل، واختار عامدا السير في طريق التغيير الجذري، بكل ما ينطوي عليه من مخاطر جسيمة.
بل إنه خطط بدقة وإحكام لهذا التغيير الذي تعمد إحداثه، ونظم خطواته بطريقة عقلانية: فبدأ بسياسة «الجلاسنوست» أي العلانية أو المصارحة أو المكاشفة، ولأول مرة وجد الإنسان، في الدولة الأم داخل المعسكر الاشتراكي، أن في استطاعته التعبير بحرية تامة عما يعانيه من متاعب، ويوجه الانتقادات الحادة إلى المسئولين عن هذه المعاناة، دون أن يلحقه أذى أو ينفى إلى أقصى الأرض. وكانت تلك هي الخطوة الأولى، والمنطقية نحو التحول الأساسي، وهي التي هيأت الجو عقليا ونفسيا لخطوات أخرى تهز الأسس التي قام عليها المجتمع. وكان من الطبيعي أن تمتد الخطوة الأولى فترة طويلة، تزيد عن ثلاث سنوات؛ إذ إن هذا هو ما تقتضيه التعبئة الذهنية للملايين من البشر، من أجل إزالة آثار عشرات السنين من الخوف من توجيه النقد، والجمود إزاء التغيير، والسلبية التامة في مواجهة صناع القرار.
وكانت المرحلة التالية، والحاسمة، هي إعطاء الضوء الأخضر للتغيير في كل بلد يزوره من بلدان المعسكر الاشتراكي؛ فقد أخذ يلمح إلى عدم رضائه عن القيادات الجامدة، ويشير بعبارات واضحة إلى أن القوات السوفياتية لن تتدخل في أية أحداث تقع داخل هذا المعسكر. وسرعان ما التقطت شعوب هذه الكتلة، التي كانت من الأصل معبأة، إشاراته الواضحة، وبدأت الأصنام الجامدة فيها تتهاوى واحدا بعد الآخر، فمنهم من انسحب في هدوء، ومنهم من نحي عن منصبه بعد إجماع شعبي تجلى في مظاهرات عارمة، وآخرهم (حتى كتابة هذه السطور) آثر المكابرة، ولم يتزحزح عن موقعه إلا بعد أن سلط على أهله زبانية الشر الذين كان «يدخرهم ليوم مطير» كما يقول التعبير الأميركي الشائع، فكانت نهايته بنفس القسوة والدموية التي مارسها تجاه شعبه.
كانت حركة التغيير الهائلة في المعسكر الاشتراكي إذن متعمدة، وكان في استطاعة جورباتشوف أن يحتفظ بالأوضاع الجامدة السابقة، مدة أطول بكثير، ولكنه آثر أن يخوض مغامرة التحول الحاسم. ومع ذلك فإن قوى التغيير حالما تنطلق من عقالها بعد طول احتباس، يمكن أن تخرج عن السيطرة، وتتخذ مسارات غير محسوبة، فهل أفلت المارد من القمقم، وانقلب على من فتح له فوهة الزجاجة؟ وهل يسير تداعي الأحداث بشكل طليق وبصورة غير منضبطة منذ اللحظة التي أضاء فيها جورباتشوف الضوء الأخضر أمام قوى التغيير؟
إن الإجابة عن هذه التساؤلات بالإيجاب أو السلب تكاد تكون مستحيلة في اللحظة الراهنة، ولكن الأمر المؤكد هو أن جورباتشوف قام بمقامرة تاريخية كبرى، كانت له فيها حساباته الذكية بعيدة النظر، ولكن احتمالات الخسارة واردة في كل مقامرة، مهما كانت دقة الحساب فيها، لاسيما وأن أعداءه يعملون بكل طاقتهم من أجل إفساد هذه الحسابات. وكل ما يستطيع الكاتب أن يفعله، في مرحلة الأحداث الساخنة التي نمر بها الآن، هو أن يحلل مختلف عناصر الموقف، ويقدر احتمالاته الممكنة؛ كيما يساعد القارئ على فهم الأحداث المتلاحقة بصورة أعمق، ويترك له مهمة استخلاص النتائج بنفسه.
وهذا بعينه هو ما سنحاول القيام به في الفصول التالية: فلا بد من البدء بتقديم تفسير للتغييرات الحاسمة التي وقعت بالفعل، يليه محاولة لبحث تأثير هذه التغييرات بالنسبة إلى مستقبل العالم الاشتراكي، والعالم الرأسمالي، والعالم الثالث، مع التركيز على الوطن العربي بوجه خاص. وأخيرا تأتي أصعب المحاولات وأعقدها، وهي المخاطرة باستخلاص مجموعة من التوقعات عن شكل العالم في عقد التسعينات، بعد أن تكون تلك التغييرات قد أخذت مداها، وأصبحت حقائق راسخة في عالم الغد.
الفصل الثاني
لعنة التسلح
قلت في الفصل السابق إن جورباتشوف كان يستطيع، من الوجهة النظرية، أن يحافظ على الأوضاع التي ظلت سائدة في الكتلة الشرقية منذ الخمسينات، وفي بلاده قبل ذلك، وإن أية صعوبات كانت تواجه أنظمة تلك البلاد في المرحلة التي سبقت ثورته التاريخية مباشرة، ما كانت لتتجاوز ما سبق أن مرت به من مشاكل طوال العقود السابقة. ولكن هذا الفرض النظري يعني تجميد الأوضاع إلى ما لا نهاية، ويعني الحكم على النظام الاشتراكي كله بالتحجر في قت تجتاح فيه العالم ثورة علمية وتكنولوجية ستنتقل به خلال القرن القادم إلى أنماط من الحياة تبدو معها أنماطنا الحالية عتيقة، وربما بدائية. ومن المؤكد أن عملية اختيار جورباتشوف زعيما للاتحاد السوفيتي كانت منذ البدء دليلا على قوة إرادة التغيير في هذا البلد الكبير، فمن المرجح، إن لم تقع مفاجأة، أن يكون هذا الرجل نفسه، أو واحد ممن يسيرون على نهجه، هو الذي يقود بلاده عند مطلع القرن الحادي والعشرين. وهكذا، اختير الرجل على أساس أن مهمته هي العبور إلى المستقبل، ولا بد أن الذين اختاره كانوا على وعي بأن أوان التغيير قد آن، وبأن هناك ظروفا هي التي تحتم هذا التحول الحاسم.
ويمكن القول إذن إن جورباتشوف قد جاء إلى السلطة وهو يحمل تفويضا بإحداث تحول هام في أسلوب الحكم، غير أن الرجل تجاوز هذا التفويض بمراحل، وكان العامل الرئيسي الذي ساعده على ذلك أن لديه رؤية كونية شاملة، فالتغيير في نظره يبدأ أولا من الداخل، من بلاده ذاتها، ثم ينتقل إلى بقية البلاد الاشتراكية، وبعد ذلك تمتد إشعاعاته حتما إلى العالم الغربي الرأسمالي؛ ومن ثم إلى العالم الثالث. وسواء تمكن جورباتشوف من تجسيد رؤيته هذه في عالم الواقع، أم أخفق في ذلك لسبب أو آخر، فإن الدلائل كلها تشير إلى أن البشرية لن تستطيع أن تشق طريقها بأمان في القرن القادم إلا إذا تمكنت من وضع نظام جديد للعلاقات بين الدول، يرتكز على تحقيق توازن بين قدرة الإنسان على التحكم في تصرفاته، وضبط علاقاته مع الآخرين بطريقة حضارية (وهي حاليا قدرة متخلفة إلى حد بعيد)، وبين قدرته على التحكم في الطبيعة المادية وتسخيرها لخدمة أغراضه (وهي حاليا قدرة متقدمة إلى حد هائل).
فما هي إذن تلك الأسباب التي جعلت هذه الرؤية الجديدة ضرورة ملحة؟ وما العوامل التي دفعت جورباتشوف إلى تلك المقامرة الكبرى التي أذهلت الخصوم قبل الأصدقاء، والتي قلبت جميع الحسابات التقليدية، على صعيد السياسات المحلية والعالمية، رأسا على عقب؟ لنبدأ أولا بأعم الأسباب وأهمها، وأعني به الحاجة الملحة إلى إنهاء سباق التسلح، فقد فرض هذا السباق الشيطاني على العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، مع أن ميثاق الأمم المتحدة الذي أعلن في نهاية تلك الحرب كان يشير بوضوح إلى هدف إنهاء كافة الحروب وإقامة العلاقات بين الدول على أساس السلام الدائم، ولكن الحرب الباردة سرعان ما ابتكرت صيغة أخرى في العلاقات الدولية، وخاصة بين المعسكرين الكبيرين، هي علاقة الخوف المتبادل، والردع المتبادل: أي إن كلا منها يرهب الآخر ويمنعه من مهاجمته عن طريق تهديده بالدمار الشامل، فتكون النتيجة استمرار السلام، ولكنه سلام متوتر يهدد في أي لحظة بالانفجار.
ولكي نكون موضوعيين فلنقل إن صاحب المصلحة في هذا الطابع الذي اتخذته الحرب البادرة كان الولايات المتحدة وليس الاتحاد السوفياتي، غير أن السوفيات لم يكن في استطاعتهم أن يقفوا مكتوفي الأيدي إزاء التصعيد الأميركي للتسلح، فاندمجوا في اللعبة على الرغم من الأضرار الفادحة التي ألحقها بهم التسلح المكثف. وكان السياسي الوحيد الذي قرر أن يوقف هذه اللعبة بتخطيط بارع هو جورباتشوف.
وليسمح لي القارئ بأن أورد اقتباسين مطولين من مقال كنت قد كتبته منذ خمس سنوات (مجلة العربي - يناير 1985م) بعنوان «أيديولوجية التسلح». وسيدرك القارئ بسهولة سبب هذا الاقتباس حين ينتهي من قراءته:
إن النظام الرأسمالي يستطيع أن يتحمل دون عناء التسلح ونفقاته الباهظة، بل إن إنتاج السلاح وتطويره وتجديده المستمر من أهم العوامل التي تساعد على استمرار هذا النظام في الحياة وازدهار اقتصاده وتشغيل مصانعه وإيجاد فرص عمل للعاطلين فيه. وأما النظام الاشتراكي فإن التسلح بالنسبة إليه عبء ثقيل يؤثر تأثيرا واضحا في مستوى نموه؛ وذلك لأن السلاح في هذه الحالة لا تنتجه شركة تحقق أرباحا هائلة من بيعه أو تصديره، وإنما تنتجه الدولة التي تخطط اقتصادها بحيث يؤدي التوسع الزائد في أي ميدان إلى التضييق في الميادين الأخرى. وهكذا فإن إنتاج أسلحة باهظة التكاليف، في المجتمع الاشتراكي، لا بد أن تقتطع نفقاته من قوت الناس ومن ملبسهم ومسكنهم وسائر الخدمات التي تقدم إليهم ... إن التطوير المستمر للأسلحة يحدث أولا في البلاد الرأسمالية، والقنبلة الذرية، ثم الهيدروجينية، والطائرات الأسرع من الصوت، كل ذلك بدأت به بلاد رأسمالية ... هذا التطوير المستمر لا يعني فقط مزيدا من الروح العدوانية لدى مبتكريه، بل إنه موجه في الأساس نحو الخصوم، والهدف الأساسي منه - في رأيي - ليس عسكريا فحسب، وإنما هو أيضا أيديولوجي واقتصادي، فقد أصبح التوازن الدولي يحتم على كل من القوتين العظميين أن تلحق بالأخرى في قدراتها العسكرية، وكل تصعيد في مستوى التسلح ونفقاته يعني مزيدا من الإرهاق لاقتصاد المعسكر الشرقي، ويعني اقتطاعا من ضرورات الحياة لدى شعوب هذا المعسكر من أجل هدف أهم: هو أن تكون هذه الدول أو لا تكون ... وكما قلت، فإن الاقتصاد الاشتراكي لم تنشأ فكرته أصلا من أجل عالم تسوده المنافسات العسكرية وصراعات الحياة والموت، بل إن مؤسسيه تصوروا قيام تنافس سلمي بين الرأسمالية والاشتراكية، وبنوا تنبؤاتهم بحتمية انتصار الاشتراكية.
ثم أضفت في موضع آخر من هذا المقال:
استطاع المعسكر الرأسمالي بالفعل أن يوقف مسيرة المعسكر الخصم، بل أن يوسع الهوة المعيشية التي تفصله عنه، وكل من يزور بلدان المعسكر الاشتراكي ويقارنها بالبلاد الرأسمالية المتقدمة، لا بد أن يصدمه الفارق الهائل في مستوى المعيشة بين الجانبين ... هذا القصور لا يرجع إلا إلى الاستنزاف المتعمد الذي يفرضه النظام الرأسمالي على اقتصاد المعسكر الخصم في ميدان التسلح، الذي أصبح الآن باهظ التكاليف، بل إن نقص الاستهلاك الذي يلاحظه الإنسان العادي بسهولة في عالم لم تعد تقوم فيه حواجز بين المجتمعات ذات الأنظمة المختلفة هو المسئول عن عدم الاستقرار وعن تلك الثورات التي تشب من آن لآخر في بلاد المعسكر الاشتراكي، كالمجر وتشيكوسلوفاكيا، وأخيرا بولندا. ونتيجة لتلك الثورات تفرض السلطات مزيدا من القيود، فيؤدي ذلك إلى مزيد من الغضب المكتوم. وهكذا تستمر الحلقة الجهنمية في تضييق الخناق على هذا المعسكر، بعد أن نجح المعسكر الرأسمالي في فرضها على خصومه حتى يلعبوا لعبة الصراع الدولي بقواعده هو، وعلى أرضه هو.
هكذا الكلام قيل منذ خمس سنوات، ولعل القارئ قد أدرك أنه يلقي ضوء واضحا، منذ ذلك الوقت المبكر، على الكثير مما يقع اليوم من أحداث في الاتحاد السوفياتي وبقية بلاد المعسكر الاشتراكي.
إن الحرب الباردة اختراع أميركي صرف، وكل من عرف شيئا عن أحداث الحرب العالمية الثانية يعلم أن أميركا لم تطلق في داخلها رصاصة واحدة طوال هذه الحرب، على حين أن الاتحاد السوفياتي قد اكتسحت معظم أراضيه وأحرقت حقوله وقراه، وفقد أكثر من عشرين مليون قتيل. ولقد تمكنت أجهزة الإعلام الأميركية من خلق صورة وهمية عن الخطر الزاحف من أرض السوفيات، والذي يهدد بابتلاع العالم ما لم يتم ردعه بقوة السلاح، وانطلت هذه الأسطورة على الشعوب في أوروبا الغربية وفي أميركا بوجه خاص، مع أنها لم تكن إلا أكذوبة كبرى. وأغلب الظن أن مروجيها أنفسهم كانوا يعلمون ذلك، ولكن لهم مصلحة مؤكدة في تثبيتها في الأذهان؛ وذلك لأن الشعب السوفياتي ما زال حتى هذه اللحظة، وبعد مضى خمسة وأربعين عاما على انتهاء تلك الحرب، يعيش آلامها ومرارتها. وإذا كانت فنون الشعوب وآدابها خير شاهد على نفسياتها، فمن السهل أن يلاحظ المرء أن فظائع الحرب العالمية الثانية ما زالت حية بقوة في وعي الشعب السوفياتي ولا وعيه معا، بدليل أنها هي الموضوع الذي تدور حوله نسبة كبيرة من الأفلام السينمائية والأعمال الأدبية السوفياتية حتى اليوم، وهو أمر يثير في كثير من الأحيان دهشة بالغة لدى مشاهدي هذه الأعمال وقرائها من الأجانب.
وهكذا فإن العامل المادي، المتمثل في الأعباء الاقتصادية الفادحة، والعامل المعنوي، المتمثل في الذكرى الأليمة والحية لأهوال الحرب الأخيرة، كليهما يؤكد أن أسطورة «الخطر الروسي» على الغرب، وعلى العالم، لم تكن إلا محاولة بارعة لتبرير سباق التسلح، الذي يؤدي إلى تشغيل المصانع وتخفيف البطالة وإنعاش الاقتصاد في بلد رأسمالي، و«ليبرمج» الرأي العام في اتجاه يساعده على دفع الضرائب المتزايدة التي تقتضيها ميزانيات التسلح.
ولقد كانت ذروة التصعيد في سباق التسلح هي ذلك البرنامج الشيطاني الذي عرف باسم «حرب النجوم» والذي يستهدف إقامة نظام لتدمير صواريخ العدو بأشعة الليزر في الفضاء قبل وصولها إلى أهدافها، وكان واضعو هذا النظام في عهد «الرئيس الكاوبوي» رونالد ريجان مؤمنين بأن خطتهم الجهنمية لن تجلب لهم إلا المكاسب:
فهي أولا تضمن إنفاق عشرات المليارات كل عام على هذا البرنامج وحده، بالإضافة إلى ما ينفق على برامج التسلح وبرامج الفضاء الأخرى، وتحقق انتعاشا هائلا لمجموعة ضخمة من الشركات المرتبطة به على نحو مباشر أو غير مباشر. ومن جهة أخرى فسوف يكون السوفيات مرغمين على التحرك لمواجهة هذا البرنامج، وعندئذ تكون النتيجة أحد أمرين: فلو نجحوا سيكونون قد أرهقوا اقتصادهم، الذي هو أصلا غير مهيأ لذلك، إلى حد يبذر بذرة الثورة في تلك المجتمعات التي سيصل مستوى معيشتها عندئذ إلى الحضيض. ولو أخفقوا فسوف ينفرد الأميركيون بهذه الميزة الاستراتيجية الهائلة، ميزة القدرة على تدمير صواريخ العدو وهي في الفضاء الخارجي؛ مما يجعل أيديهم طليقة كيما تعبث بالعالم كيفما شاءت، ويضع حدا لوضع التنافس العسكري المتكافئ الذي ساد منذ الحرب العالمية الثانية. وفي اعتقادي الخاص أن هذا العامل بالذات كان له دور أكبر بكثير مما يتصور معظم الناس في تحديد الاتجاه الذي سارت فيه سياسة جورباتشوف منذ بداية حكمه، فقد فرضت عليه السياسة الأميركية في عهد ريجان أن يختار بين أمرين كليهما مر: فإما أن يدخل في منافسة ستقضي على البقية الباقية من قدرة اقتصاد بلاده والكتلة الشرقية كلها على الصمود، وإما أن يتراجع عن المنافسة ويترك الخصوم طلقاء يتحكمون في عالم الغد كما يشاءون.
وكان القرار الذكي الذي اختاره، والذي اعتمد فيه على تراث النزعة السلمية وكراهية الحرب المتأصل في بلاده، وعلى مخاوف الأوروبيين من أن تكون بلادهم هي الساحة الأولى لأية حرب نووية بين العملاقين - كان هذا القرار هو أن يشن حملة سلام كبرى، يرغم فيها صقور التسلح في الولايات المتحدة على التراجع التدريجي رغم أنوفهم.
كان الأسلوب الذي اتبعه جورباتشوف في إبطاء قطار التسلح الذي كان يزداد اندفاعا عاما بعد عام، أسلوبا بارعا بحق، وهو يستحق في رأيي دراسة متعمقة يقوم بها المتخصصون في العلوم السياسية وفي فن التفاوض بوجه خاص، بوصفه نموذجا فريدا للطريقة التي يمكن بها إرغام عملاق جبار على التخلي عن مواقفه وقبول مواقف الخصم دون أن يتمكن من التهرب أو المقاومة. ويمكن تلخيص هذا الأسلوب على النحو الآتي: كان جورباتشوف يبدأ (ودائما كان هو البادئ) باقتراح في ميدان نزع السلاح يثير تعاطفا شعبيا على أوسع نطاق، وخاصة في أوروبا، كعقد معاهدة لخفض عدد الصواريخ بعيدة المدى، أو تدمير الصواريخ المتوسطة «التي تخشاها أوروبا بوجه خاص»، وبالطبع يكون رد الفعل الأميركي المباشر هو الرفض، وعادة «يكون» هذا الرفض مصحوبا بحجة تبرره، مثل ضرورة التفتيش على الصواريخ في مواقعها ضمانا لعدم الخداع. وحين يضع الأميركيون شرطا كهذا، فإنهم يعلمون جيدا أن الجانب السوفياتي، الذي ظل دائما يخشى التغلغل والتجسس الأميركى في بلاده سيرفضه حتما. ويظل جورباتشوف يلح، ويظل الأميركيون مصرين على شرطهم، حتى يرسخ هذا الشرط في أذهان العالم.
وفجأة يعلن جورباتشوف قبول هذا الشرط، ولا يجد الأميركيون مفرا من توقيع المعاهدة بعد أن يكونوا قد فقدوا ذريعة الرفض أمام العالم أجمع. وبالمثل فإن مشروعات كثيرة لنزع السلاح كانت تصطدم دائما برفض أميركي مبني على شروط مثل ضرورة الإقلال من حجم القوات التقليدية السوفياتية في أوروبا، وبعد أن يرسخ هذا الشرط في أذهان العالم، يعلن جورباتشوف فجأة عن خفض كبير في قواته وأسلحته التقليدية، فيسقط في يد المتشددين، ولا يملكون إلا الاستجابة لطلبه.
ولقد كان يبدو أن جورباتشوف لا يقدم، في مسألة نزع السلاح إلا التنازلات، وأنه يستجيب دائما للشروط الأميركية، ولكن الأمر الذي ينبغي أن يتنبه إليه من ينتقدونه على هذه التنازلات، أن الهزيمة في هذا الميدان انتصار، والضعف فيه قوة، فلو وقف السوفيات بدورهم موقف التشدد لكان معنى ذلك تصعيد سباق التسلح، وتبديد موارد هائلة يحتاج إليها اقتصادهم المخطط مركزيا أشد الاحتياج، على صنع موديلات جديدة من الأسلحة سرعان ما تصبح عديمة الجدوى بعد ظهور «جيل» الأسلحة الأحدث منها، أما التنازل، الذي يبدو في ظاهره هزيمة، فهو في حقيقة الأمر انتصار كبير؛ إذ إنه يرغم الخصم على التراجع وقبول الشروط التي وضعها هو ذاته ويضعف اقتصاد الخصم الذي ينعشه التسلح المكثف، بينما يقوي اقتصاد الطرف المتنازل، فيجني من هذا الضعف الظاهري مزيدا من القوة.
بمثل هذه الأساليب البارعة استطاع جورباتشوف أن يزيل بالتدريج وهم «الخطر السوفياتي» الذي رسخته أجهزة الإعلام الغربية، والأميركية بوجه خاص، في أذهان الناس في العالم غير الاشتراكي. ولقد كان ذلك الخطر المزعوم وهما بالفعل، لا لأن السوفيات ملائكة، بل لأنهم أكثر شعوب الأرض معاناة من ويلات الحروب، فضلا عن الاستنزاف الذي لا يتحمله اقتصادهم، ولكن هذه الأسطورة كانت ضرورية لكي تقوم الأحلاف العسكرية، وتعمل مصانع الأسلحة بكامل طاقاتها، وتهنأ الحياة بفضل تجارة الموت.
كل هذا بدده جورباتشوف بأفعال واقعية ملموسة، ولكم حاول المتشددون التشكيك في هذه الأفعال، ولكنه كان يثبت جديته بمبادرات متجددة بلا انقطاع. كانت قصة الذئب والحمل تتكرر، ولكن بطريقة معكوسة؛ إذ كان الحمل في هذه المرة واعيا، فلم يسمح للذئب بأن يلتهمه، بل لم يعطه فرصة اتهامه بتعكير الماء الذي يشربه.
وما إن انقضت سنوات قلائل من حكم جورباتشوف، حتى اختفت تماما صورة «الدب الروسي» المسلح حتى الأسنان، والمتأهب دائما للعدوان، وأصبحت شعوب العالم مقتنعة بأن جورباتشوف يريد بحق سلاما شاملا، ويقرن كل ما يقول في هذا الصدد بالأفعال. وكان امتناعه عن التدخل في أحداث أوروبا الشرقية الأخيرة، في جانب منه، تعبيرا عن الرفض النهائي لسياسة حل المنازعات بالقوة المسلحة، وتمسكا بالصورة السلمية التي رسمها بصبر وحرص شديدين طوال السنوات السابقة. بل إن أميركا والاتحاد السوفيتي تبادلا الأدوار في الشهر الأخير من العام الذي انقضى: إذ تدخلت الجيوش الأميركية تدخلا سافرا في بنما، وساقت من أجل ذلك حجة لا تختلف عن حجج عتاة الاستعماريين في القرن التاسع عشر، على حين أن القوات السوفياتية رفضت إطلاق رصاصة واحدة في أوروبا الشرقية، بل رفضت التدخل الذي أغرتها عليه أميركا وفرنسا، ضد الحاكم الطاغية في رومانيا، ولم تقع في الفخ، وأصبحت صورة المعتدي ملتصقة، في نظر العالم، بأميركا وحدها.
سباق التسلح المجنون نزف موارد الاتحاد السوفيتي لعشرات من السنين.
في هذا الجو، يحاول صقور التسلح، مثل ديك تشيني، وزير الدفاع الأميركي، أن يعودوا من آن لآخر إلى عزف النغمة القديمة، ولا سيما حين يقترب موعد تحديد ميزانية التسلح، ولكن صيحاتهم لم تعد تجد من يستمع إليها. ومن المؤكد أن أي حديث عن «حرب النجوم» قد أصبح في أيامنا هذه صوتا نشازا وسط جو التهدئة والتفاهم الذي أشاعته سياسة جورباتشوف وأنعشت به الآمال في سلام دائم.
ويكاد المرء يلمح في تصريحات المسئولين الأميركيين نوعا من الحرص المكتوم على بقاء حلف وارسو العسكري، على الرغم من أنه هو الحلف المناوئ لهم؛ إذ كيف يمكن تبرير المبالغ الضخمة التي تستقطع كضرائب من المواطن الأميركي من أجل صنع السلاح، ما لم يكن هناك حلف مضاد يصور للناس على أنه مصدر خطر دائم؟ لقد ظلت الاستراتيجية الأميركية تستهدف مواجهة حلف وارسو والتفوق عليه، ولكن حين ظهرت بوادر لحل هذا الحلف أو تغيير طبيعته العسكرية، بدأ القلق ينتاب واضعي هذه الاستراتيجية من ألا يجدوا أمامهم «خصما» يتسلحون من أجله. وهكذا فإن حلف وارسو هو، بالنسبة إلى العسكرية الغربية، خصمها ومبرر وجودها في آن واحد، ومن أجل هذا كان المرء يستشعر، في تصريحات بعض القادة الغربيين، نغمة قلق خفي من الأحداث الأخيرة التي يفترض أنها كانت انتصارا كبيرا لهم.
لقد كان سباق التسلح إذن عاملا حاسما في ذلك التغيير الثوري الذي أدخله جورباتشوف على سياسة بلاده، وكان في الوقت ذاته من العوامل الهامة التي أدت إلى سلسلة الانقلابات المفاجئة في بلدان المعسكر الاشتراكي؛ ذلك لأن أعباء التسلح كانت توزع على الجميع، وكان لكل بلد اشتراكي نصيبه من تلك النفقات الباهظة التي تتكلفها عملية مجاراة التطور السريع والمتلاحق في صنع أدوات الدمار. ولم يكن إسهام هذه الدول في أعباء التسلح يتخذ بالضرورة شكل المشاركة في صنع السلاح أو في الميزانية العسكرية، بل كان في أحيان كثيرة يتخذ شكل تقديم منتجات وسلع من إنتاجها إلى دول أخرى في المعسكر نفسه، تعويضا لهذه الأخيرة عن الخسائر التي تتكبدها في صنع السلاح. وهكذا كانت الخسارة تعم الجميع، ويترتب عليها حتما تدهور عام في الاقتصاد، وانخفاض في مستويات المعيشة، وافتقار مواطني أي بلد معين لكثير من المواد الأساسية التي يعلمون أن بلادهم تنتجها بوفرة.
ومع هذا كله فإن تأكيدنا لأهمية سباق التسلح في تفسير الأحداث الأخيرة، سواء منها «هجوم السلام» الكاسح الذي يقوم به جورباتشوف أو تمرد البلاد الاشتراكية العنيف ضد أنظمتها - هذا التأكيد، مع أهميته القصوى، لا ينبغي أن يحجب عن أذهاننا مجموعة أخرى من العوامل الهامة؛ ذلك لأن التركيز على الأضرار المترتبة على التسلح المرهق، قد يولد لدى القارئ اعتقادا بأن سوء الأوضاع الاقتصادية وربما الاجتماعية والسياسة أيضا، كان أمرا مفروضا من الخارج على هذا المعسكر، وبأن أنظمة هذه البلدان كانت ضحية خطة ذكية رسمها المعسكر المضاد، ولكن هذه النتيجة أبعد ما تكون عما أرمي إليه، فحقيقة الأمر أنه كانت هناك، إلى جانب العامل الخارجي السابق، أخطاء داخلية فادحة، وكان النظام الاشتراكي يتعرض لأسوأ تطبيق وأفظع تشويه يمكن تصوره، على أيدي من يفترض أنهم حراسه والأمناء عليه.
ولا بد أن يكون لهذا الموضوع الهام حديث آخر حين نواصل عرضنا لأسباب هذا الانقلاب المفاجئ في أوضاع المعسكر الاشتراكي.
الفصل الثالث
الخلل في الداخل
لا جدال في أن سباق التسلح قد وضع الكتلة الشرقية في مأزق يجعلها عاجزة عن تحقيق الكثير من إمكانات تجربتها الاشتراكية؛ ذلك لأن مؤسسي هذه التجربة، مثل ماركس وإنجلز ولينين، لم يعملوا حسابا للتنافس في ظل حرب باردة وتسلح ثقيل تمتص تكاليفه عرق الناس وجهدهم عاما بعد عام، بل تخيلوا جوا من التنافس السلمي، وتفاءلوا بحتمية انتصار الاشتراكية على الرأسمالية في مثل هذا الجو. ولقد تمثلت براعة النظام الرأسمالي في خلق أوضاع لم تخطر ببال هؤلاء المؤسسين، يدور في ظلها التنافس داخل إطار مختلف تماما عن ذلك الذي تصورته النظرية الاشتراكية، فنجح بذلك في إبطاء نمو المجتمعات الاشتراكية وإبعادها عن السباق معه وفرض التخلف عليها في جوانب كثيرة من حياتها.
ويستطيع القارئ العربي أن يستوعب هذه النقطة بسهولة تذكر ما قام به الاستعمار العالمي تجاه مجتمعاتنا العربية من أجل إيقاف نموها، فبعد أن أيقن أن عصر الاحتلال المباشر لأراضي الغير قد ولى، وأن للمنطقة العربية موقعا استراتيجيا عظيم الأهمية بين الشرق والغرب الجغرافيين، وبين الشرق والغرب الأيديولوجيين، وعرف أن هذه المنطقة تضم أضخم مخزون لأهم مصدر عالمي للطاقة، وأن موارد النفط يمكن أن تكفل لها نموا اقتصاديا واجتماعيا هائلا، توصل إلى أن زرع إسرائيل في قلب الوطن العربي هو خير وسيلة لإيقاف هذا النمو، فضلا عن أن هذا الكيان الغريب هو في الوقت ذاته ركيزة وقاعدة كبرى للاستعمار في المنطقة، ومن المؤكد أن النهضة والتنمية العربية كانتا ستتخذان طريقا أكثر إيجابية بكثير مما هو عليه الآن، لو لم تكن إسرائيل قد غرزت في قلب هذه المنطقة.
لقد كان الأسلوب واحدا في الحالتين، وعن طريقه نجح الغرب الرأسمالي في خلق ظروف مصطنعة تحول دون تمكين القوى المناوئة له من تحقيق إمكاناتها الكامنة. ومع ذلك فإن هذا لا يعني على الإطلاق أن إخفاق التنمية، في الحالتين أيضا، لم يكن له من سبب سوى تلك المؤامرة الاستراتيجية الكبرى، فقد كانت الأخطاء الداخلية فادحة، ولما كان الحديث عن التجربة العربية خارجا عن إطار بحثنا الحالي، فسنحاول الآن استخلاص أهم العوامل الداخلية التي أدت إلى هذا الوضع الذي يبدو في نظر العالم كما لو كان انهيارا تاما للتجربة الاشتراكية ككل.
لقد كان العامل الاقتصادي حاسما في الثورة التي زلزلت أنظمة الدول الاشتراكية خلال شهور قلائل، ولكن هذا العامل لن يعالج مستقلا في هذا البحث الذي نقوم به؛ وذلك لسببين: أولهما أن كاتب هذه السطور لا يعرف عنه، بحكم تكوينه الثقافي، إلا القشور، فالبحث في تأثير ابتعاد الاقتصاد الاشتراكي عن نظام السوق، وعيوب نظام تحديد الأسعار، والمشكلات المترتبة على التخطيط المركزي، إلى آخر هذه الموضوعات الاقتصادية ذات الأهمية العظمى، يفوق قدراتي إلى حد لا يسمح لي بإصدار أي حكم مفيد بشأنه، غير أن هناك سببا آخر هاما لعدم لجوئي إلى معالجة العامل الاقتصادي على نحو مستقل، هذا السبب هو أن الإنسان الذي خرج يتظاهر في الشوارع مع مئات الألوف من أقرانه في الساحات الكبرى بمدينة بودابست أو براغ، والذي عرض صدره للرصاص في تيمشوارا، لم يكن يثور من أجل عامل منعزل عن بقية العوامل فالكيان الإنساني وحدة لا تتجزأ، وحين يخاطر المرء بحياته من أجل إحداث تغيير جذري في مجتمعه، فإنه يفعل ذلك بكيانه كله، ولا يستجيب فقط لنداء معدته حين لا تجد ما يشبعها، أو جلده حين لا يجد ما يدفئه، وإنما يستجيب أيضا لنداء عقله الذي يرفض كبت رأيه ، وروحه التي تأبى الظلم الواقع عليه. وفي الوعي السياسي والاجتماعي للمواطن العادي، لا ينفصل الاقتصاد عن علاقة هذا المواطن بحكامه ورؤسائه وأقرانه، وعن رأيه في الطريقة التي يدار بها مجتمعه ككل. وهكذا فإن الاقتصاد، الذي يمكن أن يعالج مستقلا لأغراض التحليل العلمي، يكون جزءا من كل أشمل منه في الحياة الفعلية للإنسان، وفي مختلف ممارساته الاجتماعية، ولما كان هذا الأمير الأخير هو الذي يعنينا، فإن هذا يعطينا مبررا آخر لمعالجة موضوع الاقتصاد في سياقه الأوسع والأعم.
ولأضرب مثلا لفكرتي هذه، بالحديث عن إنتاجية الإنسان العامل في بلدان المعسكر الاشتراكي، هذا بالطبع موضوع يستطيع المتخصصون أن يزودونا فيه بأرقام وإحصاءات وجداول دقيقة، ولكن أغلب الظن أن هذه المعلومات الكمية المفيدة ستؤدي، آخر الأمر، إلى تأكيد ذلك الانطباع الذي يخرج به كل من زار بلدا من هذه البلدان، وهو أن العامل - بأوسع معاني هذه الكلمة أي بمعنى كل من يمارس عملا من أي نوع - أقل إنتاجية بشكل واضح من نظيره في بلاد أوروبا الغربية، ناهيك عن أميركا واليابان، فحصيلة عمله محدودة، وطريقة إنجازه لهذا العمل تتسم بقدر كبير من البطء والتكاسل. وعلى الرغم من أن هذا حكم انطباعي تولد في نفس كاتب هذه السطور نتيجة زياراته لمعظم بلدان المعسكر الاشتراكي، واتفق فيه مع كثيرين غيره ممن كانت لهم مع هذه البلاد تجربة أطول، فإن أمثال هذه الانطباعات، حين تكون حصيلة ملاحظة دقيقة، لا يجوز تجاهلها، وخاصة إذا كان الفارق واضحا بينها وبين الانطباعات التي تتكون لدى من يزور بلدا من بلدان المعسكر الغربي.
المهم في الأمر أن الإنتاجية الضئيلة للعامل تشكل خطورة كبرى على حياة أي مجتمع؛ ذلك لأن ثروة هذا المجتمع هي، إلى حد بعيد، حصيلة إنتاج العاملين فيه، فإذا كان كل عامل في موقعه لا يتحرك إلا ببطء، ولا ينجز إلا الحد الأدنى، فإن المجتمع ككل لا بد أن يعاني أزمات اقتصادية خانقة.
ولكننا حين نبحث في الأسباب التي تجعل قدرات العامل الإنتاجية محدودة، نجد أنفسنا مضطرين إلى الجمع بين الميدان الاقتصادي والميدان السياسي والاجتماعي، وربما الأخلاقي، في وحدة واحدة، ففي استطاعة المرء، حين يتعمق التفكير في ظاهرة التكاسل والتباطؤ هذه أن يدرك وجود نوع من المقاومة الصامتة لدى شعوب أوروبا الشرقية على الأنظمة الجائرة التي كانت تحكمها، لقد كانت تلك الأنظمة قمعية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وكان أوضح مظاهر القمع أن تنص معظم دساتيرها على أن حزبا بعينه، هو الحزب الشيوعي، أيا كانت تسميته في كل دولة على حدة، هو الحزب الحاكم، مما يترتب عليه أن يصبح أي خروج عن تعاليم ذلك الحزب أو أية محاولة لإحلال حزب آخر محله، خروجا عن الدستور يستحق أشد العقاب. فما معنى أن يعطي أي حزب لنفسه هذا «الحق الإلهي» في أن يكون هو الحاكم إلى الأبد؟ وإذا كانت مبادئه الأساسية تقول إنه هو المدافع الحقيقي عن العمال والفلاحين لأنه هو الذي يمثل طبقتهم تمثيلا أمينا، وإذا كان العمال والفلاحون هم الأغلبية الساحقة في أي شعب، فلماذا لا يجعل سلطته مرتكزة على اختيار يمارسه هذا الشعب بحرية تامة؟
وبطبيعة الحال فإن هذا القمع الرئيسي، الذي يتمثل في ذلك الإهدار «الدستوري» لأية فرصة أمام الشعب كيما يختار السلطة التي تحكمه، لا بد أن تتفرع عنه ألوان أخرى من القمع لا تقل عنه قسوة وضراوة، فحرية الكلام والتعبير عن الرأي مصادرة إلا في الحدود التي تساير النظام، وحرية السفر محظورة إلا للوفود الرسمية وفي ظل رقابة مشددة. ولقد كان لضياع هذه الحرية الأخيرة بالذات أسوأ الأثر في نفوس جماهير أوروبا الشرقية التي ترى كل بلد أوروبي غربي يكاد يفرغ سكانه خلال العطلات الصيفية لكي يوزعهم سياحيا على بقية البلدان، أما المركزية الشديدة للسلطة فتقضي تماما على قدرة الفرد على التصرف، ولو في أضيق الحدود، فأبسط مطلب يحتاج إلى قرار يمكن أن يمر على عشرات من الموظفين، حسب تدرجهم الهرمي، ولا يجاب إلا بعد وقت طويل وتعقيدات إدارية مملة. ولم تكن الأضرار التي يسببها سرطان البيروقراطية مقتصرة على جهاز الدولة، بل إنها كانت تولد خميرة سخط تتجدد دائما بين الجماهير.
ومن جانب آخر فإن الحزب الذي جاء من أجل القضاء على الفوارق بين الطبقات، قد صنع هو نفسه تفاوتا طبقيا صارخا بين أعضائه وبين بقية الشعب؛ إذ كان أعضاء «الحزب» يتمتعون بامتيازات مادية ومعنوية ملموسة، بل كان لهم في بعض هذه البلاد امتيازات خاصة حتى في ميدان التعليم، ومن أجل حماية هذه الأوضاع الجائرة كان لا بد من وضع نظام صارم يضمن إسكات الأصوات المعارضة، والتجسس على المواطنين عن طريق زرع عملاء السلطة في مواقع العمل العادية أو تجنيدهم من داخلها، وإقامة أجهزة صارمة للأمن تسهر على إقلاق راحة المواطنين وتضمن انضباطهم وتعاقبهم بقسوة لو خرجوا عن الخط المرسوم.
وليس ثمة شيء يثير نقمة الشعوب بقدر التناقض بين الشعارات المعلنة والممارسات الفعلية لحكامها، فحين ترى الشعوب كبار «الثوار» فيها يعيشون حياة الإقطاعيين المترفين، وحين ترى أساطين «الاشتراكية» ينعمون بأجمل الملذات «البورجوازية» عندئذ يتجاوز ذلك التناقض طاقتهم على التحمل، ولو كان النظام يعلن على الملأ أنه رأسمالي أو إقطاعي، ويعترف مقدما بالتفاوت الحاد بين الطبقات و«يفلسفه» على طريقته الخاصة، لتحملته الجماهير بمزيد من رحابة الصدر، فحين يعلن الأميركيون مثلا أنهم دولة رأسمالية تقوم على مجتمع الفرصة «وأن أساس نظامهم يقتضي أن يكون البعض من أصحاب الملايين والبعض الآخر من العاطلين المعدمين، ويسود لديهم شعار «كل واحد وشطارته»، عندئذ لا يكون سخط الناس عميقا حين يشاهدون مظاهر البذخ التي يعيش بها آل روكفلر أو آل ديبونت، بل ربما كانت هذه المظاهر ذاتها من عوامل تقوية النظام وتدعيمه؛ لأنها ترسخ في نفس كل إنسان «الحلم الأميركي»، وتوهمه بأن «نادي المليونيرات» ليس مغلقا، بل إن أبوابه المفتوحة ترحب بكل من يملك الموهبة المطلوبة، أو يتحين الفرصة الملائمة».
أما حين يعلن الحكام أنهم إنما جاءوا من قاع الجماهير الشعبية، وأنهم يمثلون مطالب الأغلبية المسحوقة ويجسدون أمنياتهم، ثم يراهم الناس يعيشون حياة مرفهة منعمة يتمتعون فيها بكل الملذات التي حرمت منها الجماهير ، فعندئذ تتراكم عوامل الثورة ويغلي الإناء المكتوم .
وبطبيعة الحال فإنني لا أقصد بهذه المقارنة القول إنه لا توجد أسباب للسخط بين الزنوج والملونين وغيرهم ممن يعيشون على حافة الفقر في «جنة الرأسمالية» (وهم أكثر مما يتصور معظم الناس)، بل إن كل ما أعنيه هو أنه حين يكون ذلك التفاوت بين الطبقات جزءا لا يتجزأ من الفلسفة المعلنة والمعترف بها للمجتمع، تكون دواعي السخط عليه أقل مما هي في المجتمعات التي يقوم نظامها على إلغاء الفوارق الطبقية، ويكون أصحاب السلطة فيهم هم أنفسهم أوضح تجسيد لهذه الفوارق.
ولعل الكثيرين من الجيل الأوسط والأكبر في مصر وكثير من الأقطار العربية يذكرون اسم «الشيخ عاشور»، الذي كان إماما غير متميز في أحد مساجد الإسكندرية، وانتابته في إحدى خطبه، خلال الستينات، نوبة غضب فتحدث عن الاتحاد «الاشتراكي» الذي يركب قادته المرسيدس وترتدي نساؤهم أغلى أنواع الفراء ... إلخ ... فوقع عليه اضطهاد من السلطة (اختلفت الآراء في نوعه ومداه). ولكن ما يهمنا من القصة هو أن هذا الرجل، بإمكاناته المحدودة، حين رشح نفسه بعد سنوات لعضوية المجلس النيابي فاز فوزا ساحقا، بلا مجهود، واكتسح مرشحين أنفقوا في حملتهم الانتخابية ألوفا مؤلفة، وحين عاد إلى ممارسة هوايته في النقد الصريح والساذج داخل المجلس، طردته منه الحكومة «بالقانون» (!)، فحاول ترشيح نفسه مرة أخرى، وكان واضحا أنه سيكتسح الدائرة للمرة الثانية، فاضطرت الحكومة إلى «تفصيل» قانون يحول دون إعادة ترشيحه. والنتيجة التي أريد أن أخلص إليها من هذه القصة هي أن الجماهير تتعاطف بقوة وعفوية مع كل من يفضح التناقض بين الشعارات المعلنة لأنظمة الحكم وبين ممارستها الفعلية.
ولكي تبرر تلك الأنظمة الاشتراكية الممسوخة تصرفاتها، لجأت إلى نشر الدعوة إلى الزهد بين الجماهير، على نحو يذكرنا كثيرا برجال الكنيسة في العصور الوسطى، الذين كانت مواعظهم كلها تدور حول العزوف عن متع الدنيا والعمل من أجل الآخرة، بينما كانوا هم أنفسهم يعيشون حياة يستمتعون فيها بكل ما تقدمه «الدنيا الفانية» من ملذات. وتجسدت هذه الدعوة على شكل عقيدة معادية للاستهلاك ، فنجحت في إقناع عقول كثيرة بأن الاستهلاك يتعارض مع شعور المواطن بالمسئولية. وتبنى هذه الدعوة عدد كبير من مثقفي العالم الثالث، حتى اتخذت لدى البعض طابعا مضحكا مبكيا، حين أخذوا يلومون شعبا كالشعب المصري، مثلا، على إفراطه في استهلاك الخبز!
وبطبيعة الحال فإن أبعد الأمور عن ذهني أن أدافع عن نمط الحياة الباذخة، الذي يجعل من الاستهلاك الترفي لسلع مادية معقدة وغير ضرورية على الإطلاق، هدفا أساسيا لحياة الإنسان، ولا سيما حين يكون معظم أفراد مجتمعه محرومين من الضرورات الأساسية في الحياة، فمثل هذه الحياة المفرطة في الترف ظالمة؛ لأنها تتم دائما على حساب شقاء الآخرين، فضلا عن أنها تافهة؛ لأنها تستعيض عن الجوهر الداخلي العميق بالمظهر الخارجي السطحي. ومع ذلك فليس من العدل أن يتطرف مذهب من المذاهب في التنديد بالاستهلاك إلى حد يولد شعورا بالذنب لدى كل من يمارسه في حدود ضيقة؛ ذلك لأن الاستهلاك هو، في نهاية المطاف، أحد المؤشرات الهامة للنصيب الذي يناله الإنسان من الدنيا، ومن الظلم البين أن نخدع الناس فنوهمهم بأنهم يخونون مجتمعهم حين يتطلعون إلى نيل نصيبهم هذا، لمجرد أن السياسة الخرقاء التي يتبعها نظام ما جعلته عاجزا عن أن يضمن لشعبه مستوى آدميا للمعيشة.
المهم في الأمر أن القهر المعنوي والفقر المادي كانا يسيران، في تلك التجربة، جنبا إلى جنب؛ ولذا فإن من غير المجدي أن نحاول فصل أحدهما عن الآخر، ومن هنا كانت الوسيلة الوحيدة التي يستطيع بها الإنسان، في تلك المجتمعات، أن يقاوم النظام، ويعبر عن احتجاجه على ممارسته، هي أن يتلكأ في عمله ويقلل إنتاجيته، وكان ذلك - كما قلت - أحد الأسباب الرئيسية لضعف الاقتصاد في الدول الاشتراكية، بل إن تبادل التأثير بين القهر المعنوي والفقر المادي يؤدي إلى حلقة جهنمية، تظل تدور بلا نهاية. فمقاومة القهر السياسي والاجتماعي، عن وعي أو بغير وعي، باللجوء إلى التراخي في العمل، تؤدي إلى مزيد من النقص في موارد المجتمع ككل؛ مما يزيد من شحن طاقة السخط لدى الجماهير، فيترتب على ذلك اشتداد القمع والقهر، وتظل القصة تتكرر إلى ما لا نهاية.
على أن من الخطأ الفادح أن يترك الكاتب في هذا الموضوع لدى قرائه انطباعا بأن الصورة كانت قاتمة كلها، فقد حققت التجربة الاشتراكية، حتى في أحلك نماذجها، إنجازات: المجانية الكاملة في التعليم والعلاج الطبي مع رفع مستواها باستمرار، وحل مشكلات معقدة كالمواصلات والإسكان بأساليب تخفف الأعباء عن عاتق الطبقات الشعبية، حتى لو كانت بعيدة مع معايير الترف كما تفهمها الشعوب المحظوظة، ورعاية الدولة للثقافة مع إتاحتها لقاعدة جماهيرية واسعة. ولعل أعظم الإنجازات جميعا هو ذلك الأمان الذي يحيط بالإنسان في عمله وحياته: فالمجتمع لا يعرف البطالة، والشيخوخة مؤمنة (بتشديد الميم)، ووفاة العائل لا تعني تشريد أسرته، والأسعار المحددة مقدما، والموحدة في كل مكان، تعطي المشتري أمانا لا يحس به إلا من عانى خداع البائعين ومناوراتهم. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الاشتراكية في المعسكر الشرقي قد طبقت في بلاد كانت كلها - باستثناء تشكوسلوفاكيا - تمثل «الريف» الأوروبي، أمكننا أن ندرك أن هذه الإنجازات لم تكن بالأمر الهين على الإطلاق.
على أنني أود، قبل أن أترك هذا الموضوع، أن أعلق قليلا على ميزة الأمان الاجتماعي هذه؛ إذ يبدو أن الأمان المفرط يؤدي إلى عكس الهدف المقصود منه، ويبدو أن العامل في المجتمع الذي لا يمنحه مثل هذا الأمان التام يمارس عمله بحماس أكبر، وبإنتاجية أعظم، مع أن الذهن يميل نظريا إلى تخيل عكس ذلك، ويخيل إلي أننا هنا إزاء مشكلة فلسفية في المحل الأول: فهل من الصحيح أن الإنسان يحتاج إلى قدر معين من الشعور بالخطر كيما يقدم أفضل ما لديه؟ هذا سؤال يكفينا أن نطرحه الآن على القارئ؛ لأن الخوض في تفاصيله سيبعدنا كثيرا عن موضوعنا الأصلي.
لقد كانت الإيجابيات كثيرة بغير شك، ومع ذلك فإن المرء لا يملك إلا أن يأسف بمرارة؛ لأن التجربة كان في وسعها أن تحرز نجاحا يفوق ما حققته بمراحل، لو لم يكن الفساد الداخلي والخلل التنظيمي والاستبداد القيادي قد وصل فيها إلى هذا الحد المؤلم. ويبدو لي أن السبب الرئيسي لهذا الخلل هو أن بلدان المعسكر الشرقي في أوروبا لم تنتقل إلى الاشتراكي من خلال تجربة أصيلة، وإنما فرضت عليها الاشتراكية بشكل أو آخر، نتيجة لغزو الجيوش السوفياتية لهذه البلاد خلال المراحل الأخيرة من قتالها ضد جيوش هتلر المنسحبة في الحرب العالمية الثانية، وكان نصيب الاتحاد السوفياتي من الغنيمة، بعد حرب كان له فيها الدور الأعظم بلا جدال، هو أن يقيم حوله حزاما من الدول ذات الأنظمة المؤيدة له والمندمجة فيه. وهكذا لم تتكون «الكتلة الشرقية» نتيجة كفاح مماثل لذلك الذي خاضه لينين والبلشفيون في روسيا قبل عام 1917م، وإنما جاءت الأحزاب الشيوعية فيها إلى الحكم «بالتعيين» إن جاز هذا التعبير. ومن هنا كانت الفجوة عميقة بينها وبين قطاعات جماهيرية تزداد اتساعا كلما أمعن النظام في ممارسة أساليب القمع. وكان وجود القوات، أو «الحاميات» السوفياتية في هذه البلاد هو السند الأساسي لهذه الأنظمة، وهو الذي يقيها سخط الجماهير في أوقات الشدة.
ومن المؤكد أن هذه الجماهير كانت تختزن في داخلها قدرا هائلا من الثورة المكبوتة، بدليل أنها تحركت بمجرد أن تأكدت من أن سياسة جورباتشوف لا تؤيد التدخل العسكري من أجل دعم أي نظام للحكم لا يرضى عنه شعبه، وحين تبين بالدليل العملي، بعد الانسحاب السوفياتي من أفغانستان في أوائل العام الماضي، أن هذه السياسة حقيقة لا رجعة فيها، كانت تلك إشارة الانطلاق نحو الثورة المكبوتة.
إن جميع الدلائل تدل على أن جورباتشوف كان منذ البدء واعيا بأن الوضع الذي كان سائدا في الكتلة الشرقية يستحيل أن يستمر إلى الأبد، وبأن تغييره بات محتما، وكلما كان التغيير أسرع كان ذلك أفضل، وجميع تصرفاته تؤكد أنه يدرك استحالة بقاء نظام يعلن أنه قام لمصلحة الإنسان، وفي الوقت ذاته يقهر الإنسان ويقمعه.
ومن الواضح أن سياسته تقوم على مبدأ أساسي هو، في ظروف العالم الراهنة، مقامرة كبرى، وأعني به أن على هذه الأنظمة أن تثبت جدارتها بالبقاء بقواها الخاصة، وليس بمساندة الجيوش وقوات الأمن السرية، وإلا فلا مفر من أن تخوض مجتمعاتها تجربة جديدة وتبدأ من الصفر. وبطبيعة الحال فقد رأينا حولنا في الأشهر الأخيرة نماذج كثيرة لمثقفين من المتعاطفين مع الاشتراكية، يلومون الزعيم السوفياتي لأنه فتح على نفسه بابا لن يستطيع إغلاقه، ولأن النتيجة العملية لسياسته توشك على أن تؤدي إلى تصفية المعسكر الاشتراكي برمته، ولكن من يوجهون هذا النقد يغفلون مسائل أساسية: فهل كان المطلوب ترك الأوضاع الفاسدة على ما هي عليه، من أجل الحفاظ على وحدة المعسكر؟ وهل يكون من حق أحد، بعد أن اتضح له مقدار السخط المتراكم لدى الشعوب نفسها، أن يعترض على ما حدث؟ هل كانت تلك اشتراكية بحق، إذا كانت الجماهير قد رفضتها إلى هذا الحد؟ الحق أن أصحاب هذا الاعتراض يسيئون إلى الاشتراكية، التي يزعمون الدفاع عنها، إساءة بالغة حين يستنكرون عملية إطلاق المشاعر الحبيسة لدى الجماهير؛ لأنهم يفترضون ضمنا أن بقاء الاشتراكية رهن باستمرار القمع واستخدام القوة لإخماد كل صوت معارض.
وأخيرا فإنني إذا كنت قد ركزت في هذا الفصل على العوامل الداخلية التي أساءت أبلغ الإساءة إلى صورة الاشتراكية في مجتمعات الكتلة الشرقية، وأكدت أن هذه العوامل تفسر إلى حد بعيد عنف رد الفعل الذي لمسه العالم كله بين شعوب هذه الكتلة ضد أنظمتها الحاكمة، فإن هناك عاملا أخيرا ينبغي ألا يغيب عن بالنا، ما دمنا بصدد استقصاء الأسباب المؤدية إلى هذا التحول الحاد، فمن المؤكد أن هناك أصابع متآمرة تستغل الأخطاء الفادحة لكي تزيد النار اشتعالا، وتوجه حركة الجماهير العفوية إلى طريق تقطع فيه جميع روابطها الماضية، إلى الأبد. وكل من يتابع الأخبار بإمعان، يستطيع أن يدرك بسهولة الدور الذي تلعبه وكالات الأنباء الغربية في تشويه كثير من الأحداث؛ فإذا غير أحد الأحزاب الشيوعية اسمه نقل الخبر بصيغة توحي بأن هذا الحزب قد حل نفسه، وإذا حذفت مادة في الدستور تنص على احتكار هذا الحزب للسلطة، أوحت إلينا وكالات الأنباء بأنه قد استبعد نهائيا من الحكم، هذا فضلا عن الانتقائية الواضحة في اختيار الأشخاص الذين يقدم إليهم الميكروفون، لإبداء رأيهم في الأحداث والفجاجة المقززة في تصوير الجماهير وهي تقبل على شراء اللحم بنهم، وتلذذ المذيع بالسخرية من الشاب الذي يمسك ثمرة «الكيوي» دون أن يعرف اسمها ... إلخ. هذا كله اصطياد في الماء العكر، على المستوى الإعلامي؛ لأن الفرصة السانحة الآن لا تعوض، والحديد يجب أن يطرق وهو ساخن. أما على مستوى الأحداث نفسها فلا مفر في أن يشك المرء في وجود أصابع أجنبية في تلك التحركات التي تحرض الجماهير على استعجال قطف الثمار، مع أن الإصلاح لم يكد يبدأ إلا بالأمس القريب. ولا أظن أن الحركات الانفصالية والعرقية في الجمهوريات السوفياتية، وهي في الآونة الراهنة أخطر ما يواجه جورباتشوف، تخلو من هذا العنصر التآمري.
وعلى أية حال فإن إشارتي إلى هذا العامل لا تنفي على الإطلاق أن التجربة، بالصورة التي اتخذتها طوال العقود الأخيرة، كانت تحمل في طياتها بذور إخفاق صارخ، وأن ذلك المزيج من الغباء والتسلط والقمع والعناد، الذي كانت تدار به الأمور في بلاد الكتلة الشرقية حتى الأمس القريب، كان هو المسئول الأول عن ردود الفعل العنيفة التي قامت بها جماهير خابت آمالها في أنظمة كانت تقسم ليل نهار بأغلظ الأيمان أنها لا تعمل إلا لصالحها.
الفصل الرابع
هل تصمد النظرية الاشتراكية؟
عندما يجري المرء أية مقارنة بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي، في ظروف العالم الراهنة، فسوف ينتهي حتما إلى تأكيد تفوق الأول على الثاني في نواح هامة وحيوية، على رأسها الاقتصادية. غير أن إجراء مثل هذه المقارنة ينطوي على قدر من الظلم؛ إذ إن التجربة الاشتراكية أولا، أحدث عهدا بكثير من التجربة الرأسمالية، فالأولى امتدت أربعة قرون على الأقل، منذ مطلع العصر الحديث، بينما الثانية لم تبدأ إلا منذ سبعين سنة في دولة واحدة، ومنذ أقل من خمس وأربعين سنة في بقية الدول الاشتراكية في أوروبا وآسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، ومن المتوقع في فترة قصيرة كهذه أن يكون النظام في مرحلة لا يزال يسودها طابع التجريب، وأن يقع خلال تجاربه في أخطاء فادحة.
ومن ناحية اخرى فإن هذه الفترة القصيرة لم تكن على الإطلاق، بالنسبة إلى أصحاب هذه التجربة، فترة هدوء يستكشفون فيها أبعاد تجربتهم ويعملون على تطويرها بصورة إيجابية، وإنما كانت فترة صراع ضد المقاومة الداخلية في البلاد الاشتراكية من جهة، وضد المقاومة الخارجية الضارية التي حاول بها النظام الرأسمالي وأد التجربة الجديدة منذ لحظة ولادتها من جهة أخرى. وفيما يتعلق بهذه النقطة الأخيرة، فلا بد أن نذكر أن العالم، عند مطلع العصر الحديث، كان خالصا للرأسمالية، وكان في حالة «فراغ أيديولوجي»، إن جاز أن نستخدم في وصفه تعبيرا معاصرا، فلم تكن هناك مقاومة تذكر لأن الإقطاع والكنيسة كانا في زمن الأفول، بل يمكن القول، على العكس من ذلك، أن موارد العالم كله قد سخرت من أجل إنجاح التجربة الرأسمالية، وذلك عن طريق الاستعمار وغزو الأسواق واستجلاب الأيدي العاملة المجانية بالرق، إلخ. وهكذا استطاعت الرأسمالية أن تطور نفسها بالتدريج، وتحقق جميع إمكاناتها، في جو عالمي موات وملائم إلى أبعد حد. أما الاشتراكية فقد ظهرت إلى الوجود في وقت كان فيه النظام الذي تسعى هي إلى الحلول محله قد بلغ أوج قوته؛ ومن ثم فإنه قد مارس ضدها منذ بدء ظهورها وحتى اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور، مقاومة ضارية، ولم يدع لها فرصة للتنفس لحظة واحدة في هدوء. ولا ننسى في هذا الصدد التأثير المدمر للحرب العالمية الثانية، التي خرجت منها الدولة الأم في النظام الرأسمالي سليمة متجددة الحيوية، بينما خرجت الدولة الأم في المعسكر الاشتراكي (والوحيدة حين ذلك الحين) محطمة مثخنة بالجراح.
وهكذا فإن أية مقارنة منصفة بين إنجازات النظامين ومستواهما وما حققاه لمجتمعاتهما ينبغي أن تأخذ هذه الفوارق الجوهرية بعين الاعتبار. ومع ذلك فإننا نعتقد اعتقادا راسخا بأن التجربة الاشتراكية، سواء تلك التي بدأت في نهاية الحرب العالمية الأولى أم تلك التي بدأت في أعقاب الثانية، قد ارتكبت أخطاء فادحة لم يكن لها ما يبررها حتى مع عمل حساب جميع الفوارق السابقة. وهذا الرأي لم يعد اليوم مجرد استنتاج فكري، وإنما تؤيده وتؤكده أصوات الجماهير الهادرة في عواصم الدول الاشتراكية ، فلا بد أن يكون هناك خلل واضح في النظام الذي يقوم بناؤه الأيديولوجي على العمل لصالح القاعدة الجماهيرية العريضة، إذا كانت هذه القاعدة الجماهيرية هي ذاتها أول من يثور عليه بضراوة.
ولكن السؤال الذي يشغل العالم بأكمله اليوم، ليس تحديد مدى الخطأ في التجربة الاشتراكية، وإنما هو: هل لا زالت للاشتراكية فرصة للبقاء في عالم اليوم والاستمرار في عالم الغد؟ هل تركت لها تلك الكراهية التي تنضح بها وجوه المتظاهرين الساخطين أملا في أن تظل أيديولوجية رئيسية عندما يحل القرن المقبل، أم أن العقد سينفرط، سواء بالحركات القومية الانفصالية داخل الاتحاد السوفياتي، أو بالتبرؤ من كل ما له صلة بالعهد السابق، في بقية الدول الاشتراكية؟ يبدو لي أن الاشتراكية، كأيديولوجية جماهيرية، تواجه في هذه الأيام أول اختبار حقيقي لها، فحتى خلال الحرب العالمية الثانية، عندما اجتاحت الجيوش النازية الجزء الأكبر من الأراضي السوفياتية الآسيوية، لم يكن الاختبار الذي تتعرض له الاشتراكية بمثل هذه القسوة؛ ذلك لأن تعبئة الشعور الوطني الذي يرتبط بتراث أقدم بكثير من التجربة الاشتراكية، قد أدت دورا هائلا في ذلك الصعود الأسطوري الذي تمكن السوفيات بفضله من إلحاق أفدح الهزائم بالغزاة النازيين، أي أن الاشتراكية لم تكن هي نفسها التي تتعرض للمحنة والاختبار، أما في هذه الأيام فإن المبدأ الاشتراكي ذاته هو الذي أصبح موضع التساؤل، وقدرته على الاستمرار هي التي أصبحت موضع شك.
والمخرج الذي يلجأ إليه المثقفون عادة حين يصادفهم مأزق مماثل لهذا الذي تواجهه الاشتراكية في هذه الأيام، هو التمييز الحاد بين النظرية والتطبيق، فقد أثبتت الأحداث أن التطبيق كان سيئا إلى أبعد حد، وأن أولئك الذين وضعوا على قمة المجتمعات الاشتراكية لكي يكونوا حراسا للمبدأ وأمناء عليه، قد أساءوا إليه بممارستهم اللاإنسانية أبلغ الإساءة، ولكن المثقف يظل مصرا على أن النظرية ذاتها غير مسئولة عن أخطاء التطبيق، وعلى أن ما حدث لم يكن إلا انحرافا للممارسات عن المبدأ القويم. ومع ذلك فإن هذه الإجابة لا تقنع الكثيرين؛ ذلك لأن من حق المرء أن يشك في أية نظرية تعجز عن تجسيد نفسها في الواقع العملي إلى هذا الحد، أو تسفر عن نتائج مخيبة للآمال كلما طبقت.
ولا بد أن تكون النظرية التي تؤدي، في كل مرة تطبق فيها عمليا، إلى ظهور طغاة أو مجموعات حاكمة متحجرة تستغل نفوذها أسوأ استغلال، لا بد أن تكون هذه النظرية مشوبة بعيوب أساسية؛ لأن أحدا لا يستطيع أن يفصل بين الميدان النظري والميدان العملي التطبيقي إلى حد تصويرهما بأنهما ينتميان إلى عالمين متباعدين لا يلتقيان.
نعم، كانت هناك عيوب أساسية في النظرية ذاتها، بالإضافة إلى التجاوزات القاتلة في التطبيق. ولا جدال في أن مناقشة هذه العيوب تقتضي جهدا ووقتا كبيرين، وقد قدم الكثيرون، على مدى سنوات طويلة آراء خصبة في هذا الشأن، يستحيل أن يتسع المجال للحديث عنها في مثل هذا الحيز المحدود، وربما كان الأمر المجدي حقا، في هذا السياق، هو أن نورد أهم ما كشفت عنه الأحداث الأخيرة من عيوب في النظرية ذاتها؛ لأن الوعي بهذه العيوب سيكون هو المدخل إلى عملية التصحيح الكبرى التي ستحاول الاشتراكية القيام بها في الأعوام القليلة القادمة، إذا لم تطرأ عوامل تبدد فرصتها في القيام بأي تصحيح.
أول هذه العيوب تجاهل إنسانية الإنسان، صحيح أن مبدأ الاشتراكية يقوم أصلا على تحرير الإنسان من عبودية الاستغلال الذي يمارسه رأس المال، ومن تعامل الرأسمالية معه كما لو كان «شيئا» يباع ويشترى، غير أن الفكر الاشتراكي قد طور على مر السنين مفهوما للإنسان يؤكد الجانب الاجتماعي فيه أكثر مما يراعي الجانب الفردي، فالإنسان الذي تمجده الأعمال الأدبية والفنية والفكرية، التي تسودها الروح الاشتراكية، سواء أكانت اشتراكية ماركس أم غيره، هو الإنسان الذي تندمج أهدافه كلية مع أهداف المجتمع، وهو الذي ينسى نفسه كفرد له عالمه الخاص، لكي يوحد ذاته مع الكل الأكبر الذي ينتمي إليه. ومن السهل جدا، عند التطبيق، أن يتحول هذا المبدأ، الذي كان هدفه في الأصل نبيلا، إلى مبرر لقهر الإنسان وظلمه ، فما أسهل أن يتهم أي حاكم مستبد مثل ستالين من يعارضه بأنه يتآمر ضد مصلحة المجتمع، فيصدر حكما بإعدامه وهو مرتاح الضمير؛ لأن «الكل الأكبر» هو الغاية القصوى، وفي سبيله يهون كل شيء. وما أسهل أن توضع مصالح «الخطة» الشاملة فوق مصالح فئات كثيرة قد تجد من المستحيل، أو من المرهق، تنفيذها تبعا لرؤية المخططين الذين لا يرون إلا الصورة «الكلية» ويتجاهلون كل ما في داخلها من جزئيات إنسانية. وما أسهل أن تتم التضحية بكثير من ضرورات الحياة في هذا البلد أو ذاك من أجل مصلحة «المعسكر الاشتراكي» ككل. وهكذا فإن المبدأ الذي يوضع في الأصل لتحقيق مصالح أوسع قطاعات من الجماهير، يتحول بالتدريج إلى مبرر فكري لقهر الجماهير وتجاهل مطالبها المشروعة.
ولقد حاول الكثيرون، طوال تاريخ الحركة الاشتراكية، أن يؤكدوا أهمية هذا الجانب الإنساني، ويقنعوا الأحزاب الاشتراكية، سواء أكانت في الحكم أم خارجه، بأن إعطاء جرعة من النزعة الإنسانية إلى مذهب سوف ينشطه ويزيد من عافيته. غير أن هذه المحاولات كانت تصطدم دائما بموقف المدافعين عن «الصرامة» و«القوانين الموضوعية»، وكانت تتهم بأنها اشتراكية «رخوة» أو «غير علمية»؛ لأن الاشتراكية الحقيقية في نظر هؤلاء المتشددين يجب أن تضع في اعتبارها العوامل العامة التي تتحكم في مسار التاريخ، وهذا وحده هو ما يجعلها «اشتراكية علمية» بالمعنى الصحيح، أما تلك الرهافة الإنسانية فإنها تحول السياسة إلى شيء أشبه بالشعر أو الفن. ولعل في هذا ما يفسر، إلى حد بعيد، تلك الأزمات المتلاحقة التي كانت تثور بين سلطة الحزب وبين الفنانين والأدباء، منذ بداية الثورة الشيوعية في 1917م حتى اليوم، ولعل فيه أيضا ما يفسر تلك الظاهرة الفريدة في تاريخ الإنسانية، وهي قيام الجماهير الثائرة على الاستبداد الصارم للحزب في تشيكوسلوفاكيا، خلال الأحداث الأخيرة، باختيار «كاتب مسرحي» رئيسا للجمهورية (وهي فيما أتصور المرة الأولى التي يحكم فيها أحد رجال المسرح بلدا بأكمله؛ مما يطرح تساؤلات طريفة، ينتظر المرء الإجابة عنها بشوق وتلهف، حول الطريقة التي سيتحول بها تفكير «هافيل» من استخدام خياله في تحريك شخوص المسرح وأحداثه بحرية كاملة، إلى استخدام عقله في تحريك أوضاع الاقتصاد والدبلوماسية والدفاع في عالم الواقع الذي لا يلين!) - هذا فضلا عن الدور الكبير الذي أسهم به الأدباء والفنانون والكتاب في أحداث البلاد الشرقية الأخرى، والاتحاد السوفياتي نفسه، ووصول عدد منهم إلى مراكز قيادته في المجر ورومانيا وغيرهما بعد الثورات الجماهيرية الأخيرة.
إن التجاء الشعوب إلى الكتاب والفنانين في مثل هذه الظروف يمثل رد فعل واضحا على تجاهل الإنسان النابض بالحياة في الأنظمة السابقة سعيا لا شبهة فيه من أجل إضفاء اللمسة الإنسانية التي حرمت منها تلك الشعوب طويلا، باسم «الموضوعية العلمية» على أسلوب إدارة المجتمع في تلك البلاد. وإذا كانت تلك التحولات تبدو في ظاهرها ثورة على التطبيق السيئ لمبدأ نبيل، فإنها في حقيقتها احتجاج على عناصر أساسية في المبدأ نفسه، تفتح المجال واسعا أمام كل من يريد إساءة التطبيق.
لقد كانت «الاشتراكية الإنسانية» توصف دائما بأنها «حريفية»، بل لقد بذلت محاولات لإلقاء ظل من النسيان على كتابات هامة لكارل ماركس، ألفها في وقت مبكر، لمجرد أنها تؤكد هذا الجانب الإنساني في الاشتراكية، مع أن هؤلاء الذين تجاهلوها لم يكونوا يتركون سطرا واحدا لماركس دون أن يحللوه ويستشهدوا به، ووصل الأمر ببعضهم إلى حد النظر إلى هذه الكتابات كما لو كانت تمثل المرحلة «الجاهلية» في فكر ماركس، قبل أن تهبط عليه «رسالة» الاشتراكية العلمية، وكم من اشتراكيين مخلصين طردتهم الأحزاب الشيوعية لمجرد أنهم سعوا إلى تطعيم النظرية بهذا الجانب الإنساني، فقد كانت تدور داخل تلك الأحزاب عملية «تكفير» مماثلة لما نجده لدى أشد الجماعات الإسلامية المعاصرة تطرفا، وكان الدفاع عن شكل من أشكال الحريات «الليبرالية» كافيا لطرد صاحبه من الحزب، وهو ما يعني الخروج من الجنة، والحكم عليه بأن يظل مشردا منبوذا.
وقد ينتهز المعسكر الآخر الفرصة كيما يجتذب هذا المطرود أو يستغل انتقاداته في دعايته ضد خصومه، فيتمزق صاحبنا من الداخل، ويظل عاجزا عن الانتماء، وتغمره الحسرة الأبدية وهو يرى التيار العام للمعسكر الذي يؤمن به يسير في طريق غير طريقه.
وإني لعلى يقين من أن جورباتشوف لو كان قد ظهر بأفكاره هذه في العهد الستاليني، أو كان قد جهر بها صراحة في «عصر الجمود» أيام بريجنيف، لاتهم بأنه أكبر تحريفي، ولكان الآن مجرد ذكرى باهتة لسياسي معارض مدفون في سيبريا، أو محكوم عليه بشغل وظيفة كاتب صغير في مزرعة جماعية نائية. ولكن من حسن حظ جورباتشوف - وحظ العالم - أن أفكاره لم تظهر بكل أبعادها الإنسانية والديمقراطية إلا بعد أن أصبح مستقرا في الحكم، قادرا على دعم هذه الأفكار بكل الثقل الذي يضفيه الوجود في السلطة. ولعل في هذا تطبيقا آخر لتلك القاعدة التي يزخر عالمنا العربي بأمثلة صارخة لها، وأعني بها أن الفرق بين الحاكم الوطني حبيب الشعب وولي نعمته، وبين العميل الخائن عدو الشعب والمحرض على الفتنة، كثيرا ما يكون هو الفرق بين النجاح في الاستيلاء على السلطة والإخفاق فيه!
وإذا كنا قد توسعنا في الحديث عن هذا العيب الأول في النظرية الاشتراكية، فذلك لأنه هو الأصل الحقيقي لمعظم الأخطاء الأخرى التي وقعت فيها تلك النظرية، فمن السهل، مثلا، أن ينتقد المرء منهج التفكير لدى معظم الماركسيين الكبار بأنه منهج «سلطوي» أكثر مما ينبغي. وأعني بالسلطوية أن كتابات ماركس وإنجلز، ومن بعدهما لينين، ينظر إليها كما لو كانت هي المرجع الأول والأخير في كل مشكلة تواجه الفرد أو المجتمع، ولا بد لكي يثبت الكاتب أنه مخلص للأيديولوجية، من أن تمتلئ كتابته بالهوامش التي تشير إلى اقتباسات من ماركس أو لينين. وكثيرا ما يشعر المرء بأن الاقتباس مصطنع، لا يقصد به إلا إثبات «ولاء» الكاتب؛ لأن الموضوع يتناول مشكلة مستجدة يستحيل أن يعمل مفكر في القرن التاسع عشر أو أوائل القرن العشرين، مهما علت مكانته، حسابا كاملا لها، (ولست في حاجة إلى تنبيه القارئ، في هذه الحالة أيضا، إلى التشابه الواضح مع المنهج الفكري لكثير من منظري الحركة الإسلامية المعاصرة).
وليس هذا النقد مجرد خطأ منهجي له تأثيره على الميدان الثقافي فحسب، بل إن تأثيره يمتد إلى مجالات واسعة؛ إذ إن اتباع هذا الأسلوب يشجع النفاق الفكري، ويجعل المتملقين هم الأقدر على التسلق إلى قمة المجتمع، وهو يحول دون ظهور التجديد والإبداع في ابتكار أساليب تتم بها مواجهة المشكلات في عالم سريع التقلب؛ ومن ثم فإنه مسئول إلى حد بعيد عن كل ما تتصف به الفترات السابقة على جورباتشوف من جمود.
وأخيرا، فإن من أوضح العيوب النظرية في الفكر الاشتراكي السائد حتى عهد قريب، إفراطه في التنظير، فقد كان إخضاع الواقع المتغير للقوالب المستمدة من النظرية الماركسية سمة أساسية لهذا الفكر، وكان المبرر الذي يقدم لذلك هو أن من المستحيل على أية حركة سياسية أن تنجح في ممارستها ما لم تسترشد «ببوصلة» فكرية تعلو بها على مستوى الارتجالية والتخبط. والمبدأ في ذاته سليم، غير أن الإفراط في استخدامه كثيرا ما يؤدي إلى نتائج عكسية، ففي حالات كثيرة لم تكن الأحزاب الماركسية تخطو خطوة واحدة إلا بعد أن تقوم بتحليلات نظرية شاملة للموقف في ضوء النظرية الأم. وأعجب ما في الأمر أن هذه التحليلات كثيرا ما كانت تتناقض فيما بينها، فيصل حزب إلى نتيجة معينة، ويصل حزب آخر، أو الحزب الأول نفسه في مرحلة لاحقة، إلى نتيجة مضادة، إزاء الظاهرة الواحدة، مستخدمين نفس المنهج. وكثيرا ما كان يتكرر هنا نفس الخطأ الذي لاحظه فلاسفة العصر الحديث على علماء اللاهوت في العصور الوسطى حين كانوا يجعلون من القوالب اللفظية حاجزا كثيفا يحجب عنهم عالم الواقع بكل ما فيه من ثراء وتغيير، بل إن بعض الشباب المنتمين إلى حركات يسارية كانوا يقضون الليالي في التراشق برطانات لفظية وتقليب مجموعة من الكلمات الضخمة المحفوظة ذات اليمين وذات اليسار، ويخرجون من السهرة قريري العين، متوهمين أنهم تمكنوا بذلك من تحليل الواقع المعقد وحل مشاكله.
هذا الاتجاه إلى الإفراط في إخضاع الواقع للنظرية، بدلا من إخضاع النظرية للواقع، كما ينبغي أن يفعل أي تيار سياسي يريد حقا أن يكون له دور فعال؛ يبدو لي ناجما عن الأصول الهيجلية للفلسفة الماركسية . وأرجو ألا ينزعج القارئ من هذه الإشارة التي قد لا تكون واضحة لدى الكثيرين، ولكني لن أطيل في هذا الموضوع الفلسفي المعقد، ويكفي أن أشير إشارة عاجلة إلى أن فكر ماركس، وهو أكبر بناء متكامل للفلسفة المادية، قد انبثق عن فكر هيجل الذي شيد أعظم بناء نظري متكامل للفلسفة المثالية، يخضع الكون والتاريخ والفلسفة والفن لإطار فكري واحد. وكان لا بد أن يؤثر هذا الأصل في تحديد المنهج الفكري الذي يسير عليه ماركس والماركسيون، وأن يكون منهج الرجوع الدائم إلى القالب النظري الجاهز داء مستحكما في الفكر الاشتراكي اللاحق، يمارس تأثيره ويترك بصماته بوضوح على الممارسات العملية لمعظم التجارب الاشتراكية في الحكم.
ومن الطريف أن يقارن المرء بين هذا المنهج الفكري الذي سارت عليه التجارب الاشتراكية، وبين الأسلوب الذي تتخذ به القرارات الهامة في قلعة النظام الرأسمالي، أعني في أميركا. ففي أميركا تسود فلسفة مضادة، قوامها أن «ما ينجح عمليا هو الصحيح» (وهو المبدأ الأساسي في الفلسفة البرجماتية، التي هي من حيث الأصل فلسفة أميركية خالصة)؛ ويترتب على ذلك أن العقلية الأميركية لا تسرف في التحليل النظري، ولا تعبأ كثيرا بتفسير الأحداث من خلال قوالب مسبقة، وإنما تعالج كل حالة على حدة، وتتصرف فيها تبعا لمقتضياتها الخاصة، وتشكل نفسها تبعا لكل موقف. وعلى حين أن الفكر الماركسي يسرف كثيرا في الحديث عن قوانين التاريخ، وعن حتمية التحولات الكبرى فيه، ويصل في ذلك أحيانا إلى حد تغليب النظرية على الواقع المعقد المتجدد، فإن طريقة التفكير الأميركية تنحني مع الواقع كيفما تشكل، وتكاد في التزامها بهذا الواقع أن تلغي النظرية من الأساس.
ويؤدي الإسراف في الفكر النظري إلى الإفراط في التنبؤ، فيبدو التاريخ وكأنه مراحل حتمية لا مفر من حدوثها؛ وعلى ذلك فكما انتقل التاريخ من مرحلة العبودية إلى مرحلة الإقطاع، ومن الإقطاع إلى الرأسمالية، فلا مفر من أن تكون الخطوة التالية هي الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية فالشيوعية. ويصور هذا الانتقال كما لو كان قدرا محتوما لا فكاك منه، ويقنع الماركسي المتحمس نفسه بأن هناك قوة تعلو على الأفراد والأنظمة والحكومات، اسمها «حتمية التاريخ»، تعمل على دفع الأحداث في الاتجاه الذي تتنبأ به النظرية، وأية مقاومة لحتمية التاريخ هذه لن تكون لها من نتيجة سوى أن ترجئ المحتوم بعض الوقت، ولكن ما سيحدث لا بد أن يحدث. وعلى هذا الأساس ساد التفاؤل المطلق بين الماركسيين الأوائل في أعقاب ثورة 1917م، وكان منهم كثيرون ينتظرون اللحظة التي تسقط فيها الرأسمالية كالثمرة المعطوبة. وبرغم تقلب الأحداث وتعقد الواقع وتجاوز إطار النظرية مرارا، ظل التفاؤل هو النغمة الغالبة، حتى رأينا خروتشوف يهتف في وجه الرأسماليين الأميركيين في عام 1956م: «سندفنكم!» ويتنبأ من خلال تحليلات «علمية» مبنية على قوالب النظرية أكثر مما هي مرتكزة على معطيات الواقع، أن الاقتصاد في البلاد الاشتراكية سوف يلحق بالاقتصاد الرأسمالي في عام 1980م، ثم يتجاوزه بعد ذلك بمراحل. ويسجل هذا التنبؤ الخطير في وثيقة عظيمة الأهمية، هي أعمال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي.
كل هذا التفاؤل كان مبنيا على تلك السمة التي أشرت إليها أكثر من مرة من قبل، وهي تحليل التاريخ من طرف واحد، هو الطرف الذي ينتمي إليه المحلل نفسه، وعدم حساب ردود الفعل المتغيرة والمتجددة التي يقوم بها الطرف الآخر من أجل إفساد هذا التنبؤ وإبطاله. والأساس الذي يرتكز عليه هذا الخطأ المنهجي هو الاعتقاد بأن المرء يمتلك الحقيقة المطلقة، وكل ما عداها تحريف أو انحراف أو بطلان صريح (هل هناك حاجة إلى إشارة أخرى إلى التشابه بين هذا الإطار الفكري وبين نظيره في الأصولية الإسلامية المعاصرة؟) ومن هنا تأتي الثقة الزائدة بالنفس؛ لأنه لا شيء يبعث على هذه الثقة بقدر اعتقاد المرء بأن التاريخ يسير لصالحه، أو بأنه يمثل في سلوكه إرادة التاريخ، وما دام يسير في الاتجاه الصحيح لحركة التاريخ، فماذا يضير لو حدثت أخطاء هنا أو تجاوزات هناك؟ ولماذا يستمع الحاكم إلى أصوات المعارضين أو يحترمها، ما دام يعلم أن هذه الأصوات تعارض حتمية التاريخ، التي يجسدها هو نفسه.
ولكن المفارقة الساخرة تظهر في أن أولئك الذين كانوا دائما واثقين من امتلاكهم لناصية التطور، ومعرفتهم لاتجاه المستقبل، وتجسيدهم لحتمية التاريخ، هم الذين فشلت تنبؤاتهم، ولم تتحقق «حتمياتهم»، على حين أن أصحاب الأيديولوجية المضادة، الذين يفكرون يوما بيوم، وحادثا بحادث، هم الذين تحكموا بصورة أكبر في مجرى التاريخ المعاصر. وهكذا كان الدرس واضحا: من يظن أن التاريخ حصان يمكن امتطاؤه، سينتهي به الأمر إلى أن يمتطيه التاريخ ... تعقد الحياة المعاصرة لا يمكن استيعابه إلا بالمزيد من المرونة، والإقلال من الحديث عن «الحتميات»؛ لأن التاريخ في نهاية الأمر ينقاد لمن يشكله، لا لمن يتشكل به.
إن سلسلة المآسي التي حدثت أمام أعيننا في أوروبا الشرقية إنما هي نموذج واضح كل الوضوح للأخطاء التي تتفاعل فيها النظرية مع التطبيق، فقد كانت في النظرية ذاتها ثغرات، حاولنا أن نكشف هنا عن بعض من أهمها، هي التي فتحت الباب للأخطاء الفادحة في التطبيق، ولم يعد هناك مجال للقول إن النظرية تظل محتفظة بعصمتها وقدسيتها، وإن من يتبنونها هم وحدهم المدنسون، فلا مفر من العودة إلى الجذور، واستئصال ما جف منها وما ذبل.
وفي تصوري أن جورباتشوف، الذي ينتمي إلى جيل لم يشارك في الأحداث الرائدة الأولى ولم يغرق في جدليات الثورة العالمية أو الثورة المحلية، هو أول زعيم ينظر إلى الاشتراكية بوصفها هدفا إنسانيا رحبا، يمكن أن يتخذ أشكالا متباينة، ولا يتعين حصره في قالب واحد. ومن المؤكد أنه أدرك أن العناد المفرط والثقة الزائدة التي كان يتصرف بها أولئك الذين كانوا يعتقدون أن «حتمية التاريخ» تعمل لصالحهم، هو الذي يمكن أن يقضي على التجربة من أساسها، فجميع تصرفاته تدل على أنه يدعو إلى إدخال عنصر المرونة في النظرية نفسها، إلى جانب العنصر الإنساني في التطبيق.
الفصل الخامس
هل ثبتت رؤية هلال الرأسمالية؟
في كل مجتمعات العالم تحدث تغيرات، وكثير من هذه التغيرات يسفر عن تحولات جذرية في بنية المجتمع، ومع ذلك فإن التغيرات التي حدثت خلال العام الماضي في بلدان الكتلة الشرقية هي التي أثارت اهتمام العالم بوصفها إيذانا بمرحلة جديدة في تاريخ البشرية، وهي التي حفزت الكتاب والمعلقين إلى تجنيد أقلامهم وحشد أذهانهم في محاولة للاهتداء إلى معالم في ذلك الطريق الذي أصبحت العواطف تغلفه بالضباب من كل جانب. وربما كان أحد أسباب هذا الاهتمام، ذلك التماسك الشديد والصلابة الفائقة التي كانت تبدو عليها أوضاع الكتلة الشرقية. ولست أعني بذلك أن الأنظمة الحاكمة في تلك البلاد كانت تستند إلى جبهة داخلية قوية، وإنما الذي أعنيه أن هذه الأنظمة رتبت أوضاعها بحيث تظل متمسكة بالسلطة إلى أجل غير محدود، واستبعدت منذ البدء آليات التغيير السلمي للجهاز الحاكم. ومن أجل هذا السبب بالذات، كان من الطبيعي أن تبدو أية محاولة لتغيير السلطة، كما حدث في الآونة الأخيرة، انهيارا للنظام بأكمله.
لقد تعرض العالم الغربي في العقود الأخيرة من تاريخه لتحولات كثيرة، منها على سبيل المثال وقوف دول أساسية فيه، كفرنسا وإسبانيا، موقفا سلبيا من المشاركة العسكرية في حلفه العسكري الأكبر، حلف الناتو «شمال الأطلنطي»، بعد أن حكمتها في السنوات الأخيرة أحزاب اشتراكية ديمقراطية، بل إن العالم الغربي شهد حالات تحول من النظام الرأسمالي إلى نظام ماركسي صريح، كما حدث في شيلي عند فوز الليندي في أوائل السبعينيات. وفي الولايات المتحدة نفسها، شهد النظام الرأسمالي انهيارا خطيرا خلال الأزمة الاقتصادية الكبرى عام 1929م، وترتبت على هذه الأزمة كوارث اقتصادية هائلة دامت سنوات عديدة، ولحقت أضرارها جميع البلاد المرتبطة بالنظام الرأسمالي. وكانت أوسع التحليلات انتشارا تؤكد أن هذه الأزمة ليست عارضة على الإطلاق، وإنما هي تعبير عن خلل متأصل في بنية النظام الرأسمالي ذاته.
ومن السهل أن يدرك القارئ أن شبح هذه الأزمة ما زال مخيما على العالم الرأسمالي حتى يومنا هذا.
بل إن ظهور الأنظمة الفاشية والنازية في إيطاليا وألمانيا واليابان وإسبانيا في فترة ما بين الحربين العالميتين، وكثير من نظائرها وامتداداتها في دول العالم الثالث منذ الحرب العالمية الثانية، هو في رأي الكثيرين تعبير عن أزمة هيكلية في النظام الرأسمالي، ومحاولة غير موفقة للخروج من إسار الأزمة. خلاصة القول أن ما يمر به العالم الاشتراكي من مشكلات خطيرة ليس هو الحالة الوحيدة لظهور أزمة عميقة في هيكل نظام عالمي رئيسي، ومع ذلك فإن الأذهان قفزت مباشرة، في هذه الحالة الأخيرة بالذات، إلى استنتاج سريع هو أن التجربة الاشتراكية كلها قد أفلست، وأنها لم تكن منذ البدء إلا حالة عارضة أو «وعكة» أصابت قطاعا من البشر وسرعان ما تزول ليعود العالم كله رأسماليا كما كان قبل 1917م، فلماذا يصدر المحللون أحكاما كهذه الآن، بينما لم يقل أحد (باستثناء بعض الماركسيين) أن بناء النظام الرأسمالي ذاته كان لا بد أن ينهار بعد الكساد العظيم في 1929م، أو أن الرأسمالية لا بد أن تنبذ لأنها أفرزت، بشكل مباشر أو غير مباشر، أنظمة دكتاتورية كأنظمة هتلر وموسوليني وفرانكو وسالازار؟
أغلب الظن أن الرد على هذا التساؤل يكمن في تلك المرونة الهائلة التي تواجه بها الرأسمالية أزماتها، وفي قدرتها الفائقة على إعادة التكيف بعد كل مأزق خطير تقع فيه، على حين أن الأنظمة الاشتراكية تجمدت وتحجرت إلى حد بدت معه وكأنها إما أن تحافظ على أوضاعها دون تغيير، وإما أن تنهار انهيارا تاما.
وفي وسعنا أن نوضح الفارق بين الاثنين بالمقارنة بين كرة الطاولة (البنج بونج) والبيضة، فالأولى تقفز وترتد سليمة إذا أسقطت أو ضربت، والثانية تنكسر وتسيل بمجرد أن تصطدم قشرتها بأي جسم صلب. وبالمثل فكما أن الرأسمالية تستطيع أن تتخذ ألف شكل وشكل، وتظل مع ذلك رأسمالية، فإن الاشتراكية كما طبقت في أوروبا الشرقية لم تكن تستطيع التخلي عن طابعها الثابت والمتصلب إلا إذا عرضت بقاءها واستمرارها للخطر.
وفي تصوري أن هذه السمة بالذات كانت جزءا أساسيا من خطة الإصلاح التي وضعها جورباتشوف وحرص على تطبيقها في دول أوروبا الشرقية، ومهد لها بقبول هذه التحولات العنيفة. فلماذا لا تصبح الاشتراكية بدورها نظاما مرنا، يقبل التطور ويتكيف وفقا لمتطلبات العصر؟ ولماذا تحمل الفرنسيون والألمان الغربيون والأميركيون مظاهرات 1968م العارمة، التي شارك فيها الملايين من الطلاب والمهنيين والعمال، وظل نظامهم في أساسياته سليما، بينما تضطر الجيوش السوفياتية إلى التدخل كلما حدث اضطراب واسع الأبعاد في أي بلد اشتراكي؟ لماذا لا تتخذ هذه البلاد لنفسها آليات تسمح لها بامتصاص سخط الجماهير على أنظمتها، إذا ارتكبت أخطاء فادحة، وتتيح لها تصحيح مسارها واكتساب ثقة هذه الجماهير من جديد؟
لماذا يسود دائما هذا البديل الانتحاري: إما بقاء كل شيء على حاله بقوة السلاح، وإما انهيار كل شيء؟ من المؤكد أن إعلان جورباتشوف الصريح أن جيوشه لن تتدخل لمساندة أي نظام يثور عليه شعبه، وإشاراته الواضحة إلى أنه لن يؤيد القيادات الستالينية المتحجرة، بل ومشاركته الإيجابية، على ما يقال - في إزاحة بعض هذه القيادات، مع إدراكه للنتائج الخطيرة التي يمكن أن تترتب على ذلك، وفي المدى القريب على الأقل، بالنسبة إلى وحدة المعسكر الاشتراكي وتماسكه - كل هذا دليل على أن سياسته تسعى إلى أن تضيف إلى التجربة الاشتراكية عنصرا هاما تتفوق عليها فيه الرأسمالية تفوقا ملحوظا؛ وهو عنصر المرونة في اختيار الشعب للجهاز الحاكم، وتبني آليات التغيير السلمي للحكومات، دون حاجة كسر القشرة المتصلبة. وبطبيعة الحال فإن الكثيرين قد هللوا وصفقوا لهذا التحول الذي بدا في ظاهره تراجعا خطيرا، وكان لسان حالهم يقول: ألم نقل لكم إن الاشتراكية بدعة زائلة؟ ها هي ذي تقتبس أهم مبادئ الحكم والسياسة من العالم الرأسمالي، وتتراجع عن طابعها «الشمولي»، الذي كان أهم سماتها المميزة، فماذا يتبقى بعد ذلك من الاشتراكية؟ على أننا سنرجئ مناقشة الشطر الأخير من هذا السؤال، وأعني به: هل يتبقى من الاشتراكية شيء إذا اتبعت آليات التغيير الديمقراطي المعروفة في الرأسمالية - سنرجئ هذه المناقشة حتى الفصل التالي. أما الآن، فلزام علينا أن نناقش الشطر الأول، وأعني به دلالة اقتباس الاشتراكية لمبادئ هامة تنتمي إلى صميم التجربة الرأسمالية.
إن الحكم على موضوع الاقتباس هذا، ينبغي أن ينظر إليه في سياق أوسع، تتأمل فيه مليا تلك العناصر العديدة التي سبق للرأسمالية أن اقتبستها من النظام الاشتراكي؛ ذلك لأن النظام الرأسمالي قد عدل هيكله مرارا، وفي كل مرة كان يدمج في داخله مبدأ من المبادئ التي تنادي بها الاشتراكية، ولكن بعد تعديله بحيث يلائم إطاره العام. ولا شك أننا قرأنا كثيرا عن تلك الفوارق الهائلة بين الرأسمالية المعاصرة، وبين رأسمالية القرن التاسع عشر التي تنبأ كارل ماركس بانهيارها، بوصفها مرحلة في التاريخ أدت مهمتها وأصبح من الضروري تجاوزها إلى مرحلة أرقى. وفي معظم الأحيان يشار إلى هذه الفوارق بوصفها دليلا على إخفاق تنبؤات ماركس عن انهيار الرأسمالية الحتمي من جهة، وعلى قابلية الرأسمالية للتكيف والتطور من جهة أخرى. ولكن السؤال الحاسم في هذا الصدد هو: هل جاءت هذه التطورات الهامة من قلب الرأسمالية نفسها؛ أعني هل من طبيعة هذا النظام أن يطور نفسه بحيث يعطي العمال مزيدا من الحقوق، ويضمن لهم نصيبا - يقل أو يزيد - من التأمينات الاجتماعية والصحية، ويتبع في سياسته الاقتصادية والاجتماعية قدرا - يقل أو يزداد أيضا - من التخطيط ... إلخ؟ الواقع أن التعديلات والتصحيحات التي أدخلها النظام الرأسمالي على مساره، كانت في جوهرها ردود فعل على وجود نظام مضاد ...
وليس معنى ذلك أن الخوف من ذلك النظام المضاد هو وحده الذي دفع الرأسمالية إلى تطوير نفسها، بل إن هذا التطور قد حدث من أجل قطع الطريق على أية دعوة إلى شكل من أشكال الاشتراكية بين عمال البلاد الرأسمالية، ومن أجل تقديم نموذج يبدو في نواح كثيرة، أكثر ازدهارا من النظام البديل. وإذا كنا قد توسعنا من قبل في الحديث عن سباق التسلح بوصفه وسيلة بارعة - وقاتلة - ابتكرها النظام الرأسمالي من أجل إيقاف نمو الاشتراكية، وقلنا إن التنافس في ظل هذا السباق كان أمرا استحال على ماركس أن يعمل له حسابا في نظريته، فإن ما نتحدث عنه الآن، أعني قدرة الرأسمالية على تصحيح مسارها بتبني بعض مبادئ النظام الاشتراكي من أجل إسقاط دعوى الاشتراكية بأنها هي التي تمثل مصالح العمال في كل مكان، كانت بدورها تطورا لم تعمل له النظرية الماركسية حسابا، فقد افترضت هذه النظرية أن الحركة الاشتراكية ستنشط وتنمو وتجتذب مزيدا من عمال البلاد الرأسمالية يوما بعد يوم، بينما تظل الرأسمالية على ما هي عليه، وتسعى إلى امتصاص أكبر قدر من «فائض القيمة» من العمال ؛ لأن الأفعى لا تمتلك إلا أن تكون سامة، غير أن النظام الرأسمالي استطاع أن يواجه هذا الهجوم ببراعة، وأن يطور نفسه في مواجهة أنواع عديدة من الأزمات، وتخلى عن عناصر كثيرة من تلك الرأسمالية التي كتب عنها ماركس، ولكنه كسب في مقابل ذلك قدرة كبيرة على الصمود والبقاء.
والخلاصة إذن أن ما استعارته الرأسمالية من الاشتراكية ربما كان يفوق بكثير، في تنوعه واتساق نطاقه، كل ما يبدو أن الاشتراكية تستعيره الآن من الرأسمالية.
ومع ذلك فإن أجهزة الإعلام الغربية لا تصور ما يحدث الآن على أنه مرحلة تصحح فيها الاشتراكية مسارها، تماثل عشرات المراحل التي سبق للرأسمالية أن صححت فيها مسارها باستعارة عناصر من الماركسية ذاتها، وإنما تصوره على أنه انهيار وسقوط نهائي للاشتراكية. فإذا كانت الأيديولوجية تسقط بمجرد أن تستعير عناصر أساسية من أيديولوجية أخرى، فلماذا إذن لم تسقط الرأسمالية الحالية التي تحمل سمات لن يستطيع آدم سميث، لو بعث حيا من قبره، أن يتعرف على رأسماليته التقليدية في سمة واحدة منها؟
إن الرأسمالية لو كانت قد تركت لنفسها، دون وجود أيديولوجية منافسة تملك تأثيرا دوليا كبيرا، وتمارس تأثيرها أيضا على الطبقات العاملة والمثقفة داخل الدول الرأسمالية ذاتها - لما سار تطورها في اتجاه تحقيق مصالح للعمال، كما يحدث بالفعل في البلاد الصناعية المتقدمة. وأبسط دليل على ذلك ما تمارسه الرأسمالية من استغلال بشع للعمال والفلاحين الفقراء في بلاد العالم الثالث، فحين تفتتح إحدى الشركات متعددة الجنسية مصنعا في بلد فقير، تكون شروط العمل في هذا المصنع، وليس الأجور فحسب، أسوأ بما لا يقاس من نظائرها في مصانع البلاد المتقدمة. وحسبنا أن نشير هنا إلى الفرق بين مصانع شركة «يونيون كاربايد» في أميركا نفسها والمصنع الذي كان تابعا للشركة نفسها في الهند، حيث وقعت حادثة تسرب الغاز السام المشهورة في مدينة «بوبال» منذ سنوات قلائل، وتساقط المئات من العمال وأسرهم كالذباب، ووقف أصحاب الشركة يدافعون عن أنفسهم بوقاحة أمام رأي عام عالمي ساخط، ويستأجرون أبرع المحامين حتى لا يدفعوا إلا أقل القليل من التعويضات لأهل البلدة المنكوبة. وقل مثل هذا عن أية مقارنة يجريها المرء بين أوضاع العامل الزراعي الأبيض في أية مزرعة من مزارع الجنوب الأميركي، وأوضاع العمال التعساء الذين تقوم «شركة الفواكه المتحدة» بتشغيلهم بأبخس الأجور وفي أسوأ الأوضاع، لكي تكسب هي الملايين من مزارعها في جواتيمالا وهندوراس وغيرها من «جمهوريات الموز» التعيسة في أميركا الوسطى.
ولو أمعنا النظر في هذه المقارنة، لتبين لنا أن الفارق الوحيد بين الحالتين هو أن العمال لديهم في الحالة الأولى من الوعي ما يسمح لهم بالكفاح الفعال من أجل حقوقهم، فلا يجد النظام مفرا من إرضاءهم، أما في الحالة الثانية فإن تعاسة العمال وفقرهم وأميتهم، وتعرضهم الدائم لبطش الأنظمة الدكتاتورية التي تفرضها الشركات الأميركية العاملة في أراضيهم، كل ذلك يجعل صوتهم غير مسموع، وما دام خطرهم ضئيلا فلماذا ترهق الرأسمالية نفسها بتحسين أوضاعهم؟
على أن الرأسمالية تعيش من أواخر عام 1989م فترة ترتفع فيها معنويات أنصارها إلى السماء، ويتغزل فيها الكثيرون، وينادي الكتاب، الذين لم يكونوا يجرءون حتى عهد قريب على الدفاع صراحة عنها، بأنها هي النظام الطبيعي للإنسان، أو هي النظام السوي، وكل نظام آخر هو انحراف لا بد - مهما طال الزمن أو قصر - أن تشفى منه المجتمعات التي يشاء سوء حظها أن تقع فريسة له، ولا مفر للمرء، حين يجد أن هذا الغزل المكشوف قد تجاوز حدوده، من أن يعود إلى تذكير الناس بأبسط البديهيات التي يبدو أن انفجارات أوروبا الشرقية قد أفقدتهم الوعي بها.
إن المهللين للرأسمالية، بوصفها النظام الطبيعي الذي منه بدأ عصرنا الحديث وإليه يعود، يصفقون ابتهاجا لسقوط الإمبراطورية الشيوعية، وقد أوضحنا في الفصل السابق أن كثيرا من العناصر التي انتهجتها المجموعة الشيوعية كان يستحق السقوط بالفعل، وأن انهيار ممارستها القمعية أمر لا ينبغي أن يأسف له أي إنسان مستنير، ومع ذلك فإننا حين نتحدث في هذا الصدد عن «إمبراطورية شيوعية » نستخدم الكلمة بمعنى مجازي، على حين أن الرأسمالية كانت لها إمبراطوريات بالمعنى الحقيقي والدموي، وهي إمبراطوريات لم تكتف بإخضاع شعوب العالم الثالث لهيمنتها، وإنما امتصت دماءها طوال قرون عديدة، وقتلت من أبنائها عشرات الملايين، وخاصة في المناطق المجهولة والمنسية كإفريقيا السوداء، وأوقفت نموها، وزرعت التخلف والاعتماد على الغير في مجتمعات كانت لها، قبل العهد الاستعماري، حياة كريمة مكتفية بذاتها إلى حد بعيد.
هذه بديهيات معروفة، ولكن المرء يجد نفسه مضطرا إلى التذكير بها في مرحلة التزييف الفكري التي نعيشها في أيامنا هذه، وفي زمن خروج الجرذان من الجحور بعد بيات شتوي طويل، فهل يكون من حقنا، ونحن نستنكر الاستبداد الذي كانت تمارسه الأنظمة الشيوعية الحاكمة على شعوب رومانيا أو بولندا أو المجر، أن نصل إلى حد ننسى معه فظائع الاستعمار، الذي هو الابن الشرعي للرأسمالية، في الكونغو وكينيا وأنجولا وبقية القارة الإفريقية ومعظم بلاد آسيا؟ هل من حقنا أن ننسى وجود إمبراطورية أميركية بكل معاني الكلمة، حتى عهد قريب، في أميركا اللاتينية؟ هل من حقنا أن ننسى أن الرأسمالية لا تزال حتى هذه اللحظة تمارس أساليب الاستعمار التقليدي في غزو الجيوش الجبارة لبلاد صغيرة مغلوبة على أمرها مثل جرينادا وبنما حيث يتداخل القهر الاستعماري مع الاستغلال الاقتصادي مع استخدام عصابات المرتزقة مع فرض أبشع أنواع الدكتاتورية العسكرية؟ الحق أن المرء يحار في تفسير الاهتمام المفرط بالمصير الذي حل بأوروبا الشرقية على أيدي الشيوعيين، والتجاهل التام لمصير بلاد العالم الثالث على أيدي الرأسمالية.
أيكون ذلك راجعا إلى أن الأوروبيين شعوب راقية، لا يصح أن تهان أو تظلم، على حين أن الإفريقيين والآسيويين والأميركيين اللاتينيين ملونون أو مختلطون، لا تجوز عليهم الرحمة، ولا تنطبق عليهم مواثيق حقوق الإنسان؟
إن للمرء كل الحق في أن ينتقد بشدة الأوضاع الجائرة التي فرضتها الأحزاب الشيوعية على أوروبا الشرقية، غير أن الخطورة الحقيقة تكمن في القفز من هذا الانتقاد إلى الثناء العاطر على الرأسمالية، فهذه نقلة غير جائزة، وخاصة بين شعوب العالم الثالث التي اكتوت، وما تزال، بنار الاستعمار وتسلط رأس المال.
وحقيقة الأمر أن الرأسمالية تظل ظالمة وغير إنسانية، بغض النظر تماما عما يحدث في الكتلة الشرقية.
لا مفر في وقت تغيم فيه الرؤية وتغيب الحقائق الواضحة، من أن نواصل التذكير بالبديهيات، فالأنظمة الشيوعية قد أخفقت في أن توفر لمجتمعاتها مستوى جيدا من الغذاء ... هذا خطأ فادح بلا شك، ولكن أيهما أكثر شرا: ذلك النظام الذي يصل الخلل والإهمال فيه إلى حد العجز عن الوفاء باحتياجات أساسية للبشر، أم ذلك النظام القادر على أن ينتج ما يفيض عنه، ولكنه يحرق الحليب والزبد، ويلقي بفوائض المواد الغذائية إلى البحر حتى لا تنخفض أسعارها؟ إننا لا نشير هنا إلى ما كان يحدث أميركا أيام الكساد العظيم في أواخر العشرينيات فحسب، بل إلى ما حدث في أواخر الثمانينيات وفي قلب السوق الأوروبية المشتركة، وفي الوقت ذاته الذي كان مئات الألوف فيه يموتون جوعا في القارة الإفريقية. ومع ذلك فإن هذا العيب في حالة النظام الرأسمالي، ليس ناجما عن سوء إدارة أو أي خلل طارئ، وإنما هو جزء من طبيعة النظام وآلياته وبنيته الأساسية.
هل نواصل التذكير ببديهيات أخرى، فنقول إن الحريات، التي كانت مكمن الضعف في أسلوب الحكم السائد في المنظومة الاشتراكية كلها، ليست مكفولة في قلاع الرأسمالية إلى الحد يتصوره ذوو النوايا الحسنة، وأن هناك ضروبا من الازدواجية تشوه الصورة التي تبدو للسذج ناصعة البياض كازدواجية الرفاهية التامة في جانب والبطالة واسعة النطاق في جانب آخر، وازدواجية السيطرة التامة للأقوياء وعدم الأمان للضعفاء، وازدواجية منح الحريات في الداخل وسلب الحريات من الدول الواقعة تحت السيطرة في الخارج (تايلاند، الفلبين، إلخ) ... وازدواجية الأبيض والملون، والمساواة النظرية في الفرص من ناحية، وانعدام وجود تكافؤ حقيقي للفرص من ناحية أخرى؟
ولو أصر المهللون للرأسمالية على إلغاء ذاكرتهم، ونسيان التاريخ، والتغافل عن الكوارث التي أنزلتها الرأسمالية بالعالم الثالث عامة، والمصائب التي جرتها «بركات» الرأسمالية على العالم العربي بوجه خاص، لتولت قلعة الرأسمالية الكبرى في العالم المعاصر، بدلا منا، مهمة تنشيط ذاكرتهم وإيقاظ وعيهم، فقد جاء الغزو الأميركي لبنما تنبيها للغافلين. وبقدر ما تعي ذاكرتي من أحداث سياسية على مدى العقود الأخيرة، فإني لم أصادف في حياتي تصرفا أغبى من هذا الغزو، ففي الوقت الذي كانت فيه أحداث أوروبا الشرقية تصل إلى درجة الغليان، وفي الذي بدا فيه للكثيرين أن اكتشاف عيوب فادحة في ممارسات الأنظمة الاشتراكية، وسقوط أقوى رموز هذه الأنظمة، يعني أن الرأسمالية هي البراءة والطهارة، وهي المال والمصير، في هذا الوقت بالذات، تأبى الولايات المتحدة إلا أن تذكر الغافلين بأن الديمقراطية التي تسهر الرأسمالية على حراستها لها أيضا أنياب ومخالب (مع الاعتذار لروح الزعيم العربي الذي ابتكر هذا التعبير البليغ)، وتتطوع بتقديم خدمة كبرى للأيديولوجية المضادة التي كانت في هذه اللحظة بالذات تمر بأسوأ مراحل أزمتها، وتتكفل مشكورة - بتكذيب الأصوات التي انتهزت فرصة الأزمة لكي تهتف: الرأسمالية هي النظام الطبيعي للإنسان! فهل كان من المحتم غزو بنما لإسقاط نورييجا في هذا الوقت بالذات؟ وهل يساوي نورييجا الثمن الفادح الذي دفعته أميركا من سمعتها، والمكسب الذي هبط على جورباتشوف من السماء في أحرج أوقات أزمته؟ غباء منقطع النظير، دون شك، ولكنه أفادنا فائدة لا تقدر؛ لأنه أعاد إلى العقول الغافلة اتزانها، ونبهها إلى حقيقة بسيطة عظيمة الأهمية، هي أن خطايا أحد المعسكرين العالميين لا تعني أن المعسكر الآخر هو الفضيلة المجسمة، وهو الملجأ الأول والملاذ الأخير.
والحق أن كبريات الدول الرأسمالية في عالم اليوم لا تشارك هؤلاء «المعجبين» تفاؤلهم، فهناك نوع من القلق الخفي يستشفه المرء من ثنايا تصريحات المسئولين في هذه الدول، وإن لم يكونوا يكشفون عنه بوضوح، حرصا منهم على أن يتركوا أحداث أوروبا الشرقية تتفاعل إلى أقصى مداها، ففرنسا تخشى من عودة الوحدة إلى ألمانيا، ذلك الجار العملاق الذي أذاقها ويلات أربع حروب كبرى خلال القرنين الأخيرين، وأوروبا الغربية ككل ترى الحل في مزيد من التوحد من أجل امتصاص خطر العملاق الألماني، ولكن إنجلترا لا ترتاح إلى وحدة «القارة»، وأميركا تشعر بأن أوروبا الموحدة ستكون قوى منافسة لها، وليست بالضرورة متحالفة معها، لا سيما وأن التحالف العسكري قد فقد مبرر وجوده حين لم يعد هناك خصم عدواني يقوم الحلف من أجل مواجهته. وهكذا فإن المعسكر الرأسمالي يشعر في داخلة بأنه هو ذاته مقبل على تغيرات لا يستهان بها، قد لا تتخذ طابع العنف كتلك التي حدثت في أوروبا الشرقية، ولكنها ستكون قطعا عميقة الجذور.
فالرأسمالية بدورها لا بد أن تغير مسارها تغييرات حادة حتى تتمكن من مواجهة الأوضاع الجديدة في عالم منزوع السلاح. وإذا كنت قد تحدثت من قبل باستفاضة عن نزع السلاح المادي، وتأثيره الهائل، الذي بدأ يظهر منذ الآن في صورة شركات ضخمة للأسلحة تغلق أبوابها أو تسرح عمالها، فلنتذكر جميعا أهمية نزع السلاح المعنوي. إن على الرأسمالية أن تعيد تكييف أوضاعها بحيث تلائم عصرا لن تعود فيه قادرة على انتقاد الاشتراكية بحجة أنها عدوانية تكبت الحريات وتلغي فردية الإنسان، مع أن هذا الانتقاد هو الزاد المعنوي الذي عاشت عليه الرأسمالية طويلا، وكسبت بفضله عددا لا يحصى من الأصدقاء. ولكن ماذا سيكون حالها حين تفقد هذا السلاح بدوره، وحين تبدأ الأيديولوجية الخصم في سلوك ذلك الطريق الشاق والطويل الذي يؤدي إلى الجمع بين الاشتراكية والإنسانية في مركب واحد؟
لا شك في أن لون الحياة أمام الرأسمالية لن يكون، كما يتصور الكثيرون، ورديا؛ فهي بدورها مؤهلة لتغييرات حاسمة في هياكلها الأساسية، ولكن هذا يتوقف بالطبع على مدى نجاح الأيديولوجية المضادة في الجمع بين الاشتراكية والنزعة الإنسانية، وهو موضوع بحثنا القادم.
الفصل السادس
صورة المستقبل
العالم كله يتحدث اليوم عن مفاجآت غير متوقعة، ويرسم لعقد التسعينيات صورة تختلف جذريا عن جميع العقود السابقة، بل يذهب البعض إلى حد القول أن القرن الحادي والعشرين بدأ بالفعل منذ 1989م، مثلما بدأ القرن التاسع عشر مبكرا منذ الثورة الفرنسية في 1989م، وبدأ القرن العشرون متأخرا منذ الحرب العالمية الأولى سنة 1914م. وهي فكرة معقولة إذا أخذنا في اعتبارنا أن نقاط التحول الحاسمة في التاريخ البشري لا يتعين أن تتفق مع السنوات التي تبدأ أرقامها بأصفار. ومع اعترافنا بأن المستقبل يحمل في طياته مفاجآت كبيرة، وبأن التحولات الهائلة في الشهور القلائل الأخيرة تمثل بذرة خصبة لتغيير وجه العالم بأسره في المستقبل غير البعيد، فلا بد من الاعتراف أيضا بأن عناصر التغيير وعوامله الأساسية كانت موجودة من قبل، وإن كان العالم قد تأخر كثيرا في إدراك ما تنطوي عليه هذه العناصر من دلالات.
لقد كان التصعيد العالمي للسلاح، وبلوغ التهديد النووي والصاروخي أقصى مداه، هو ذاته نقطة تحول كبرى نحو إدراك عقم الشكل السائد في العلاقات الدولية، كانت صورة الموت الذي يمكن أن يلقي بظله الأسود على العالم كله في لحظة واحدة، هي ذاتها الدافع الأكبر إلى التشبث بالحياة، وكانت الخطوة المنطقية، بعد أن أدرك كل من الجانبين أنه يستطيع أن يفني الآخر ويفني العالم معه في ثوان معدودات، هي أن يفكرا معا في أسلوب آخر للتعامل بينهما، يحل فيه التفاهم والوفاق محل المواجهة المخيفة.
ولكن أحد الطرفين كانت له مصلحة مباشرة في استمرار هذه المواجهة، والطرف الآخر كانت له مصلحة مباشرة في الانتقال إلى حالة التفاهم. وهكذا جاءت المبادرة من جورباتشوف، وكان أعجب ما في الأمر أنه فرض هذه المبادرة على ريجان في السنتين الأخيرتين من حكمه، وأرغم هذا الصقر المتصلب على التفاهم مع من كان يسميهم «إمبراطورية الشر»، لتبدأ بذلك المرحلة الأولى في التنفيذ العملي لسياسة الوفاق والتعايش والتفاهم الإيجابي.
لقد كان واضحا، قبل جورباتشوف بمدة طويلة أن الرأسمالية باقية، بل إن جوانب كثيرة منها تزداد قوة، وكان واضحا أن الهدف الذي تبنته ممارسات الحركة الاشتراكية بعد ثورة 1917م مباشرة، وهو استئصال الرأسمالية بالتدريج، وإحلال النظام الاشتراكي محلها، قد أصبح هدفا مستحيل التحقيق، وذلك في المستقبل المنظور على الأقل، ولكن الرؤساء المتعاقبين للاتحاد السوفياتي، على الرغم من إدراكهم هذه الحقيقة، لم يكونوا على استعداد لبناء سياستهم الرسمية على أساس الاعتراف بها، وكان الأمر يحتاج إلى قدر كبير من الشجاعة من أجل إعادة رسم السياسة العامة على نحو يتلاءم مع هذا الأمر الواقع، وهذا هو الدور الذي اضطلع به جورباتشوف، بل إنه لم يكتف بذلك، وإنما أدرك أن المعسكر الاشتراكي هو المهدد بالخطر لو استمر على جموده، ولو استمرت الفجوة بين الشعارات والممارسات الفعلية على هذا القدر من الاتساع، ولو ظل حاجز عدم الثقة، والسخط المكتوم، يحول دون تحقيق أي تجاوب بين شعوب البلاد الاشتراكية وأنظمتها. ومن هنا جاء انقلابه الكبير على جميع السياسات السابقة.
إن الكثيرين يتصورون أن جورباتشوف يهدف إلى تطعيم الاشتراكية بمبادئ مستمدة من ليبرالية الغرب الرأسمالي، كمبدأ حرية التعبير وحرية الانتخاب وديمقراطية التمثيل النيابي، إلخ ... ولكني أعتقد أنه أدرك حقيقة أساسية لم يدركها أسلافه، وهي أن هذه المبادئ ليست بالضرورة جزءا من النظام الفكري للغرب نفسه، وليست بالضرورة متعارضة مع الاشتراكية، كما تصور الكثيرون، وإنما هي جزء من التراث الإنساني بأعم معانيه. ولقد كان الاشتراكيون المتزمتون مخطئين حين هاجموا الديمقراطية السياسية باعتبارها نتاجا غريبا بحتا، ونظروا إليها على أنها جزء لا يتجزأ من آليات النظام الرأسمالية؛ ذلك لأن هذه الديمقراطية إذا كانت قد عبرت عن نفسها تعبيرا واضحا مع مطلع العصر الرأسمالي، فلا ينبغي أن تظل هذه النشأة مرتبطة بها إلى الأبد، فحق الإنسان في التعبير عن نفسه بحرية، وحقه في أن يختار ممثلين عنه يتولون الحكم أو يحاسبون الحكام ويشرعون القوانين. هذه الحقوق تعد مكتسبات عظيمة للإنسانية كلها، حتى لو كان أصلها القريب راجعا إلى الغرب الرأسمالي. ومن المؤكد أن جميع التبريرات التي قدمتها الأحزاب الشيوعية الحاكمة طوال العقود السبعة الماضية، من أجل عدم تطبيق هذا النوع الرفيع من الديمقراطية السياسية، كانت تبريرات زائفة، تستهدف تثبيت شكل من أشكال الدكتاتورية، سواء أكانت تلك دكتاتورية حزب واحد، أو فرد يعتقد أنه يجسد الحزب والدولة كلها في شخصه، مثل ستالين أو تشاوشيسكو أو كيم أيل سونغ.
ولكن، هل تستطيع الاشتراكية أن تظل صامدة لو أصبحت ديمقراطية مستندة إلى اختيار شعبي حر؟ لو كانت التجربة قد اتجهت منذ البداية نحو تحقيق هذا الهدف، وتمكنت من بلوغه، ولو جزئيا، وعلى مراحل، وبعد مواجهة كل ما يمكن أن يعترضها من صعوبات ونكسات، لكان الرد على هذا السؤال ردا إيجابيا بلا تردد، ولكن انتقال الشعوب إلى اشتراكية غير ديمقراطية بعد أن جربت طويلا اشتراكية غير ديمقراطية، هو الذي يثير إشكالات ويعقد الموقف تعقيدا هائلا؛ ذلك لأن ثقل الماضي وأخطاءه الفادحة يشكل عاملا هاما ينبغي أن يحسب له ألف حساب، فالمسألة ليست مجرد اختيار مطروح أمام هذه الشعوب، وإنما هي مدى قدرتها على تصديق التحول الجديد، بعد كل إحباطات التجربة القديمة. ومن المتوقع، إنسانيا، أن تكون هناك ميول قوية إلى تصفية الحسابات السابقة، وإلى القطيعة التامة مع الماضي، وأن يكون هناك اعتقاد راسخ لدى فئات واسعة من الجماهير بأن الاشتراكية غير قابلة للإصلاح، أو بأن الجديد لن يكون جديدا بالمعنى الصحيح، وبأن الوعود المستقبلية لن تتحقق ما دام الذين يقدمونها ممن لا تربطهم أية صلة بالعهود الماضية.
وعند هذا الموضع نستطيع أن ندرك بوضوح أكبر، أبعاد المقامرة التاريخية الكبرى التي يخوضها جورباتشوف، فهو يقامر أساسا على الطبيعة البشرية، وعلى الزمن، وكل من هذين العاملين يمكن أن يساعده ويرفعه إلى عنان السماء، ويمكن أن ينقض عليه ويخنق تجربته ويحولها إلى مأساة مفجعة.
لنبدأ بالحديث عن مقامرته على الطبيعة البشرية، إن جورباتشوف لا يكف عن القول إن أهم عنصر في البيرسترويكا، هو إعادة بناء الإنسان قبل أن يكون إعادة بناء الاقتصاد أو النظام السياسي. ومن الصعب في عالمنا العربي أن يأخذ تعبير «إعادة بناء الإنسان» مأخذ الجد، بعد أن بذلته لغتنا السياسية المعاصرة إلى حد لم يعد معه سوى تعبير إنشائي أجوف لا يشير إلى أي مضمون حقيقي، ولا يغير من الواقع شيئا. ولكن جورباتشوف يعني بالفعل بناء إنسان جديد يفهم معنى الحرية ويحرص عليها، إنسان غير نمطي وغير مقولب، يستعيد ذاته التي كان نسيانها في سبيل مصلحة «الكل»، هو فضيلة الفضائل في ظل الأوضاع السابقة، فالاعتقاد بأن البعد الاجتماعي يستنفد الإنسان بأكمله هو اعتقاد غير صحي، ولكن الاعتقاد المضاد بأن على فرد أن يحقق مشروعه الخاص إلى أقصى مدى ممكن، بغض النظر عن تأثير ذلك في الآخرين - وهو جوهر الحلم الرأسمالي الأميركي - هو اعتقاد غير إنساني؛ وعلى ذلك فإن عملية إعادة البناء التي تستهدفها البيرسترويكا هي في صميمها استفادة للتوازن بين الدوافع الفردية والدوافع الجماعية في الإنسان.
ويبدو أن جزءا أساسيا من رهان جورباتشوف يرتكز على اعتقاد صحيح من الوجهة النظرية، وهو أن الإنسان الذي عاش في ظل الاشتراكية متمتعا بالأمان والضمان الذي يكفله له المجتمع، وإن كان مفتقرا إلى الحرية والقدرة على المشاركة سياسيا واجتماعيا، سيشعر بأن أقصى أمانيه قد تحققت لو أضيف عنصر الحرية والديمقراطية إلى عنصر الأمان والضمان، ولكن هذا الرهان يغفل، من الوجهة العملية، شيئين يمكن أن تكون لهما عواقب خطيرة: أولهما الرغبة المتعطشة في تصفية الحسابات مع الماضي، التي قد تصل إلى حد الاعتقاد بأن الاشتراكية، مهما اتخذت من أشكال، غير قابلة للإصلاح؛ فهي أشبه بمجرم يستحيل أن تقبل توبته؛ لأن سوابقه أكثر وأفدح من أن تسمح بالثقة فيه. وهكذا فإن القهر الذي مرت به الشعوب الاشتراكية يمكن أن يجعل رؤيتها متجهة إلى الانتقام من الماضي أكثر مما هي متجهة إلى بناء المستقبل.
ومن ناحية أخرى فإن رهان جورباتشوف على الطبيعة البشرية يغفل الجانب المادي فيها إلى حد بعيد، فالرهان ينصب على الإيمان بأن الشعب الذي مر بتجربة الاشتراكية ولكنه عانى خلالها من القهر، سيستعيد ثقته بهذه التجربة بمجرد أن يزول عنه القهر، ولن يقبل العيش في ظل الرأسمالية مهما قدمت له من إغراءات غير أن هذا الرهان ربما كان ينطوي على نظرة مثالية أكثر مما ينبغي إلى طبيعة الإنسان؛ ذلك لأن الغرب الرأسمالي يراهن على الجانب المضاد، أعني الجانب المادي، ويركز على «الحرمان» الذي تعانيه الشعوب الاشتراكية من المأكولات والملابس والأجهزة الحديثة، إلخ ... ولما كان من الصعب، في المدى المنظور، أن توافر إصلاحات جورباتشوف مثل هذه السلع المادية للناس، فمن الممكن أن يؤدي ذلك إلى خسارته للرهان وإلى تراكض هذه الشعوب وراء «الرخاء» الرأسمالي.
وهذه مسألة لا يصح أن يستخف بها من يسعى إلى تكوين رؤية مستقبلية لما ستؤدي إليه بيرسترويكا جورباتشوف؛ ذلك لأن الإغراءات المادية أمر لا يمكن الاستهانة به في سلوك الجماعات البشرية، ولقد رأيت بنفسي مدى تعطش شبان وفتيات بأعداد كبيرة في الاتحاد السوفياتي وبلاد اشتراكية أخرى إلى أشياء تبدو في نظرنا تافهة، كالملابس «الجينز» والساعات الرقمية والمسجلات اليابانية، إلخ ... ورأيت بنفسي كيف أن قطعة اللبان الأميركي أو سيجارة أميركية يمكن أن تكون موضوعا للهفة الإنسان في هذه البلاد، وعجبت وقتها كيف لم يتمكن التعليم والتنشئة الاجتماعية من إقناع الناس بأن من الممكن الاستغناء عن الأشياء الصغيرة في سبيل الاهداف الكبيرة، وما زلت أذكر كيف أن معظم الضباط العرب الذين كانوا يتلقون دورات تدريبية في الاتحاد السوفياتي، كانوا يعودون غير متعاطفين مع التجربة السوفياتية، فإذا سئلوا عن السبب كانت إجابة الغالبية الساحقة منهم تتعلق بأمور مادية، كالسيارة أو الملابس أو أماكن اللهو والترفيه، وندر أن تجد منهم من يحدثك عن انعدام حرية الفكر أو تسلط الحزب الواحد أو غير ذلك من الجوانب المعنوية.
ويمكن القول إن هذا الرهان على الجانب المعنوي أو الجانب المادي من الطبيعة البشرية يشكل ساحة حقيقية لمعركة تدور حاليا في الخفاء بين المعسكرين الكبيرين. ومن الغريب حقا أن الجانب الذي توصف أيديولوجيته بأنها مادية، هو الذي يراهن على معنويات الإنسان، على حين أن الجانب الرأسمالي «حامي حمى الروح» و«نصير الأديان» إلخ، هو الذي تركز دعايته على ما تعانيه شعوب المعسكر الاشتراكي من نقص في الفواكه واللحوم، وعلى طوابير الخبز، وما إلى ذلك من مظاهر الحرمان المادي التي يستحيل على أي مصلح أن يوفرها لشعبه ما بين يوم وليلة، إذا كان قد أتى إلى الحكم بعد مرحلة طويلة من التخبط وسوء الإدارة.
ولننتقل إلى الحديث عن العامل الآخر في مقامرة جورباتشوف الكبرى، وأعني به مقامرته على الزمن، فكل ما يراهن عليه جورباتشوف يحتاج إلى وقت، ولو تصورنا أن الإصلاح الاقتصادي، مثلا، يمكن أن تظهر ثماره في المدى القريب لكنا متفائلين إلى حد السذاجة؛ ذلك لأن الوفر في نفقات التسلح لن يتم إلا بعد وقت، وانعكاس هذا الوفر إيجابيا على الاقتصاد يحتاج إلى وقت آخر، وإزالة آثار البيروقراطية والجمود وسوء الإدارة وفساد الذمم تستغرق وقتا لا يستهان به؛ ولذا فإن أولئك الذين يكررون ليل نهار أنهم لم يلمسوا في الاتحاد السوفياتي تحسنا في الأوضاع الاقتصادية خلال عهد جورباتشوف، لا يستهدفون من ذلك إلا خداع العالم؛ لأنهم يعلمون جيدا أن ثمار اتجاهاته الجديدة يستحيل أن تقطف الآن، ويعلمون أنه ما زال في مرحلة خوض المعارك الضارية التي سيصبح في إمكانه، لو كسبها، أن يضع الأسس لبناء اقتصاد أفضل.
ومن جهة أخرى فإن الإصلاح السياسي، وإرساء دعائم الديمقراطية الحقيقية داخل إطار من الاشتراكية، هو تجربة غير مسبوقة، تحتاج إلى إبداع وابتكار لا نظير لهما، وحين ننظر إلى أرض الواقع سنجد أن تقبل الجماهير، في البلاد الاشتراكية، لهذا النوع من الإصلاح، يحتاج إلى وقت، ولا بد هنا من التمييز، كما قلنا من قبل، بين رد الفعل في المدى القصير ورد الفعل في المدى الطويل؛ ذلك لأن رد الفعل المباشر كان سلبيا إلى حد بعيد، وهذا أمر يستطيع أن يتوقعه أي مبتدئ في التفكير السياسي، فالجماهير المكبوتة لا بد أن تنفجر إذا ما تحررت من القوة التي كنت تكبتها. وقد أخذ جورباتشوف على عاتقه عملية التحرير هذه حين أمر القوات السوفياتية بعدم التدخل، وفتح بذلك الباب أمام ثورة الجماهير في أوروبا الشرقية.
ومن المتوقع تماما في المرحلة الأولى أن تكون ردود الفعل عنيفة، وأن تعمل الجماهير على محو كل ما يذكرها بالعهد السابق، ومن هنا كان تغيير اسم الحزب الشيوعي في بعض هذه البلدان، وإلغاء النص الخاص بانفراده بالسلطة في البعض الآخر، وظهور محاولات لحظر قيام أي حزب شيوعي في المستقبل. وهذا هو رد الفعل المتوقع، في مثل هذه الظروف، خلال المدى القريب، ولكن الأمور لا بد أن تتغير في المدى الأبعد، ولا بد أن يعود الاتزان إلى عقول الناس، بعد أن ينفسوا عن غضبهم ويصفوا حساباتهم، فيبدءون في البحث عن مصالحهم الحقيقية. ولا شك في أن تجربة إزالة جدار برلين كانت لها دلالة خاصة في هذا الصدد، ففي البدء تدفق اللاجئون بعشرات الألوف، وفي نيتهم أن يرحلوا بلا عودة، ولكنهم بعد أن اطمأنوا إلى أن الأوضاع الجديدة ستستمر، وأن وطنهم وبيتهم لن يكون بعد ذلك مكانا للقمع وخنق الحريات ووشايات الأجهزة الأمنية، عاد معظمهم إلى بلدهم، وبدءوا يشاركون في البناء الجديد.
إن الأوضاع التي تجتاح أوروبا الشرقية الآن لن تدوم، ولا بد أن يكون المستقبل شيئا مختلفا عن هذا الوضع المؤقت، وعن الوضع المهيمن السابق عليه، وليس في وسع أحد أن يتصور أن بلدا مثل رومانيا ستعيش في ظل هذا التخبط الذي جعل رئيس الدولة ينقاد لمظاهرة غاضبة محدودة العدد، فيلغي الحزب الشيوعي، ثم يعود بعد يومين فيلغي الإلغاء ويقرر الاستفتاء، ثم يعود بعد يومين آخرين فيلغي الاستفتاء. هذا أسلوب غوغائي في الحكم، يستحيل أن يدوم طويلا، ولا بد أن يبدأ الشعب نفسه في البحث عن مصالحه الحقيقة بعد أن تنتهي فترة تصفية الحسابات الماضية، ولكن هذه الفترة ستتفاوت من بلد إلى آخر، ومن المتوقع أن تطول فترة الغضب تبعا لمدى إرهابية النظام الذي كان سائدا في كل بلد على حدة، وتبعا لفداحة الثمن الذي دفعه هذا البلد في الثورة على الأوضاع القديمة.
على أن من المهم إلى أبعد حد أن نشير، في صدد الكلام عن عامل الزمن هذا، إلى الرهان المضاد الذي يقوم به أولئك الذين لا يريدون للتجربة الجديدة أن تنجح؛ ذلك لأن الوقت لو اتسع لكي تنجح تجربة الجمع بين الاشتراكية والديمقراطية في إطار واحد، لكانت تلك التجربة خطرا ماحقا يمكن أن ينسف دعائم النظام الرأسمالي، في المدى الطويل، بهدوء تام، وبلا سلاح أو حرب. وفي تصوري أن الجمع بين الأمان والضمان الذي تحققه الاشتراكية، والحرية التي تحققها الديمقراطية، حتى لو اقترن بمستوى مادي متوسط، ستكون له قوة جذب هائلة يمكن أن تؤدي مع الوقت إلى غزو قلاع الرأسمالية في أوروبا على الأقل، هذا فضلا عن تدعيم الاشتراكية في نفس البلاد التي تبدي أشد السخط عليها في الآونة الحالية. ولا شك أن القوى المضادة لهذه التجربة تعي هذه الحقيقة جيدا؛ ولذا نراها تسعى الآن بكل ما ملكته من قوة لكي تزعزع أسس هذه التجربة وهي لا تزال في مهدها، فأعداء هذه التجربة يدركون أنهم، إن لم يضربوا محاولة إقامة اشتراكية ديمقراطية في اللحظة الراهنة، وهي لا تزال في موقف الضعف، فسيكون من الصعب عليهم المساس بها في أي وقت من المستقبل، بل سيكون من الصعب إيقاف مدها حتى في معاقلهم الخاصة. ومن هنا كان الرهان المضاد هو: اهدم هذه التجربة الآن، قبل أن تصبح نموذجا مغريا للجميع! ومن أجل ذلك، كان من حق المرء أن يستنتج أن جورباتشوف لو صمد بتجربته هذه سنة أو سنتين أخريين، دون أن يحدث شيء يهدمها من أساسها، فلن تستطيع أية قوة أن تمس تجربته الجديدة التي ستكتسب عندئذ قوة جذب لا تقاوم.
ولنلخص ما توصلنا إليه حتى الآن من نتائج بشأن تلك المقامرة التاريخية الكبرى التي يقوم بها جورباتشوف، فنقول إنه يراهن على تغلب الجانب المعنوي في الطبيعة البشرية، وعلى الصمود سنوات قلائل حتى تتاح لتجربته فرصة الكشف عن إمكاناتها، على حين أن خصومه يراهنون على غلبة الجانب المادي في الطبيعة البشرية، وعلى تكديس المشاكل أمام التجربة الجديدة من أجل هدمها في أقرب وقت ممكن، أو على الأقل من أجل الحيلولة بينها وبين تحقيق ذلك النجاح الذي سيكون مؤكدا لو أتيحت لها الفرصة الكافية. ولا شك أننا نقرأ كثيرا في هذه الأيام عن رغبة العالم الغربي في مساعدة جورباتشوف، ومساندته لإصلاحاته؛ مما يولد لدى القارئ انطباعا بأن «الرهان المضاد» الذي أتحدث عنه ها هنا ما هو إلا تعبير عن مخاوف ليس لها من أساس، ولكن هذه المساعدة والمساندة هي الوجه الظاهر لموقف الغرب، الذي تتقرر سياسته على مستويات متعددة، منها ما هو واضح مكشوف ومنها ما هو خفي مستتر. ومن المؤكد أن الغرب مضطر إلى تأييد جورباتشوف بعد تلك الشعبية الساحقة التي نالها بين الشعوب الغربية ذاتها، والتي يقول البعض إنها فاقت شعبيته حتى لدى شعبه هو . ولم تكن تلك الشعبية مجرد رد فعل عاطفي، وإنما كانت راجعة في المحل الأول إلى الرغبة المتأصلة في السلام، والخوف العميق من حالة الصراع المسلح التي تهدد العالم بالانفجار في أي لحظة، والوعي المتزايد بالأخطار التي تتعرض لها البيئة على مستوى كوكبنا بأكمله، وهذه عوامل ينبغي أن تعمل لها أية حكومة في الغرب ألف حساب.
ولكن لا بد أن يكون هناك، على المستويات غير المعلنة، خوف شديد من أن تنجح تلك التجربة التي يمكن أن تحقق حلما عجزت البشرية حتى الآن عن تحقيقه، وهو الجمع بين العدل الاجتماعي والحرية الإنسانية في إطار واحد، ومن هنا فإني أومن بأن الرهان المضاد حقيقة واقعة.
إن الجميع يتحدثون الآن عن عصر جديد ستؤدي سياسة جورباتشوف إلى دخول البشرية فيه عصرا تتوقف فيه الصراعات الداخلية بين الأيديولوجيات، لتحل محلها صراعات ضد القوى المعادية للإنسان أينما كان. هذا العصر، كما يقول معظم الكتاب، هو عصر تراجع الأيديولوجيا؛ أعني أنه العصر الذي لن يكون للصراع بين الاشتراكية والرأسمالية فيه تلك الأهمية التي كانت له منذ بداية القرن العشرين على الأقل، وإنما سينصب الاهتمام كله على ما هو أهم: مشكلات البيئة التي يظهر لنا في كل يوم بمزيد من الوضوح أنها لا تحل إلا على نطاق عالمي. ومشكلات السلام العالمي ونزع السلاح، وهي بدورها مشكلات تمس مصير الإنسان على هذا الكوكب، ولا يمكن أن يقتصر تأثيرها على هذا المعسكر أو ذاك. وأخيرا مشكلات التكنولوجيا، التي يتيح التقدم فيها آفاقا لم تكن تحلم بها البشرية من قبل، والتي تبشرنا منذ الآن بعهد ننعم فيه بوفرة في الإنتاج المادي ووفرة في المعلومات الذهنية على نحو كفيل بأن يجعل عصورنا الحالية تبدو عصورا بدائية بحق.
هذه الاحتمالات الممكنة هي حديث الساعة في أيامنا هذه، وهي لم تعد أحلاما خيالية، بل إن تحقيقها بات في متناول أيدينا، وبوادرها أخذت تظهر أمام أعيننا من الآن. ومع ذلك فإنني أجد نفسي في موقع الاختلاف مع أولئك الذين يتصورون أن عصر التعاون من أجل حل المشكلات ذات الطابع الكوني سيحل حتما محل عصر الصراع بين الأيديولوجيات، ففي رأيي أن حلول هذا العصر، الذي هو بغير شك غاية يتمناها كل شخص يحترم إنسانيته، لن يتحقق إلا إذا نجح جورباتشوف في تثبيت دعائم تجربته الجديدة، فما زال أمامنا وقت قبل أن يكون في وسعنا التحدث عن بلوغ البشرية سن الرشد، وانتقالها من صراعات الإخوة الأعداء إلى التكاتف من أجل مواجهة المشكلات الكونية، ولو أخفقت تجربة جورباتشوف، لكانت نتائج النكسة بشعة، ولأصبحنا أبعد عن ذلك التعاون العالمي مما كنا في أي وقت مضى.
وأنا على ثقة من أن القارئ يتساءل الآن: حسنا، ما هي احتمالات النجاح؟ هذا، في رأيي، هو السؤال الصعب حقيقة، فلكي تكون الإجابة ممكنة، ينبغي أن تكون المعطيات كلها أمامنا، وأن تكون معقولة قابلة للحساب. ولكن يكفينا مثال واحد لكي ندرك صعوبة الإجابة عن هذا السؤال: فالاضطرابات بين الأذربيجانيين والأرمن، مثلا، تقوم على رواسب قديمة منها ما هو عرقي، وما هو طائفي، ولكن كلها رواسب لا عقلية يصعب حسابها؛ ومن ثم يصعب التنبؤ بها. ومثل هذه العوامل اللاعقلية يمكن أن تتدخل في أية لحظة وتشكل عقبة خطيرة في وجه التجربة الجديدة، وتثبت أن الطبيعة البشرية التي راهن عليها جورباتشوف ما زالت تنطوي على عناصر ظلامية سوداء يصعب إخضاعها للحساب العقلي.
إن جورباتشوف يبدو لي أحيانا قريب الشبه بأبطال التراجيديات الإغريقية، وكثيرا ما يبدو مهددا بمأساة تحكيها قوى الشر التي لن تتنازل عن عالمها بسهولة. ولكنني أوثر الانحياز إلى جانب التفاؤل في معظم الحالات؛ ذلك لأنه إذا ظل صامدا فسوف يكسب العالم الكثير، وإذا تهاوى فسوف تتهاوى معه آمال عريضة نسجتها البشرية كلها حول عصر جديد تبلغ فيه الإنسانية، لأول مرة، سن الرشد.
الفصل السابع
وأين العرب من هذا كله؟
إن الحقيقة الأساسية التي توصلنا إليها التحليلات السابقة هي أن تجربة جورباتشوف، لو أعطيت الفرصة كيما تحقق إمكاناتها، لا بد أن تؤدي إلى كسر حدة الصراع بين المعسكرين، وزوال الهوس العسكري العالمي وقيام كل طرف من أطراف الاستقطاب الدولي بتنازلات أساسية، وحدوث تغييرات حاسمة على خريطة العالم، لا تقتصر على المعسكر الاشتراكي، كما هو حادث الآن، بل يمتد تأثيرها بعمق في قلب المعسكر الرأسمالي في المدى البعيد. صحيح أن النظامين سيحتفظان بقدر غير قليل من اختلاف فيما بينهما، ولكن الذي سيزول هو ذلك الهدف الذي ظل كل منهما يتخذه غاية قصوى لاستراتيجيته، وهو إزالة النظام الآخر والحلول محله، سواء بالقوة العسكرية أو بالضغط الاقتصادي أو بالتغلغل والتآمر وتأليب الشعوب، فلن تعود هناك علاقة «إما قاتل أو مقتول» بين الرأسمالية والاشتراكية، ولن يكون هناك إصرار على أن يسود العالم نظام واحد هو الذي يتمكن من الانتصار في نهاية الأمر، بل سيسود المجتمع العالمي نوع من التعددية، مشابه لذلك الذي تحرص الدول الديمقراطية على وجوده داخل المجتمع الواحد.
ولا يقتصر معنى هذه التعددية على التعايش بين الأيديولوجيات المتبادلة، بل إنها تعني أيضا تعددا في مراكز القوى العالمية، فمنذ الآن يستطيع المعلقون السياسيون أن يلاحظوا إمكان ظهور مركز قوى في أوروبا، التي يسعى جورباتشوف إلى الاندماج فيها دون حواجز، يقف ندا أمام مركز القوى الأميركي، بينما يقابله في الشرق الأقصى مركز قوى خطير تمثله اليابان ومعها الدول الصغيرة ذات الثقل الاقتصادي المتزايد، مثل كوريا وتايوان وسنغافورة، أما الصين فمن الممكن أن تصبح مركزا قائما بذاته، بفضل وزنها السكاني الهائل، وذلك إذا نجحت في شق طريقها، ولو بقدر محدود، في عالم التقدم التكنولوجي. وكما يلاحظ القارئ، فإن مراكز القوى تقفز من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، وتمر على ما بينهما مرور الكرام، «وما بينهما» هذا يشمل، بالطبع، منطقتنا العربية، فأين نحن من هذا كله؟ وما تأثير هذه التحولات الهائلة علينا؟ إن موضوعا كهذا، يمكن أن يعالج من زوايا متعددة، وسوف نختار هنا، عامدين، بعض الزوايا التي نراها أساسية في الموضوع، على أن يتذكر القارئ أن هذا الاختيار تمليه اعتبارات ضيق المكان والزمان، وأن للموضوع أبعادا أخرى عظيمة الأهمية، لا بد أن يتصدى لها المفكرون العرب حتى يعينوا وطنهم على التأهب لمواجهة المتغيرات الهائلة التي سيأتي بها الغد القريب.
إن هناك انزعاجا عاما من تراجع الاهتمامات الخارجية للكتلة الشرقية، وانكفائها إلى الداخل في محاولة لإصلاح ما أفسدته سياسات جامدة، أوقفت نمو هذا المعسكر طوال عشرات السنين. ويمتد هذا الانزعاج إلى سياسات التهدئة والوفاق، التي تسعى إلى تجنب أي احتكاك مع المعسكر الغربي، وتسارع إلى تحقيق التفاهم معه كلما حدثت أزمة في المناطق التي كان المعسكران يتنافسان فيها من قبل. ولقد كان لهذا التنافس فوائده الواضحة بالنسبة إلى العالم الثالث؛ إذ استطاع عدد من زعمائه أن يتقنوا لعبة الحصول على المكاسب من أحد المعسكرين من خلال تهديده بالتقارب مع المعسكر الآخر، بل إن مجرد وجود معسكر اشتراكي مناوئ للمعسكر الرأسمالي، الذي تنتمي إليه جميع الدول الاستعمارية السابقة، كان في حد ذاته مكسبا كبيرا للعالم الثالث؛ إذ إنه لولا وجود هذا المعسكر، ولولا اتخاذه موقف الترقب والمواجهة إزاء المعسكر الرأسمالي، لما كسب العالم الثالث معظم معاركه التحررية، وخاصة في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ففي موقف المواجهة واستعداد كل من المعسكرين لإرسال صواريخه النووية من أجل تدمير المعسكر الآخر، استطاعت دول كثيرة في العالم الثالث أن تنتهز فرصة الشلل المتبادل بين العملاقين لكي تفوز بتحررها واستقلالها، فضلا عن أن المعسكر الاشتراكي ساندها بقوة لكي يحرم المعسكر المنافس من الامتيازات التي كان يجنيها من بسط نفوذه فيها.
لقد شعر الكثيرون بالجزع من جراء انتهاء وضع المواجهة هذا، وحلول التفاهم والوفاق محله، وكان من العبث أن يعزيهم بعض المفكرين من ذوي النزعة الإنسانية العالمية بالقول إن مصالح الإنسانية ككل ينبغي تغليبها على مصالح أية دول أو مجموعة من الدول، وإن الوفاق والاتجاه إلى نزع السلاح مكسب للإنسانية كلها، ومن ثم ينبغي تغليبه على الخسائر التي قد تحدث لهذه المنطقة من العالم أو تلك؛ ذلك لأن منطق المصالح لا يمكن اختفاؤه من العالم بين عشية وضحاها. ومن جهة أخرى فإن أي وفاق يحدث بين الكبار لن يلغي الظلم والتفاوت والرغبة في تحقيق العدالة بين العالم الثالث.
وأبسط دليل على ذلك أنه، في نفس اليوم الذي كان فيه الملايين يسافرون من ألمانيا الشرقية، بعد هدم جدار برلين، وهو كما يبدو مكسب كبير للمعسكر الغربي، كان ثوار السلفادور يهاجمون قصر الرئاسة، ويتحركون كما يشاءون في العاصمة، ويمرغون سمعة النظام الحاكم - الذي يدافع عن مصالح المعسكر الغربي - في التراب، وكان ذلك تزامنا رمزيا بالغ الدلالة.
وفي اعتقادي أن المنطقة العربية ستكون من أكثر المناطق تأثرا بتلك التحولات الضخمة التي تطرأ على العلاقات بين المعسكرين الكبيرين، بل إن نتائج تلك التحولات، بالنسبة إلينا ستكون مصيرية؛ ومن هنا فإن الأمر يحتاج منا أولا إلى فهم عميق لطبيعة الأحداث الحالية واحتمالاتها المستقبلية، وثانيا إلى استعداد لمواجهة التغيرات الحاسمة المتوقعة في المستقبل القريب والبعيد، لا من منظور مصلحة الأنظمة الحاكمة، كما يفعل الكثيرون في هذه الأيام، بل من منظور المصالح الحقيقة للأمة العربية، وقدرتها على أن تجد لنفسها مكانا وسط هذا العالم الدائم التجدد.
إن النغمة العامة السائدة بين المفكرين العرب إزاء هذه التطورات الأخيرة في الكتلة الشرقية، وما يمكن أن يترتب عليها من تغيرات في السياسة العالمية، هي نغمة التشاؤم. ولهذا الموقف ما يبرره دون شك، غير أنني أستطيع أن أجد عنصرا إيجابيا واحدا على الأقل يمس جانبا هاما من جوانب السياسة العربية على الصعيد الداخلي، وأعني به انبثاق وعي عالمي حاد بأهمية الديمقراطية. وتأتي أهمية هذه المسألة من أن الفكر العربي كان يرتكب في هذا الموضوع خطأين أساسيين: أحدهما هو الاعتقاد بأن الديمقراطية فكرة غربية في الأساس، لا يصح أن نقتبسها في مجتمعاتنا إلا إذا أدخلنا عليها تعديلات أساسية، وربما كان الأفضل في نظر البعض الاستغناء عنها كلية. أما الخطأ الثاني فهو أن الديمقراطية تتعارض مع السعي إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وأن حاجتنا إلى العدالة هي الأساس، وأن المجتمع الذي لا يبدأ بتحقيق العدالة الاجتماعية ينتهي به الأمر إلى ديمقراطية زائفة. فلنتوقف قليلا لتحليل هاتين الفكرتين.
إن في أدبياتنا السياسية العربية فكرة شائعة مفادها أن مفهوم الديمقراطية نتاج للحضارة الغربية لا يصلح إلا لهذه المجتمعات. ومن العجيب أن كثيرا من فصائل اليسار الماركسي واليمين الإسلامي، تتفق على هذه الفكرة، وكل ما في الأمر أن اليساريين يضيفون في أغلب الأحيان صفة «الليبرالية» إلى كلمة الديمقراطية، ويربطون بينها وبين نشأة الفكر البورجوازي الأوروبي وظهور الرأسمالية في مطلع العصر الحديث، على حين أن الإسلاميين يؤكدون الأصل الغربي «اليوناني» للفظ الديمقراطية، ويرون في هذه الفكرة نتاجا للحضارة الغربية منذ عهد أبعد بكثير، لا صلة بينه وبين تراثنا الإسلامي. وكل هذه المقدمات صحيحة بلا شك، ولكن النتيجة المستخلصة منها، وهي أن الديمقراطية لا تصلح إلا للمجتمعات الغربية، باطلة كل البطلان. وحسبي أن أذكر القارئ هنا بما قلته مرارا في مواضع أخرى، وهو أن كل الأفكار العظيمة في العالم يكون لها في البدء أصل معين، وترتبط نشأتها ببيئة وظروف محددة، ثم تتجاوز هذا الأصل وتتعداه، وتصبح مكسبا للإنسانية جمعاء. وقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن الديمقراطية والحريات المرتبطة بها تمثل مطلبا أساسيا لمجتمعات تمر بتجربة مضادة للرأسمالية الليبرالية الغربية، وأن زعيم الشيوعيين الحالي في الاتحاد السوفياتي لا يرى أي تعارض بين التمسك بالاشتراكية والمناداة بالحريات الديمقراطية، على عكس ما كانت تؤكده معظم فصائل اليسار في دول العالم الثالث ... ولا بأس هنا من إشارة سريعة، قد تبدو خارجة عن الموضوع، إلى أحداث قريبة العهد، دحضت الادعاء الآخر القائل إن العالم الإسلامي لا تلائمه الديمقراطية «المستوردة من الغرب»؛ فقد أثبتت الانتخابات الباكستانية التي انتصرت فيها بي نظير بوتو ابنة الزعيم الباكستاني، الذي وصفته جميع التيارات الإسلامية بالعلمانية، أن ذلك الشعب المسلم لم يجد أي تعارض بين عقيدته وبين ممارسة الديمقراطية، بمعناها الإنساني العام، وأنه حين واتته الفرصة عرف كيف يختار بطريقة واعية ناضجة، على الرغم من جميع الظروف الصعبة التي يعانيها.
أما الخطأ الثاني الذي كان الفكر العربي يقع فيه بشأن الديمقراطية، فهو الاعتقاد الذي شاع طويلا بأن هناك تعارضا بين الديمقراطية السياسية وما يسمى بالديمقراطية الاجتماعية، أو بين الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية. فقد انتشرت بيننا فلسفة تبناها «الميثاق» المصري في أوائل الستينات، كما تبنتها بعض الأحزاب العربية ذات الاتجاه القومي، تؤكد أن الديمقراطية النيابية المرتكزة على الحريات المعروفة (حرية التفكير والتعبير والعقيدة، إلخ ...) تظل شعارا شكليا أجوف خاليا من المضمون، ما دام المجتمع مفتقرا إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، فالشعب الجاهل، الجائع، المريض، لا يعرف كيف يمارس حرياته أو يختار ممثليه، بل إن ممارسته للديمقراطية تنتهي عمليا إلى سيطرة أصحاب المال والأرض والنفوذ عليه، فتتحول تلك الديمقراطية آخر الأمر إلى خدعة ومهزلة. هكذا قيل لنا، وعلى هذا النحو كانت تفكر الأجيال الوسطى والجديدة في عالمنا العربي، ولكن إذا لم يكن مثال باكستان الذي قدمته من قبل كافيا لإقناعنا ببطلان هذا الرأي، فإن أحداث أوروبا الشرقية تمثل تكذيبا مدويا له، فمع كل عيوب الأنظمة الحاكمة السابقة في هذه البلدان، لا ينكر أحد أنها قدمت لشعوبها، في ميدان العدالة الاجتماعية، أضعاف ما استطاع أي حزب أو تحالف شعبي عربي أن يقدمه لشعبه.
ومع ذلك فإن هذه الشعوب ثارت مطالبة بالحرية والديمقراطية، وأسقطت أولئك الذين استغلوها باسم الاشتراكية، ونشروا الظلم باسم العدالة، وطالبت بحقوق قانونية ودستورية إنسانية، وأكدت بأبلغ تعبير أن كرامة الإنسان لا تنفصل عن آدميته، وأنها مطلب يستحيل التنازل عنه مقابل أية مكاسب مادية تزعم الأنظمة أنها تقدمها إلى شعوبها.
ومن هنا فإني أعتقد أن أحداث أوروبا الشرقية قد أسدت إلى العالم العربي خدمة كبرى على صعيد المبادئ السياسية التي تطبق داخل المجتمع؛ لأنها دعمت الدعوة إلى الديمقراطية، وأكدت أن مطلب الحريات التي توصف بأنها «ليبرالية» يتجاوز حدود الثقافات الأيديولوجيات، وفندت المزاعم التي راجت بيننا طويلا حول التعارض بين ممارسة الحرية وتحقيق العدالة الاجتماعية، وأكدت أن القيم الإنسانية العليا تسير كلها جنبا إلى جنب، ومن المستحيل أن يكون الثمن الذي يدفعه الإنسان مقابل سعيه وراء إحداها هو تنازله عن الأخرى.
ولكن هل تؤدي تلك التغييرات العالمية، التي بدأتها أحداث أوروبا الشرقية، إلى نتائج إيجابية مماثلة على صعيد السياسة الخارجية العربية؟
الحق أن الصورة في هذه الحالة تبدو قاتمة، فهناك شعور جارف لدى العرب بأنهم فقدوا، بعد هذه الأحداث، حليفا كان يساندهم في وقت الشدة، وبأن اهتمام السوفيات وبلاد الكتلة الشرقية سيتركز من الآن فصاعدا على إصلاح الأوضاع الداخلية المتردية أولا، ثم يتجه صوب أوروبا الغربية لتحقيق مزيد من الاندماج والتوحد معها، ويتجه إلى أميركا لتهدئة أجواء التوتر معها، ولأنها الطرف الذي لا غناء عنه في عملية نزع السلاح، أما الشرق الأوسط فربما أتى دوره في المراتب الأخيرة من هذه الاهتمامات.
وفي تصوري أن هذا الإحساس بضياع حليف قوي للقضية العربية له بالفعل ما يبرره، في ضوء الاستراتيجيات العالمية الجديدة للاتحاد السوفياتي وللمعسكر الاشتراكي ككل. قبل أن نفكر في التنديد بهذا الوضع الجديد، أو مهاجمة جورباتشوف الذي أدت سياسته إلى هذا كله، ينبغي أن نسأل أنفسنا: هل كنا، في أي وقت أصدقاء حقيقيين للاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي؟
الحق أننا لم نتنبه إلى قيمة هذا الصديق وفائدته لنا إلا بعد أن أحسسنا أننا فقدناه، أو بسبيلنا إلى فقدانه (تماما كما يحدث في حياتنا الثقافية، حين نتجاهل الكاتب أو الأديب وهو يقدم إلينا عطاءه السخي خلال حياته، ولا نبدأ الإحساس بقيمته إلا بعد وفاته)، ففي الوقت الذي كان فيه السوفيات يقدمون إلينا أقصى ما تستطيع إمكاناتهم تقديمه من المساعدات العسكرية مثلا، وضعنا أسلحتهم في أيدي عسكريين جهلاء مخدرين، فجاء عدونا عام 1967م وجمعها كلها في صحراء سيناء، وألحق بنا هزيمة عسكرية تاريخية، ومع ذلك ألقينا اللوم كله على «الروس»، وسارت المظاهرات في أرجاء العالم العربي (بإيحاء من بعض الأنظمة القائمة عندئذ) تهاجم السفارات السوفياتية وترجمها بالحجارة.
وعندما اعتدلت أوضاعنا العسكرية في 1973م وألحقا بالعدو أول هزيمة حقيقية في تاريخه، لأسباب من أهمها نوعية الأسلحة التي حاربنا بها (كما اعترف الرسميون جميعا في المراحل الأولى من تلك الحرب)، انقلبنا عليه بمجرد أن تغير ميزان المعركة، وكانت الشماعة التي علقنا عليها الهزيمة الأخيرة هي أيضا «الأسلحة الروسية»، وكانت القرارات السياسية المعادية للسوفيات، قبل المعركة وبعدها، استفزازية إلى حد لا يتحمله من له صبر أيوب. وهكذا لم نكن نحن أصدقاء حقيقيين للسوفيات في الوقت الذي كنا ننتفع فيه بأقصى ما تسمح له مواردهم المحدودة بتقديمه.
وكما كان العرب أصدقاء سيئين، فقد كانوا أيضا أعداء سيئين: فالمفروض أن العدو الحقيقي هو السياسة الأميركية المنحازة بالكامل إلى إسرائيل، ومع ذلك فبقدر ما كانت سياستنا الإعلامية تهاجم أميركا على المستوى الكلامي، كانت سياستنا الفعلية ترتمي في أحضانها وتنحاز لأهدافها انحيازا يكاد يكون كليا.
وعلى ذلك، فإذا كنا اليوم نتباكى على ضياع التأييد السوفياتي، وعلى استفراد أميركا بالمنطقة، فلا بد أن نعترف بأننا لم نكن نحمل ذرة من التعاطف مع من كان يصادقنا، أو ذرة من العداء لمن كان - ولا يزال - يعادينا، وأن سياستنا السابقة تجاه الصديق السابق لا تشفع لنا لديه الآن حين يجد نفسه مضطرا إلى إعادة النظر في أولوياته، ولا تدفع العدو (الذي يظل محبوبا مهما فعل) إلى أن يعمل لنا في استراتيجيته المستقبلية أي حساب جاد.
لقد حدثت متغيرات المعسكر الشرقي، وهي متغيرات ليست في صالحنا بغير شك، ولكننا قبل أن نلوم العالم ومتغيراته، ينبغي أن نوجه قدرا كبيرا من اللوم إلى أنفسنا، ويكفي أن لسان حالنا، حين نأسف على تراجع التأييد الذي كنا نلقاه من هذا المعسكر، يقول: كم من المصاعب تنتظرنا لو ضاعت منا المساعدات العسكرية والاقتصادية والسياسية التي كنا نتلقاها من هؤلاء الشيوعيين الأوغاد!
وثمة ما هو أخطر من ذلك على صعيد المواجهة العربية الإسرائيلية؛ ذلك لأن القيادات الجديدة في أوروبا الشرقية تضم نسبة لا يستهان بها من اليهود، الذين قد يكون معظمهم متعاطفين مع الصهيونية، فوزير الخارجية المجري الحالية، جيولاهورن، يهودي لا يخفي عداوته للعرب، وهو الذي صدرت منه أولى التصريحات حول وجود عرب ضمن الشرطة السرية البغيضة لتشاوشيسكو، وهو الذي زار إسرائيل في أول رحلة رسمية له، ورفض زيارة أية منطقة عربية أو التحدث مع أي زعيم فلسطيني. وزعيم الحزب في ألمانيا الشرقية الآن يهودي. ودعاة الانفصال في ليتوانيا وأستونيا ولاتفيا يضمون نسبة كبيرة من اليهود. وهناك للأسف ارتباط قوي في أذهان الأوروبيين بين الكفاح من أجل الحرية والديمقراطية، وبين الدفاع عن إسرائيل، على أساس أن الليبراليين الحقيقيين يتعاطفون مع «الأقلية» المضطهدة (إذ لا تزال إسرائيل حريصة على نشر صورة «الأقلية المضطهدة» في وسائل الإعلام وأجهزة الثقافة العالمية، التي يسيطر الصهيونيون على جانب لا يستهان به فيها).
ولكن أخطر القضايا جميعا، بالنسبة إلى العرب، هي هجرة اليهود السوفيات إلى إسرائيل، وهي الهجرة التي يأمل الإسرائيليون منها أن تعوض الزيادة السكانية السريعة للفلسطينيين، أو ما يسمونه «بالقنبلة الديمجرافية» (السكانية)، والتي أنعشت آمال شامير في التمسك بالأرض المحتلة قبل 1967م وبعدها، إلى حد جعله يصدر تصريحه الاستفزازي المشهور في 14 يناير الماضي عن عدم اهتمامه بأية حلول للقضية في الوقت الراهن لأن هؤلاء المهاجرين الجدد في حاجة إلى أرض جديدة واسعة، وخطورة هذه القضية لا ترجع أيضا إلى أن معظمهم سيكونون على مستوى علمي وتكنولوجي رفيع، فهم ليسوا مجرد «يهود جدد» كيهود الفلاشا أو المغرب، وإنما هم قوة نوعية مضافة إلى المجتمع الإسرائيلي، شديدة الخطوة على المجتمع العربي.
ولست أدري كيف قبل السوفيات، في عهد جورباتشوف، معالجة قضية هجرة اليهود ضمن إطار مشكلة حقوق الإنسان، فهل من الأمور المسلم بها أن من حق الإنسان مغادرة وطنه إلى بلد آخر معاد له، يخدم استراتيجية المعسكر الآخر أعظم الخدمات؟ وهل من حقوق الإنسان أن يتخلى أي بلد عن مواطنين أنفق على تعليم كل منهم وتأهيله عشرات الألوف، لكي يتلقاه بلد آخر جاهزا؟ والأهم من ذلك هل من حقوق الإنسان أن تهاجر أعداد ضخمة من بلد معين إلى بلد آخر من أجل إهدار حقوق إنسان آخر، هو الإنسان الفلسطيني، في وطنه وأرضه؟
ولنتأمل هذه القضية من زاوية أخرى، إن اختيار هؤلاء اليهود السوفيات الهجرة إلى إسرائيل بهذه الأعداد الهائلة، دليل على فشل كبير في السياسة الداخلية السوفياتية، فمعنى ذلك ببساطة هو أن النظام قد أخفق طوال الأعوام السبعين الماضية في إدماجهم في وطنهم إدماجا حقيقيا، بحيث يتوحد اليهود مع الأهداف العامة للمجتمع الذي يعيش فيه، مع احتفاظه بتراث أجيال من اليهود، قد ظلت بعد قيام أكبر ثورة في القرن العشرين، تغلب صفة اليهودي على صفة المواطن، وبمجرد أن لاحت لها فرصة، اختارت الهجرة إلى أشد البلاد عداء للبلد الذي نشأت فيه، والذي عاش فيه آباؤها وأجدادها. ولا جدال في أن هذا أمر بالغ الدلالة بالنسبة إلى رفض الطوائف اليهودية الاندماج في أي وطن تعيش فيه، على الرغم من أن أمنية أية أقلية أخرى في مجتمع كالمجتمع الأميركي مثلا، هي أن تنصهر في هذا المجتمع وتتوحد معه، ولكن لهذه المسألة دلالة أخطر بالنسبة إلى مجتمع خاض تجربة جديدة كل الجدة، هي التجربة الاشتراكية، وربى أجيالا على الولاء لفكرة الإنسانية العالمية التي تتخطى حدود القوميات والطائفيات، ثم اكتشف في النهاية أن قطاعا هاما من سكانه يدين بالولاء لبلد رأسمالي بعد من ألد أعدائه، ولا يعترف بمبدأ المواطنة، ولا بتراث الوطن أو تاريخه أو أمانيه، ولا بالأخوة الإنسانية على المستوى العالمي، بل يطغى لديه الانتماء الديني الضيق والمفعم بالأساطير على كل انتماء آخر!
إن كل متابع لتطورات الأحداث في السنوات الأخيرة يعرف جيدا مقدار الضغط الذي مارسه الأميركيون على السوفيات في موضوع هجرة اليهود، ومدى المساومات والصفقات التي حاولوا عقدها معهم، من مساعدات اقتصادية وتجارية وتكنولوجية، في سبيل السماح بهذه الهجرة. ومع ذلك فإن إدراج هذه القضية ضمن قضايا حقوق الإنسان ينطوي على إهانة للعقل البشري، ولكل قيم الإنسانية والتنوير التي يفترض في أية ثورة اشتراكية أن تكون وريثة لها. إن المسألة كلها فضيحة على أعلى المستويات العالمية: فضيحة لكل التجربة السوفياتية السابقة، وفضيحة للرأسمالية الأميركية التي تساوم من أجل اليهود بكل ما تملك من إمكانات، وفضيحة للثقافة اليهودية التي يصفها أصحابها بأنها «إنسانية»، مع أنها أثبتت بالدليل القاطع أنها متقوقعة على نفسها، لا تعترف بوطن مهما كانت أفضاله عليها؛ لأن وطنها الوحيد هو الأسطورة المريضة التي هي ذاتها إهانة للإنسان الحديث ... وأخيرا، فهي فضيحة للعالم العربي الذي يقف صامتا أمام خطر مقبل يهون إلى جانبه أي خطر تعرض له من قبل !
وقد يقال: وما الذي يستطيع العرب أن يفعلوه في موقف كهذا؟! وردي على ذلك هو أن صورة المستقبل، في هذه المنطقة، ستكون على الأرجح على النحو التالي: الوفاق بين المعسكرين يؤدي إلى تراجع نسبي في تأييد المعسكر الاشتراكي (إذا ظل متماسكا) للعرب (سيما وأن مواقف العرب السابقة لا تشجع كثيرا على استمرار هذا التأييد) ولكنه لا بد أن يؤدي أيضا إلى تراجع في تأييد أميركا لإسرائيل؛ ذلك لأن إسرائيل بالنسبة إلى أميركا، هي في جانب هام من جوانبها جزء من متطلبات الحرب الباردة: فهي وسيلة أميركا لضمان وجود قاعدة قوية فعالة في هذه المنطقة القريبة من الاتحاد السوفياتي، ولضمان تدفق البترول إلى الغرب، وعدم زحف الأيديولوجية الشيوعية في اتجاه الجنوب، فإذا انتهت الحرب الباردة، لم يعد هناك ما يدعو أميركا إلى تحمل تلك المسئوليات الجسام التي تقتضيها مساندتها لإسرائيل.
وهكذا يمكن القول إن كلا من الجانبين، العربي والإسرائيلي لن يجد السند القوي الذي كان يرتكز عليه من قبل، وسيكون عليه أن يعتمد على نفسه وعلى قدراته الخاصة، قبل كل شيء.
فالعصر القادم سيكون عصر تحمل المسئوليات، لدى الطرفين معا، ولا بد أن يعد العرب أنفسهم لذلك اليوم الذي سيكون عليهم فيه مواجهة إسرائيل بقواهم الخاصة، وهذا ينطبق بالطبع على إسرائيل بدورها. وإذا كانت إسرائيل قد قطعت أشواطا أبعد منا في العلم والتكنولوجيا، وحسبت حساب اليوم الذي تضطر فيه إلى الاعتماد على ذاتها، فإن هذه الحقيقة تضاعف من مسئولية العرب في إعداد أنفسهم لمواجهة عدو استيطاني لا حدود لشهواته التوسعية، فسوف ينتهي قريبا عصر «المواجهات بالنيابة»، وسيكون على كل طرف أن يدبر أموره بنفسه في مواجهته لعدوه.
ومع ذلك، فإن على الأمة العربية أن تعد نفسها في الوقت ذاته للكفاح في ميادين أخرى غير الصراع بينها وبين إسرائيل، فعلى الرغم من خطورة هذا الصراع، لا ينبغي أن نظل نرقص على الأنغام التي يعزفها لنا أعداؤنا؛ ففي عالم الغد مشكلات أخطر من الصراعات الإقليمية، لا ينبغي أن نقف إزاءها مكتوفي الأيدي، وأضعف الإيمان، في عصر الحاسب الإلكتروني، والثورة الهائلة في المعلومات، وارتياد الكواكب البعيدة، هو أن يتبنى العرب قيم العقلانية والتنوير، ويطبقوها في شتى جوانب حياتهم، ويكفوا عن تلك اللعبة السخيفة التي يربطون فيها عيونهم بعصابة سوداء، ويسيرون متخبطين وسط عالم تخلى عن لعبتهم وسار في طريق النور منذ قرون.
Page inconnue