Le Grand Pari de l'Histoire: Sur quoi Gorbachev parie-t-il?
مقامرة التاريخ الكبرى: على ماذا يراهن جورباتشوف؟
Genres
ويبدو أن جزءا أساسيا من رهان جورباتشوف يرتكز على اعتقاد صحيح من الوجهة النظرية، وهو أن الإنسان الذي عاش في ظل الاشتراكية متمتعا بالأمان والضمان الذي يكفله له المجتمع، وإن كان مفتقرا إلى الحرية والقدرة على المشاركة سياسيا واجتماعيا، سيشعر بأن أقصى أمانيه قد تحققت لو أضيف عنصر الحرية والديمقراطية إلى عنصر الأمان والضمان، ولكن هذا الرهان يغفل، من الوجهة العملية، شيئين يمكن أن تكون لهما عواقب خطيرة: أولهما الرغبة المتعطشة في تصفية الحسابات مع الماضي، التي قد تصل إلى حد الاعتقاد بأن الاشتراكية، مهما اتخذت من أشكال، غير قابلة للإصلاح؛ فهي أشبه بمجرم يستحيل أن تقبل توبته؛ لأن سوابقه أكثر وأفدح من أن تسمح بالثقة فيه. وهكذا فإن القهر الذي مرت به الشعوب الاشتراكية يمكن أن يجعل رؤيتها متجهة إلى الانتقام من الماضي أكثر مما هي متجهة إلى بناء المستقبل.
ومن ناحية أخرى فإن رهان جورباتشوف على الطبيعة البشرية يغفل الجانب المادي فيها إلى حد بعيد، فالرهان ينصب على الإيمان بأن الشعب الذي مر بتجربة الاشتراكية ولكنه عانى خلالها من القهر، سيستعيد ثقته بهذه التجربة بمجرد أن يزول عنه القهر، ولن يقبل العيش في ظل الرأسمالية مهما قدمت له من إغراءات غير أن هذا الرهان ربما كان ينطوي على نظرة مثالية أكثر مما ينبغي إلى طبيعة الإنسان؛ ذلك لأن الغرب الرأسمالي يراهن على الجانب المضاد، أعني الجانب المادي، ويركز على «الحرمان» الذي تعانيه الشعوب الاشتراكية من المأكولات والملابس والأجهزة الحديثة، إلخ ... ولما كان من الصعب، في المدى المنظور، أن توافر إصلاحات جورباتشوف مثل هذه السلع المادية للناس، فمن الممكن أن يؤدي ذلك إلى خسارته للرهان وإلى تراكض هذه الشعوب وراء «الرخاء» الرأسمالي.
وهذه مسألة لا يصح أن يستخف بها من يسعى إلى تكوين رؤية مستقبلية لما ستؤدي إليه بيرسترويكا جورباتشوف؛ ذلك لأن الإغراءات المادية أمر لا يمكن الاستهانة به في سلوك الجماعات البشرية، ولقد رأيت بنفسي مدى تعطش شبان وفتيات بأعداد كبيرة في الاتحاد السوفياتي وبلاد اشتراكية أخرى إلى أشياء تبدو في نظرنا تافهة، كالملابس «الجينز» والساعات الرقمية والمسجلات اليابانية، إلخ ... ورأيت بنفسي كيف أن قطعة اللبان الأميركي أو سيجارة أميركية يمكن أن تكون موضوعا للهفة الإنسان في هذه البلاد، وعجبت وقتها كيف لم يتمكن التعليم والتنشئة الاجتماعية من إقناع الناس بأن من الممكن الاستغناء عن الأشياء الصغيرة في سبيل الاهداف الكبيرة، وما زلت أذكر كيف أن معظم الضباط العرب الذين كانوا يتلقون دورات تدريبية في الاتحاد السوفياتي، كانوا يعودون غير متعاطفين مع التجربة السوفياتية، فإذا سئلوا عن السبب كانت إجابة الغالبية الساحقة منهم تتعلق بأمور مادية، كالسيارة أو الملابس أو أماكن اللهو والترفيه، وندر أن تجد منهم من يحدثك عن انعدام حرية الفكر أو تسلط الحزب الواحد أو غير ذلك من الجوانب المعنوية.
ويمكن القول إن هذا الرهان على الجانب المعنوي أو الجانب المادي من الطبيعة البشرية يشكل ساحة حقيقية لمعركة تدور حاليا في الخفاء بين المعسكرين الكبيرين. ومن الغريب حقا أن الجانب الذي توصف أيديولوجيته بأنها مادية، هو الذي يراهن على معنويات الإنسان، على حين أن الجانب الرأسمالي «حامي حمى الروح» و«نصير الأديان» إلخ، هو الذي تركز دعايته على ما تعانيه شعوب المعسكر الاشتراكي من نقص في الفواكه واللحوم، وعلى طوابير الخبز، وما إلى ذلك من مظاهر الحرمان المادي التي يستحيل على أي مصلح أن يوفرها لشعبه ما بين يوم وليلة، إذا كان قد أتى إلى الحكم بعد مرحلة طويلة من التخبط وسوء الإدارة.
ولننتقل إلى الحديث عن العامل الآخر في مقامرة جورباتشوف الكبرى، وأعني به مقامرته على الزمن، فكل ما يراهن عليه جورباتشوف يحتاج إلى وقت، ولو تصورنا أن الإصلاح الاقتصادي، مثلا، يمكن أن تظهر ثماره في المدى القريب لكنا متفائلين إلى حد السذاجة؛ ذلك لأن الوفر في نفقات التسلح لن يتم إلا بعد وقت، وانعكاس هذا الوفر إيجابيا على الاقتصاد يحتاج إلى وقت آخر، وإزالة آثار البيروقراطية والجمود وسوء الإدارة وفساد الذمم تستغرق وقتا لا يستهان به؛ ولذا فإن أولئك الذين يكررون ليل نهار أنهم لم يلمسوا في الاتحاد السوفياتي تحسنا في الأوضاع الاقتصادية خلال عهد جورباتشوف، لا يستهدفون من ذلك إلا خداع العالم؛ لأنهم يعلمون جيدا أن ثمار اتجاهاته الجديدة يستحيل أن تقطف الآن، ويعلمون أنه ما زال في مرحلة خوض المعارك الضارية التي سيصبح في إمكانه، لو كسبها، أن يضع الأسس لبناء اقتصاد أفضل.
ومن جهة أخرى فإن الإصلاح السياسي، وإرساء دعائم الديمقراطية الحقيقية داخل إطار من الاشتراكية، هو تجربة غير مسبوقة، تحتاج إلى إبداع وابتكار لا نظير لهما، وحين ننظر إلى أرض الواقع سنجد أن تقبل الجماهير، في البلاد الاشتراكية، لهذا النوع من الإصلاح، يحتاج إلى وقت، ولا بد هنا من التمييز، كما قلنا من قبل، بين رد الفعل في المدى القصير ورد الفعل في المدى الطويل؛ ذلك لأن رد الفعل المباشر كان سلبيا إلى حد بعيد، وهذا أمر يستطيع أن يتوقعه أي مبتدئ في التفكير السياسي، فالجماهير المكبوتة لا بد أن تنفجر إذا ما تحررت من القوة التي كنت تكبتها. وقد أخذ جورباتشوف على عاتقه عملية التحرير هذه حين أمر القوات السوفياتية بعدم التدخل، وفتح بذلك الباب أمام ثورة الجماهير في أوروبا الشرقية.
ومن المتوقع تماما في المرحلة الأولى أن تكون ردود الفعل عنيفة، وأن تعمل الجماهير على محو كل ما يذكرها بالعهد السابق، ومن هنا كان تغيير اسم الحزب الشيوعي في بعض هذه البلدان، وإلغاء النص الخاص بانفراده بالسلطة في البعض الآخر، وظهور محاولات لحظر قيام أي حزب شيوعي في المستقبل. وهذا هو رد الفعل المتوقع، في مثل هذه الظروف، خلال المدى القريب، ولكن الأمور لا بد أن تتغير في المدى الأبعد، ولا بد أن يعود الاتزان إلى عقول الناس، بعد أن ينفسوا عن غضبهم ويصفوا حساباتهم، فيبدءون في البحث عن مصالحهم الحقيقية. ولا شك في أن تجربة إزالة جدار برلين كانت لها دلالة خاصة في هذا الصدد، ففي البدء تدفق اللاجئون بعشرات الألوف، وفي نيتهم أن يرحلوا بلا عودة، ولكنهم بعد أن اطمأنوا إلى أن الأوضاع الجديدة ستستمر، وأن وطنهم وبيتهم لن يكون بعد ذلك مكانا للقمع وخنق الحريات ووشايات الأجهزة الأمنية، عاد معظمهم إلى بلدهم، وبدءوا يشاركون في البناء الجديد.
إن الأوضاع التي تجتاح أوروبا الشرقية الآن لن تدوم، ولا بد أن يكون المستقبل شيئا مختلفا عن هذا الوضع المؤقت، وعن الوضع المهيمن السابق عليه، وليس في وسع أحد أن يتصور أن بلدا مثل رومانيا ستعيش في ظل هذا التخبط الذي جعل رئيس الدولة ينقاد لمظاهرة غاضبة محدودة العدد، فيلغي الحزب الشيوعي، ثم يعود بعد يومين فيلغي الإلغاء ويقرر الاستفتاء، ثم يعود بعد يومين آخرين فيلغي الاستفتاء. هذا أسلوب غوغائي في الحكم، يستحيل أن يدوم طويلا، ولا بد أن يبدأ الشعب نفسه في البحث عن مصالحه الحقيقة بعد أن تنتهي فترة تصفية الحسابات الماضية، ولكن هذه الفترة ستتفاوت من بلد إلى آخر، ومن المتوقع أن تطول فترة الغضب تبعا لمدى إرهابية النظام الذي كان سائدا في كل بلد على حدة، وتبعا لفداحة الثمن الذي دفعه هذا البلد في الثورة على الأوضاع القديمة.
على أن من المهم إلى أبعد حد أن نشير، في صدد الكلام عن عامل الزمن هذا، إلى الرهان المضاد الذي يقوم به أولئك الذين لا يريدون للتجربة الجديدة أن تنجح؛ ذلك لأن الوقت لو اتسع لكي تنجح تجربة الجمع بين الاشتراكية والديمقراطية في إطار واحد، لكانت تلك التجربة خطرا ماحقا يمكن أن ينسف دعائم النظام الرأسمالي، في المدى الطويل، بهدوء تام، وبلا سلاح أو حرب. وفي تصوري أن الجمع بين الأمان والضمان الذي تحققه الاشتراكية، والحرية التي تحققها الديمقراطية، حتى لو اقترن بمستوى مادي متوسط، ستكون له قوة جذب هائلة يمكن أن تؤدي مع الوقت إلى غزو قلاع الرأسمالية في أوروبا على الأقل، هذا فضلا عن تدعيم الاشتراكية في نفس البلاد التي تبدي أشد السخط عليها في الآونة الحالية. ولا شك أن القوى المضادة لهذه التجربة تعي هذه الحقيقة جيدا؛ ولذا نراها تسعى الآن بكل ما ملكته من قوة لكي تزعزع أسس هذه التجربة وهي لا تزال في مهدها، فأعداء هذه التجربة يدركون أنهم، إن لم يضربوا محاولة إقامة اشتراكية ديمقراطية في اللحظة الراهنة، وهي لا تزال في موقف الضعف، فسيكون من الصعب عليهم المساس بها في أي وقت من المستقبل، بل سيكون من الصعب إيقاف مدها حتى في معاقلهم الخاصة. ومن هنا كان الرهان المضاد هو: اهدم هذه التجربة الآن، قبل أن تصبح نموذجا مغريا للجميع! ومن أجل ذلك، كان من حق المرء أن يستنتج أن جورباتشوف لو صمد بتجربته هذه سنة أو سنتين أخريين، دون أن يحدث شيء يهدمها من أساسها، فلن تستطيع أية قوة أن تمس تجربته الجديدة التي ستكتسب عندئذ قوة جذب لا تقاوم.
ولنلخص ما توصلنا إليه حتى الآن من نتائج بشأن تلك المقامرة التاريخية الكبرى التي يقوم بها جورباتشوف، فنقول إنه يراهن على تغلب الجانب المعنوي في الطبيعة البشرية، وعلى الصمود سنوات قلائل حتى تتاح لتجربته فرصة الكشف عن إمكاناتها، على حين أن خصومه يراهنون على غلبة الجانب المادي في الطبيعة البشرية، وعلى تكديس المشاكل أمام التجربة الجديدة من أجل هدمها في أقرب وقت ممكن، أو على الأقل من أجل الحيلولة بينها وبين تحقيق ذلك النجاح الذي سيكون مؤكدا لو أتيحت لها الفرصة الكافية. ولا شك أننا نقرأ كثيرا في هذه الأيام عن رغبة العالم الغربي في مساعدة جورباتشوف، ومساندته لإصلاحاته؛ مما يولد لدى القارئ انطباعا بأن «الرهان المضاد» الذي أتحدث عنه ها هنا ما هو إلا تعبير عن مخاوف ليس لها من أساس، ولكن هذه المساعدة والمساندة هي الوجه الظاهر لموقف الغرب، الذي تتقرر سياسته على مستويات متعددة، منها ما هو واضح مكشوف ومنها ما هو خفي مستتر. ومن المؤكد أن الغرب مضطر إلى تأييد جورباتشوف بعد تلك الشعبية الساحقة التي نالها بين الشعوب الغربية ذاتها، والتي يقول البعض إنها فاقت شعبيته حتى لدى شعبه هو . ولم تكن تلك الشعبية مجرد رد فعل عاطفي، وإنما كانت راجعة في المحل الأول إلى الرغبة المتأصلة في السلام، والخوف العميق من حالة الصراع المسلح التي تهدد العالم بالانفجار في أي لحظة، والوعي المتزايد بالأخطار التي تتعرض لها البيئة على مستوى كوكبنا بأكمله، وهذه عوامل ينبغي أن تعمل لها أية حكومة في الغرب ألف حساب.
Page inconnue