Le Grand Pari de l'Histoire: Sur quoi Gorbachev parie-t-il?
مقامرة التاريخ الكبرى: على ماذا يراهن جورباتشوف؟
Genres
على أنني أود، قبل أن أترك هذا الموضوع، أن أعلق قليلا على ميزة الأمان الاجتماعي هذه؛ إذ يبدو أن الأمان المفرط يؤدي إلى عكس الهدف المقصود منه، ويبدو أن العامل في المجتمع الذي لا يمنحه مثل هذا الأمان التام يمارس عمله بحماس أكبر، وبإنتاجية أعظم، مع أن الذهن يميل نظريا إلى تخيل عكس ذلك، ويخيل إلي أننا هنا إزاء مشكلة فلسفية في المحل الأول: فهل من الصحيح أن الإنسان يحتاج إلى قدر معين من الشعور بالخطر كيما يقدم أفضل ما لديه؟ هذا سؤال يكفينا أن نطرحه الآن على القارئ؛ لأن الخوض في تفاصيله سيبعدنا كثيرا عن موضوعنا الأصلي.
لقد كانت الإيجابيات كثيرة بغير شك، ومع ذلك فإن المرء لا يملك إلا أن يأسف بمرارة؛ لأن التجربة كان في وسعها أن تحرز نجاحا يفوق ما حققته بمراحل، لو لم يكن الفساد الداخلي والخلل التنظيمي والاستبداد القيادي قد وصل فيها إلى هذا الحد المؤلم. ويبدو لي أن السبب الرئيسي لهذا الخلل هو أن بلدان المعسكر الشرقي في أوروبا لم تنتقل إلى الاشتراكي من خلال تجربة أصيلة، وإنما فرضت عليها الاشتراكية بشكل أو آخر، نتيجة لغزو الجيوش السوفياتية لهذه البلاد خلال المراحل الأخيرة من قتالها ضد جيوش هتلر المنسحبة في الحرب العالمية الثانية، وكان نصيب الاتحاد السوفياتي من الغنيمة، بعد حرب كان له فيها الدور الأعظم بلا جدال، هو أن يقيم حوله حزاما من الدول ذات الأنظمة المؤيدة له والمندمجة فيه. وهكذا لم تتكون «الكتلة الشرقية» نتيجة كفاح مماثل لذلك الذي خاضه لينين والبلشفيون في روسيا قبل عام 1917م، وإنما جاءت الأحزاب الشيوعية فيها إلى الحكم «بالتعيين» إن جاز هذا التعبير. ومن هنا كانت الفجوة عميقة بينها وبين قطاعات جماهيرية تزداد اتساعا كلما أمعن النظام في ممارسة أساليب القمع. وكان وجود القوات، أو «الحاميات» السوفياتية في هذه البلاد هو السند الأساسي لهذه الأنظمة، وهو الذي يقيها سخط الجماهير في أوقات الشدة.
ومن المؤكد أن هذه الجماهير كانت تختزن في داخلها قدرا هائلا من الثورة المكبوتة، بدليل أنها تحركت بمجرد أن تأكدت من أن سياسة جورباتشوف لا تؤيد التدخل العسكري من أجل دعم أي نظام للحكم لا يرضى عنه شعبه، وحين تبين بالدليل العملي، بعد الانسحاب السوفياتي من أفغانستان في أوائل العام الماضي، أن هذه السياسة حقيقة لا رجعة فيها، كانت تلك إشارة الانطلاق نحو الثورة المكبوتة.
إن جميع الدلائل تدل على أن جورباتشوف كان منذ البدء واعيا بأن الوضع الذي كان سائدا في الكتلة الشرقية يستحيل أن يستمر إلى الأبد، وبأن تغييره بات محتما، وكلما كان التغيير أسرع كان ذلك أفضل، وجميع تصرفاته تؤكد أنه يدرك استحالة بقاء نظام يعلن أنه قام لمصلحة الإنسان، وفي الوقت ذاته يقهر الإنسان ويقمعه.
ومن الواضح أن سياسته تقوم على مبدأ أساسي هو، في ظروف العالم الراهنة، مقامرة كبرى، وأعني به أن على هذه الأنظمة أن تثبت جدارتها بالبقاء بقواها الخاصة، وليس بمساندة الجيوش وقوات الأمن السرية، وإلا فلا مفر من أن تخوض مجتمعاتها تجربة جديدة وتبدأ من الصفر. وبطبيعة الحال فقد رأينا حولنا في الأشهر الأخيرة نماذج كثيرة لمثقفين من المتعاطفين مع الاشتراكية، يلومون الزعيم السوفياتي لأنه فتح على نفسه بابا لن يستطيع إغلاقه، ولأن النتيجة العملية لسياسته توشك على أن تؤدي إلى تصفية المعسكر الاشتراكي برمته، ولكن من يوجهون هذا النقد يغفلون مسائل أساسية: فهل كان المطلوب ترك الأوضاع الفاسدة على ما هي عليه، من أجل الحفاظ على وحدة المعسكر؟ وهل يكون من حق أحد، بعد أن اتضح له مقدار السخط المتراكم لدى الشعوب نفسها، أن يعترض على ما حدث؟ هل كانت تلك اشتراكية بحق، إذا كانت الجماهير قد رفضتها إلى هذا الحد؟ الحق أن أصحاب هذا الاعتراض يسيئون إلى الاشتراكية، التي يزعمون الدفاع عنها، إساءة بالغة حين يستنكرون عملية إطلاق المشاعر الحبيسة لدى الجماهير؛ لأنهم يفترضون ضمنا أن بقاء الاشتراكية رهن باستمرار القمع واستخدام القوة لإخماد كل صوت معارض.
وأخيرا فإنني إذا كنت قد ركزت في هذا الفصل على العوامل الداخلية التي أساءت أبلغ الإساءة إلى صورة الاشتراكية في مجتمعات الكتلة الشرقية، وأكدت أن هذه العوامل تفسر إلى حد بعيد عنف رد الفعل الذي لمسه العالم كله بين شعوب هذه الكتلة ضد أنظمتها الحاكمة، فإن هناك عاملا أخيرا ينبغي ألا يغيب عن بالنا، ما دمنا بصدد استقصاء الأسباب المؤدية إلى هذا التحول الحاد، فمن المؤكد أن هناك أصابع متآمرة تستغل الأخطاء الفادحة لكي تزيد النار اشتعالا، وتوجه حركة الجماهير العفوية إلى طريق تقطع فيه جميع روابطها الماضية، إلى الأبد. وكل من يتابع الأخبار بإمعان، يستطيع أن يدرك بسهولة الدور الذي تلعبه وكالات الأنباء الغربية في تشويه كثير من الأحداث؛ فإذا غير أحد الأحزاب الشيوعية اسمه نقل الخبر بصيغة توحي بأن هذا الحزب قد حل نفسه، وإذا حذفت مادة في الدستور تنص على احتكار هذا الحزب للسلطة، أوحت إلينا وكالات الأنباء بأنه قد استبعد نهائيا من الحكم، هذا فضلا عن الانتقائية الواضحة في اختيار الأشخاص الذين يقدم إليهم الميكروفون، لإبداء رأيهم في الأحداث والفجاجة المقززة في تصوير الجماهير وهي تقبل على شراء اللحم بنهم، وتلذذ المذيع بالسخرية من الشاب الذي يمسك ثمرة «الكيوي» دون أن يعرف اسمها ... إلخ. هذا كله اصطياد في الماء العكر، على المستوى الإعلامي؛ لأن الفرصة السانحة الآن لا تعوض، والحديد يجب أن يطرق وهو ساخن. أما على مستوى الأحداث نفسها فلا مفر في أن يشك المرء في وجود أصابع أجنبية في تلك التحركات التي تحرض الجماهير على استعجال قطف الثمار، مع أن الإصلاح لم يكد يبدأ إلا بالأمس القريب. ولا أظن أن الحركات الانفصالية والعرقية في الجمهوريات السوفياتية، وهي في الآونة الراهنة أخطر ما يواجه جورباتشوف، تخلو من هذا العنصر التآمري.
وعلى أية حال فإن إشارتي إلى هذا العامل لا تنفي على الإطلاق أن التجربة، بالصورة التي اتخذتها طوال العقود الأخيرة، كانت تحمل في طياتها بذور إخفاق صارخ، وأن ذلك المزيج من الغباء والتسلط والقمع والعناد، الذي كانت تدار به الأمور في بلاد الكتلة الشرقية حتى الأمس القريب، كان هو المسئول الأول عن ردود الفعل العنيفة التي قامت بها جماهير خابت آمالها في أنظمة كانت تقسم ليل نهار بأغلظ الأيمان أنها لا تعمل إلا لصالحها.
الفصل الرابع
هل تصمد النظرية الاشتراكية؟
عندما يجري المرء أية مقارنة بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي، في ظروف العالم الراهنة، فسوف ينتهي حتما إلى تأكيد تفوق الأول على الثاني في نواح هامة وحيوية، على رأسها الاقتصادية. غير أن إجراء مثل هذه المقارنة ينطوي على قدر من الظلم؛ إذ إن التجربة الاشتراكية أولا، أحدث عهدا بكثير من التجربة الرأسمالية، فالأولى امتدت أربعة قرون على الأقل، منذ مطلع العصر الحديث، بينما الثانية لم تبدأ إلا منذ سبعين سنة في دولة واحدة، ومنذ أقل من خمس وأربعين سنة في بقية الدول الاشتراكية في أوروبا وآسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، ومن المتوقع في فترة قصيرة كهذه أن يكون النظام في مرحلة لا يزال يسودها طابع التجريب، وأن يقع خلال تجاربه في أخطاء فادحة.
Page inconnue