سلمناصر الثالث هذا الملك ارتقى إلى منصة الملك بعد أبيه آشورنسير بال سنة 858، واستمر عليها إلى سنة 823، وكانت له حروب كثيرة مع الحثيين، ويظهر من آثاره أن سنغار ملكهم السابق ذكره استمر في أيام هذا الملك الذي حمل عليه الحملة الثالثة سنة 854ق.م، ونقش تاريخها على صفحة في كورخ ملخصه: «إن سنغار ملك كركميش وغيره من الملوك وثقوا بقوتهم، وهبوا لمناوأتي، فتوكلت على قوة فركال السامية وعلى الجيوش المظفرة، فحاربتهم وشتت شملهم وبسلت خيولهم، وأمطرت عليهم طوفان نبال وأفعمت البرية من قتلاهم، وذريت جثثهم كالغبار في الصحراء، وأخذت كثيرا من مركباتهم وخيولهم، وأقمت رابية من رءوس قتلاهم على مدخل المدينة، ودمرت مدينتهم ودفعتها للنهب»، ثم تقدم إلى جبل اللكام وإلى وادي العاصي فضرب جيش المتحالفين، فلعبت بهم أيدي سبأ، وقتل منهم ألف وستمائة قتيل وأسر منهم نحو أربعة آلاف أسير استاقهم إلى نينوى.
وعاد سلمناصر فجمع الحثيون جيشا آخر، وتعقبوا آثاره واستردوا بعض المدن التي أخذها حتى بلغوا الفرات، فعكف الغازي عليهم ونكل بهم، وكان سنغار ملك الحثيين قد حصن مدينة من مدنه تسمى سازابي لا نعلم موقعها، فحاصرها سلمناصر وفتحها عنوة، وكتب على مسلته «دنوت من سازابي أحد حصون سنغار فحصرتها وافتتحتها، وقتلت كثيرا من رجاله وغنمت غنيمة ثمينة، وخربت مدن ولايته، وافترضت عليه جزية ثلاث وزنات ذهب، ووزنة من الفضة وثلاثين وزنة من النحاس ومائة من الحديد، وعشرين وزنة من النسيج الأبيض والبرفير، وابنته مع حلاها، ومائة بنت من الأشراف وخمسمائة ثور وخمسة آلاف خروف»، وجاء في الخطوط المنقوشة على الثيران المقامة بقصره في نينوى أنه فتح في إحدى حملاته سنة 846 سبعا وثمانين مدينة من بلاد الحثيين، وأراد سلمناصر أن يخضع سورية الوسطى، فعبر الفرات مرة أخرى واستوفى الجزية من الخاضعين له في سورية الشمالية، وسار إلى وادي العاصي، فتألب عليه إبدكولينا ملك حماة وابن هدد الأول ملك دمشق وعصابة من الحثيين، فكان المتحالفون عليه اثني عشر ملكا من جملتهم أخاب ملك إسرائيل، وتسعرت نار الحرب في كركر، فكان النصر له، وقد كتب في آثاره: «أنه قتل من الأعداء حينئذ أربعة عشر ألفا وانثنى عليه ابن هدد فبدد شمله ثانية، وقتل منهم عشرين ألف قتيل»، وانهزم ابن هدد في البحر فتتبعه على التيار لكن لم يدركه.
رمان نيرر الثالث حفيد سلمناصر الثالث حمل على بلاد الحثيين، وتطرق منها إلى فونيقي حتى صيدا وصور وبلاد عمري أي: مملكة إسرائيل وبلاد أدوم وفلسطين، ودخل دمشق وأسر ملكها المسمى مرياه أو مرياح، وكتب ذلك على أثر له ذكره لانرمان مجلد 4 صفحة 211، على أن خضوع هذه البلاد لملوك آشور لم يكن إلا موقوتا، فإذا عاد الغازي إلى عاصمة ملكه عاد الحثيون وغيرهم إلى استقلالهم، واستفحل أمرهم في بلادهم، وعليه استمر الحثيون ينعمون بالا في هذه الحقبة إلى أن رقي إلى منصة الملك.
تجلت فلاصر الثاني سنة 745ق.م فغزا سورية سنة 743ق.م، ويظهر من فقرة من آثاره أنه غشي سورية ظافرا، وأكره ملك الحثيين المسمى حينئذ بيزيريس على الخضوع لسلطته، وأقام بعسكره في أرباد المعروفة الآن بتل أرفاد في جهات حلب، وكان سكانها حثيين، واستدعى جميع ملوك سورية ليأتوه بالتقادم دلالة على انقيادهم لأمره، فأتوه بها صاغرين فانصرف مظهرا الرضى عنهم، على أن هذه التقادم هيجت مطامعه، فعاد السنة التالية إلى سورية فلم يكن الملوك المذكورون هذه المرة أوغادا، بل أخذتهم الحمية وضمتهم العصبية فقاوموه أشد مقاومة، واستمر على حصار أرباد سنتين، ولما فتحها تيسر له قهر باقي الملوك السوريين، فاستسلمت إليه حماة فجلا من أهلها جما غفيرا، وكذلك فعل بغيرها فكان المجلون إلى بلاده ألوفا، وأداه ملك سورية الجزية، وقد عدد هؤلاء الملوك في أحد آثاره متفاخرا ... فكان منهم بيزيريس ملك كركميش وأنبال ملك حماة ورصين ملك دمشق ومنحيم ملك السامرة، وحيرام ملك صور وسيبيتي بعل ملك جبيل، على أن الغازي ترك بعضهم على منصات ملكهم، لكنهم بدلا من أن يعنوا بلم شعث شعوبهم وإصلاح شئون بلادهم عادوا إلى معاداة بعضهم بعضا، فرجع إليهم تجلت فلاصر بجيش جرار سنة 734ق.م، فاستحوذ على مدنهم ونكل بأهلها وبسط صولته إلى أطراف فلسطين الجنوبية، ولما هم بالعود إلى بلاده استدعاهم إليه، فكانوا خمسة وعشرين ملكا.
سرغون بعد أن ملك بلاد آشور افتتح السامرة وصور ودمشق، وأغضى عن بيزيريس ملك الحثيين لقربه من بلاده، ولما رآه بيزيريس متشاغلا في حروبه حالف بعض ملوك آسيا الصغرى، ودرى بذلك سرغون فدهمه بغتة، وهاك ما كتبه: «في حملتي الخامسة (سنة 717 أو سنة 716ق.م) كان بيزيريس عصى كبار الآلهة، وعقد عهودا مع ميتا ملك بلاد موشكة، فأخرجته من مدينته، وأخذت خزائنه وكبلته بقيود الحديد، وغنمت ما كان من الفضة والذهب في قصره وجلوته مع سكان كركميش إلى بلاد آشور ... وأسكنت قوما من بلاد آشور في مدينة كركميش»، وأقام سرغون حاكما آشوريا في كركميش، فإنه استطرف هذه الطريقة في أن لا يبقي الولاة الوطنيين على مناصبهم بل ينصب مكانهم ولاة من بلاده.
وعليه فقد لحق الحثيون ببني إسرائيل المسبين إلى آشور وبابل، وانقرضت بهذه الضربة مملكة الحثيين، وكان بيزيريس آخر ملوكهم. (4) في ما يؤخذ من تاريخ الحثيين عن آثارهم
قد اكتشف في جهات سورية، ولا سيما الشمالية وفي آسيا الصغرى وبلاد اليونان وجزرها وغيرها آثار كثيرة للحثيين، وخطوط غير المصرية والآشورية، فأنبأتنا بما كان لهم من الصولة والسؤدد والمهاجرة إلى أصقاع شاسعة، على أن خطوطهم لم يتيسر إلى الآن حل رموزها، ومتى حلت كما يرجى أكسبتنا معارف كثيرة وزادت في تاريخهم، وفي اللغة المكتوبة فيها خطوطهم خلاف ... فمن قائل: إنها سامية، ومن قائل: إنها حامية، وقد اشتهر الحثيون بصناعة النحت، تشهد بذلك آثارهم الباقية، ولا سيما في أطلال بوغاز كوى بآسيا الصغرى، وقد أتقنوا هندسة التحصين كما يرى في محاصن بوغاز كوى المذكورة، وقد مهروا في استخراج المعادن كما يظهر من مناجم بلغارداغ في آسيا الصغرى أيضا، ونسب إليهم صناعة تحويل الحديد فولاذا ... وقد رأى بعض العلماء أن قسما كبيرا من الصناعة عند اليونان انتحلوه عن الآشوريين بواسطة الحثيين، ورأى بعضهم أن صناعة الحثيين خاصة بهم لم يأخذوها عن غيرهم، واحتجوا لرأيهم بأن آثار الحثيين في بوغاز كوى وغيرها أقدم من آثار الآشوريين ... حتى تفاخر تجلت فلاصر الثاني بأنه بنى في كالح صرحا أشبه بقصور الحثيين، وعلى كلا القولين فإن اليونان أخذوا أشياء كثيرة في صناعتهم من الحثيين.
ديانتهم:
يظهر أن الحثيين أخذوا ديانتهم عن البابليين، وبثوها في سورية وآسيا الصغرى، وتطرقت ومن ثم إلى بلاد اليونان، فإن معبودات كل هذه القبائل واحدة، وإن اختلفت اسما ... فعشتروت البابلية هي من معبودات الحثيين والكنعانيين وابنها وعروسها هو تموز أو أدونيس عند الفونيقيين، ويسميه الآراميون في سورية هداد وهو في آسيا الصغرى أنيس راعي النجوم، وجميع هذه القبائل تبكيه؛ لأنه قتل يافعا ثم تحتفل لقيامته من الموت، وفي لبنان صورته قتيلا في الغينة من الفتوح وصورته قائما من الموت في المشنقة من عمل جبيل.
ملابسهم وأسلحتهم:
Page inconnue