Muhalhil, le seigneur de Rabia
المهلهل سيد ربيعة
Genres
ثم توقف عن إتمام قوله كأنه لم يشأ أن يدع نفسه تتمادى في هذه الخواطر اليائسة في مثل تلك الساعة الخطيرة. وهز نفسه ووقف ينظر بلهفة إلى الفضاء الفسيح حيث يترجح ميزان القضاء.
وسارت الكتيبة الصغيرة حتى صارت في منبسط الأرض، فوقفت تنظم صفوفها وترتب خطتها، فاختار همام جماعة من الفرسان ليكونوا معه طليعة، واختار جساس جماعة أخرى ليكونوا لهم ردءا، وأرسلت طائفة ثالثة مع عمرو بن السدوس إلى ثنية وادي واردات لتكمن للعدو، وتخرج عليه إذا وجدت الفرصة سانحة.
واتفق قادة شيبان على أن يتقدم همام إلى العدو فيحاربه ويبارز أبطاله، حتى إذا التحم الجيشان واستحر القتال، تظاهر همام بالهزيمة، فيقف جساس بمن معه في وجه العدو المتقدم، حتى يتمكن همام ومن معه من العودة إلى المنبسط الفسيح دون الكثبان، ليستريحوا ويشربوا من قرب ماء يضعونها في الرمال ، ثم يتظاهر جساس بالانهزام متياسرا، ويتقهقر بجماعته إلى ناحية الكمين، فإذا ما أوغل العدو وراءهم في السهل وظن أنه أوقع بهم الهزيمة، وقصد إلى منازل شيبان ليسبي من فيها من نساء وأطفال، ويغنم ما بقي بها من مال وأثاث خرج عليه كمين ابن السدوس فجأة، وعاد همام وجساس يكران عليه بجماعتهما فيأخذونه وهو آمن مشتت، مشتغل بجمع الأسلاب، ويوقعون به هزيمة محققة يستردون بها شرفهم، وينتقمون لما سبق من مصابهم.
ولما تم تدبير هذه الخطة تقدم همام وقد حمل قربة من الماء جعلها على عاتق فرسه، وقال لأصحابه: «لا ينس أحدكم أن أمامه اليوم قتالا مجهدا في صحراء جرداء، فليحمل كل منكم قربته فإذا صرنا عند الكثبان جعلها في موضع يعرفه، فإذا أجهده القتال قصدها فارتوى ثم عاد إلى قتاله نشيطا، فاليوم لا يموت إلا العطاش.»
ثم هز فرسه فعدا به نحو الكثبان، وأصحابه وراءه يسوون سلاحهم ودروعهم، وقد امتلأت قلوبهم عزيمة وأنفة. وكانت تغلب لا تزال وراء الكثبان تنتظر أمر المهلهل بالسير، وهي تملأ الفضاء خيلا ورجالا. وكانوا لا يظنون أن بني شيبان يجرءون على المسير إليهم، فقد كانوا يعلمون أنهم صاروا في قلة من العدد، وجهد من طول الحرب، يقيمون في أرض قاحلة، ويقاسون مرارة العيش في واد قفر. وكان المهلهل يرى أن تلك الغارة لا محالة تأتي عليهم، وتقضي على من بقي منهم؛ ولهذا لم يتعجل في زحفه، بل كان يؤثر المقام في مكانه حتى يفتر الحر وتميل الشمس، فيسطو عليهم سطوة لا يلبثون معها أن يتفرقوا، فيقتل فيهم ما شاء حتى إذا أقبل الليل كان قد طواهم في هزيمة قاضية.
كان المهلهل لا يزال في خيمته يستظل حتى تميل الشمس عن كبد السماء، فإذا كتيبة شيبان تطلع من وراء الكثبان وتهبط على فرسانه كما تحل العاصفة فجأة. فاضطرب الجمع المحتشد، وتواثبوا إلى خيولهم وتصايحوا يدعو بعضهم بعضا، وينادي قريبهم البعيد. فوجد همام في ذلك الاضطراب فرصة فانتهزها، وأهوى بجماعته القليلة على من لقيه من أدنى القوم ، فقتل فيهم مقتلة عظيمة، حتى هم سرعان بني تغلب بالانهزام، ودفع المنهزم أخاه من ورائه، وكادت المفاجأة تنتهي في تغلب إلى نكبة كارثة.
وعند ذلك أقبل المهلهل من أقصى الميدان في سلاح تام ودرع ضافية، واندفع إلى عدوه كأنه سهم انطلق من قوسه لا يتردد ولا يميل، وهو يضرب بالسيف تارة ويطعن بالرمح أخرى، فلا يصمد إلى فارس حتى يجدله، ولا يجالد بطلا حتى يصرعه، كأن صخرة تهوي حيث هوى. وهو كلما ضرب فارسا صاح بصوت يدوي: «وا كليباه!» فعرفت شيبان الضجة وعرفت أنه مهلهل بن ربيعة الذي آلى على نفسه ألا يزال دهره على أهبته لا ينزع جوشنه ولا يضع درعه ولا بيضته.
ووجد بنو تغلب عند ذلك متنفسا من الوقت للاستعداد، فركبوا خيولهم سراعا واجتمعوا من أطراف الفضاء خفافا، وعاد الذي كان ينهزم، واطمأن الذي كاد ينخلع وأحاطوا بكتيبة همام حتى كادت لا تجد ثلمة للفرار.
ولكن بني شيبان وإن كانوا قلائل في العدد، كانوا من فرسان اعتادوا مقارعة الأبطال، وطالت بهم منازلة الشجعان، فما زالوا يتلقون الضربات بالدروع، ويتواثبون فوق خيولهم كالسعالى من الجن، حتى استطاعوا أن يخرجوا من حلقة العدو، وقد أوشكت أن تلتئم حولهم، وأسرعوا فوق الكثبان منهزمين نحو الفضاء الفسيح الذي دونها. ولحقت بهم خيول تغلب غير مترددة، وتدفقت وراءهم كأنها السيل ينحدر إلى بطن الوادي. ولكن المهلهل بقي حيث كان، فما كان مثله ليتبع منهزما؛ فهو للقاء العدو المقبل، وليس لاقتفاء المنهزم المدبر.
كان جساس عند ذلك رابضا بمن معه وراء الكثبان، فلما رأى خيول تغلب تتدفق فوق الكثبان أسرع إليهم فوقف في سبيلهم، فعطف المغيرون عليه وتركوا هماما ومن معه يمضون في سبيلهم.
Page inconnue