ورأيت في أقصى البهو أربعة من الذوات، عليهم الشكل المغربي؛ فجلست إلى الباب وهم بأعلى مكان من البهو، فتهامسوا وتذاكروا، فجاءني أحدهم، وبعد أن سلم قال لي: إن هذا هو عبد العزيز شاويش يبلغك التحية ويدعوك إلى حيث هو. فقلت: أقرئه السلام، وقل له: ليتفضل هو إن كانت له بي حاجة، أما أنا فليست لي به حاجة. فذهب إليه وبلغه، فجاء ومن معه؛ وبالطبع قمت لهم، وبعد أن تصافحنا جلس وقال:
ما هذه الحالة بالحجاز؟ كلما أرادت الدولة أن تقوم بمشروع إصلاح أوجد لها سيادة الأمير أنواع المعاذير؟ مثال ذلك الخط الحديدي وعدم الأمان في الطرق؟ والآن ستنشأ بالمدينة المنورة كلية إسلامية عهد إلي برئاستها. وقد علمت أن الشريف يعارض أيضا في هذا المشروع، وأن هذه المعارضات مستوجبة كدر الخليفة الأعظم. فإن كان هناك أي سبب معقول، فأنا على استعداد لإزالة أي خلاف بين والدك والدولة. وما وقع أخيرا في الحجاز، من صد الوالي النبيه والقائد المحنك وهيب بك عن القيام بإصلاحاته المرسومة، أمر استوجب استياء أهل الإخلاص.
وسكت، فقلت له: أتممت ما تريد أن تقوله؟ فقال: نعم.
وفي تلك اللحظة جاء مرافق الوزير، وقال: عذرا، انتظروا عشر دقائق، فإن المشير فون ساندرس باشا لا يزال عند أنور باشا. فقلت: لا بأس. ثم توجهت إلى الشيخ عبد العزيز شاويش، وقلت له:
أشكرك على عزمك في الوساطة، إن كان هنالك ما يوجبها. أما قولك إن سيادة الشريف يعتذر عند كل إصلاح يراد، فهو قول بني على الظن؛ وأما عدم الأمان فهل لي أن أسألك عن سبب قيام الإدارة العرفية بدار الخلافة؟ وما قلت من عدم أمان السابلة، وهو مجرد أخبار لا حقيقة لها، فهل يستطيع الأستاذ أن يذكر وقائع معدودة وحوادث حاصلة بعينها؟ وأما الكلية التي ذكر الشيخ أنها على وشك الإيجاد، وكيف يتسنى لأمير مكة أن يعارض فيها، فالبلاد بلاد السلطان ولا علم لي أنا بما ذكرت، وليس لي أن أطلع على كل ما يكتب إلى الشريف من الدولة؛ فربما وقع ذلك، وربما كانت قد أتت ببعض النصائح مبينة التحبيذ للكلية وموضحة للكيفية التي ينبغي بناء هذه الكلية عليها. أما أنت أيها الأستاذ، فليس لك هناك - كما سمعت - صفة علم، بل الشائع عنك أنك كاتب صحفي، وفي الحجاز من العلماء الأعلام من لهم منتهى درجات الاحترام.
فبهت، وإذا بالياور يدعوني، فقلت السلام عليكم.
وقمت فدخلت على أنور باشا، فأقبل يحييني، فلما جلست قال:
ما هذا؟ نحن نريد لو استطعنا أن نخلق من الشجر رجالا، لنضيفهم على أعدادنا، والحجاز يقتل فيه رجال الأمن، كما وقع على مدير الجندرمة والدفتر دار؛ ولكن والحمد لله كما علمت قد انتهت الأزمة. فنرجو منك السعي لدفع كل أثر سيئ في قلب والدك، من نحو الاعتماد عليه من الدولة، فإنه في منتهى درجات الاعتماد والحرمة.
فقلت له:
ما هذا القول، وأنا لم أستطع الدخول عليك - وأنت تلقب بقهرمان الأمة - إلا بعد أن أخذت إلى أكثر من مكان واحد، وطلبت مني بطاقات وأوراق هوية؟ وهذا ليس بالدليل على رضا الرأي العام عنك، وأنت المحبوب بالأمس؟ ثم وجدت هنا في غرفة الانتظار، الشيخ عبد العزيز شاويش، الذي أخذ يهاجمني بما يقارب أقوال الوزير الآن، ويعرض وساطته في تسوية الأمر بين الدولة والشريف، وهو عبد العزيز شاويش، والشريف يرث الصداقة بينه وبين السلاطين العظام من عهد أبي نمي والسلطان سليم إلى اليوم؟! فإذا كانت الأمور انعكست إلى هذا الحد، فلا سبيل إلى ما تريد. وأما ما وقع في الحجاز، فما الذي تظنه أن يقع من رجل كوهيب بك، يرسل إلى بلاد مقدسة لها قديمها وحقها، فيريد الاعتداء على ذلك القديم وذلك الحق؟ لقد أرسلتم هذا الرجل ليقع ما حدث. وأنا على علم من أنه رفض ولاية البصرة خوفا من النقيب السيد طالب. فهو كما قال الشاعر:
Page inconnue