إهداء
توطئة
نحن ذوو عون
مكة ومصيفها
في السفر إلى الأستانة
العبرة من التاريخ
الأستانة ... إسطنبول
من إسطنبول إلى الحجاز
الحج
توجه المرحوم إلى شفا نجد
شكل الإدارة العثمانية
واقعة قوز ابا العير
أسس النهضة
مع اللورد كيتشنر
مع الصدر الأعظم سعيد باشا
تغير السياسة العثمانية في الحجاز
مع الصدر الأعظم سعيد حليم باشا ووزير الداخلية طلعت باشا ووزير الحربية أنور باشا
العودة إلى الحجاز لمقابلة الوالد
إلى الأستانة ومنها
من الشريف الحسين بن علي إلى السلطان محمد رشاد
مراسلات مكماهون
بوادر الثورة
الثورة
استسلام القائد التركي الفريق غالب باشا
مع ستورس ولورنس في جدة
إعلان استقلال البلاد العربية ومبايعة الحسين بن علي ملكا على العرب
لورنس!
بعض من عرفت من الإنكليز إذ ذاك
الخط الحديدي
فخري باشا
الوهابية والوهابيون: معارك ومقدرات
بعد تربة والخرما
اللنبي ... كاترو ...
القدوم إلى شرقي الأردن
إلى القدس لمقابلة مستر تشرشل
أول حكومة في شرق الأردن
مجلس المستشارين
إلى لندن
حادثان هامان
الحكومة الرسلانية الثانية
إعلان استقلال شرق الأردن
مجلس الوكلاء
مجلس النظار
أول برنامج وزاري
المنقذ الأعظم في عمان ومبايعة جلالته بالخلافة
الحكومة الركابية الثانية
تطورات ...
تنازل الحسين عن العرش
الحكومة الخالدية الثانية
الوزارة السراجية
وزارة إبراهيم باشا الأولى
وزارات توفيق باشا أبو الهدى
مجلس وزراء بدل المجلس التنفيذي
صورة رد الحكومة البريطانية البرقي على طلبات شرق الأردن المبلغ بكتاب المعتمد البريطاني المؤرخ في 1944/6/16
الوزارة الرفاعية
وزارة إبراهيم باشا الثانية
وزارات ومعتمد
المعتمدون البريطانيون
المندوبون السامون
الجيش العربي
حول فتنة العراق
رسالة من نوري السعيد والجواب عليها
استعراض الموقف الحاضر في البلاد العربية
الوحدة العربية وكيف مزقت
سوريا
امتيازات البترول في الحجاز
ونستون تشرشل وبريطانيا العظمى والعرب
إهداء
توطئة
نحن ذوو عون
مكة ومصيفها
في السفر إلى الأستانة
العبرة من التاريخ
الأستانة ... إسطنبول
من إسطنبول إلى الحجاز
الحج
توجه المرحوم إلى شفا نجد
شكل الإدارة العثمانية
واقعة قوز ابا العير
أسس النهضة
مع اللورد كيتشنر
مع الصدر الأعظم سعيد باشا
تغير السياسة العثمانية في الحجاز
مع الصدر الأعظم سعيد حليم باشا ووزير الداخلية طلعت باشا ووزير الحربية أنور باشا
العودة إلى الحجاز لمقابلة الوالد
إلى الأستانة ومنها
من الشريف الحسين بن علي إلى السلطان محمد رشاد
مراسلات مكماهون
بوادر الثورة
الثورة
استسلام القائد التركي الفريق غالب باشا
مع ستورس ولورنس في جدة
إعلان استقلال البلاد العربية ومبايعة الحسين بن علي ملكا على العرب
لورنس!
بعض من عرفت من الإنكليز إذ ذاك
الخط الحديدي
فخري باشا
الوهابية والوهابيون: معارك ومقدرات
بعد تربة والخرما
اللنبي ... كاترو ...
القدوم إلى شرقي الأردن
إلى القدس لمقابلة مستر تشرشل
أول حكومة في شرق الأردن
مجلس المستشارين
إلى لندن
حادثان هامان
الحكومة الرسلانية الثانية
إعلان استقلال شرق الأردن
مجلس الوكلاء
مجلس النظار
أول برنامج وزاري
المنقذ الأعظم في عمان ومبايعة جلالته بالخلافة
الحكومة الركابية الثانية
تطورات ...
تنازل الحسين عن العرش
الحكومة الخالدية الثانية
الوزارة السراجية
وزارة إبراهيم باشا الأولى
وزارات توفيق باشا أبو الهدى
مجلس وزراء بدل المجلس التنفيذي
صورة رد الحكومة البريطانية البرقي على طلبات شرق الأردن المبلغ بكتاب المعتمد البريطاني المؤرخ في 1944/6/16
الوزارة الرفاعية
وزارة إبراهيم باشا الثانية
وزارات ومعتمد
المعتمدون البريطانيون
المندوبون السامون
الجيش العربي
حول فتنة العراق
رسالة من نوري السعيد والجواب عليها
استعراض الموقف الحاضر في البلاد العربية
الوحدة العربية وكيف مزقت
سوريا
امتيازات البترول في الحجاز
ونستون تشرشل وبريطانيا العظمى والعرب
مذكراتي
مذكراتي
تأليف
عبد الله بن الحسين
إهداء
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمده وأصلي على نبيه الكريم
وأسأله التيسير والهدى والرحمة والغفران
توطئة
تعريف وطفولة
هذا دفتر حياتي، أودعته وقائع أيامي والليالي، وكفى بالله حسيبا.
أنا عبد الله بن الحسين صاحب النهضة العربية الأخيرة وموقظ قومه من رقدتهم ومؤسس ملكهم، ابن علي بن محمد أمير مكة بن عبد المعين بن عون، وأمي عابدية بنت عبد الله بن محمد بن عبد المعين بن عون بن محسن بن الحسن بن عبد الله، وهو الذي تنتمي إليه العبادلة من شرفاء مكة.
ولدت بمكة المكرمة، وشعرت بالوجود أول ما شعرت بالطائف وأنا أحبو. أذكر ذلك جيدا حينما أتت إحدى النساء، فرأتني وخشيت علي السقوط من الدرج، فقالت: من أنت؟ فقلت: أنا عبد الله. فحملتني وأدخلتني إلى مكان به ظئري. هذا أول ما أذكر من الدنيا.
توفيت والدتي وأنا في الرابعة، وقد أقبلت على الخامسة من سني عمري، فكفلتني جدة والدي لأبيه، وهي الشيخة صالحة بنت غرم الشهرية العسبلية أم علي بن محمد بن عبد المعين بن عون، فنشأتني تنشئة عربية محضة؛ وكانت معها بنتها هيا بنت محمد بن عون عمة والدي، فروعيت بينهما خير رعاية. وكانت تألف النساء العربيات من قومها بني شهر، ومن نساء العشائر من الحجاز، فكنت بينهن أصغي دائما إلى ما يلقينه على مسامعي من وقائع وحوادث بين العشائر، ويذكرن ما جرى من أحوال في عهد الوهابية الأولى، وما وقع من حرب حينما دخل والي مصر محمد علي باشا الحجاز لإخراج الوهابية، ويذكرن الأيام بين ذوي عون - وهو بيتنا - وذوي زيد - وهو الفرع الثاني من أمراء مكة - ذاكرات أشعارا حماسية لا أزال أذكرها.
ثم لما جاء سن طلب العلم، قرأنا على المرحوم الشيخ علي منصوري - نسبة إلى المنصورة بلدة بمصر - وهو شيخ والدي الذي علمه القرآن. وكان التدريس على الطريقة القديمة، طريقة إرهاب الطفل وإخافته، فكانت «الفلكة» وهي آلة التهديد، حيث تجمع إليها رجلا الطفل فيضرب، ولذلك فررت منه ومن القراءة والدرس، فتركت رعاية لسني أو لحماية نلتها من الجدة الكبرى الشيخة صالحة بنت غرم المشار إليها. فاستأنفت القراءة بعد ذلك بسنة، في الطائف، وكان فراري من المعلم بمكة. أما شيخي في الطائف، فهو العالم الجليل الشيخ ياسين البسيوني، إمام والدي ذلك الحين، الذي يصلي به وبمعيته، وإمامه وهو شريف مكة وأميرها، ثم إمامه وهو ملك البلاد العربية، وقد تلطف بي وحملني على أن أقرأ، بأن اشترط أن يملكني جملا لفرط حبي للإبل؛ وبالفعل قد أتي لي بجمل ارتبط في ناحية من الحيز المخصص للقراءة. وكان يعلف وكنت أقوم عند رأسه إلى أن ينتهي علفه . ولهذا فللشيخ ياسين المرحوم ولذلك الجمل، الفضل في زوال نفوري من المعلمين ومن القراءة الابتدائية.
وكان أخي، المرحوم الملك علي بن الحسين، قد سبقني في الطلب للعلم والدراسة، وكنت حينما قرأت (ألف باء) كان هو قد اجتاز جزء (تبارك)، وهكذا ابتدأت. ولما وصلت إلى سورة (المرسلات) الشريفة، وبها الآية الكريمة
كأنه جمالت صفر ، أذكرتني كلمة «جمالة» بالجمل، فحفظتها عن ظهر غيب، فأكرمت بذلك السبب بما يكرم به أمثالي، فزاد شوقي إلى التعلم. ولما شرعوا يحفظوننا القرآن الكريم، كان الأخ المرحوم الملك علي وصل في حفظه سورة (الإسراء)، وكنت قد وصلت في حفظي سورة (الرعد)، وكان أخي فيصل يتحفظ سورة (الأعراف). أما الشيخ علي منصوري فله الفضل في تمييز الأصولين في القراءة القديمة والجديدة، وأما الشيخ ياسين فهو الذي فتح الله علي بسبب دماثته وحسن احتياله، رحمهما الله وأسكنهما فسيح جنانه.
أما الخط، فأول من علمني الشيخ عثمان اليمني، ثم الشيخ عبد الحق الهندي، ثم نوري أفندي التركي. وكان الأول أشرسهم، أما الثاني فأتقنهم لخطي الثلث والنسخ، وأما الآخر وهو نوري أفندي فكان أملكهم لخط الرقعة العثمانية. وكان الشيخ عثمان يأمرنا أن يكتب كل واحد منا مئة سطر في اليوم للتمرين، وكانت لي معه قصة عجيبة؛ فلقد كان رحمه الله دامي اللثى كريه الفم، وكانت المحابر على الطراز القديم من تلك التي لها أنبوبة لحفظ الأقلام ملتصقة بها الدواة، وكان الورق يصقل بمصقلة بعد أن يمحى ما كتب عليه بالأمس للاقتصاد، وكانت له عادة يألفها، وهي بئست العادة بالنسبة لفمه الدامي وللثاته المريضة، فكان يلعق الأقلام فتدمي هي أيضا متلوثة بدمه، فيكتب بذلك ثم يعيد القلم في المحبرة فيتهيأ منها هنالك خليط قذر. فعمدت يوما إلى حوش كان للأغوات - أي الخصيان - بها مراكن من الفليفلة الحمراء الشديدة الحرارة، وأخذت منها قدرا وضعته - بعد أن أجدت دقه - في دواة أخي المرحوم فيصل. ولما كان الغد، وجاء بعدي الأخ المرحوم يقدم للشيخ ما كتب، وقفت لأنظر ماذا يحصل، ولما أن لعق القلم وجد لذع الفلفل في اللثاة والشفتين، فتألم، ثم اشتدت به الحالة فطلب الماء فازداد ألمه وورم فمه، فطلب أن ينظر في الدواة وإذا بها الفليفلة، فأمر بأخي - عقابا لما وقع - أن توضع رجلاه في (الفلكة)، فأخذ يبكي ويقسم أنه لم يفعل، وأنا قائم أضحك، فقال القيم على الدرس: ما يضحكك؟ فهربت لاجئا إلى الجدة الكبيرة، وقصصت عليها الواقع كما هو ورجوتها أن تنجد أخي، وإذا بهم قد وقعوا على طبعة رجلي عند مركن الفليفلة، فعرفوا أن ذلك من عملي. وقد سمع أبي بما وقع، فأرسل في طلبي، فاختبأت عند جدته رحمها الله، فحضر بذاته ليحملني إلى الشيخ لأعاقب على جريمتي، فرفضت الجدة تسليمي إليه وقالت: اسمع سبب ذلك. فقصصت عليه الخبر فسرى عنه، وأخذ يضحك لما عرف السبب، وقر قرارهم على أن يمنحوا الشيخ كسوة جليلة وهبة نقدية وأن يصرف بعد الاعتذار إليه، فصرف. وقد بلغ الخبر بعد أيام المرحوم الشريف عون الرفيق بن محمد أمير مكة وعم والدي، فطلبني إليه، فلما جئته أخذ يضحك ويتعجب من عملي ويقول: فطنة غريبة عجيبة! وأمر بإحضار الشيخ عثمان وإحضار طبيب الأسنان عبد الغفار، ولما حضر قال: يا عثمان، تريد أن تعلم أبناءنا الخط وهم علموك كيف تكون النظافة! يا عبد الغفار اخلع أسنانه. فأخذ الشيخ يصيح ويستغيث بي، وكان الشريف مازحا، فكافأه بهبة قدرها ألف وخمسمائة ريال، وأوصاه بأن يتداوى.
صاحب المذكرات في طفولته.
نحن ذوو عون
إن عونا هذا الذي تنتمي إليه الأسرة الهاشمية الملكية، هو عون بن محسن بن عبد الله المار ذكره، تفرعت منه ثلاثة فروع: فرع محمد وهم أهل الإمارة، وفرع هزاع، وفرع ناصر. فأما محمد وهزاع فهما ابنا عبد المعين بن عون بن محسن بن عبد الله، وأما ناصر فهو ابن فواز بن عون، وهذا الفرع فيه إمارة الطائف عندما تكون الشرافة في ذوي عون، والشرافة في عون هي لبني محمد بن عبد المعين.
مكة ومصيفها
مكة المكرمة عاصمة الإسلام وبلد الله الحرام الآمنة المطمئنة، والطائف مصيفها. وبمكة يجتمع المسلمون بسبب الحج، وهو موسم الإسلام. بلد الرفادة والوفادة والسفارة والإيلاف. مصيفها الطائف، وما أبهج الرحلة إليه في تلك القوافل، المزدانة هوادجها ومحاملها بالجوخ الأحمر والبسط الفارسية الجميلة، وما أبهى مراحلها وخيامها والاجتماع بها.
تخرج القوافل عادة من مكة، إذا قصدت الطائف، بعد غروب الشمس، إلى الزيماء أو سولة المرحلة الأولى، كي تقطعها في براد الليل، فتصل إلى الزيماء أو إلى سولة بعيد الشروق، فتجد خيامها وقد بنيت على العين وسط البساتين الخضراء، فتقضي بها زهاء سبع ساعات، ثم تسافر بعد الظهر بثلاث ساعات آمة المرحلة الثانية، وهي ذات عرق تعرف اليوم بالسيل، وهذه المرحلة في طرف السراة، حكمها حكمه في لطافة هوائه وبرده وشجره، فتصل إلى السيل مع الشروق. والسيل هذا نهير يجري دائما ولا ينقطع. وبعد أن تأخذ القسط من الراحة، وتعلو الدواب وتتغدى، يستأنف السفر بعيد الظهر، فتصل الطائف قبل الصبح، وهما أطول مرحلة. وفي القفول من الطائف إلى مكة، يكون السفر منه في ضحوة النهار، ليدخل المسافرون مكة في منتصف الليل، بعد مسير يومين. وفي هذه المرحلة المتعة الممتعة للصبيان، فيركبون أنواع وسائل السفر، من جمال عراب عليها المحامل الظريفة، إلى بغال فارهة وخيل أصيلة وذلائل عمانيات، أو ركاب أحرار عليها رحال الميس، وفوق هذه الفرصة التحرر من الدرس.
أقمنا على هذه الحالة، من طلب للدراسة الابتدائية ورحلات مسرة، حتى عام 1309، فطلب الوالد إلى الأستانة، لاختلاف حدث بينه وبين عمه أمير مكة المرحوم عون الرفيق بن محمد، وبهذا ختمت الدورة الأولى لي ولإخوتي في وطننا الحجاز الأقدس، الذي لا شبيه له في الأوطان، لنستأنف الدراسة في الأستانة، عاصمة آل عثمان.
في السفر إلى الأستانة
في اليوم السابع عشر من شباط سنة 1309 مالية، سافرنا من جدة في الباخرة «عز الدين»، وهي باخرة جميلة منسقة، ذات دواليب من الجنبين وليست من البواخر ذات الرفاس. وكنا نحن الإخوة علي (الملك علي) وعبد الله صاحب الخاطرات وفيصل (الملك فيصل) في رعاية الجدة بزمجهان والدة الوالد، وحرم الشريف عبد الإله بن محمد أمير مكة المكرمة المشهور والمعروف، وكانت العائلة مركبة من اثنتين وثلاثين سيدة وأتباعها، فوصلت الباخرة إلى السويس يوم عشرين من الشهر، وهو أول سفر لي في البحر وكانت حالة البحر ليست بالهادئة ولا بالهائجة، ولقد أصاب الدوار جميع الهيئة المسافرة في أول يوم، ثم أخذ يتناقص. وأما الرحلة في ترعة السويس فكانت ممتعة مريحة، ولقد كرهت نفوسنا الزاد والخبز الأبيض، ولولا الضرورة لما تناوله أحد.
وقد أمضت السفينة ليلة في البحيرة قرب الإسماعيلية، ثم استأنفت السفر إلى بور سعيد، وبها تجلت لنا الحالة الجديدة، فكان من المستغرب أن نرى النساء المسيحيات سافرات. فرست السفينة في الميناء فتزودت بالفحم اللازم، وتزودنا نحن أهل الحجاز بملابس شتوية ثقيلة، ثم سافرت نصف الليل قاصدة أزمير، وكان البحر في غاية الهياج والجو ماطرا، فكانت تجري في موج كالجبال، لا يستطيع الإنسان معه أن يسير أو يقف على قدميه، فاضطرت السفينة إلى التعريج على ميناء ليماسول في قبرص، ووصلت إلى هذه الميناء بعد اثنتين وسبعين ساعة، فأقامت هناك خمس عشرة ساعة، وانتهى العاصف فسافرت من ليماسول والقصد أزمير، ولكن عندما مرت بجزيرة رودس عصف البحر وهاج، فعرجت على ميناء مرمريس، وكان أبهج محل رأيته في تلك السياحة جمالا وروعة، تحف بتلك الفرضة جبال شاهقة وقرى لطيفة. وبعد أن رست السفينة حف بها زوارق صغيرة من البلدة، يبيع أهلها العسل الطيب ولبن الزبادي والتفاح وأبا فروة والفندق، ثم سافرت السفينة في اليوم التالي، فلم تقف بأزمير بل استمرت في سيرها ووقفت بميناء الدردنيل، فأنزلت منها بعض المنفيين من الحجاز إلى أزمير، ثم سافرت، وكان وصولنا إلى الأستانة في الليلة السابعة من ذلك الشهر، فرست جوار كوم كبوباب الرمل.
ثم سافرت السفينة مع الفجر وربطت في مرساها أمام القصر السلطاني، وإذا برفاس صغير هيئ لينقلنا إلى الدار الساحلية بقرية أمير كان بالبوسفور، وبها عبد العزيز أفندي مدير دائرة المرحوم الشريف عبد الإله بن محمد عم الوالد الأصغر، فانتقلنا إليها ثم إلى المنزل، فبلغناه بعد ساعة ، والتقينا بالوالد المرحوم فكان لقاء مؤثرا، ثم أمر بأن نسرع إلى زيارة عمه المشار إليه، وصحبنا إليه السيد حسن عرنوس رئيس دائرة الوالد المرحوم، ولما وصلنا رأيناه وقد خرج من دائرة الحرم يسير إلى دائرة الرجال، وهو ربعة من القوم متواضع مائل الرقبة إلى الأمام عريض الجبين كث اللحية أشيبها أشم الأنف، له منظرة مثبتة إلى أنفه بقراص أنفي؛ فأخذ يقبلنا واحدا واحدا، ثم انهملت عيناه بالدمع يبكي ذاكرا الوطن، ثم أضحكته بسؤال عجيب، وهو قولي: يا سيدنا، ما هذا الخشب المهذب المقطع الموضوع في هذا الصندوق؟ إشارة إلى حطب (الصوبة) فقال: هذا الحطب. فقلت: الحطب في الحجاز ليس كهذا، بل هم ملتو معوج دقيق العيدان، إما من السلم أو من السيال. فاحتضنني وضحك وهو يبكي.
ومن أغرب ما استرعى أنظارنا نحن الصغار، البوسفور ومبانيه الساحلية وتلاله المكسوة بالأشجار، والسفن البحرية للشركة الخيرية التي تنقل الناس من البوسفور وقراه إلى الأستانة والبحر ومنها إلى آخر البوسفور، مارة بكل قرية من قرى الساحل معرجة عليها أو مجتازتها. أما مفاتن الأستانة وجمالها، فهو يجوز الحصر والتحديد، في المواسم كلها: من ربيع وصيف وخريف وشتاء.
أما إقامتنا بإسطنبول، فكانت إقامة جبر وإكراه وإقامة تعلم وعبر، وبالرغم عن أن السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله، لما قابل والدي في حضرته يوم وصوله الأستانة قال له إنه إنما استدعاه لينشئه ويرجو منه أن يخدم الدولة ويخدمه، وبالرغم من أنه عينه عضوا في شورى الدولة وأمر بأن تهيأ له دار ساحلية في البوسفور وتفرش، فقد كان في الحقيقة ورغم هذه الاعتبارات، أخذ إلى الأستانة نفيا وتغريبا بناء على معارضته سياسة الظلم والاعتساف بالحجاز، وأخذ الأموال الطائلة من الحجاج بشتى الأساليب، تلك السياسة التي اختطها ولاة الحجاز والأمير عون الرفيق، فقد نفي أثر أخذ الوالد إلى الأستانة كل من العلماء الأعلام: الشيخ عبد الرحمن سراج مفتي مكة المكرمة الأكبر، والشيخ عابد مفتي المالكية بمكة المكرمة، والسيد عبد الله الزواوي مفتي الشافعية بمكة المكرمة، بأن أخرجوا من الحجاز ، وطلب إلى صاحب مفتاح بيت الله الحرام الشيخ عبد الرحمن الشيبي أن يسكن بالهدى.
وبعد ذلك تفاقم الظلم بالبلاد المقدسة الإسلامية، ووقع من الاستيلاء بشتى الصور المخزية على أموال الحجاج مع عدم الأمان، مما أكسب الظالمين الوزر وعدم التمتع، فتشتتوا هم وذراريهم أيدي سبأ، وحاق بالسلطان وبدولته الدمار.
ولقد قال الله سبحانه وتعالى عن البيت الحرام
ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم . فليعتبر كل سلطان أو ملك يمتحن بالخدمة هناك بهذا، فإن الحسنة هناك تضاعف، والسيئة تضاعف.
أما الإخوة الثلاثة (علي وفيصل وأنا) فقد تعلمنا على أيدي معلمين خواص، علم العربية والتركية والعلوم العسكرية.
وإن من جملة الانقلابات الكونية والمحاربات الطويلة، التي مضت وقيدها التاريخ ونحن هناك، حرب الصين واليابان حيث انتصرت الأخيرة، وحرب الحبشة والطليان وكانت الغلبة للنجاشي منلك، وحرب الإسبان والأمريكان وقد غلبت الأخيرة فأخذت جزر هوانة والفلبين، وحرب الترك واليونان وكانت الغلبة للسلطان، وكانت الاضطهادات في اليمن ودفاع الإمام وقد تغلب مرة واستولى على صنعاء، ثم حركة حزب الاتحاد والترقي والانقلاب الدستوري وعزل الشريف علي بن عبد الله أمير مكة مع من عزل من خواص السلطان ووزرائه وولاته وتعيين الشريف عبد الإله بن محمد أميرا على مكة وارتحاله إلى الجنان قبل سفره، ثم سعي حزب الاتحاد والترقي لتنصيب الشريف علي حيدر بن جابر بن عبد المطلب بن غالب، وسعيي أنا لدى والدي للمطالبة بحقه من الإمارة من حيث إنه الأحق الأكبر وإقناعي له بعد جهد وقبوله تسطير مذكرة بهذا الطلب إلى جلالة السلطان بواسطة الصدر الأعظم كامل باشا.
وكانت هذ المذكرة المثبتة ترجمتها إلى العربية هنا وهي:
بناء على وفاة عمي الشريف عبد الإله بن محمد أمير مكة بعد عزل ابن عمي الشريف علي بن عبد الله بن محمد وخلو مقام الإمارة، ولكوني أسن العائلة الهاشمية وأحقها بمقام الآباء فأسترحم جلالة السلطان أن يتكرم بإيصالي إلى حقي الذي لا يخفى على جلالته مع صداقتي وإخلاصي.
وأخذت المذكرة بنفسي، وذهبت بها إلى الصدر الأعظم كامل باشا ودفعتها إليه، فلما قرأها سألني: هل أنت أكبر أنجال الشريف حسين؟ فقلت: كلا، بل أنا الثاني، والأكبر هو الشريف علي بن حسين. فقال: ولم لم يحمل هذه المذكرة هو؟ فقلت: إنه لا يزال يشتغل بمأتم العم الأكبر ووالد زوجته الأمير عبد الإله رحمه الله، فقال: أقبل أنامل والدك وأطلب إليك أن تبلغه بأن حقه لا يضيع إن شاء الله. فخرجت شاكرا وأنا في شك مما قال، فكتبت نسخة برقية إلى مقام السلطنة وهي هذه:
نظرا لشغور مقام الإمارة الجليلة بمكة المكرمة ولكوني صاحب الحق فإنني أنتظر من الأعطاف السنية السلطانية عدم حرماني حقي وتعييني في مقام آبائي.
وعنونتها بثلاثة عناوين للعرض على السلطان: «بواسطة الصدارة العظمى إلى الأعتاب السنية» و«بواسطة مشيخة الإسلام العليا إلى الأعتاب السنية» و«بواسطة رئيس كتاب القصر السلطاني إلى الأعتاب السنية».
وحضرت إلى الدار وأنا أحمل ما كتبت، فقلت لوالدي: إن الصدر الأعظم يقبل أناملك ويقول إن شاء الله لا يضيع لك حق، وإنه لمن المناسب إبراق برقية إلى جلالة السلطان بهذه العناوين. وفي تلك الليلة وبعد أن أبرقت البرقية، وردت برقية من رئيس كتاب القصر السلطاني يقول فيها: إن حضور والدي يوم غد في الساعة الثالثة صباحا مرغوب فيه لدى جلالة السلطان (الساعة غروبية).
ولقد توجه الوالد المرحوم إلى القصر السلطاني حسب الوقت، فعين أميرا على مكة، وعاد بعد الظهر وهو صاحب مقام آبائه. وكان من هذا التعيين أن أغضب حزب الاتحاد والترقي عليه - أي على والدي - فكان مبدأ الخلاف بينه وبين كل حكومة اتحادية، حتى وصلت الحالة من ذلك الاختلاف إلى حين ترؤسه رحمه الله حركة النهضة العربية في الحرب العامة السابقة، على ما سيجيء.
العبرة من التاريخ
نشير إلى من يتصفح ملخص التاريخ الإسلامي،
1
أن للظهور والاعتلاء أسبابا، كما أن للتدني والتضعضع والضياع أسبابا. أما أسباب الظهور والاعتلاء فالإيمان والجماعة والتنفيذ والأمانة في الرئاسة، وأما أسباب التدني فهي في التفرقة واختلاف العقيدة والحسد والتدابر. فداء العرب الأساسي هو الترف والعصيان على الأمراء ثم الخروج عليهم؛ ودليل ذلك خروج من خرج على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإن العرب بالخروج عليه قد فتحت عليها باب الفتن والانتكاس. وللعرب عدو آخر وهم إخوانهم من المسلمين غير العرب ودوافعهم القومية، وقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «لا تقوم الساعة حتى يسلب أمتي حقها قوم فطس الأنوف كأنما وجوههم المجان المطرقة».
وكذلك ملوك الطوائف والدول الإسلامية، كدولة بني سلجوق ودولة آل عثمان، أعداؤهم حسد الأمراء والخروج على السلطان وفساد الجند. ولقد جاء في ذكر السلطان عبد العزيز بن محمود خان الثاني، أنه خلع لأنه بذر أموال الخزينة، وقد أفتى بخلعه شيخ الإسلام خير الله أفندي بجوابه (يجوز) على السؤال الذي قدم إليه من مجلس الوزراء ونصه: «إذا كان زيد أمير المؤمنين بذر ما في بيت المال من حقوق المسلمين وعمل فيها بالهوى فهل يجوز خلعه؟» فأجاب: يجوز كما قلنا. ولكن كان السبب الأصلي، لخلعه والقضاء على البيت العثماني بأجمعه، إعلان الحكم الجمهوري. ففي المدة التي كان فيها السلطان مراد الخامس في حالة الجنون، دعت الحكومة أمراء البيت العثماني المذكور لضيافة أقامتها، الغرض منها الفتك بآل عثمان. وقد نمى الخبر على حقيقته إلى السلطان عبد الحميد الثاني قبل جلوسه فاعتذر، ولهذا لم يظفروا بمرادهم. وكان رأس هذه الفئة الصدر الأعظم أحمد مدحت باشا، وكانوا على عزم أن يبايعوا الشريف عبد المطلب بن غالب أمير مكة الأسبق خليفة للمسلمين، لو تم القضاء على آل عثمان. وقد شهدنا جميعا تنفيذ هذه الخطة وإقصاء آل عثمان بعد إعلان الجمهورية في تركيا على يد مصطفى كمال باشا.
وما العرب إلا بالإسلام، وكان من الحق عليهم أن يسعوا إلى استعادة مجدهم وحقهم وخلافتهم. فالثورة العربية الأخيرة التي قام بها المنقذ الأعظم رضي الله عنه ومن معه من عظماء الحجاز، وبإفتاء علمائهم وانضمام عظماء الشام والعراق إليهم، ثورة حق للدفاع عن الإسلام، ثم لتبوؤ العرب المقام الذي خصهم الله به، حيث قال في كتابه العزيز:
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر
فعسى الله أن يقيض لهذه الأمة من يعرف موضع الداء فيها فيحسمه، وكيفية الدواء فيستعمله، قبل أن يقال: وا حرباه ووا عرباه!
لقد كان الانقلاب الجمهوري مطمع أنظار الشباب الترك من عهد مدحت باشا، وخفي عليه أن السلطنة العثمانية لم تصل في حدودها، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، إلا بعد أن انتحلت صفة الخلافة، وأنه بانسلاخ هذه الصفة عنهم ينسلخ العرب بطبيعة الحال. ألست ترى أنهم اليوم أقوى منهم بالأمس وأكثر منهم نظاما وتجديدا؟ ولكن أين شهرتهم بالأمس وتأثيرهم يوم كان سلطانهم أمير المؤمنين، وخليفة رسول رب العالمين؟ لقد تضاءلوا اليوم وصغروا وقد تضخموا بالأمس وكبروا، لذلك أقول إن الشيء اذا خرج عن أساسه فسد.
ونحن اليوم، أي الأمة العربية، كجسم بلا رأس، أو كجسم له رؤوس كثيرة؛ فالجسم الذي لا رأس له فهو حيران لا يهتدي سبيلا، والجسم الذي له رؤوس كثيرة كذلك هو ضال متحير لا يدري يتبع أي رأس من هذه الرؤوس. وقد قال الله سبحانه وتعالى في رده على مزاعم أهل الشرك وفي معنى السماء والأرض:
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا
و
لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون
فالعرب هذ صفتهم اليوم، ذاهب كل رأس من رؤوسهم إلى حيث يريد، وفي شتات الناس ضياع.
الأستانة ... إسطنبول
أما خاطراتي عن الأستانة يومئذ، وإسطنبول اليوم، فخاطرات تجاذب وتدافع بين العصبية الإسلامية والنخوة القومية. فإن قلنا نحن وأنتم أهل الإسلام، قالوا نعم ولكن نحن السادة وأنتم التبع. وإن قلنا نحن وأنتم قالوا خنتم وخرجتم. فالصلاة صلاتنا، والكتاب كتابنا، والشهادتان أصل ديننا، والزكاة اشتراكيتنا والصوم رياضتنا، والحج إلى بلادنا، ولكن يؤمنا رجال لا يدرون معنى ما يقرأون ولا يفقهون مرامي ما يتلون. ترى العالم العلامة من العرب يؤمه من لا يحسن اللفظ العربي ولا الأصل الفقهي؛ كذلك كانت الحال: ذل في عز، وعز في ذل، ومسكنة في ظهور، وظهور في مسكنة. وقالوا
لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي
كذلك كانت الحال.
أما الأستانة، فرائع جمالها، مقبول صيفها وشتاؤها. ما أجمل ربيعها وأكثر ثمارها وأسهل مناخها! جميلة حوت الجمال، وحسناء فتنت الرجال، دار الخلافة جمعت فأوعت: تركي وعربي، شركسي وكردي، ألباني وبلغاري، مصري وهندي، فيها كل أجناس المسلمين على مختلف أزيائهم وألسنتهم؛ فلا غربة ولا غرابة، يجد الإنسان كل ما أراد من أي البلاد.
ولقد زعم الناس أن عبد الحميد كان ظالما، لقد كذب الناس. والله لم يكن بالظالم ولكنه الحذر المتحوط. ولقد عرف بعد أن ذهب، أنه لم يقتل أحدا ولم ينفذ حكم إعدام في محكوم أبدا، إلا مرة واحدة، والبقية يتركون في السجون حتى يدركهم الموت. وأما الذين ينفون من بلادهم إلى إسطنبول، أو من إسطنبول إلى الخارج، فهم أولئك الذين عرض عليه أنهم أهل خلاف عليه أو على سلطانه، فيخرجهم إلى مكان لا يعرفون فيه، فيقي دولته بذلك التدبير الفتن، كما ظن وزعم. ولئن أحصى الناس ما وقع بعده من صلب وتشريد وإدارات عرفية، وصولات في شام ويمن من الحكومات الاتحادية، لعلم أن ظلم عبد الحميد بالنسبة إلى أفعالهم كان عدلا محضا.
بعد وصولنا إلى إسطنبول بخمسة عشر يوما، عين لتعليمنا بإرادة سلطانية الملازم الثاني صفوت أفندي العوا، معاون معلم فن العمارة والهندسة بالمدرسة الحربية، وكان بين الخامسة والعشرين والثلاثين من سنيه. فابتدأنا دروسنا الجديدة على الطراز الجديد، وحظر علينا الكلام باللغة العربية! أما الدروس فهي هذه: اللسان التركي، الجغرافيا، الحساب، مختصر التاريخ العثماني والإسلامي، الصرف العثماني، القراءة بالتركية، وظيفة تقرأ بصوت جهير. وكنا نتمم القرآن الكريم على يد الوالد، وكاد يعلمنا العربية الشيخ محمد قضيب البان، وهو رجل أزهري وأصله حلبي، ثم جيء بشيخ آخر اسمه محمد توفيق أفندي يعلمنا حسن الخط. وبعد عامين وظف لتعليمنا الأديب العالي التركي محمد عارف باشا.
وكان أشدهم علينا صفوت أفندي العوا، وقد ترقى في خدمة التعليم هذه حتى أحرز رتبة قائد (بكباشي) فصار صفوت بك، ثم رقي إلى رتبة لواء في العهد الهاشمي، جزاه الله وجزاهم عنا جميعا خير الجزاء، فنعم المؤدبون هم. وأما محمد توفيق أفندي فقد توفي، وأما الشيخ محمد قضيب البان فقد اتهم تهمة سياسية وطلب إليه أن يغادر الأستانة فغادرها، وكان ذلك العهد آخر عهد لنا به. وأما عارف باشا، فوالدته رضيعة الوالد المرحوم، فهي عمتنا رضاعا، وقد توظف في دار الآثار التركية ورقي حتى حاز الكتابة الأولى هناك، ثم بدت حاجة الخديوي عباس حلمي باشا رحمه الله إلى شخصية معتمدة في الديوان التركي الخديوي، فأوصيته به فعينه بديوانه وكان لا يزال معه حسب ما أعلم إلى أن توفي الخديوي المرحوم، وما كان بيني وبينه من صدق موروث ومحبة مؤكدة أمر لا يخفى على أحد.
هذا وإن كل سني إقامتنا بإسطنبول، كانت سني عبرة واستفادة، وكنا نجتمع بمن بها من الأشراف أهل الحجاز، ولنا أصحاب من أعيان الترك وأشرافهم. وكانت لنا بإسطنبول رحلتان صيفية وشتوية، ولا يمل الإنسان من ذكر المواسم، وخصوصا مواسم الصيد المائي والبري، يعلم ذلك من عاش هناك.
أما السلطان فهو محتجب إلا عن خاصته، لا يخرج من قصره في غير أيام الجمع والأعياد، مهاب محترم، عليه تعلق الآمال، وقد جعل الله تصريف الأمور على يده. وأما الباب العالي والوزارة العثمانية، فبيدها ممارسة أمور الدولة بالشكل العادي، وما ارتفع عن ذلك فالبت فيه للسلطان، حيث لا يكون أي تبديل أو عزل في ولاية أو متصرفية أو مشيرية أو قيادة فرقة أو قيادة لواء إلا بعد عرض ذلك مع تبيين الأسباب والموجبات. وإنه ليمكن القول بأن السلطان عبد الحميد، كان آخر سلاطين المسلمين علوا ورفعة، وأشبه ما حصل بعد خلعه للمسلمين بما حصل للمسلمين، عندما وثب أهل الكوفة وأهل مصر على أمير المؤمنين عثمان بن عفان؛ فان كان عثمان هو الباب الذي كسر بين الفتنة والناس، فإن عبد الحميد كان الباب الثاني الذي كسر في العصر الأخير بين الفتنة والناس أيضا. ولله تصريف الأمور وله الدوام والعزة.
كان في عهدنا بالأستانة من عظماء العرب، الشريف عبد الإله بن محمد، والشريف الحسين بن علي بن محمد صاحب النهضة، والشريف حيدر بن جابر بن عبد المطلب بن غالب، وعمه الشريف أحمد عدنان بن عبد المطلب بن غالب، والشريف جعفر بن جابر بن عبد المطلب بن غالب، والسيد فضل أمير ظفار وأبناؤه، والسيد محمد أبو الهدى الصيادي نقيب حلب، والسيد أحمد أسعد المدني وكيل الفراشة السلطانية بالمدينة المنورة، والشيخ محمد ظافر الطرابلسي المغربي النقشبندي مرشد الحضرة السلطانية وبنوه، وكان السلطان يقبل عليهم جميعا ويرعى جانبهم، وغير هؤلاء آخرون، لهم مصالح يحضرون من أجلها ثم يعودون إلى بلادهم. إلا أنه لا يمكن لأحد ممن ذكرت أسماءهم، الرجوع إلى أوطانهم أو إلى بلد آخر البتة، فكانت إسطنبول السجن المحترم، أو منفى العزازة والإكرام لهؤلاء الأشخاص الكرام.
ومن طريف ما نذكر، فرار أهل الخلاف على جلالة السلطان والمرجفين بإدارته. فكان الفرار إلى أوربا وسيلة لجر المغانم، فإذا فر أحد، كمراد بك المؤرخ المعروف، إلى باريس، أو كأحمد رضا بك الإنكليزي رئيس مجلس المبعوثان أخيرا إليها، أو نزوح الداماد محمود باشا، كانت إسطنبول تقوم وتقعد في همس وتخافت: هل سمعت فر فلان ... هل علمت أن جيران فلان الذي فر أخذوا للتحقيق ... وكان ذلك السلطان العظيم الجرأة يقلق جدا لفرار الشخصيات، لا لهيبتهم في ذواتهم، ولكن لتساؤل الناس ما السبب ما السبب. وفي الحقيقة أنه كان يعمل بحسن نية وإخلاص، فهو إن كان من المخطئين فلم يكن خطؤه إلا في اجتهاده.
من إسطنبول إلى الحجاز
لنلتفت إلى السفر من إسطنبول إلى الحجاز، حيث تجهز الوالد المرحوم بعد أن وصل إلى مقام الإمارة بأسبوعين، على الباخرة المسماة (طنطا) وهي إحدى بواخر الشركة الخديوية حين ذاك؛ وقد قابل السلطان عبد الحميد يوم سفره مودعا، واختلى به أكثر من ساعة ونصف، وكان حزب الاتحاد والترقي يحاول الاستحواذ على الحكم، بعد أن ظفر بما أراد من انقلاب دستوري بتولية المناصب كل من ينتمي إلى هذا الحزب؛ وبالطبع فإن فريقا من الناس الذين يتمسكون بما ألفوه لم يكونوا راضين بما هو حاصل، وكانوا يقولون: هل المستقبل بأيدي من لا خبرة لهم في الأمور أضمن من الماضين الذين في أيديهم الألف السابق؟
وقال لي والدي، إن السلطان عبد الحميد قال له: أسأل الله أن يجازي من حال بيني وبين الاستفادة من مواهبك الهاشمية، وإنني لست بالأمين على الدولة والملك من هذه الفئة المتغلبة. قال فأجبته: إن لذاتكم الملوكية في البلاد العربية الفئة التي إذا تحيزتم إليها كان لكم ما تريدون من حفظ الدولة والملك، ومتى شعرتم جلالتكم بذلك فأول بلد من بلاد العرب تقوم بالواجب المفروض هو الحجاز، وقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم «المدينة خير لهم لو كانوا يعملون»، ولو فعلتم جلالتكم ذلك وجلبتم آل بيتكم معكم، لجبيت إليكم الأموال ولأخضعت لكم رقاب العصاة، لأنكم تكونون حين ذاك فوق متناول أيديهم. قال فاغرورقت عيناه وأجاب: أشكرك أشكرك، بارك الله فيك، ولكن الوقت لم يحن ... ثم وضع وسام الافتخار المرصع بيده على صدره وودعه، وكان حضور الأمير إلى الباخرة تأخر كثيرا، وعند وصوله حضر إلى الباخرة الصدر الأعظم كامل باشا، مودعا ومقدما إليه مذكرة يقول فيها:
إن الخطة المباركة الحجازية مربوطة رأسا بمقام الخلافة العظمى، وإنه لا يسري إليها ما يخالف الحقوق المقدسة، بمناسبة الدستور الجديد، القائمة بين الإمارة الشريفة والسدة السنية السلطانية، فقوموا بواجباتكم السامية على أساس التعامل القديم، وفقكم الله للخير. وإن اعتماد الحضرة الملوكية والباب العالي على ذاتكم الهاشمية، مما لا يحتاج إلى تأكيد. وهذا أول نضال بين السلطان ومتغلبة الاتحاد والترقي، وأول علم أعطي لأمير شريف ليكون السبب في اشتغال هؤلاء بمدعيات قديمة تركز مقام الخلافة والسلطنة وتدعمها، فافهم.
ولما خرج الصدر الأعظم، أقلعت الباخرة ليلا في شهر تشرين الثاني، شهر أوائل العواصف الشتوية، وكانت ليلة لا بأس بها، فالبحر لم يكن بالهادئ الساجي ولا بالهائج المائج؛ وكان في المعية الفريق عمر شاكر باشا المرافق السلطاني يحمل الفرمان، وكنت أنا في المعية، والشريف دخيل الله العواجي والشريف محمد الشنبري ومدير الحرم الشريف المكي حافظ أمين أفندي ومعلمنا صفوت باشا العوا ومحمد شاكر أفندي إمام الإمارة ورجال الحاشية. فاجتازت السفينة الدردنيل بعد ظهر الغد، وبعد أن خرجت إلى بحر إيجا، هاج البحر هياجا لعارض هب كثير الرعد والبرق والمطر، وهي تجري في موج كالجبال، ولم يتمكن الكثير من المعية من الصلاة إلا وهم جلوس. وكانت الحالة على ما وصفت إلى أن وصلت السفينة مضايق أزمير حيث تضاءل الموج، وأما العاصف فاستمر كما هو، فرست السفينة عند الرصيف، وزار الوالي الأمير والقائد أيضا، ثم سافرت السفينة في اليوم التالي في بحر هادئ وجو حسن، استمر إلى أن أقبلت السفينة على طرابلس الشام، فهاجت الريح وعصف البحر؛ وكانت بقية ليل موحش انتهى بالوصول مع السلامة إلى طرابلس، حيث طرقت سمعي النداءات العربية الحبيبة، ورأيت النخيل وشاهدت المباني العربية، فأحسست بشعور غريب يقول: هؤلاء قومك ومعشرك ... وأحسست بشعور بين البكاء والضحك. ثم سافرت الباخرة بعد سبع ساعات إلى بيروت، وقد زار رئيس البلدية والمتصرف سيدنا المرحوم في الباخرة. أما بيروت فوصلنا إليها عند آخر الليل، وأقامت بها السفينة إلى ما بعد الظهر، وكانت بيروت ليست كما هي الآن، ظلت وعليها مسحتها الشرقية في أكثر محالها؛ فخرجت باخرتنا منها في الساعة الثالثة بعد الظهر متوجهة إلى بور سعيد، بعد أن أبرق المرحوم برقيتين إلى المدينة المنورة: واحدة إلى الشيخ يوسف خشيرم «وصلنا بيروت وجهنا إليك وكالة أشغالنا الخاصة» والأخرى إلى الشريف شحاد «وصلنا بيروت متوجهين إلى جدة وجهنا إليك إمارة المدينة توجه بأشراف طرفكم ومشايخ حرب وجهينة إلى مكة المكرمة».
أما البحر فكان في هياج. وقد حصل ساعة خروجنا حادث غريب، وهو أنني صعدت إلى برج السفينة في مؤخرتها ومعي أخي زيد وعابدين بن الشريف دخيل الله العواجي، وهما بعد صغيران في الثامنة من عمريهما؛ وبينما نحن ننظر إلى البحر وجبال لبنان، وإذا بأحمد أفندي بن محمد أفندي مدير الحرم يقف خلفي وقد مد كلتا يديه وأخذ الغلامين من محزميهما رافعهما إلى السماء وهو يقول: يا سيدي عبد الله ماذا تصنع لو قذفت بهما إلى البحر؟ فبهت، وإذا به ينظر إلى صاري السفينة، ثم يترك الولدين ويتوجه إلى السلم الحبل يأخذه صعدا إلى الصاري ويقول: يا سيدي عبد الله أنا صاعد إلى سيدي عيسى بن مريم، انظره في منتهى السلم يدعوني ... فأشرت لأخي وزميله بأن يفرا، ففرا، وأمسكت برجليه وهو يقول: «اتركني» وينظر إلى فوق ويقول «يا سيدنا عيسى مره يتركني» ثم ينظر إلي ويقول «والله لئن لم تتركني لأهشمن أسنانك بما في رجلي»، وإذا بأحمد أفندي الياور وثلاثة بحارة يصلون إلى حيث نحن، فأمسكنا به وتجاذبناه كلنا، ووالله لم نأخذه حتى كاد يعيينا؛ ثم أخذوه وأنزلوه إلى أحد عنابر السفينة لئلا يؤذي أحدا أو يتأذى هو، وقد رآه الطبيب فقال إن مسا في عقله. فاستمرت سفينتنا بعد هذا الحادث، في بحر شديد الرياح والأمواج، فلم نصل بور سعيد إلا في الليلة الثانية بعد الصبح بثلاث ساعات، فرست ببور سعيد، وقدم إلى السفينة الشيخ عبد الله باناجه باشا، ومعه أخوه أحمد أفندي باناجه، ولكن لم يتمكن من الصعود إلى السفينة لمناسبة الحجر الصحي. ثم تبادل المرحوم البرقيات مع المرحوم الخديوي عباس، فتحركت السفينة من بور سعيد ليلا إلى السويس، ومنه رأسا إلى جدة.
وكان الوصول في أول أسبوع ذي القعدة سنة 1328 فرست السفينة، وبعد رسوها وإتمام المعاملات أقبلت السنابك الشراعية نحو السفينة، وفيها مئات الرجال من شرفاء وعظماء ومشايخ عربان، فكانوا يدخلون على المرحوم وكلهم دامع العين شوقا وسرورا. أما الشرفاء فمن آل محمد بن عون: محسن بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عون، وأخو عبد الله، وجميل بن ناصر بن علي بن محمد، وإخوته عبد المعين وزامل. ثم كان يتقدم أشراف الطائف الشريف زيد بن فواز بن ناصر، وابنه عبد الله، وابن أخيه شرف، وبنوه حمود وشاكر وعلي. ثم كان هناك من الفعور الأشراف: حمزة بن عبد الله ومستور. وكان الشريف فتن بن محسن. وكان من أشراف تهامة: الشريف أحمد بن منصور، والشريف شرف بن عبد المحسن، ومحمد بن عبد المحسن، وناصر بن شكر، وسائر ذوي حسين. ثم شرفاء المضيق الحرث ومشايخ حرب وهذيل. ومن العلماء مفتي مكة المكرمة الشيخ عبد الله سراج يتقدم العلماء كلهم. ثم من لا أعرف من الناس. وإن أنس لا أنس ما كان يردح به مقدم بيشة، حيث قد نبأ بردحته عما حصل بعد «أطرد الخوان وأسلم، وباعد من شرد يا ملك مكة، ويا سلطان جميع العرب».
كانت الإقامة في جدة ثلاثة أيام، وكنا في الإحرام، حيث أهللنا من محاذاة الجحفة في البحر، فتحرك الركاب الأميري بعد صلاة العصر قاصدا (بحره) وكان الركب يمثل جلال القومية في روعة وهيبة، فلا تقع عينك إلا على عربي، فالركاب والخيل والأزياء والأدب عربي هاشمي. ولما اتسع المجال في الخبت خبت جدة، أخذ الفرسان يظهرون أنواع التمارين على خيولهم مثنى وجماعات، فسار الركب العظيم على تلك الحالة، إلى أن وصل إلى الرغامة، وهو أول حد الجبال من خبت تهامة، فنزل الوالد وصلى المغرب، وكان على جواد أشقر (كحيلان النواق)، فطلب حين أراد الركوب إحدى الركائب العمانيات - نسبة إلى عمان - فقدمت إليه ناقة كريمة من خيار عمانيات الحجاز تسمى (غروة)، ولما وضع ركبته على الرحال قال «تعود لجداتها ولو قرحت». ثم ركبت أنا أيضا ذلولا عمانية اسمها (الشرفاء)، فسار الموكب على بركة الله، وكان الشريف حمزة الفعر المعروف بالثرثرة إلى جنبي، فقال «أمسك العصا من هنا وضع الرسن هاهنا، تقدم إلى الأمام والو يمنى رجليك الغزال، ثم أسدل يسراك عليها واحثث الذلول بعرقوبك»، إلى غير هذا مما يرى أنه واجب عليه قوله ... ولما أكثر أحفظني وأغاظني، وبالطبع كنت لا أحسن ركوب المطايا، لسفري من الحجاز وأنا طفل وغيبتي الطويلة، فقلت له «ليتلطف الشريف فيعلمني الركوب متى تفرغنا لذلك، وإلا فالسير على الأقدام أحب إلي من أن تباريني بهذا الشكل» فلامه الناس وندمت على ما قلت، لأنه ربما كان حين ذاك فوق الخامسة والسبعين من عمره.
ما أحسن ذكرى تلك الليلة! كان يتقدم جلالته رتل من المشاة السودان الذين يسمون (البواردية )، تتقدمهم جنائب الخيل وهي ست تقاد ليطلب أيها شاء، يتقدمها خمس من نجائب الركاب تقاد أيضا وقوادها راكبون على مثلها، وعلى يمينه ويساره المشاعل يحملها الرجال توقد بالحطب ويقذف فيها اللبان، وأهازيج الحرس الراكب وحداؤه ... فكان موكبا شريفا تحفه الأشاوس من هاشم والنجباء من المنتمين لربيعة أو مضر. فبلغ الركب الميمون (بحره) في الساعة الخامسة من الليل الساعة الغروبية، فعدل إلى حيث المناخ المخصص، وبه المضارب الهاشمية في بطحاء كاللؤلؤ من وادي مر الظهران، فنزل وأمر بالعشاء وكان مهيأ لكافة من حوى الموكب ولمن جاء لاستقباله من مكة، ثم نادى المنادي بالركوب بعد العشاء فورا وكان ذلك أشد شيء علي، حيث أخذ مني التعب كل مأخذ، فقدمت لجلالته بغلة فارهة شهباء، وركب إلى جانبه الشريف زيد بن فواز أسن آل عون يومئذ، وركبت أنا ذلولي وخشيت تدخلات حمزة، ولكن سلمني الله منه، وقد أدركنا الصبح في (البازان) بعد أن اجتزنا الحديبية، ولعل هذا الاسم يعرفه كل عربي مسلم. فصلى الصبح هناك، ثم تريث حتى أسفر، فطلب إحدى ركائب الخيل فجيء له بجواد أشقر أسحم يقال له (عبد الرحمن) نسبة إلى مهديه عبد الرحمن باشا اليوسف أمير الحج الشامي، وكان من أحسن جياد الشام، فأخذ يتهادى تحته ويصول كأنه قد عرف من عليه. ولقد ذكرتني حالته قول الحادي الذي حدا بالإمام علي زين العابدين، بعد أن حدا هشام بن عبد الملك حيث قال:
يا أيها البكر الذي أراكا
هلا عرفت اليوم من علاكا
أن عليا قد علا ذراكا
وهكذا يمسك الآخر الأول، ذرية بعضها من بعض.
سرنا وإذا بجبال مكة، ثور وخندمة وحراء ثم أبي قبيس وقعيقعان، ثم بلغ الموكب الهجلة، وهناك ضربت خيام الاستقبال، وكان فيها كل من بمكة وكل من بالطائف ومن لحق من أهل المدينة، يتقدمهم الشريف ناصر بن علي شقيق جلالته، ووكيل أمير مكة ووالي الحجاز وقائدها المشير كاظم باشا، وهيئة الولاية وقاضي مكة، ومن العلماء الشيخ بابصيل والسيد عبد القادر الشيبي وأبناؤه الشيخ حسن والشيخ عبد الله وآخر نسيت اسمه، وكبراء عشائر عتيبة يتقدمهم جابر بن هليل الذؤيبي السعدي نسبة إلى حليمة بنت أبي ذؤيب ظئر النبي
صلى الله عليه وسلم ، وهو رئيس عشيرة الثبتة، ورؤساء عشائر حرب يتقدمهم ابن عسم، وعشائر هذيل. كل عشيرة عليها رئيسها ومقدمها.
وبعد السلام، أم المسجد الحرام، فنزل وطاف ثم سعى ثم أم دار الإمارة وجلس مجلسا عاما قبل أن يضع إحرامه، فسلم عليه الخاصة والعامة حتى انتهوا بعد صلاة الظهر. أما أنا فقد انهزمت إلى الجناح الذي خصص لي، فحللت الإحرام ودخلت الحمام، ثم اضطجعت وقد غلبني النوم بالرغم من حر مكة شرفها الله، ولم يوقظني أحد، حتى الغداء تركته يومئذ؛ وكنت بجوار العم المرحوم الشريف ناصر، وكان يهديني إلى ما أجهله ويعلمني كل ما يجب أعرف. ولقد كانت تلك الليلة - أي أول ليلة أمضيناها بمكة بعد الغيبة الطويلة - أسعد وأشرف ليالي على الإطلاق، حيث العودة إلى الوطن برضا الباري وبالعز وبالرفعة، شاهدت فيها الأهل والأحبة. ولقد تحسست بأحاسيس غريبة، وخصوصا لما تشرفت بتقبيل أنامل الشريفة فاطمة الكبرى بنت محمد بن عون وعمة والدي، وهما آخر ذرية محمد بن عون لصلبه، حيث قبلتني في جبيني وقربتني وأدنتني، وكانت سيدة طويلة بيضاء سبطة اليدين طويلة الأنف عريضة الجبين مهابة. ثم تشرفت بالعمة الكريمة زين الشرف بنت علي بن محمد.
وتتالت الأيام، وكل يوم يفد فيه من شتى البلاد رجالات لهم مكانتهم في محالهم وعشائرهم. هذا ولا ينبغي أن أغفل ذكر وفد حزب الاتحاد والترقي التركي، عندما سلم على الأمير بجدة، متقدما باسم الاتحاد والترقي، يرأسه عبد الله قاسم، وقال:
جئنا نرحب بالأمير الدستوري الذي يؤمل من سيادته أن يضرب صفحا عن الأصول الإدارية القديمة وعن الظلم الذي كان يرتكبه الشريف عون الرفيق والشريف علي، تبعا للإدارة المستبدة السابقة وإرضاء للسلطان، وإن البلاد إذ تحيي سيادة الأمير فإنها تحيي فيه الأمير الذي عرف روح العصر والتجدد المطلوب للعمل، تحت الدستور الذي هو نبراس السلامة.
فأجابهم بقوله:
لقد حظيت بمقام أسلافي وآبائي على الشريطة التي بايع بها الشريف أبو نمي السلطان سليم الأول، وإن هذه بلاد الله لا تقوم فيها غير شريعة الله المشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وهي حريصة على الاحتفاظ بحقها، فليذهب كل منكم ليشتغل بما يخصه: المأمور في وظيفته، والتاجر في تجارته، والصانع في حرفته؛ وإياكم من قال وقيل وما يقولون، فهذه بلاد الله ليست بملك لأحد. وإن السلطان الآمر بالدستور الذي تذكره والذي أمر بأن يعمل في بلاده، يفتخر هو وأسلافه بأنهم خدام الحرمين الشريفين وليس الخادم بالملك. دستور بلاد الله وشريعة الله وسنة نبيه.
فخرجوا يتعثرون، وكتبوا إلى الأستانة وإلى مراكزهم يقولون: بعث عبد الحميد برجل جلس على مقام أسلافه لا يعبأ بأحد ولا يقر بدستور ولا بتجدد. وقد ابتدأت الحرب بينه وبين الاتحاد والترقي من تلك اللحظة.
وفي مكة، وبعد إقامة ثلاثة أيام فيها، أمرت بالسفر إلى الطائف، لاستصحاب الأمير السابق الشريف علي بن عبد الله بن محمد بن عون، وهو خالي شقيق والدتي وابن عم والدلي، والقدوم به إلى مكة المكرمة. فتوجهت من مكة أول ذي الحجة عن طريق عقبة كرى، ومعي الشريف جميل بن ناصر ابن عمي، وابنا خالي الأصغر محسن بن محمد وعبد الله بن محمد، فمررنا في طريقنا على منى ثم عرفات ثم وادي المحرم فالحراجل فالكر وقضينا الليل به. والكر هذا موقف بأسفل عقبة كرى، وكرى جبل من السراة ارتفاعه عن سطح البحر ألف وسبعمائة متر. ولما أصبحنا استأنفنا الطريق صعدا، على البغال، وكان الطريق يتلوى يمينا ويسارا بانحرافات ضيقة وببعض محلاته درج وعتب، وهي مخيفة لعلو جبلها ووعورته وميله الشديد، يمتد ثلاث ساعات ونصفا وينتهي إلى المعسل - والمعسل ماء ينبع من الجبل خفيف عذب شديد البرودة - ثم يصل الراكب إلى الهدى، والهدى قرارة في رأس الجبل، بها أنواع الأشجار المثمرة والمياه العذبة والقرى الجميلة، يكون به أحسن العسل، وهو لقريش والنمور - وقريش هؤلاء بقية من قريش الظواهر - وإذا قام الرجل برأس العقبة بعد الظهر يرى جدة والبحر.
فقابلنا هناك أهل الهدى أحسن استقبال، ونزلنا في دار شيخ القرية، وبعد أن سلم علينا أهلها قدموا إلينا (اللطف) وهو على لغتهم فكوك الريق، ولطفهم خبز سميك يرفع بالكلاليب في طست عظيم يوضع في وسط السماط وعلى يمينه ويسار مثله، يأتي أحدهم يطعنه بجنبيته أو رمحه فترى البخار يخرج من خلاله، ويأتي آخر وبيده عكة من سمن الشفا المخدوم فيريقه عليه، والآخر وبيده عكة من العسل المصفى فيتبع السمن العسل، ثم يؤتى بالجبن الأبيض في أوان متوسطة ولحم سليق مبرد وشيء من الملح الصخري والفاكهة الموجودة، إما العنب أو ما يكون من فاكهة الموسم، وإن كان الوقت شتاء جاءوا بالزبيب الرازقي الذي لا بذور له. هذا هو اللطف الذى قدم لنا. وبعد أن انتهينا من فطورنا جاءوا بالقهوة الخفيفة، ثم دعينا إلى الصعود على رأس الحبلة - والحبلة جبل أسود فوق الهدى - فلما صعدناه رأينا في ناحية الغرب البحر تتلألأ فيه الشمس، ورأينا من ناحية الشرق (حضن) جبل البقوم الذي جاء الحديث عنه، وهو قوله
صلى الله عليه وسلم : «من رأى حضنا فقد أنجد».
ثم عدنا ومررنا في طريقنا على الشريف الحسين بن زيد بن فواز، وكان في مرض موته، ولقد أحزنني منظره. وقال: خرجت من الطائف للقاء سيدنا بجدة، ولكن أعجزني السفر وقعد بي المرض، وقد كافأني الله بأن رأيتك. وكانت وفاته بعد ذلك بيوم، ومرضه السل. فعدنا إلى دارنا التي نزلنا بها، وجاءوا بالغداء، وإذا هو مركب من ست ذبائح: ثلاث ندى، وهو يصنع بطريقة خاصة في حفرة جمرية يختم عليه حتى ينضج، فإذا أخرج بعد نضوجه توضع حوله أقراص من الفطير وأوان بها العسل وأوان بها الطحينة، وثلاث ذبائح سليق تحتها الأرز المطبوخ بالمرق وكانت الفاكهة العنب. فتغدينا ثم استأنفنا الطريق بين البساتين النضرة المثمرة تحف بها عرش الأعناب. وبالجبل هذا أشجار السرو والعرعر والعتم والبشام والقيقب. ثم انحدرت بنا الطريق من النقب الأحمر، ومرت بنا على الدار البيضاء، قرية لقريش بها العنب واللوز والخوخ وسائر أشجار الحجاز المثمرة ، كالعناب والكمثرى والبخارة، فاجتزناه ومررنا بقرى أخرى بواد المحرم الشرقي، ثم ارتفعت بنا الطريق تاركة جبل الغمير إلى اليمين، وانتهت بنا الجبال وإذا بالطائف المأنوس في قرارته الفسيحة وواديه الخصب، وهو وج، وهضابه الحمر ومساكنه البيضاء الضاحكة وقراه: كالمثناة والسلامة وقرواء والعكرمية وشهار وحواية ثم شبرا وبها القصر الملكي، وقابلنا هناك الشريف جعفر بن ناصر موفدا من الشريف علي بن عبد الله.
فوصلنا والمؤذن يؤذن لصلاة المغرب، فصلينا جماعة مع حاشية الأمير السابق، وبعد الاستراحة وتبديل ثياب السفر دعينا إلى حضرته جميعا، فدخلنا عليه وهو بدار النساء فسلمنا ثم قبلنا يده، فمال إلى اليمين بحركة خفيفة وأمرنا بالجلوس فجلسنا، فرحب بنا ثم قال: كيف حال سيدنا؟ فقلت: بخير يقرئك السلام ويتشوق إلى رؤية سموك، وقد بعثني لأكون في الصحبة إلى مكة. فقال: السفر غدا إن شاء الله. ثم أشار إلى جميل ومحسن وعبد الله بأن يخرجوا فخرجوا، واستبقاني وقال لي: ما الذى ستفعلونه بي؟ فقلت: الخير كله إن شاء الله. فقال: هل ترضى يا عبد الله بسفري إلى إسطنبول فيفعل بي سفهاء الاتحاد والترقي ما فعلوه بوزرائهم؟ فقلت: لا يكون ذلك إن شاء الله. فقال: كيف؟ فقلت: الذي تحب، إن رأيت البقاء فأنت في بلادك بعد أن تتفاهم مع ابن عمك، وإن أردت الخروج فابق بمصر ولا تسافر إلى إسطنبول من هنا إلا بعد أن تطمئن. فقال: أتضمن لي هذا؟ قلت: أسعى إن شاء الله. قال: ألست خالك؟ قلت: بلى والله. قال: أترضى لي الإهانة؟ قلت: حاشا لله، ولكن علي عهد الله لك في أنني إن عجزت عن تنفيذ مرغوبك ألا أفارقك حيث تسير. فقال: رضيت الآن. ودمعت عيناه ثم قبلني.
كان السفر، كما أمر الخال المرحوم، من الطائف إلى مكة؛ فتوجه ركابه ومعه عائلته الكريمة إلى مكة عن طريق ذات عرق والزيماء فمكة، ودخل مكة المكرمة ليلا، وكنت عرضت لسيدنا الوالد في رسالة خاصة كل ما قاله لي. وأول ما وصل قصد الوالد، فقابله من باب البهو، فتسالما ثم تقدما إلى المجلس فأجلسه معه على سريره، وخرجنا نحن. وبعد ساعة استأذن، فخرج إلى داره بالسبعة الأبيار، فاستدعاني جلالة الوالد وقال: لا أرى على خالك أثرا من مرض. فقلت له: إنه مريض روحيا.
وفي الصباح استدعاني، وإذا في المجلس العم المرحوم الشريف ناصر والشريف زيد بن فواز بن ناصر أمير الطائف؛ فقال: ما رأيكم في علي باشا، هل يقيم هنا أم يسافر إلى إسطنبول؟ فقال الشريف زيد بن فواز: نحن في خدمة من يتولى الحكم منكم مقام أجداده، ولم تجر العادة بأن نبدي رأيا في ما يخص سادتنا، فأرجو إعفائي، وما يقر عليه رأيكم فلا خلاف عليكم منا فيه. فالتفت إلى العم المرحوم وقال: كيف ترى؟ أجابه: أرى لزوم نفيه إلى إسطنبول، لأن في بقائه هنا ما لا تحمد عقباه؛ وهو غني مثر، والترك لا تؤمن غوائلهم، تعمل فيهم الرشوة ما لا يتصور. فالتفت إلي وقال: ما رأيك؟ فقلت: إنه يطلب إما البقاء هنا أو السفر إلى مصر، وإن أحب المقام بمكة فلا ضرر، وقد بقي الشريف عبد المطلب بن غالب وهو معزول في بيته وعون الرفيق بن محمد أمير، فما الذي حصل؟ وإن هو أحب السفر إلى مصر والإقامة بها فهو الأحسن له، فيسلم من أذى الأتراك له ونكون قد عملنا على أن يبتعد عن الحجاز بالنسبة لملاحظة العم المحترم، وإنني قد تعهدت له بأنه إن سيق إلى إسطنبول فإنني أسافر معه يصيبني ما يصيبه. فقال العم: متى جرت العادة في أخذ رأي من كان في هذه السن؟ فقال الوالد: إنه ميمون الرأي.
انتهى المجلس، وتقرر سفر الخال إلى مصر، بعد الحج والحمد لله، ولقد شاهدت في وجه العم المرحوم أثر الاغبرار. ولو سافر إلى إسطنبول لأهين أو ابتزت أمواله. لو فرض فسلم لكان محل تهديد للوالد، وفي الوقت نفسه يكون الحائل للعم في ما يصبو إليه من مقام الإمارة بعد أخيه.
الحج
كانت مكة تغوص بحجاج العالم الإسلامي: القرم، وبخارى، والداغستان، والروم إيلي، والشركس، والقازان، والكرج، والأتراك، والمغرب الأقصى، والجزائر، وتونس، ومصر، وجاوه، والهند، وجنوب أفريقيا، والسودان، وحجاج بلاد العرب من الشام واليمن والعراق، وحجاج إيران. الكل في زيه ومعه الكثير من تحف بلاده وبضائعه، وكما قال الله تعالى:
ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، والكل مهل بلبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد لك والملك لا شريك لك ... فخسئ ابن عبد الوهاب ومن على مذهبه! أين الشرك من هذا التوحيد والإخلاص؟ ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله.
والحج هو موسم الإسلام، فريضة تؤدى، وتعارف يحصل، وأخوة تؤكد. وكان في ذلك العام الوارد من البحر مائة وسبعة وثلاثين ألف حاج. وكان أمير الحج الشامي عامئذ عبد الرحمن باشا اليوسف المعروف، وكان بعد عبوديته - وجده سعيد باشا - لسلاطين آل عثمان، انتقل إلى أنه علم من أعلام حزب الاتحاد والترقي التركي، وقلب إلى سادته ظهر المجن، فأبى الرجوع بالحج الشامي من طريق البر، مدعيا عدم الأمان، يريد بهذا إثبات عدم كفاءة الأمير الجديد.
وأصر الشريف بلزوم رجوع الحج الشامي ومحمله، على عادته من طريق البر، فترك هو - أي عبد الرحمن باشا - الحج، وسافر من البحر إلى مصر فالشام.
وتوجه ركب الحجاج، وعليه العم الشريف ناصر بن علي، ليوصله إلى الشام، وكنت معه، وكان السفير يعتبر كل يوم من أيامه عيدا، بمراحله ورحيله ونزوله. فزرنا المصطفى
صلى الله عليه وسلم .
ما أعظم ذلك الموقف، والمرء مستقبل المواجهة الشريفة يقول: «السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا خير خلق الله، جزاك الله عنا خير الجزاء، لقد بلغت عن ربك الحق وأديت الرسالة، وجاهدت في الله حق جهاده، وكنت بالمؤمنين رحيما» ... وليخسأ ابن عبد الوهاب ومن تابعه، فأين الشرك في من يقر برسالته
صلى الله عليه وسلم ، ويشهد بأنه عبد الله ورسوله، ويقول بأنه بلغ عن الله ما أمر به
صلى الله عليه وسلم ؟!
وبعد إقامة ثلاثة أيام سافر المحمل، وأميره ناصر بن علي، بالسكة الحديدية إلى الشام. ولقد كنت معه أيضا. وفي صباح الغد من سفرنا، بلغنا تبوك، ونزلنا جميعا إلى الحجر الصحي الاحتياطي لمدة سبعين ساعة. أما تبوك فهي في حماد من الأرض، أي مكسوة بقطع الصوان وأحجار متكسرة، بها عين ونخيل، والجبال غربيها، فاقمنا مدة الحجر في الأرض المخصصة للحجر، وهي مربعة محددة بقضبان من حديد، مجهزة بأسلاك شائكة، ولها أبواب، وبها قساطل للماء الجاري لها حنفيات يجري منها الماء، يخصص كل مربع لعدد معين من الخيام، ويمنع الاختلاط حتى تتم المدة. وهنالك ثلاثة أجهزة للتعقيم في مبان مخصوصة، تعقم بها أمتعة الحجاج وملابسهم. وكانت ليالي تبوك باردة، والموسم أواخر كانون الأول، والنهار بارد أيضا.
وبينما كنا به وردت برقية من ناظم باشا والي الشام إلى المرحوم العم، يقول فيها إنه متغيب وإنه سيبعث بمدير أوراق الولاية أو سكرتيرها - على لغة اليوم - لاستلام المحمل والركب. فأجابه بأنه هو بذاته الذي سيوصل الحاج إلى الشام. ووردت برقية من المرحوم عطا باشا البكري يدعونا بها إلى النزول في داره. ولم يبق عين من أعيان الشام إلا ودعانا إلى النزول عنده. وكان البكري هو السابق فأجيب بالقبول.
ولما وصل القطار إلى محطة القدم كان الشام كله هناك، فخرجنا من القطار واستلم الوالي المحمل، وهيئت لنا من الخيل آصلها وأفرهها، فسرنا ثم وصلنا إلى مكان به جماعة عظيمة من المستقبلين، وقد هيأوا خيمة كبيرة، فترجلنا، فخطب الخطباء مرحبين، وكانت قصائد ترحيبية يتقدم بها شعراء بلغاء، فشكرهم العم المرحوم بما يقتضي. ثم امتطينا ركائبنا فزرنا الوالي بدار الحكومة، ومن هنالك إلى دار البكري، وأكرم به من مضيف كريم قام بالواجب وزيادة. وكانت إقامتنا بالشام سبعة أيام، ندعى فيها من بيت كريم إلى بيت كريم، إما لغداء أو لعشاء.
ومن الغريب تلك النشرات التي وزعها عبد الرحمن باشا اليوسف، وأثبت بذلك نفسيته وما في قرارة ذاته. ففي نشرة موجهة للوالد المرحوم، يقول فيها في أبيات يقول في أحدها:
إن كنت تبغي ملك مكة فاعلمن
أن المليك بها هو الدستور
وفي أخرى موجهة إلى العم المرحوم، يقول فيها:
أنت يا هذا ثقيل
وثقيل وثقيل
أنت في المنظر إنسان
وفي الميزان فيل
وفي نشرة موجهة إلي، قال فيها: «إلى سعادة الشريف عبد الله بك - إنك لا تستحق الهجو ولا المدح».
بهذا لامه الناس؛ ونشرت قصائد عديدة في هجوه، ونصح له بألا يخرج لئلا يضر به الناس، لأنه أساء إلى ضيوف الشام. ولكنه قتل أخيرا بدرعا مع الوزراء، بعد خروج المرحوم الملك فيصل من سوريا.
ولقد ابتعت بواسطة المرحوم البسام (رمكة) من آصل الخيل، وهي الكحيلة الجعيثنية، وهي حمراء سمراء لها غرة، عريضة الحوافر قصيرة مربط اليدين. وأهدى هولو باشا إلى المرحوم الوالد (رمكة) سوداء جليلة تنسب كحيلة عجوز. وهناك خيول أخرى أهديت.
ثم توجهنا إلى المدينة المنورة، بالسكة الحديدية، وكان الوصول بعد الحركة بثلاثة أيام، فأقمنا بها عشرة أيام، أصلحنا فيها بعض ما يجب إصلاحه من أمور تتعلق بعشيرة حرب. وعند رجوعنا إلى مكة وجدت الأخوين عليا وفيصلا ومن بقي من الأهل بإسطنبول وجدتهم بالحجاز، ووجدت سيادة الخال قد سافر إلى مصر عن طريق البحر، ومعه ابن أخيه محسن بن محمد. وكان الحجاج ينصرفون كل إلى بلاده. أما والي الحجاز يوم ذاك، فهو المشير كاظم باشا، وقد بنى خط السكة من معان إلى المدينة، يوم بناها السلطان عبد الحميد، وترأس أعمالها في إسطنبول المرحوم أحمد عزت باشا العابد. وقد استقال هذا الوالي وسافر. وكان الأمير يرى أمور الولاية أيضا. وفي تلك الأثناء فوجئنا بحركات محمود شوكت باشا، وبخلع السلطان عبد الحميد، وجلوس ولي العهد رشاد بن عبد المجيد خان، باسم السلطان محمد خان الخامس. وكانت تلك الأحداث من ملاعب الصبية من الاتحاديين، فاغتصبوا الملك وتحكموا في السلطان وفي الرعية.
ولقد علمت وأنا بالشام، نفور الناس وخصوصا الشباب، فإنهم كانوا على وثبة لفصم العرى. ولم يقتصر الأمر على هذه الفئة من الناس، بل عم التشويش الأكثر ممن كان يحب السلطنة العثمانية، لعبث شباب الاتحاد وتحكمهم وسقوط هيبة الحكومة. هذا ما شاهدته في غير الحجاز من بلاد العرب.
وإن أعمال المنتدى العربي بإسطنبول، وشعبه في سائر بلاد العرب، وما كتبته جريدة (إقدام) التركية عن هذا المنتدى وعن العرب، وهجوم شباب العرب على مطبعة الجريدة المذكورة وتحطيمها، كل ذلك من الإشارات البارزة على ما وقع أخيرا، من انقطاع الصلة بين العرب والترك، لضعف آرائهم في قلب الإدارة السلطانية الخليفية إلى حاكمية ملية دستورية في زعمهم، وإبدال الهيمنة العربية الإسلامية بالسيطرة الروحية القانونية الغربية. ولله في خلقه شؤون.
وبعد أن تركز الأمر في إسطنبول، جاء الوالي فؤاد باشا - وسيدنا الوالد بالطائف - وهو عسكري برتبة فريق كان مستشارا للسرعسكر بإسطنبول، وهو غبي لا يدري من أين تؤكل الكتف. وكان قبل الطلوع إلى المصيف بالطائف، صدر أمر الأمير بغزو بني الحارث - بطن من بقايا الحارث الأول - وهي عشائر بين بلاد البقوم بوادي تربة وبين بلاد النفعة من عتيبة شرقي وديان الطائف، لقطعهم الطريق وعدوانهم على من جاورهم. وكانت هذه العشيرة تنزل شرقي بئر وهضبة سامورة بركبة.
فغزونا على ترتيب الغزو المعروف: قوة درك راكبة هجانة، وفرسان من خاصة الأمير، مع قوات من العشائر الطيعة. فجوزوا بما كانوا يفعلون، وخضعوا بعد ذلك وأطاعوا. ثم تبع هذا الغزو غزوة هذان (جبل بالحرة) على الطريق الشرقية من مكة إلى المدينة المنورة، وكانوا يخيفون الحجاج ولا يؤدون الزكاة، فغزوناهم بأمر الأمير وهو لا يزال بمكة المكرمة أيضا، على الترتيب السالف؛ وكانوا بمحل صعب، وكان ذلك اليوم يوما عجزت فيه القوة عن تأديب تلك العشيرة التأديب الكافي. ولقد أصابتنا إصابات بليغة، ولكن تراجعنا بعد أن قتل عدد من الشرفاء وصوب عدد، وقتل من القوة البدوية مشائخ وفرسان. وقد أصبت أنا برمية اخترقت فخذي، ولكن الله سلم. وعادت القوة إلى الطائف، وقد برئت بعناية الله في خمسة وعشرين يوما على يد طبيب عربي من ثقيف.
ولما وصل الوالد إلى مصيف الطائف، ولم تستأمن عشيرة مطير وتخضع، أمر بغزوهم مرة أخرى، فغزوناهم وكانوا قد تسهلوا وتركوا الوعر، فصبحناهم على بئر تسمى الروبلية، شرقي مران مسيرة يوم ونصف يوم؛ وكان التأديب وفق ما طلب، حيث خضعت العشيرة بعد ذلك وأصبح طريق الحاج، في ديار عتيبة ومطير، في غاية الأمان حتى بلاد حرب.
وبعد رجوعنا من هذا الغزو، وبعد وصول الوالي الجديد بأسبوع، وأنا بحضرة الأمير رحمه الله، بعد الظهر، وإذا بمذكرة ترد من الوالي، ففض ختامها وقرأها، وقال: هذا مجنون. ثم رمى بالمذكرة إلي، فلما تأملتها، وجدته يقول إنه تلقى برقية من مدير الجندرمة بمكة ووكيل الوالي، يقول فيها إنه تأكد من عزم فئة في مكة، يرأسها الشريف زيد بن فواز قائمقام الإمارة بالطائف، على حركة ثوروية يوم الجمعة، بهجوم يقومون به ضد سلطات الحكومة، ولذلك فإنه يطلب إلقاء القبض على الشريف زيد ومن معه، وسوقهم إلى التحقيق والمحاكمة. فأجابه على الفور، بأنه - أي الأمير - متوجه إلى مكة المكرمة للتحقيق في هذا الأمر، الذي هو عبارة عن فرية شائنة، دليلها نسبتها إلى الشريف زيد بن فواز، وهو المخلص الأمين، وأنه أقامه بالطائف وكيلا للإمارة علاوة على وظيفته.
وتحرك ركابه السامي - رحمه الله - بعد الظهر، وأصبح بمكة بعيد الشروق مع الطريق الطويلة، وأم الحميدية دار الحكومة، ونزل واستدعى وكيل الوالي مدير الجندرمة، وقال له: حضرت لتحقيق ما قلت إنه ثابت لديك، من حركة مدبرة في مكة يوم الجمعة، وإني آمر بإيجاد لجنة تحقيق، ترأسها أنت وقومندان العسكرية وقاضي مكة المكرمة، ويكون بها، باسم الأمارة، نجلي عبد الله. فامتثل وجمع اللجنة المذكورة.
وبالطبع، وحيث إن الخبر نشأ منه، سألته عن المصدر، فعجز عن إسناد ذلك إلى شخص مسؤول، وقال: أنا لا أستطيع بيان أسماء رجالي الذين يعملون ساهرين على الأمن العام. فقلت: أليست هذه لجنة تحقيق رسمية؟ وإن اتهاماتك موجهة لشخصية كبيرة في البلاد، ولسكان حرم الله، وإن لم تفعل فلا يسع اللجنة إلا أن تعتبر هذه الإخبارية كاذبة تسلب عنك الاعتماد. عند ذلك قال: إن زوجتي سمعت هذا الخبر، من امرأة كانت تصلي معها في المسجد الحرام، في قفص النساء. فقلنا: حسن، هذا طرف حبل ، ولكن من هي المرأة؟ قال: لا تعرفها ولا يمكن العثور عليها.
فهيئ المحضر للجلسة على هذا النمط، ووقعه أعضاء اللجنة، وهو منهم، وقال: هذه وظيفتي، سمعت وكتبت. ورفعت اللجنة التقرير للأمير، وبرقية بمضمون ذلك للوالي بالطائف، واعتبرت المسألة مسألة افتراء ونذالة. وكتب الأمير برقية بالواقع إلى الصدر الأعظم بالأستانة، وكان يومئذ الصدر سعيد باشا، ووزير الداخلية رؤوف باشا.
ولما وصلنا الطائف بعد ثلاث، كان أمر عزل الوالي ومدير الجندرمة قد وصل، وكانوا على أهبة السفر.
هذه نبذة من نبذ الإدارة العثمانية، التي جرت إلى نفور العرب، تلك النفرة الهادمة لهذا الشرق الإسلامي، وكانوا هم السبب.
توجه المرحوم إلى شفا نجد
بسبب العشائر الحجازية التي كانت تحت يدي أميري نجد ابن رشيد وابن سعود
توجه المرحوم إلى نجد، للنظر في مسائل عشائر الحجاز، الذين كانت تتخاطفهم رغبات أميري نجد، ابن سعود وابن رشيد، ومعه كل الأمراء والأشراف، وبقيت وكيلا عنه في مهام أمور الإمارة. فكان هنالك حادث القبض على الأمير سعيد بن عبد الرحمن بن سعود، شقيق الملك عبد العزيز، وهو يزكي عشائر عتيبة، ثم إطلاقه بعد تفاهم تحريري حصل بينه وبين ابن سعود، فعاد.
وفي أثناء غيابه، فصلت الحكومة العثمانية المدينة المنورة عن ولاية الحجاز، وكان المحافظ يومئذ علي رضا باشا الركابي، وكان الوالي كامل بك؛ فوردت برقيات من وكيل الأمير بالمدينة، تنبئ بأن المحافظ أقام حفلة كبرى وأنبأ وكيل الأمير بأن لا صفة له بعد الآن. ووردت برقيات من الشرفاء ورؤساء العشائر معترضة على هذا الفصل. فكتبت إلى الباب العالي - وكان الصدر الأعظم يومئذ إبراهيم حقي باشا - أسأله عن مسؤوليات الإمارة فيما بعد، عن قوافل الحجاج والزوار، هل هي كما كانت إلى مدائن صالح أم إلى محل معين بين الحرمين؟ ثم طلبت الوالي فحضر، فسألته: هل فصلت محافظة المدينة عن الولاية، وهل إن مسؤوليات الإمارة هناك قد ألغيت؟ فقال لي: هل بلغك ذلك؟
قلت: نعم. وأطلعته على البرقيات وعلى نسخة برقيتي الصدر الأعظم، فقال: نعم أعلنت ذلك رسميا، وكان جوابي الاستقالة، لأن ذلك عمل وأنا والي الحجاز، وبدون أخذ رأيي. فأكبرت عمله، فودع وعاد إلى دائرته.
وبعد خروجه بساعتين، ورد جواب الصدر الأعظم يقول فيه:
إن ارتباط المدينة المنورة بمركز السلطنة بخطوط تلغرافية وبالسكة الحديدية، تضمن السرعة في المخابرات؛ لذلك اعتبرت محافظة المدينة المنورة محافظة مستقلة مربوطة بوزارة الداخلية رأسا لا بالولاية. وأما تبعات الإمارة الجليلة وحقوقها، فهي كما كانت، من مكة المكرمة إلى مدائن صالح.
وقد بلغ ذلك إلى ولاية الحجاز ومحافظة المدينة، وانتهت بهذا عملية الركابي باشا غير المشكورة، وكان رحمه الله حين ذاك لا يتكلم إلا باللغة التركية، وكنت - وهو محافظ المدينة - أوصلت الحج إلى طيبة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام؛ فزارني أمير الحج ابن رشيد، وقال إن المحافظ منعه من دخول المدينة المنورة ومعه علم ابن رشيد، وهو علم أخضر مكتوب عليه «لا إله إلا الله محمد رسول الله» فإذا لم يسمح له بذلك فسيعود بالحج، وإنه كلم المحافظ بعزمه فلم يأبه له.
فزرت الركابي باشا، وقصصت عليه ما بلغني، فقال لا يدخل هذه البلد ولا يرفع بها إلا العلم العثماني. فقلت: يا حضرة الباشا، جرت العادة بهذا، وقد دخل مكة ومعه علمه، فإذا أصررت على رأيك عاد مع من معه قبل أن يزوروا المصطفى
صلى الله عليه وسلم ، فماذا عساه أن يكون إذا دخل كالعادة السابقة؟ قال: لا يكون هذا أبدا. فقلت: الأمر خطير، وأنا أسألك كمحافظ، وسأسأل وزير الداخلية ببرقية، بصفتي النائب الحجازي في مجلس المبعوثان، عن حقيقة ابن رشيد: هل هو صاحب إمارة مستقلة، لا ينبغي رفع علمها إلا بإذن ومراسيم خاصة، أم هو أمير تابع للدولة يحمل علم الحجاج الأخضر؛ لأن محافظ المدينة رفض دخول الحاج على الطريقة المعتادة، وقال: إن لا علم هنا غير العلم العثماني، وبهذا يشير إلى أن ما بيد أمير الحاج علم غير عثماني؟ فقال لي: أرجوك لا تفعل، وأنا قد أخطأت. ثم استدعى أمير الحج وسمح له.
وهذا هو الركابي باشا، الذي كان عندنا في عمان في رئاسة الوزراء مرتين، رحمه الله.
في ذلك الحج، الذي جرى ذكر الركابي باشا فيه، كان قد حج الخديوي المرحوم عباس حلمي باشا، وقوبل في الحجاز بما هو أهل له من الإكرام والاحترام بسبب شخصيته، ثم للعلائق الودية بين البيتين، منذ محمد علي باشا والشريف محمد بن عون. وكنت أصبت في تلك الزيارة، وأنا بالمدينة، بحمى التيفوئيد، وسافرت وأنا مصاب بها، ولقد أتعبتني ولكن الله سلم. ولما وصلت إلى بئر الماشي، وهي على مرحلة من وادي الليمون وعلى مرحلتين من مكة، بشرت بابني طلال، وأخبرت بأنني قد انتخبت مبعوثا عن مكة المكرمة في مجلس المبعوثان العثماني. ولقد ساءني هذا الخبر، حيث سئمت الحياة الطويلة بتلك العاصمة، فدخلت مكة وأنا في شدة مرضي، ثم برئت بعناية الله بعد انقضاء المدة المرضية؛ فسافرت إلى مصر، ومنها إلى إسطنبول، لأقوم بوظيفة المبعوث. ولما وصلت الباخرة السويس، وإذا بمحافظ السويس والشيخ علي يوسف صاحب المؤيد وعلي بك شاهين صاحب تشريفات الخديوي على الرصيف في انتظاري، وقد أوفدهم الخديوي المرحوم للتحية والدعوة للنزول ضيفا عليه بقصر رأس التين بالإسكندرية، فشكرتهم ورجوتهم أن يبلغوا سموه امتناني وقبول الدعوة الكريمة مع الشكر العميق، ثم أبرقت لسموه بهذا المعنى.
ولقد كان الوالد المرحوم جعلني في رفقة سموه مدة الحج، فعرفني حق المعرفة ومال إلي بكليته؛ فسافرنا من السويس في قطار خاص إلى الإسكندرية، وكان الغداء والعشاء في القطار. أما هؤلاء الذوات فبعد أن أدوا واجبهم تخلفوا في القاهرة، ما عدا علي بك شاهين والشيخ حازم بن مليحم مقوم الحج المصري، فإنهما سافرا معي إلى رأس التين. وتفضل سموه فقابلني في اليوم الثاني، بذلك القصر الفخم الذي كاد يزداد بهاء بطلعة سموه المشرقة، أسكنه الله فسيح الجنان وأبدله دارا خيرا من داره، فإنه الغريب الشهيد. ولما رآني قال مظهرا الدهشة، «مالك؟ دانت خسيت؟ جرى إيه؟» فأجبته: ما من شيء يا أفندينا. وإنما حمى أصابتني بعد سفر سموك من المدينة، واستمرت بي أكثر من خمسة وعشرين يوما، ثم زالت. فقال : متى تسافر؟ فقلت: إن أذن سموك فالسفر غدا إن شاء الله. فأجاب: «ما يصحش قبل أن يفحصك الدكتور كاوسكي بك فنرى المرض ده هو إيه». وبعد المعاينة بأخذ الدم من إصبعي، قال الطبيب كاوسكي إن مرضي كانت الحمى التيفوئيدية، ورتب لي علاجا أستعمله.
فسافرت بعد أسبوع بالباخرة الرومانية (داجيتا)، وكانت مثل العروس، ذات مدخنتين وعلى أحدث طراز، تسير في الساعة ثلاثة وعشرين ميلا. فأمر سموه أن يحجز لي في الباخرة الجناح الممتاز، وكان معي المرحوم الشريف شاكر بن زيد والشيخ محمد بن غاصب؛ فسافرنا والشهر أول مايو والبحر ليس بالساجي ولا بالهائج، فمضت تلك الليلة. ومن لم يألف البحر من الركاب كان في حجرته. ولكن لما أصبحنا، كان البحر وكأنه المرآة الصقيلة، والركاب على ظهر السفينة جلوس هنا وهناك.
ولقد لفت أنظار الأجانب لباسنا العربي المشلح والعقال؛ ولقد تجرأت شابة رومانية ورجت مني أن ألبسها صمادتي وعقالي ففعلت، فأخذت تنظر إلى نفسها في المرآة وتصفق بيديها، وكانت جميلة رشيقة فاتنة، وأظنها غاظت المرحوم شاكر، فقال بلغته العتيبية: «نعن ابو ذا الوجه وراك ما طلبتي عقالي وانا وصمادتي؟» فضحكت وأمرت خادمي أحمد وصفي، فجاءني بصمادة أخرى وعقال فلبستهما؛ وتحيرت المسكينة ماذا عساها أن تفعل، فقلت: أتركها لك كتذكار - وكانت تحسن العربية قليلا - ثم قلت لها: أنا فلان، النائب في مجلس المبعوثان، فشكرتني وأخبرتني أنها كريمة قنصل رومانيا بالإسكندرية. ووصلت بنا الباخرة صباح الغد إلى (بيريه) ومن بيريه إلى إسطنبول.
ولا ينبغي لي أن أنسى زميلي، الشيخ حسن الشيبي رحمه الله، العضو الثاني عن مكة في ذلك المجلس، والشيخ محمد علي طالب المطوف في مكة - الذي كان مسافرا إلى القرم لعلاقته مع الحجاج هناك - ذلك الرجل البشوش الضحوك، الذي كان سبب أنسنا طول الطريق.
ووصلنا الأستانة، ورست الباخرة بالرصيف، فإذا في استقبالنا هناك الشريف جميل بن ناصر، موفدا من طرف العم المرحوم، الذي كان في إسطنبول عضو مجلس الأعيان؛ ووجدنا هيئة الاستقبال الموفدة من رئيس المجلس والمؤلفة من ثلاثة أعضاء: عبد الرحمن باشا اليوسف نائب دمشق، وسعيد بك نائب أزمير، وحسين جاهد بك نائب إسطنبول، فشكرناهم جميعا؛ وتوجهنا إلى أستينيا، في القصر الذي أعرفه والذي تزوجت به، والذي لم يلحقنا فيه أي كدر، وبه نال الوالد المرحوم الإمارة، كما أنه قد ولد فيه أخي زيد وشقائقي الثلاث.
وبعد إقامة ثلاثة أيام، وتقديم الشكر للعم المرحوم، انتقلت إلى قصر المصيف للوالد المرحوم ببيوك - دار بأعلى البوسفور - ثم توجهنا أنا والشيخ حسن الشيبي في معية المرحوم قبل تلك النقلة، يوم كنا في ضيافته، إلى دار رئيس مجلس النواب أحمد رضا بك، فقابلنا بالبشر والغبطة واللطف الكثير، ثم قال إنه ينتظرنا في دار المجلس بديوان الرئاسة في الساعة الحادية عشرة من ذلك اليوم.
ولما جئناه في الساعة المعينة وجدنا عنده مجدي أفندي مبعوث بروسا، ورئيس كتاب ديوان الرئاسة وهو شيخ معمم ضخم طلق المحيا جهوري الصوت؛ ووجدنا عنده أحد مستقبلينا سعيد بك مبعوث أزمير؛ ووجدنا ألكسندر كرندوري باشا عضو الأعيان. فحييناه وصافحنا وأجلسنا؛ ولكن لم أجده كما رأيته في داره، بل رأيته مقطب الوجه؛ فقال لي مبادرا: وجدت هنا في ديوان الرئاسة، بعد أن حضرت، برقيات من مكة تحتج على انتخابكما، قائلة عنك أنت يا عبد الله بك، إنك لم تصل إلى السن القانونية، وتقول عن زميلك الشيخ حسن أفندي الشيبي إنه لا يقرأ ولا يكتب لا في التركية ولا في العربية. فقلت له: إنني لم أشهد تاريخ ولادتي، ولكن أعتقد أن الهيئة التي فحصت صناديق الانتخاب، ورئيسها الوالي وأعضاءها القاضي ورجال مجلس الإدارة، ذكروا أن الانتخاب جرى وفق القانون؛ فإن كان هناك ما يخالف الحقيقة فالتبعة عليه ولست بالكاذب، وأقرر أنني لم أشهد يوم ولادتي. وأما زميلي فله أن يدافع عن نفسه، فهو من أكرم بيوت مكة، وهو يجيد اللغة العربية كتابة وقراءة، وأما اللغة التركية فلم يعتن بها هناك. والأوراق في المجلس إن قبلها فذلك، وإن رفضها فلست بالذي يخسر أي شيء إلا زمالتكم. وإسطنبول بلد أحبها، وحضرت في موسم الربيع، وفي إمكاننا الرجوع إلى وطني متى سئمت ... وقمت وأنا أقول: «الله اصمار لادق» أي في أمان الله ...
وذهبنا إلى دائرة الأعيان، حيث أجلسنا العم المرحوم في الشرفة المخصصة للأعيان بدائرة المبعوثين. ولما عرفنا أهل المجلس أننا مندوبو مكة، قالوا: لم لا يجلسون في كراسيهم؟ فقال الرئيس: هنا برقيات اعتراضية، وردت من الحجاز، ستقرأ عليكم الآن، فإن رفضتموها وقبلتموهما نائبين فعند ذلك يجلسان. فقال أحد النواب: ومن تريدون؟ أتبعث إليكم مكة أفضل من ابن الشريف وابن فاتح بيت الله؟ فصاح المجلس كله: لا اعتراض لا اعتراض. ثم أخذنا باليد وأجلسنا وانتهى الأمر.
ومن غريب ما أذكره، أنني انتخبت ثلاث مرات بدون أن أكلف حلف اليمين، وكذلك يوم انتخابي وكيلا ثانيا لرئاسة هذا المجلس.
وبمناسبة المبعوثية، أحب أن أتعرض للحكم النيابي، فالحكم النيابي هو حكم من الأمة للأمة. إن كان رئيس الدولة موصوفا بالملك أو موصوفا برئاسة الجمهورية، فهو لا يحكم حكما مباشرا أو حكما استبداديا أو دكتاتوريا، بل يحكم حكما دستوريا نيابيا؛ وعليه أن يختار رئيس الأكثرية الحزبية، فيكلفه بأن يشكل هيئة الوزارة. فمتى تم ذلك، تحكم هذه الحكومة بالقوانين التي أقرها نواب الدولة من قبل، والتي تحدثها بعد ذلك. فالنواب في المجلس العثماني، كانوا ينتخبون من كل الملل العثمانية، وكان حزب الاتحاد والترقي يشير إلى من يريد، فينتخب بتدخلات حكومية، يقوم الولاة والمتصرفون بها، اللهم إلا ما كان من الحجاز، فإنهم لم يستطيعوا أن يؤثروا في انتخاباتهم أي تأثير. وأما اليمن وعسير فالولاة يعينون إلى هذه النيابة أشخاصا، بشرط أن يكونوا اتحاديين. وإذا قلنا يعينون، نقول إن الظاهر انتخاب والباطن تعيين. ولقد رأيت أن القوانين التي تسن مجددا إنما هي في مصلحة العنصر الحاكم، وهو العنصر التركي، ليهيمن على سائر العناصر فيسلبها ما كان لها من امتيازات، نالتها يوم أن كانت الدولة على شكلها القديم. فالأموال التي تجبى، والمدارس التي تشيد وتبنى، والطرق التي تفتتح، كل هذه من الأموال العمومية التي تجري عليها القوانين العثمانية، فيما قرب من العاصمة وبعد من الولايات ؛ نقول إنه كان يصرف منها ثمانون في المئة على البلاد التي هي تركية محضة؛ وما في هذا من الحيف مشاهد معروف. ثم إن أكثرية الوزارة تختار من العنصر الحاكم، وللعرب وزير واحد وهو وزير الأوقاف، ومن الأقليات الأخرى يختار الصدر من أراد بالمناوبة؛ وفي هذا ما فيه من حكم الناس حكما استبداديا تقوم به وزارة عنصرية. وهكذا فأصول الإدارة النيابية، في دولة مركبة من ملل كثيرة، تدفع بتلك الدولة إلى التفرقة والشتات والبغضاء ثم السقوط، كما وقع في الدولة العثمانية.
في مجلس النواب العثماني.
ولقد عدت إلى الحجاز في شهر تموز، وكانت تلك المدة لطيفة شيقة. وإنني أذكر أن رجلا من علماء الفلك، قال عن نجم هللي المذنب إنه سيصطدم بالأرض فيحرقها ومن عليها، في اليوم الثامن عشر من شهر مايو من تلك السنة؛ فارتج الناس. وقبل الموعد بيوم، والمجلس منتظم، ونحن فيه، وإذا بصوت فظيع ولمعة، ففر كل من بالمجلس؛ وعلمت أنا أنه رعد وبرق، فأمسكت بحسن الشيبي وأجلسته، وخرج الناس يركب بعضهم بعضا؛ ثم عادوا ولقد غاظهم جلوسنا، فقالوا: رعد وبرق، ما من شيء. ثم قال لي أحدهم: كيف بقيت أنت وزميلك؟ قلت: أنا لا أؤمن بما تقولون، ولو فرضنا صحة ذلك، فما يجدي الخروج والأرض ومن عليها في خطر الاندثار؟! فسكت.
عدنا إلى الحجاز، بعد أن علق الاجتماع إلى تشرين الثاني. وكذلك لما وصلنا الإسكندرية، أخذنا إلى ضيافة الخديوي المرحوم، في القطار إلى السويس رأسا، فالباخرة، وكان سموه رحمه الله في أوروبا. فوصلنا الوطن وكانت وجهتنا الطائف، فمررنا على مكة المكرمة، فطفنا وسعينا وتحللنا من إحرامنا. وبعد استراحة يوم، توجهنا إلى الطائف عن طريق كر العقبة، فوجدنا الأهل بذلك المصيف اللطيف على خير حال.
وكاد الوالد المرحوم غير راض عن تصرف وكيل الوالي أمين بك الشاعر، الذي نقل بعد مدة وجيزة، وتوجهت الوكالة بالولاية إلى المشير عبد الله باشا الشركسي، قومندان القوة العثمانية بالحجاز.
شكل الإدارة العثمانية
قبل منشور الكلخانة، كانت الدولة العثمانية، من عهد عثمان الأول وأورخان، لا تشبه دول ملوك الطوائف؛ وكانت نشيطة فنية إدارية، حيث قدر لها الله ذلك وأن تسود الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، ضامة الخلافة النبوية العربية إليها، فكانت في طراز إدارتها، بالنسبة لعصرها حين ذاك، خيرا من غيرها.
وكان أول مقام عرف، مقام قاضي العسكر، فهو القاضي الأكبر للبلد، والقاضي الذي يسير مع الجند في الحروب والغزوات. وإذا سار ترك من يخلفه باسم وكيل قاضي العسكر. وكانت للقضاة الكرامة التي للقواد. ثم أسست الإدارة الملكية، وعين لها أشخاص، يسمون بيلربه أو ميرمران. ففي بلاد الأناضول بيلربه، وفي الروم ايلي بكلربكي. وفي معينات كل واحد من هؤلاء، أمراء ديوان على المتصرفيات بعد الولايات، منوط بهم أمر الجند الباش بوزق. وأما القضاة فهم بيدهم الإدارة أيضا؛ فإذا احتاجت الدولة إلى حرب وطلبت جندا، قام بكلربكي، أو الميرمران، مع أمراء الديوان، فجمعوا الجموع وتوجهوا إلى حيث يطلب إليهم.
كانت تمشي الحال على تلك الوتيرة أو ما قاربها، تحت رئاسة الصدر الأعظم في الديوان الملكي (ديوان هومايون). أما بعد منشور الكلخانة، فتأسست الولايات على الطراز الجديد، وتأسس الجند أيضا على ما ذكرنا تأسيسا جديدا. ثم بعد إعلان القانون الأساسي سنة 1293، جاء الحكم الدستوري، الذي سارت عليه الدولة إلى أن انفصل عنها العرب.
إن أهم ما حدث إبان إمارة المرحوم من انقلاب فكري جعله يترك التمسك بمحض عثمانيته التركية، هو مغزى عسير، عندما أمره السلطان بأن يتوجه إلى تلك المتصرفية، فينقذ حاميتها من حصار السيد الإدريسي. وكان حصار أبهى - مركز متصرفية عسير - وقت حركة الإمام يحيى وحصاره صنعاء اليمن قبل أن يتفاهم مع الدولة العثمانية بواسطة عزت باشا الصدر الأعظم أخيرا. فتوجه بالقوة العثمانية الموجودة بالحجاز، فاستصحب معه الجندرمة الراكبة وقوة هجانة المدينة، وألف قوة أسماها (القوة المعاونة) على أن يأتيه المدد العسكري بالقنفذة.
وكنت يومئذ في المجلس النيابي، فطلبني، وأجازني المجلس، فالتحقت بالحجاز. وقال لي الصدر الأعظم إبراهيم حقي باشا: الأمير يطلبك ولا بد أنه سيكلفك بمأمورية معه. وقال لي رئيس مجلس النواب أحمد رضا بك: لم تستعين الدولة بنفوذ والدك؟ ألم يأت الوقت الذي ينبغي أن تتخلص فيه الدولة من النفوذ الشخصي؟ فقلت له: إنك نائب، ويمكنك أن تترك الرئاسة لوكيلك وتنزل إلى كرسي النيابة كعضو فتوجه سؤالا إلى الحكومة أو استيضاحا، فإن ذلك يكون أليق للصنعة التي أنت فيها، والدولة ستكون في حاجة ملحة إلى نفوذ المخلصين من بلاد العرب أجيالا أخرى، إن بقيت وبقوا.
ولما وصلت إلى مكة، مررت بسمو المرحوم الخديوي، وكان يميل رحمه الله إلى السيد محمد بن إدريس، ولعله كان يعضده. ولقد بلغني أن الدولة العثمانية طلبت إليه أن ينصح السيد فنصحه، وبقيت هذه النصيحة عند ذلك الحد. فلما رآني قال: السفر لتأديب الإدريسي؟ قلت: نعم. فقال: الوقت صيف وتهامة حارة، فلو أخرت الحركات إلى أن يعتدل الموسم؟ قلت: لا أدري، ولكن ربما توجه الجيش من طريق الشرق، والتأخير فيه إمكان سقوط أبهى، لذلك فالحركة واجبة. فقال: بلغني أن الأفكار العربية ممتعضة من هذا العزم. فأجبته بأن الأفكار هذه لا تصل إلى بعض الأخطار الممكنة، إن حصل تفكك في القسم الجنوبي من البلاد العربية يجعلها تحت أيد جاهلة، تمكن الأجانب من وضع أيديهم عليها. فقال: وفقكم الله، ولكن مهما أمكن، التمسوا الأسباب الواقية للصحة من الأوبئة والشمس. وفي الحقيقة لما وقعت الكوليرا في العساكر ذكرت تنبيهه هذا.
واقعة قوز ابا العير
وتحرك الركب الهاشمي من الحجاز في فصل الأسد، في حمارة القيظ، فوصلنا القنفذة، والإنسان لا يستطيع أن يطأ الأرض الملتهبة كالنار، وليس بالقنفذة من عربان البلاد المجاورة أحد سوى أهلها. وكان في الصحبة ثلاثة طوابير نظامية، يبلغ عددها ثلاثة آلاف جندي. وبعد أخذ الأهبة، كانت الحركة نحو (قوز ابا العير) وكان فيه قائد للسيد الإدريسي، اسمه ابن خرشان، ومعه عشائر تهامة. فأمرت أن ستصحب معي مائتي خيال وألف هجان، مع تلك الطوابير والمدفعية، فتوجهنا وكان معي المرحوم الملك فيصل؛ وحيث إن التدريب العسكري للحركات الليلية كان غير كامل الترتيب، فلم تتمكن القوى التركية من قطع المسافة في الوقت المناسب، إلا بعد تأخر تسع ساعات. فوصلنا إلى نقطة بساحل البحر جنوبي القنفذة، بها ماء يستطيع الإنسان شربه، اسمه (أم الدبة). وبعد استراحة ثلاث ساعات، توجهنا فأدركنا الزوال، ونحن على طرف سهل صلب من رمل دمث، والبحر بالناحية الغربية، وأمامنا وادي (يبا) الكثير الحراج الملتف الأشجار؛ والجيش يسير ويتقدمه الطابور الأول، ثم الثاني، ثم الأثقال، ثم الطابور الثالث، وعلى الجناح الأيسر القوى الهاشمية والخيل، وعليها الأمير فيصل (الملك فيصل).
وكانت القوتان تأتمران بإمرتي، وقائد الطوابير الثلاثة هو القائد زكي بك الشركسي. ولدى قدومنا إلى ذلك المحل، عاد إلينا ضيف الله العبود، أحد الشيوخ، وقد أرسل - ومعه كوكبة من الخيل - عينا ليكشف ما وراء الحرجة وما بها، فقال إنها محشوة بالرجال. وفي تلك الأثناء، وإذا بالبقية من العيون - أي القوة الكشافة - تعود مسرعة ثم عادت المقدمة من الهجانة وهي منهزمة متوجهة نحو الغرب إلى ناحية البحر، وإذا بجحيم من النار يطلق فجأة من تلك الحراج. فأمرت زكي بك بالتوقف، وأشرت عليه بأن يسوق الطابور في شكل الصيادة، ويكون الطابور الثاني احتياطيه، وأن تقف الأثقال، وأن تقف أيضا القوى الهاشمية فإذا دفعناهم وجاء الوقت المناسب، أمرت القوى الهاشمية بالهجوم، والتعقيب من ناحيتها. فحرر هذا الأمر، ووقع منه ومني، وأرسل إلى الأمير فيصل وإلى قواد الطوابير، فسرنا والتحمنا مع القوى الكامنة في الحراج، فدفعناهم وتوغلنا.
وقبل أن يأتي الوقت ويصدر الأمر بهجوم القوة المعاونة، وإذا بنا نراهم يهجمون مسرعين، وأن ليس أمامهم إلا زرع يحصد، فقلت لزكي بك: مر الطابور الاحتياطي يتقدم إلى الميسرة، حيث كانت فيه القوة المعاونة، فإنني لست آمن عليهم الهزيمة الآن. فقال إنه لا يستطيع ترك القوة الآن، ورجاني أن أبلغ هذا الأمر بذاتي. وقبل أن أتم المحاورة، وإذا بالمرافق يقول لي: انظر يا سيدي إلى يسارنا! فإذا بالقوة المعاونة ترتد لا تلوي على شيء. وقد بلغت إلى حيث الطابور الثاني، وكان يقوده إسماعيل بك، فقلت: سر بالطابور وخذ موقعا إلي يسار الطابور الأول، أما القافلة فمرها لترجع إلى (أم الدبة)، وليكن الطابور الثالث هو الاحتياطي. وإذا بالرجل يمسك بعرف جواد يتقيأ، ولم يكن في حالة ترضيني، ورأيت فيه من الجبن ما أزعجني؛ فكررت الأمر فلم يصغ، وإذا بنا نضرب من الميسرة ضربا مروعا.
وبعد ثلاثة أرباع الساعة، كان الموقف في غاية من الحرج؛ وإذا بفريق من الهجانة، فأنخته بين السبخاء والموقع الرملي، وشرعت أدافع ما استطعت؛ وإذا بأناس من المنهزمين يلتحقون بي، وهم فرسان عرفوا بالنجدة، كفاجر بن شليويح، وحبيليص الشيباني، وفهد العرافة بن سعود، وبعض الأشراف، ثم لحق بي الشريف شاكر بن زيد؛ ولم يكن لنا منهم إلا الثبات لتخليص القوة العثمانية من موقفها القتال. وبالنتيجة لم يسلم من الطوابير الثلاثة إلا سبعون نفرا. ولما أن أعيدت الحملة والمدافع إلى أم الدبة، كنت آخر من ترك الموقف، بعد أن قتل ابن خيرة أمير الجناح الأيمن للقوة الإدريسية. ووصلنا القنفذة في اليوم الثاني بخسارة عظيمة. ولو كر الأدارسة ليلتها أو الليلة الثانية، لقضوا على الجميع. ولكن خسائرهم كانت أفدح.
كانت هذه الواقعة، واقعة (قوز ابا العير)، والتراجع الذي وقع من القوة المعاونة العربية، السبب الأول في سوء الظن الموجه إلينا من باقي قوات الحملة التركية، وأولهم المير الاي نظيف بك. وكأنهم نسوا ما كان يحيق بهم من حركات كهذه، في اليمن وعسير وفي جبل الدروز والكرك وفي كل محل.
وبعد خمسة عشر يوما، تكررت الحملة بقوات جديدة وردت وأمر على الجميع الشريف زيد بن فواز، وقد صدر الأمر إلي بأن أكون أحد أمراء الحملة؛ فتوجهنا من القنفذة صباحا ووصلنا ظهرا إلى (أم الدبة)، وكانت القوة التركية هي هذه: ثلاثة طوابير نظامية، كل طابور ثمانمائة وخمسون جنديا، بقيادة القائد زكي بك؛ وثلاثة طوابير رديف، بقيادة القائمقام إسماعيل بك، وكان عدد هذه الطوابير ألفا ومائتي جندي؛ وطابور آخر اسمه طابور اليمن، لأنه جلب من اليمن، يقوده قائد اسمه ضياء الدين بك، وعلى المجموعة هذه كلها الأمير الآي نظيف بك، أما القوة المعاونة، فكانت هي هي، خيلها وهجانتها. فتحركنا وقت الظهر ، ولما وصلت القوة إلى محل المعركة الأولى، وكانت الساعة الحادية عشرة غروبية، وجدنا قوة الأدارسة في تلك الحالة الحرجة نفسها، فقابلونا بنار حامية كسالف عادتهم. فقال نظيف بك للشريف زيد: ماذا تأمر؟ قال: لا أمر لي إلا بعد أن تعرض علي ما تراه أنت، فإذا رأيت ما يجب تنبيهكم إليه فعلت. فالتفت إلي وقال: ما رأيك؟ فقلت: الأمر بالمبيت واستئناف الحركة صباحا، لأني أخشى ألا تكون الحركات العسكرية ناجحة ليلا، ونحن في أرض دغل لا نعرف مخارجها ومداخلها. فقال: تقول هذا من أجل أن يرى الناس، أن سبعة طوابير عثمانية أوقفتها شرذمة بدوية. فجلى عما كان يكتم فقلت له: هذا رأي أكتبه كتابة. ثم التفت إلى اليوزباشي أركان الحرب بهاء الدين بك فقال له: ماذا تقول؟ فقال: أقول إن كل شبر تتقدمه الآن في وقت الغروب والليل مقبل، يسوقك إلى الاضمحلال، وإني أضم رأيي إلى رأي عبد الله بك. فقال: اكتب الأمر بالمبيت: الآي زكي بك الجبهة. الاي سعيد بك الميسرة. الأثقال في الوسط. طابور اليمن في الساقة. القوة الهاشمية المعاونة الميمنة. فلما كتبه عرضه على الشريف زيد، فوافق عليه وصدق. ثم أمرت بأن أكون مع زكي بك في الجبهة، وأن الأمير فيصل (الملك فيصل) على القوى الهاشمية في اليمين، وبقي الشريف زيد بن فواز ونظيف بك في مقر القيادة.
فتقدمنا تحت وابل من الرصاص، وقومنا الجبهة من طابورين، ومن كل طابور بلك فئة احتياطا له، والطابور الثالث احتياطا للكل. ونظمت الجبهة في شكل مربع: فنحن جبهتنا الجنوب، والآي سعيد بك جبهته الشرق، وطابور اليمن جبهة الشمال، والقوى الهاشمية جبهتها الغرب. وعند إتمام هذا الترتيب، حمل أهل اليمن علينا من الجبهة حملة صادقة، استمرت ثلث ساعة، وقوبلت بجحيم من النار، فتراجعوا. ثم بعد ربع ساعة، كروا على الجبهة الشرقية، فقوبلوا بمثلها على أننا كنا في خطر من نار أتت من جبهة مكشوفة، فاضطر كل واحد منا أن يعمل له مجثما جنبيا؛ ولما كف هجومهم علا الصياح في الميمنة، حيث كانت النوبة على القوى المعاونة، فترجرجت ثم كرت، وبعد لأي أوقف الهجوم. ثم كانت الحملة على طابور اليمن، فأمد من الاحتياطي العام؛ ولم تدم هذه الحملة كثيرا، فتراجعوا، وكانت الليلة ليلاء حتى الصبح، فكنت متى سمعت بطلقة من ناحية أهل اليمن، تقابل بمئات الألوف من الطلقات من هذا الجانب؛ وكنت تسمع الإيعاز حالا من الجبهات بالبوق «اتش كس اتش كس» «اقطع النار اقطع النار».
وبعد الساعة الرابعة، طلبت إلى مركز القيادة، فحضرت. وإذا بالمرحوم الشريف زيد ونظيف بك يقولان: كانت نجاة القوة هذه نتيجة لرأيك الميمون، فلو سرنا لكنا في خسران عظيم. فقلت: التجربة السالفة هي التي هدت إلى ما وقع. فقالا: كيف الجبهة؟ قلت: على ما يرام، كل جندي قد نال قسطه من العشاء وزود بمطارتين من الماء، فلا خوف إن شاء الله.
ولم نذق تلك الليلة النوم إلا غرارا أو نعسة. ولما أصبح الصبح ونادى منادي الصلاة، بالبوق أولا ثم بالأذان ثانيا، كبر أهل اليمن من كل ناحية، فصلت كل فئة في محلها؛ ثم جلب الحرس إلى مصافه، وقرأ مفتي الجيش سورة الصف؛ ثم ابتدأت المدفعية تصلي الحرجة نارا حامية فتمسح الأرض مسحا. وإذا بميسرة اليمن يقودها الشيخ بيطري تتقدم على أعلامها، فلما خرجت من الأدغال وتبينت في أرض صحصح، باغتتها القوى الهاشمية بهجوم بالخيل من ناحية البحر، ثم أصلتها المدفعية نارا حامية، فاهتزت يمنة ويسرة كشجرة في مهب الريح، ثم ولت الأدبار، فاتبعتها القوة الهاشمية الراكبة.
وتقدم الآي زكي بك، وأنا معه، فلما وصلنا الحرجة، لم يرعنا إلا وأهل اليمن بمآزرهم، وليس على ظهورهم من الثياب شيء، غير المحازم والخناجر في أواسطهم، فقابلوا الجيش بطلقة أو طلقتين من كل واحد منهم؛ ثم استلوا الخناجر وحلوا تلك العربية؛ فأصلتهم القوة التركية نارا حامية، فوقع الأكثر وهزم من بقي. وكنا حين ذاك نسمع لعلعة البنادق والمدافع من ناحية الآي سعيد بك، ثم أخذت الأصوات تبتعد كلما تقدمنا، فقال زكي بك: نحن في خطر، حيث تمكن هؤلاء من إحداث فجوات بين الميمنة والقلب والميسرة.
وحين ذاك كان المقر معه فئتان ومدفعان، وبه الشريف زيد بن فواز والأمير الآي نظيف بك. فقال زكي بك: سآمر بالتوقف، وهذه الشجرة الدوحاء علامة لك؛ فاذهب إلى المقر، وليكن بيننا وبين قوة سعيد بك، التي ينبغي أن تسرع السير حتى توازينا من يسارنا؛ أما القوة الهاشمية فلا سبيل إلى اللحاق بها. فلما وصلت، وإذا بالشريف زيد بن فواز، ومعه مائة وخمسون هجانا وأرباب الأسنان من المشايخ والشرفاء، فسألته عن نظيف بك، فقال: تقدم بالفئتين والمدفعين إلى الكعدية - بئر بأعلى أبهى - وإذا بالملك فيصل معه، فلما سألته عن قواته قال: العهد بها يوم أن أغارت. فبعثت بمرافقي إلى زكي بك، ومعه من يرشده إلى الكعدية، حيث قائد المفرزة والمقر النظامي، وسرت مع ربعي؛ فلما سرنا نحو خمس دقائق، وإذا بنا نخرج إلى أرض جرداء، فتبينت لنا منها الكعدية، وبها نظيف بك والبلكان الفئتان، تضرب مدافعه بالقذائف الخاصة للرمي من قرب والتي تدعى (شبرا).
ولما برزنا وعلم القيادة معنا، ورأوا الهجانة، ترك أهل اليمن نظيف بك وحملوا علينا، فأنخنا ونزلنا؛ فكانت ملحمة من أفظع ما رأيت، وكان الشريف زيد يصاب أحيانا بالرعاف، ولا يطيق الشمس، وهو واقف وعلى رأسه المظلة البيضاء، فأقول له: يا عم اندرق هنا. فيقول: لو أحببت الاندراق لكنت بالطائف، اصبروا سينكشفون الآن.
وهرع الملك فيصل إلى الأمير الآي نظيف بك، ونحن في تلك الساعة الكربة، وإذا بحملة الأثقال ومعها طابور اليمن يتصلون بنا. فتقدم ذلك الطابور الشجاع، وانتشر حتى كانت أقسامه اليمنى متصلة بنظيف بك على الكعدية؛ وأمر الشريف زيد، ومعه الشيخ جابر بن هليل عظيم الثبتة من عشائر عتيبة، الحملة بالتقدم، وصاحوا: يا حاملوه يا حاملوه! فحملنا نحن من مرابضنا، والعلم الهاشمي بيد ابن جنيح - وكان رجلا طويلا أسمر - وكانت الهزيمة على أهل اليمن. ثم أخذنا نسمع أصوات الطلقات من ناحية المشرق، فتبين أنها قوات سعيد بك وقد أقبلت.
وعند وقت العصر، كنا بقوز أبا العير، وليس من قوات اليمن أحد، فقد اضمحلوا وتراجع ابن خرشان إلى القحبة. ثم قبيل المغرب، جاء التقرير الطبي إلى مقر القيادة، بأن الوفيات اليوم في الجيش بلغت مائتين وثمانين، وأن الوباء وباء الكوليرا. وفي اليوم الثالث، نزلت القوة إلى ثلثها، وقدم المرحوم إلى القوز؛ ولقد رأيت بعيني رأس الغفير القائم على خيمتي، يقع ميتا كأن قد ضرب برصاصة. وأصبحت القوى المسلحة التركية ألفا وسبعمائة نفر من سبعة آلاف، فأمر بالحركة نحو أبهى، وكلما تقدمنا تناقص المرض. وكانت وقائع، في بارق وفي الثنية، ثم صعدنا الجبل من عقبة ساقين المشهورة، ولما اجتزناها بعد ثالث، أيقنا بالسلامة من شر تهامة وأوبائها.
ثم كانت واقعة سدوان، ثم واقعة اثني خريم؛ وكان قائد الأدارسة السيد مصطفى الإدريسي والسيد الفصال، وكانت الهزائم تتالى على أهل اليمن. وكانت الفظاعة من الجند التركي، في إحراق القرى وتقتيل الأبرياء، السبب الأول في الانقلاب الأخير، حيث قال الأمير: ليس من هؤلاء خير للعرب. ولقد عرضت عليه أربع مرات جثث شويت على النار شيا، بأن تدخل أعمدة الخيام من أدبارهم حتى تخرج من أفواههم. وقد عرض عليه في اثني خريم، ست رؤوس وقد قطعت عن أجسادها، ووضع ذكر كل رجل منهم في فمه؛ فقال الأمير لنظيف بك: هذا يليق؟! فأجابه: أليسوا قد حرقوا قلوبنا؟! فسكت.
أسس النهضة
وبعد الأوبة إلى الحجاز، كان الشريف يضع أسس النهضة. ولقد كانت الأوبة من عسير بسبب الخلاف الذي قام بينه وبين القائد والمتصرف سليمان باشا؛ فإن الباشا المذكور قال إنه لا يستطيع الائتمار بما يشير إليه الأمير، لأنه لم يتلق من الباب العالي أي أمر بهذا؛ وقال إن العساكر النظامية التي وصلت مع الشريف واللواء مصطفى نشأت باشا، يجب أن تكون تحت أمره، إلى أن تأتي الإشارة من الباب العالي موضحة الحقيقة.
فعلى هذا، ولما رأى بعينه من مثلة في قتلى العرب، ومن أفعال جبارة وقعت من الجيش العثماني وقواده؛ ترك أبهى وعاد إلى الحجاز بالقوات الهاشمية، عن طريق الشرق، حيث مر بوادي شهران ووادي بيشة، وقد ترك رنية إلى الشرق وسار مع أعلى حرة تربة، ونزل وادي كرى. وبناحية الشرق من هذا الوادي، تكون قرية تربة، وقصر رمادان الذي أبيدت فيه القوى المصرية في حركة الوهابية الأولى، ثم بها وقعت الهزيمة على الجيش الشرقي الهاشمي الذي كنت أقوده بذاتي يوم تربة.
ثم توجه إلى وادي كرى، وقد ترك ديار غامد البدو إلى يساره. ثم أصحر عندما بلغ جنوب ركبة في الخمرة، وهو ماء على حد سهل من جبل، حيث تلتقي حدود ابن الحارث وغامد وعتيبة. وبذلك المحل جاء المستقبلون من الطائف ومعهم الشريفان عبدالله بن زيد بن فواز وشرف بن راجح بن فواز، وجاء من الخرمة خالد بن لؤي، الخارج على قومه أخيرا، وغالب بن لؤي، ورؤساء العشائر بأجمعهم. ثم توجه مغربا إلى الطائف، فمر بوادي النفعة، وهو واد به النخل الكثير الفاخر. ثم مضى في طريقه، مارا بوادي لية، وبها قدم (مكتوبي الولاية الكاتب الأول) موفدا من الوالي، والميرالآي أحمد بك موفدا من الكومندان منير باشا. وكان المكتوبي أسر إليه - أي إلى الأمير - بأن الشريف ناصر بن محسن - أحد ذوي غالب - أشاع الهزيمة عن الجيش العثماني والشريف، وأنه يقال إن الشريف قد قتل، إلى غير هذا من الإرجاف.
ولما وصل إلى الطائف، في اليوم الثاني، وإذا في مضارب المستقبلين هيئة الحكومة، ومعهم ناصر بن محسن هذا؛ فلما رآه أمر بإخراجه إخراجا عنيفا، فقال الوالي: عفوا يا سيدي فإنه قد جاء معي. فقال: وإن كان قد جاء معك؟! فقال الوالي: أنا ممثل السلطان، وهذه المعاملة تحقير للسلطان نفسه. فأجاب على الفور: هل تركتم ناحية من السلطان لم تحقروها؟ أنا ممثل السلطان هنا لا أنتم. ثم التفت إلى قاضي مكة وإلى القومندان منير باشا، فسأل عنهما، ثم فتش الجند وركب إلى دار الإمارة. وقد التفت إلينا، وهو يصعد الدرج وهو يقول: ربما أن ما فعلته لم يرقكم. فلم يجب أحد بكلمة. فقال: أنا عالم بما لا تحبون، ولا ضير، فعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم.
وبعد ثلاثة أيام وردت برقية من الصدر الأعظم يقول فيها:
لقد بلغت المسامع السنية المعاملة الشديدة التي وقعت من ذاتكم الهاشمية على الشريف ناصر بن محسن، الذي هرع لاستقبالكم مع عطوفة حازم بك والي الحجاز، وإن الرغبة السلطانية منصرفة إلى استدعاء الشريف المومى إليه إلى مقامكم السامي وتلطيفه وإرضائه.
فأجاب:
بما أن الأسباب الموجبة لما نال الشريف ناصر بن محسن من زجر وإخراج، لا تتعلق بي شخصيا، فأنا لا أرى أن علي إظهار الندم على ما فعلت؛ وإن ما أشاعه المومى إليه من أخبار اضمحلال القوى التي كانت معي وإبادتنا، لم يقصد منه إلا إيجاد حركة ثورية هنا أيضا؛ فهو يستحق ما وقع عليه. وقد بلغني الخبر من مكتوبي الولاية، ثم جاء به الوالي، وهو يعرف ذلك، وما في هذا من المداهنة والفساد ليس من خلقي.
فجاء الرد على الفور من الصدر الأعظم يقول فيه:
إن الباب العالي لا يستطيع غض النظر عن ما في كسر الرغبة السنية التي تبلغتموها بالبرقية السابقة، التي نؤيدها بهذه، مردفين انتظار جلالة السلطان النتيجة.
فأجاب على الفور:
إنني، مع كرامتي لنفسي، الرجل الذي يعتبر قاعدة الثاني بعد ولي العهد في المكانة؛ ولا أظن أن الرغبة السنية تقصد الحط من هذا المركز القديم. والباب العالي - الذي لا يستطيع غض النظر عن نفوذ الذات السنية - كيف يوجه هذ التهمة الشائنة إلى رجل لم ينفض بعد غبار السفر عن رجله في مجد السلطان؟! وإن الباب العالي حر في ما يجب أن يفعله.
فسكت الباب العالي.
وهل شهر رمضان، وكانت القطيعة بين هيئة الدولة والإمارة طول الشهر. وفي ليلة العيد، جاء قائد الجندرمة عثمان بك إلى دائرة الأنجال، وقال للمرحوم الملك علي: لقد وردت برقية إلى الوالي في أن يزور الذات الهاشمية معتذرا، فهل يقبله سيدنا؟ فقلنا: لا شك، ولكن تفضل اعرض عليه ذلك. وبعد الاستئذان، ولما مثل بين يديه، قال له عثمان بك: كيف حالك وما سبب انقطاعك؟ فقال له: أما أنا، فكما تعلم الدولة أنني إن عجزت عن المحافظة على حقوقي ، فإنني أعجز عن حفظ حقوقها. فتقدم عثمان بك وقبل يده وعرض عليه ما جاء به، فقال: مرحبا به، وهو زميلي السابق، إذ كنا جميعا في دائرة الداخلية لشورى الدولة؛ وليكن الاجتماع غدا في مصلى العيد، ثم يأتي بمعيتي إلى دار الإمارة، ثم نزور الولاية والقيادة كالمعتاد، فإن هذا أليق وأجمل. فوقع ذلك كما أراد.
ثم أعقبت هذا وثبة إيطاليا على طرابلس الغرب، فأبدل الصدر الأعظم إبراهيم حقي باشا بالصدر الأعظم سعيد باشا، المعروف بشابور سعيد. فأبرق إليه الأمير يقول:
أرجو أن تلاحظوا البرقيات المتبادلة بين الصدارة والإمارة، من تاريخ كذا إلى تاريخ كذا، وبها تفاصيل الحادث.
فكان أن نقل الوالي حازم بك، عزلا، إلى ولاية بيروت، بعد ثمان وعشرين ساعة. وعندها قال لنا: لو طأطأت رأسي لما أرادوا لما رفعت ذلك الرأس أبدا.
وعلى ذكر الوالي حازم بك، أقول إن الصدر السابق إبراهيم حقي باشا كان يلتزمه. وقد قال له حقي باشا يوم وداعي له، وأنا قاصد إلى الحجاز، عندما طلبني المرحوم الوالد لأكون بالخدمة في ذلك المغزى: إن سفير بريطانيا العظمى يشتكي من سعود بن عبد العزيز بن سعود (المشهور بالعرافة) وتنزيل والدك، بأنه بسبب المساعدات المتوالية له من سيادة الشريف، يخرب على أمير نجد عبد العزير بن عبد الرحمن الفيصل، وإن هذا الأمير له صلة عهد بحكومة الهند، وإنه يطلب كف يد المذكور عن هكذا حركات. فقال الصدر الأعظم: أقبل أيادي الأمير، وأرجوه ألا يفتح علينا باب إشكال مع بريطانيا، فأنا على غير استعداد لمجاراته، ومسألة الكويت لا تزال نصب الأعين ...
وهكذا كانت مجريات الحال منذ ذلك الحين.
مع اللورد كيتشنر
لقد كانت الدورة الأولى والثانية، التي حضرتها في مجلس المبعوثان، دورتي تعرف واطلاع. أما الدورة الثالثة، فبها عزل والي الحجاز وقائده الفريق منير باشا؛ وعين الميرالآي وهيب بك واليا وقائدا في حكومة سعيد حليم باشا، بعد مقتل الصدر الأعظم محمود شوكت باشا، وقد جاء متنمرا.
وكنت حين ذاك في طريقي إلى إسطنبول، لحضور المجلس؛ فلما وصلت مصر ، علمت أنه عبر ترعة السويس إلى جدة، وأن معه جنودا كثيرة.
وقبل هذا التاريخ بعام، وأنا بمصر بحضرة الخديوي المرحوم، في الساعة الثالثة بعد الظهر، جاء رئيس التشريفات وأخبر الخديوي بأن اللورد كيتشنر قد حضر، فقمت مستأذنا، فقال الخديوي: قد علم أنك هنا، وليس من اللياقة أن تخرج، فاصبر لأعرفك به. فدخل اللورد بقامته الطويلة فسلم على الخديوي، فقال له الخديوي: هذا الأمير عبد الله بن أمير مكة الحسين بن علي. ثم قال لي: هذا اللورد كيتشنر، قنصل عام بريطانيا بمصر. فتصافحنا. ثم قال له هذا يد والده الفعالة، وقد أصيب بجراح في إحدى غزواته. فأشار إلى عنقه وقال: وهذه إصابة أصابتني في حرب السودان. فقلت مازحا: إنك يا فخامة اللورد هدف لا يخطأ، ولكنني أقصر منك قامة، فكيف أصابني ذلك البدوي؟
ثم استأذنت وخرجت، وكانت هذه المقابلة بسراي القبة، وأنا نزيل قصر عابدين. وبعد وصولي إلى عابدين بساعة ونصف، جاءني التشريفاتي علي بك شاهين وقال: اللورد كيتشنر هنا وقد جاء لزيارتك. وكانت مباغتة خفت عاقبتها على سياسة والدي مع الأتراك. وبالطبع ما كنت أستطيع رفض زيارة تكريمية، فدخل ومعه مستر ستورز (سير لورانس ستورز) الكاتب الشرقي بالقنصلية البريطانية. ولما استتب بهما البقاء، قال الترجمان بيننا سير لورانس: إنني مغتبط بالتعرف إليك، وإنني بمناسبة هذه الفرصة السانحة أبلغك رضى حكومة جلالته البريطانية عن الحالة الراهنة في الحجاز، حيث الأمن وراحة الحجاج بالحج وزيارة النبي، وإنني أطلب تبليغ هذا لصاحب السيادة العظمى الشريف، وإن حكومة جلالته لا ترضى بأي تغيير هناك. وبعد تناول القهوة قام وانصرف.
ثم جاءني رسول الخديوي يقول: إن لورد كيتشنر قد زارك، ومن اللائق المقتضى أن تعيد له الزيارة. فأربكني هذا التكليف فقلت: أفعل إن شاء الله. ثم على الفور قصدت دار المندوب السامي التركي، الوزير محمد شريف رؤوف باشا، فأخبرته بالزيارة وقلت له: هل تأذن في أن أعيد له واجب زيارته؟ فقال: لا بد من ذلك ولا بأس. ورجوت علي بك شاهين أن يرى الوقت الذي لا يكون اللورد كيتشنر فيه بدار القنصلية العامة، كي أصل فجأة وأترك بطاقة زيارة ثم أخرج، فقال لي: لا يكون اليوم بعد الظهر هناك. فأخذني إليها، ولما وصلنا إلى الباب الخارجي الكبير، وإذا باللورد يستقبلني من الباب، فدخلت وجلسنا، ثم أشار لعلي بك شاهين بالخروج فخرج، وقال لي: إذا حدث أي حادث تحتاج فيه إلى أي خدمة أقدمها فأنا مستعد.
وبعد أن تناولنا الشاي، ذكر ملمحا أنهم أحاطوا علما أن في نية تركيا القيام بتغييرات أساسية في بلاد العرب، فهل إذا كان من جملة هذه الإجراءات أي تغيير في شخصية الأمير، سيرضى سموه بذلك؟ قلت له: إن الشريف في العرف موظف، من حق السلطان تغييره، وهو لا يعارض إن وقع، ولكن إذا رأى أن الدفاع من منفعة الوطن المقدس، فهل تساعدون الأمير في دفاعه أنتم؟ فأجاب: إن بيننا وبين تركيا صداقة تقليدية لا تبيح لنا التدخل في شؤونها الداخلية. فقلت له: كم لكم قدرة عجيبة في تكوين الأمور على مشيئتكم! فهل يسمح لي اللورد أن أسأله عن الكويت، لما تدخل في شأنها حاكم الهند بطلب قائم مقام الكويت مبارك الصباح، ألم تكن جزءا متمما من البلاد العثمانية؟ فقال لي: أنت صريح خطر، وسأبلغ حكومتي ما سمعت. فقلت: ليس هذا يستحق التبليغ، فإن الحديث مجرد ملاحظات. فقال: وإن كان ...
مع الصدر الأعظم سعيد باشا
سافرت إلى إسطنبول، ورأيت الجرائد ذكرت عن زيارة اللورد كيتشنر إياي، وردي الزيارة له، تحت عناوين (ماذا يجري في مصر) فقالت:
إن الشريف عبد الله بك، نجل أمير مكة الشريف حسين باشا، ينزل ضيفا على الخديوي. وفي هذه المرة أقيمت له حفلة غداء رسمية حضرها وزير الخارجية المصرية، وكانت الموسيقى الخديوية تلحن ألحانا معينة أثناء الغداء. وقد زار اللورد كيتشنر الشريف عبد الله بك، ورد هذا الزيارة للورد. وقد حج الخديوي كما هو معروف. فيا هل ترى ماذا يجري بين سمع الحكومة وبصرها؟!..
فذهبت إلى الصدر الأعظم سعيد باشا، وبحثت له عن تقولات الجرائد، وقلت له: لم أرد الزيارة إلا بعد أن استأذنت المندوب السامي العثماني بمصر، محمد رؤوف شريف باشا. فقال: لا تحفل بتقولات الجرائد.
وهذا الرجل له من المقدرة ما يوجب الحيرة. فلقد زرته أثناء حرب إيطاليا والدولة العثمانية بطرابلس الغرب، فلما سمع بوجودي في داره طلبني فدخلت عليه، وهو مصاب بالعنكز - جدري الماء - وهو في سن الشيخوخة؛ فلما أقبلت عليه استوقفني، فوقفت ولا أدري ماذا يريد، وإذا به يضع يديه على ذراعي الكرسي وينهض يرتعد، حتى قام واقفا؛ وحين ذاك أشار إلي أن أتقدم، فدنوت منه وقال: لولا ما بي لقبلت يدك. وجلس وأمرني بالجلوس، وكان يلبس ثوبا وعليه فرو من الألمي وعلى رأسه طاقية، أشعث اللحية والشارب داخل بعضهما في بعض، وقد أخرج من فيه أسنانه الصناعية، وكان إذا تكلم كانت الكلمات تخرج منه أشبه بطبطة الماء يسقط في الماء، وقال: الحال كما ترى ولا معين له من رفقائي؛ وهذه إحدى خطيئات الأصول النيابية، في جعل الوزراء من الأعضاء المنتخبين الذين لا خبرة لهم في شيء. ثم وضع يده على زر الجرس، ولما حضر القائم على الخدمة، طلب رئيس الكتاب ومعه كاتبان آخران، فحضر الجميع، وأمرهم أن يكتبوا ما سيمليه عليهم من برقيات. وابتدأ يملي على الثلاثة، فأملى على الأول:
ولاية بيروت العلية:
علمت من وزارة الحربية الجليلة بهجوم الأسطول الطلياني على المدفعية العثمانية «عون الله» الراسية في ميناء بيروت، وضربها بالمدافع قبل أن تتم مدة الإنذار المعطاة لها، وهي نصف ساعة، وتحطيم المدفعية المشار إليها وإغراقها وإغراق المدمرة «برق سطوت» معها، وأن المدينة ودار البلدية أصيبتا بخسارة، وأن هناك قتلى وجرحى من الأهلين، وأن الغوغاء هاجمت المخازن العسكرية فنهبت الأسلحة والعتاد، وأن المدينة في فوضى، وعليه ينبغي الاجتماع حالا من طرفكم، بقناصل الدول المتحابة، والمخابرة مع قائد المركز، ليخابر المشيرية بالشام، لجلب خمسة طوابير من الرديف، لإعادة الأمن حالا، واسترجاع الأسلحة والعتاد من الأهلين. وأن مسؤولية ما وقع عائدة عليكم حتى تتبين حقيقة الحال. ولقد علمت أن لا علم لدى وزارة الداخلية بكل ما جرى، وفي هذا مزيد الأسف.
وأملى على الثاني:
وزارة الخارجية الجليلة:
لقد هاجم الأسطول الإيطالي المدفعية العثمانية الملكية «عون الله» والمدمرة «برق سطوت» داخل ميناء بيروت، وأغرقهما قبل أن تتم مدة الإنذار المعطاة لهما، وهي نصف ساعة، وقد تضررت مدينة بيروت غير المحصنة بالقصف الواقع. وإن الحكومة السنية تحتج لدى الحكومات المتحابة على هذه المعاملة غير القانونية، مستندة على مقررات مؤتمر لاهاي. وبلغوا هذا الاحتجاج إلى السفراء العثمانيين لدى الدول العظمى، كما يجب أن تبلغوا سفراء الدول العظمى بذلك الاحتجاج هنا.
ثم أملى على الثالث:
وزارة الحربية الجليلة:
أشكركم على سرعة إخباركم بحادث بيروت. بلغوا المشيرية بالشام تهيئة خمسة طوابير من الرديف وسوقها إلى بيروت، لتعيد الأمن وتسترد الأسلحة والعتاد المأخوذة من مخازن الجيش.
وكان يملي هذه البرقيات الثلاث، على الكتبة الثلاثة، في آن واحد، بحيث إنه حينما ينتهي أحدهم من الجملة ألحقه بتالية؛ وهكذا بالتناوب، وهو في حالة المرض. ثم أخذ هذه الأوامر الثلاثة ووقعها وقال: خذوا صورها منها.
ثم قيل له: إن عاصم بك وزير الخارجية هنا. فقال: ليدخل. فدخل وجلس وقال: لدي معروضات يا سيدي - ونظر إلى ناحيتي يشير إلى لزوم سرية المحادثة - فقال: أقدم إليك يا حضرة الوزير، الشريف عبد الله بك مبعوث مكة المكرمة ونجل الشريف الأمير، فإنه يحرس أسرار الدولة مثلي ومثلك، فقل ما تشاء. فشكرت الصدر، وتظاهرت بأنني أحب النظر إلى الشارع، فقمت إلى الشباك، ثم تسللت خارجا إلى الصفة، وتركتهما وشأنهما. فلما خرج وزير الخارجية، ورآني بالصفة احمر وجهه، ثم قبل يدي وقال: إن شاء الله أزورك ببيوك دره، بقصركم الجميل. وخرج ودخلت، وبعد أن أتممت مهمتي مع الصدر خرجت.
هذه لمعة عن رجال ذلك العصر وأحواله.
تغير السياسة العثمانية في الحجاز
عندما وصل الوالي والكومندان وهيب بك إلى الحجاز، كنت أنا قد خرجت من الحجاز في طريقي إلى مصر فالأستانة. وقد تصادفنا في البحر الأحمر، وهو في بواخره، وأنا في الباخرة التي أنا فيها. وجاء ومعه قوى جديدة. وقد كان في عزل الوالي والقائد السابق منيف باشا، الإنذار بتغيير السياسة العثمانية في الحجاز، حيث لم يكن من داع لعزل ذلك الرجل المستقيم، إلا أنه لا ينتمي إلى حزب الاتحاد والترقي.
ويوم أن تركت مكة، كان الشريف زيد بن فواز في مرض موته؛ وقد سافر معي ابنه شاكر، كعادته، وما كنت أريد سفره معي، لعلة والده، ولكنه قال له: سافر فبقاؤك لا ينفعني وسفرك فيه الرفقة لعبد الله. ولما وصلنا السويس وسألنا عنه بالتلغراف، جاء الجواب السامي بهذا النص «البركة فيكم»، فعلمنا بما حدث. وكان الركن الأهم في الحجاز، فموته ومجيء وهيب في وقت واحد فيه ما فيه، مما يربك الرجل الممتاز الثقيل. ولقد كان في مجيء وهيب على هذا الشكل، السبب المعجل لمرضه فموته.
ولقد قال لي قبل مرضه: بلغني أن الوالي الجديد لا ينوي الخير بنا؛ أما أنا فرجل له خطته، وأما سيدنا فلو أخذ من هنا لما عشت دقيقة واحدة؛ فماذا تقول؟ فقلت: لا تتوهم، إنما الترك يتظاهرون ولا يفعلون، والوقت وقت تفاهم وثبات؛ وأنا مسافر، وفي سفري أستطلع الأمر. فقال: وهل في سفرك نفع؟! لو بقيت هنا، فخدمت سيدنا برأيك، وإذا اقتضى الحال ففي الدفاع بحسن قيادتك، فذلك الأولى؛ أما أنا فلا أعتمد على نفسي في أنه بقيت في بقية تتحمل أي صدمة. فقلت: الأمر دون ذلك إن شاء الله. ثم استحلفني وقال: أقلت ما قلت لتطمئنني؟! فقلت: لأطمئنك بالحق وهو الذي أعتقده فخرجت وعلى وجهه أثر البشر.
ولما وصلت مصر، لبثت أياما بضيافة الخديوي. وقد زارني إسماعيل حقي بك، الكاتب الأول للمندوب السامي العثماني بمصر محمد شريف رؤوف باشا، وقال لي: تلقت دار المندوب السامي من وزير الخارجية الصدر الأعظم سعيد حليم باشا، يطلب سرعة قدومك إلى إسطنبول. فقلت له: لا يزال بيننا وبين افتتاح المجلس شهر ونصف، ولي أشغال هنا أريد إتمامها، وسأسافر بعد ذلك فورا. فخرج من عندي بهذا الجواب.
وفي اليوم الثاني، وأنا عند الخديوي، حضر الصدر الأعظم الأسبق فريد باشا، فلما رآني قال لي: ماذا تصنع هنا؟ قلت: أنا في طريقي إلى الأستانة. فقال: كيف تذهب إلى الأستانة وتترك والدك في الحجاز، وقد حضر وهيب بقوات عظيمة بقصد عزل الأمير؟! فقلت: كما تعلم أبهتك، أن الأمير من جملة رجال الدولة، فإذا أرادت الدولة تبديله، فما من حاجة إلى إيجاد عساكر أو قوة. فقال لي: ما الفائدة من هذه الرشوة الكلامية؟ أتظنني أستطلع خفاياك؟ أنسيت أنني ألباني، وأن ما فعله هؤلاء من رجال الدولة قد قضى على آمال بلادي وعثمانيتها وأنتم كذلك؟! فقلت له: إنني في طريقي إلى إسطنبول، وأنا أعتقد أن لا خلاف يصدر من والدي، ضد ما تريده الدولة، مهما كانت صبغتها. فقال الخديوي للصدر الأعظم: هو لا يسافر قبل حلول وقت المجلس.
فخرجت من عندهما إلى محلي، وأنا في غاية من القلق. وفي ذلك المساء، وردتنا برقية بإمضاء الملك علي، يقول لي فيها: «سافر إلى إسطنبول حالا»؛ ولما كنت شديد الحذر، ولما كانت إدارة البرق والبريد تركية، شككت في أن تلك البرقية صادرة من أخي علي حقيقة، فأجبته «سأسافر عند انقضاء أشغالي، وقد أشار إلي الكاتب الأول للكوميسير العثماني العالي إسماعيل حقي بك، فأجبته بذلك».
وقد علمت أنه قد حصلت في الحجاز أزمة شديدة، لضغط الوالي على العموم وعزمه على تطبيق قانون إدارة الولايات في الحجاز؛ فاعترض الرأي العام الحجازي على هذا، وتجمهرت الأمة وانقطعت السابلة بين الساحل والداخل وبين المدينتين، وتبدت أشباح المجاعة. وزار والدي الوالي وقال له:
هذا أنت ترى رغبة الشعب الحجازي في التمسك بحقوقه القديمة وبالشروط التي بويع بها السلطان سليم الأول بالخلافة. فإن أحببت عدم اعتبار هذا، وكانت في يدك أوامر من الدولة بتطبيق قانون الولايات على هذه البلاد وسلخ امتيازاتها، فأرنا هذه الأوامر التي لم تأتني عنها من الباب العالي أي إشارة. وإذا كان المقصود إجراء تبديل في الإمارة، فهذا أنا سأبقى هنا إلى حين تأتي الباخرة التي سأسافر بها من جدة، لئلا يقع ما تسند تبعاته إلي.
وكانت دار الحكومة من غرفة الوالي إلى الشارع إلى دار الإمارة إلى قشلاق جرول وقلعة جياد وسائر الجواد، ملأى بالرجال يصيحون بسقوط تغيير امتيازات الحجاز، ويطالبون بعدم مد السكة الحديدية من المدينة الى مكة، ويهتفون بالأمير «دم دائما»، فتزلزل الرجل وارتبك، وأخذ يقول: ليس من هذا شيء. وكتب برقية مستعجلة بالحال الراهنة، وخرج الأمير بين الهتاف العالي «دم دائما»، وبقي وهيب وهو يعلم أنه قد خذل.
ثم في مساء ذلك اليوم، أخذ الدفتردار وكومندان الجندرمة الأميرالآي سعيد بك بالقوات التي كانت معهما، في طريقهما إلى جدة بالحديبية، فأسر بيد العشائر، وحصرت كل النقاط العسكرية بين جدة ومكة، وامتنع أهل الأودية من جلب الخضار والفواكه والسمن والأغنام إلى مكة. ولم تفرج الأزمة، إلا بورود البرقية الجوابية من الصدر الأعظم للأمير، بأنه لا إخلال بحقوق الإمارة وبامتيازات الحجاز، وأن الدولة في الوقت الحاضر لا تلح في مد الخط الحديدي. وتليت هذ البرقية في المسجد الحرام، وعادت المياه إلى مجاريها.
ثم تلقيت برقية ثانية بإمضاء الملك علي يقول فيها: سافر حالا إلى إسطنبول. فأجبت: لا باخرة قبل يوم السبت.
وورد البريد من الحجاز بتفصيل ما ذكرت الآن، فجاءني السير رولاند ستورز، وقد أرسله اللورد كيتشنر، وبيده كتاب بعنوان السفير البريطاني بإسطنبول، يقول فيه «متى احتاج الأمير عبد الله الباخرة الحربية المخصصة للسفير البريطاني فاجعلوها تحت أمره». وقال لي: يرجوك اللورد أن تقبل هذ الخدمة، وتدفع هذا الكتاب للمستر فيتس موريس كاتب السفارة، الذي سيقابلك في الباخرة بأزمير ليتناول هذا الأمر. وقال لي: لا بد لك من أن تعلم أنه إذا دافع سمو الشريف عن حقوقه بالحجاز، فالحكومة البريطانية، التي ليس لها أي حق في التدخل في شؤون داخلية لدولة صديقة، لا ترضى أبدا بدوام أي حركات تسببها تركيا ضد السلام الحاضر في بلاد الحج.
فعلمت أنه يريد أن اكتب بذلك إلى مكة، فقلت له: وكما حملتني هذا الكتاب، سأرجوك أن تبعث بكتابي هذا إلى القنصل البريطاني بجدة، كي يتوسط بإرساله إلى مكة عن يد مأمور العربان. وكتبت الكتاب وختمته بالشمع الأحمر، وهو لا يدري ما فيه، وسافرت وسافر معي رفقائي.
ولما وصلت الأستانة، رأيت ابن عمي الشريف ينتظر على الرصيف. أما الكتاب فقد أخذه فيتس موريس بأزمير.
مع الصدر الأعظم سعيد حليم باشا ووزير الداخلية طلعت باشا ووزير الحربية أنور
باشا
وكان مع الأمير جميل رجل اسمه طاهر أفندي، وكيل أشغال والدة الأمير زيد أخي، فقال: هيا بنا إلى الصدر الأعظم - وكان الوقت ليلا - فقلت له: ولماذا الآن؟ قال: هو يريد ذلك.
فركبنا السيارة إلى الباب العالي، فقالوا إنه خرج إلى داره، فيممنا داره ولحقناه في طريقه بعد أن اجتاز الجسر، ووصلنا منزله قبله؛ فأخذنا إلى بهو الاستقبال، ولم يكن هناك أحد، فقال لي طاهر أفندي: أرجوك أن تبلغ سيادة الأمير ألا يتأخر في مصر، إن هو عزل، كما فعل الشريف علي باشا. فقلت: دون عزل الأمير خرط القتاد. فقال لي: اسكت، إن للجدار أسماعا. فقلت: لا أخفي ما أقول.
وإذا بالصدر قد وصل، فلما دخل هش متضاحكا وقال: مرحبا مرحبا، أبطأت علينا بمصر، ونحن في حاجة إليك. فقلت: ها أنا ذا حضرت، وما كنت أحسب أن لكم في حضوري أي رغبة شديدة. فجلس وقال لي: كيف، وقد بعثت إليك ببرقية مع إسماعيل حقي بك بعد الخبر الأول، قلت فيها إنني أنتظر قدوم الأمير عبد الله، وأرغب تبليغكم إياه؛ وإن الإشاعات التي راجت عن شخص سمو الأمير بمكة لا أصل لها من الحقيقة، وإن رضا الخليفة الأعظم عن سموه لا يتزلزل؟ ... فقلت: هذه البرقية هي التي أخرتني. قال: ولم؟ قلت: لأنني ذكرت بها برقية محمود شوكت باشا لوالدي قبل خلع السلطان عبد الحميد بيومين، التي يقول فيها إن جيش الحركة قد توجه إلى إسطنبول ونيته الإصلاح وإن الحوادث عن الذات الملكية لا أصل لها من الحقيقة. فضحك بصوت عال وقال: لا لا لا ... هذا التفكير غير موافق للحقيقة، وإني آسف لأنه أقلقك. فقلت: إنني مازح، وهذا أنا الآن جئت؛ وإن أبي يقرئك السلام، ويقول إنه لا ينتظر أن يدافع عن حقوق الشرافة وعن مقام آبائه وأجداده في عهد صدارة سعيد حليم باشا، حفيد محمد علي باشا الكبير، صديق البيت. قال: ولم؟ إن كل الأمور سويت، وقد رضي الأمير عما عرضناه عليه، وأنا أرجو أن تراني غدا في الباب العالي، في الساعة الرابعة بعد الظهر، بعد أن تقابل وزير الداخلية طلعت باشا ووزير الحربية أنور باشا قبل الظهر. فقلت: أنا لا أذهب إليهما، وأنا مبعوث مكة، ولا علاقة لي بهما، لأنني لست بالموظف؛ وإن كانت هنالك أي رغبة سامية منكم، فأنا أنتظر الدعوة منهما بعد تعيين الوقت، وقد عرفتهما في أنهما لا يقابلان من يزورهما بدافع من نفسه. فقال: ستأتيك الدعوة. فخرجت.
فلما أصبحت، أبلغت أن طلعت باشا - وزير الداخلية حين ذاك - ينتظرني في الساعة التاسعة بالباب العالي، وأن أنور باشا ينتظرني في الساعة العاشرة والنصف.
فذهبت في الوقت المحدد. وبينما أنا أصعد الدرج إلى دائرة الداخلية، وإذا برجل يضع يده على كتفي ويقول: نحن نبحث عنك بمصر وإذا بك هنا. فإذا هو طلعت باشا، فأخذ بيدي وصعد الدرج اثنتين اثنتين، ودخل غرفته ثم جلس وأجلسني أمامه. وبعد المجاملات قال لي: انحلت الأزمة بالحجاز، فأعلمني ماذا جرى؟ قلت: لا علم لي بما جرى لأنني كنت بمصر، والتفصيلات هي عندكم. ولكن الذي أعلمه إجمالا، هو أن ما حدث ليس إلا نتيجة طبيعية لسياستكم، أنتم الاتحاد والترقي، وسياسة الشريف. قال: كيف؟ قلت:
أنتم تريدون إخراج الحجاز من صبغته الخاصة، إلى ولاية عثمانية، يجري فيها ما يجري في سواها. وسياسة الشريف سياسة محافظة تريد إبقاء كل شيء على ما كان عليه. ويظن هو أن غاية ما ترجوه الدولة هو استتباب الأمن وسلامة المواصلات وأمن الحجاج. وأنتم مع إرادتكم لهذه الأشياء تريدون كما قلت آنفا جعل الحجاز خاضعا لقانون الولايات، ولو جعلتم الشرافة تخدم الدولة في الحجاز، وعلى تأسيس روابط الأخوة الإسلامية الحقيقية بين العالم الإسلامي وبين دولة الخلافة، لعلمتم أن مكة هي القلب النابض لهذه السياسة وأن الشريف هو المنظم لهذا القلب وشرايينه، وأن فائدة الدولة من مظاهرة الحجاز لها أكثر بكثير مما ترجونه من تطبيق قانون الولايات عليه.
فقال لي: ولم يمانع والدك في بناء الخط الحديدي؟ قلت:
لم يمانع والدي في ذلك ولكن نسيتم أن الأسباب الموجبة التي دعت السلطان عبد الحميد إلى بناء هذا الخط، كانت ترمي إلى غير ما تبنون أنتم عليه سياستكم. هو كان يظن أن في تجربة كهذه دعاية عظيمة لشخصه، وكان يود كما تعلمون أن يومي إيماءة خفيفة إلى روسيا بأن الخطوط الحديدية العسكرية هي الإشارة إلى نواحي الخطر العدائي، وأن في بناء هذا الخط إلى الجنوب مع خط بغداد - الذي أعطي امتيازه إلى الألمان - الإشارة إلى أن الخطر متوجه على الدولة العثمانية من الناحية الإنكليزية لا من ناحية روسيا، وأن إغفال مد السكك الحديدية إلى شرقي الأناضول هو الاستخذاء للروس وعدم الرغبة في تهييج عواطفه. والذي يهم الشريف اليوم يجب أن يهمكم أنتم أيضا، ألا وهو بناء سياسة إسلامية مركزها الحجاز والأمين عليها الشريف. وإتمام هذا الخط يعني إيجاد أشغال تدعو إليها الذين يحيون اليوم بممارسة صناعة النقل على الجمل في الحجاز وتعليم الحجاج الطواف وكيفية زيارة المصطفى
صلى الله عليه وسلم . وليست هذه الوسائل معدومة هناك. هذا ما عجز الشريف عن تفهيمكم إياه وعجزتم عن فهمه.
فرأيت التأمل يبدو على وجهه، وقال لي: نجتمع غدا في حضرة الصدر، في بيته في الساعة الحادية عشرة، وإنني أشكرك على إيضاحاتك.
وذهبت في الوقت المحدد إلى أنور باشا. ولما وصلت إلى الباب في مركز السر عسكر، وإذا بالجند يطلبون وثيقة أو بطاقة زيارة، فقلت: لا أملك هذه ولا تلك، ولكن وثيقتي عمامتي، وقد جئت بطلب. فتنحوا وتقدمت. وفي الباب الداخلي أيضا، أخذت إلى غرفة بها أكثر من عشرة أشخاص يكتبون، فلما رأوني على الباب، ظهر لي أنهم استثقلوا الجبة والعمامة، فقالوا: لعلك غلطت، ليس هذا بالمكان الذي تريده. فقلت: نعم ليس هذا بالمكان الذي أريده، ولم أغلط، ولكني هديت إلى هذه الغرفة؛ وأنا فلان بن فلان ، جئت على وعد من وزير الحربية في هذا الوقت، فكيف الوصول إليه؟ فقاموا بأجمعهم معتذرين، ثم كلم الضابط المدير لهم، مرافق الوزير، بالهاتف، فجاء الرد وأخذني إليه، فصعدت وأدخلت إلى بهو الانتظار.
ورأيت في أقصى البهو أربعة من الذوات، عليهم الشكل المغربي؛ فجلست إلى الباب وهم بأعلى مكان من البهو، فتهامسوا وتذاكروا، فجاءني أحدهم، وبعد أن سلم قال لي: إن هذا هو عبد العزيز شاويش يبلغك التحية ويدعوك إلى حيث هو. فقلت: أقرئه السلام، وقل له: ليتفضل هو إن كانت له بي حاجة، أما أنا فليست لي به حاجة. فذهب إليه وبلغه، فجاء ومن معه؛ وبالطبع قمت لهم، وبعد أن تصافحنا جلس وقال:
ما هذه الحالة بالحجاز؟ كلما أرادت الدولة أن تقوم بمشروع إصلاح أوجد لها سيادة الأمير أنواع المعاذير؟ مثال ذلك الخط الحديدي وعدم الأمان في الطرق؟ والآن ستنشأ بالمدينة المنورة كلية إسلامية عهد إلي برئاستها. وقد علمت أن الشريف يعارض أيضا في هذا المشروع، وأن هذه المعارضات مستوجبة كدر الخليفة الأعظم. فإن كان هناك أي سبب معقول، فأنا على استعداد لإزالة أي خلاف بين والدك والدولة. وما وقع أخيرا في الحجاز، من صد الوالي النبيه والقائد المحنك وهيب بك عن القيام بإصلاحاته المرسومة، أمر استوجب استياء أهل الإخلاص.
وسكت، فقلت له: أتممت ما تريد أن تقوله؟ فقال: نعم.
وفي تلك اللحظة جاء مرافق الوزير، وقال: عذرا، انتظروا عشر دقائق، فإن المشير فون ساندرس باشا لا يزال عند أنور باشا. فقلت: لا بأس. ثم توجهت إلى الشيخ عبد العزيز شاويش، وقلت له:
أشكرك على عزمك في الوساطة، إن كان هنالك ما يوجبها. أما قولك إن سيادة الشريف يعتذر عند كل إصلاح يراد، فهو قول بني على الظن؛ وأما عدم الأمان فهل لي أن أسألك عن سبب قيام الإدارة العرفية بدار الخلافة؟ وما قلت من عدم أمان السابلة، وهو مجرد أخبار لا حقيقة لها، فهل يستطيع الأستاذ أن يذكر وقائع معدودة وحوادث حاصلة بعينها؟ وأما الكلية التي ذكر الشيخ أنها على وشك الإيجاد، وكيف يتسنى لأمير مكة أن يعارض فيها، فالبلاد بلاد السلطان ولا علم لي أنا بما ذكرت، وليس لي أن أطلع على كل ما يكتب إلى الشريف من الدولة؛ فربما وقع ذلك، وربما كانت قد أتت ببعض النصائح مبينة التحبيذ للكلية وموضحة للكيفية التي ينبغي بناء هذه الكلية عليها. أما أنت أيها الأستاذ، فليس لك هناك - كما سمعت - صفة علم، بل الشائع عنك أنك كاتب صحفي، وفي الحجاز من العلماء الأعلام من لهم منتهى درجات الاحترام.
فبهت، وإذا بالياور يدعوني، فقلت السلام عليكم.
وقمت فدخلت على أنور باشا، فأقبل يحييني، فلما جلست قال:
ما هذا؟ نحن نريد لو استطعنا أن نخلق من الشجر رجالا، لنضيفهم على أعدادنا، والحجاز يقتل فيه رجال الأمن، كما وقع على مدير الجندرمة والدفتر دار؛ ولكن والحمد لله كما علمت قد انتهت الأزمة. فنرجو منك السعي لدفع كل أثر سيئ في قلب والدك، من نحو الاعتماد عليه من الدولة، فإنه في منتهى درجات الاعتماد والحرمة.
فقلت له:
ما هذا القول، وأنا لم أستطع الدخول عليك - وأنت تلقب بقهرمان الأمة - إلا بعد أن أخذت إلى أكثر من مكان واحد، وطلبت مني بطاقات وأوراق هوية؟ وهذا ليس بالدليل على رضا الرأي العام عنك، وأنت المحبوب بالأمس؟ ثم وجدت هنا في غرفة الانتظار، الشيخ عبد العزيز شاويش، الذي أخذ يهاجمني بما يقارب أقوال الوزير الآن، ويعرض وساطته في تسوية الأمر بين الدولة والشريف، وهو عبد العزيز شاويش، والشريف يرث الصداقة بينه وبين السلاطين العظام من عهد أبي نمي والسلطان سليم إلى اليوم؟! فإذا كانت الأمور انعكست إلى هذا الحد، فلا سبيل إلى ما تريد. وأما ما وقع في الحجاز، فما الذي تظنه أن يقع من رجل كوهيب بك، يرسل إلى بلاد مقدسة لها قديمها وحقها، فيريد الاعتداء على ذلك القديم وذلك الحق؟ لقد أرسلتم هذا الرجل ليقع ما حدث. وأنا على علم من أنه رفض ولاية البصرة خوفا من النقيب السيد طالب. فهو كما قال الشاعر:
أسد علي وفي الحروب نعامة
ربداء تجفل من صفير الصافر
فبهت هو أيضا، وقال:
حسبي الله ونعم الوكيل. ما لهذا الإنسان الذي لا يعرف حده؟ أرجوك ألا تؤاخذه في نفسك. وأما ما رأيت من احتياط هنا فليس بأمري، ولكن ما حدث على الصدر الأعظم محمود شوكت باشا أوجب على المسؤولين عن الأمن العام أن يتذرعوا بما وقع، فعذرا. وإننا دائما نحب أن نعمل بنصائح سيادة الشريف وإشارته. أما وهيب فأنا لم أطلب أن يكون واليا على الحجاز، ولكن لما أنهينا عنه أنا نريد تعيينه قائدا، قال وزير الداخلية وواليا أيضا للاقتصاد. هذه حقيقة الأمر. وأنا أرجو الاجتماع بك في كل فرصة.
فقلت: قد يكون الاجتماع مفيدا جدا. ثم قمت مستأذنا وخرجت.
وفي اليوم التالي كنت بدار الصدر، في الساعة الحادية عشرة، وإذا بطلعت باشا هناك - وهو وزير الداخلية، وهو الذي ولي الصدارة بعد ذلك أثناء الحرب العامة - وإذا بهما على غير ما رأيتهما بالأمس. رأيت عليهما أثر الغضب والنظر الشزر، فتكلم طلعت وقال:
اسمع، إنه لا يهمنا تغيير الولاة في كل شهر، ولكن الذي يهمنا هو إنشاء الخط الحديدي من المدينة إلى مكة ومن جدة إلى مكة، ومن ينبع إلى المدينة؛ فإن قام والدك بمسؤولياته في هذا الباب، عملنا له كل ما يريد. وإن رفض فلا وداد ولا بقاء. وإليك شروط للشريف: ثلث دخل الخط يصرفه كما يشاء، وله الإمارة مدى الحياة ومن بعده لأولاده. وستوضع تحت أمره القوة الكافية لتأمين التنفيذ، وستصغي الدولة إلى مشاريعه في هذا الباب، وستضع تحت يده ربع مليون من الجنيهات ينفقها على العربان. سافر في أول باخرة بهذه الاقتراحات، ونحن ننتظر الجواب، فإن رضي وبلغنا بالرضا، فسافر أنت إلى المدينة المنورة، لتجد هناك شيخ الإسلام خيري أفندي ينتظرك لتباشرا وضع أساس الخط، وإن رفض فلا عتب.
فقلت: هل لي أن أجيب؟ فقال: هذا قرار الدولة.
فقلت:
سأبلغ، وسيرفض ويعتبر هذه الأقوال رشوة وحقارة؛ وهو لا تهمه الإمارة ولا تهمه الدراهم، ولا عليه أن يتولى أبناؤه الأمر من بعده أو غيرهم، ولكن بلغوه، بواسطتي أو واسطة غيري، أن يكتب إليكم برأيه في إقامة الخط وما ينبغي لذلك، فسترون أنه سيدلي لكم بخير النصائح.
فقال لي إنه سيطلب لجنة للتحقيق وقال - وذكر لي اسم أحد الإفرنج ولعله (نابليون) - إذا أردت إعاقة أمر فأجله إلى اللجان.
وقاما، فقال لي الصدر: متى تسافر؟ فقلت: في أول باخرة.
وكان السفر بعد ذلك بيوم، على الباخرة الرومانية «رجل كارول».
العودة إلى الحجاز لمقابلة الوالد
قلنا إننا سافرنا، حسب طلب وزير الداخلية، حاملين الشروط المغرية. ثم لما وصلت إلى جدة، علمت أن جلالة الوالد بالطائف، فسافرت على التو. ومررت على مكة المكرمة، فطفت وسعيت وحللت الأحرام. وفي النهار الثاني سافرت إلى الطائف أنا ورفقائي، عن طريق كرى، فوصلنا بخير إلى الطائف.
وبالطبع عرضت على جلالته الأمر بالتفصيل، فقال: هل يرشونني؟ صدق من قال إن المرء ينظر إلى غيره بعين نفسه. وأبرق هذه البرقية بعينها:
أو غلم عبد الله واصل او لدي حجاج خطي حقنده كي تنسيبات ومقررات عليه صدارتنا هيلرني تبليغ ايتدى ذات حضرت خلافتنا هينك ودولت علية عثمانية نك بوكيبي مقررات نافعة وخيريه سنى بو مقدس وطنده قودن فعله جيقارمق اهم وجائب صداقتدر دا عيلرينه هيج دوشونيله جك برسبب موجود دكلدر نعم شاهانه ايله متنعم بلاد مقدسة اسلامية عشائر وسكنه سنك مدار معيشت واشتغاللرينه دوقو نمياجق وجهله شمندفير خطنك نه صورتله يايلمه سى لازم كله جكي حقنده كي مطالعات ايله وايلك فرصتده عبد اللهي كوندرجكم.
وترجمتها:
وصل ابني عبد الله ونقل إلي التنسيبات والمقررات العلية من الصدر الأعظم، بخصوص تمديد الخط الحديدي الحجازي إلى مكة المكرمة. ليس هنالك ما يستحق التفكير في ما يخصني، وأنا متنعم بنعم الخلافة. وإنني سأبعث بابني المومى إليه وهو حامل ما يلوح لي عن إمكان إتمام هذا الغرض السامي، بدون أن يمس مدار معيشة العشائر وسكان البلاد المقدسة الإسلامية، بأول فرصة.
ثم خرج إلى مران للنزهة والترويح عن النفس. ومران هذه إلى ناحية المشرق من الطريق الشرقي بين مكة والمدينة في نصف المسافة، وبها حرة مران المعروفة، وبها نخلتا مران، اللتان جاء ذكرهما في الشعر العربي، وهي على حد سهل من جبل، جميلة المناخ عذبة الماء. ومن ثم أمر بغزو الدواسر ووجهني على رأس الغزية. ولما عدت إلى مكة المكرمة، وإذا بجلالته فيها، والبرقيات من الصدارة في طلبي تتالى.
إلى الأستانة ومنها
فسافرت ومررت على مصر ومنها إلى الأستانة، وكان فيها أخي فيصل الذي كان حين ذاك مبعوث جدة، فقابلني على الرصيف ولم يكن بالمرتاح من الوضعية بين الوالد والباب العالي، وقال: إن تأخرك أغضبه. فقلت: لا عليك.
وكان البوليس اقتحم الباخرة وفتشها، وألقى القبض على عدة رجال من الأرمن، كانوا بها يعملون كبحارة من الوقادين في مراجل السفينة، وكان هؤلاء فدائية أرسلوا من حزب الحرية والائتلاف من مصر، للفتك بأنور باشا وطلعت باشا وجمال باشا، وكانت لي اليد مع هذا الحزب في هذه المسألة. وبالطبع امتعضت وقلقت ولكن وقع ما وقع.
وفي اليوم التالي ذهبت إلى الصدر الأعظم وقلت: يقرئكم والدي السلام ويقول:
أنا خادم الخليفة ولست بمعارض فيما يرى جلالته عمله وإني مستعد للتنفيذ حالا. ولكن إذا كان إتمام بناء الخط وتأمين ولاء العشائر ومعاشهم هو ما يريده جلالته وتريده الحكومة، فلذلك وسائل لا تقتضي ربع المصرف الذي بينه لي عبد الله، وهي - أي الوسائل - اللازمة لإيجاد المشاريع التي تأتي بعد التفكير مع لجنة أترأسها أنا - أي الشريف نفسه - ومن المناسب أن يكون فيها صاحب الدولة والسماحة شيخ الإسلام أو أي وزير من الوزراء. وإن كانت الرغبة منصرفة إلى إقامة الإنشاء تحت أي شرط يكون فينبغي توظيف فرقة عسكرية بكاملها على طريق السكة وأشغال المياه والقرى بين المدينتين. ثم بعد ذلك تكون البداية في العمل.
هذا ما أمرني أن أنقله إليكم.
فأجاب الصدر سعيد حليم باشا بقوله:
ليس بعد هذا ما يقال، وسأستدعيك لنجتمع مع طلعت باشا في هذين اليومين.
وكان قبل وصولي بيوم، قتل ولي عهد النمسا وزوجته بسراجيفو، وتوترت الحالة السياسية بين روسيا والنمسا وجرت إلى التعبئة العامة بين الدولتين، واضطر الإمبراطور (وليهلم) الثاني أن يعود إلى برلين من سياحته البحرية في البلطيق. ففي تلك الأثناء زرت الصدر لأتلقى الجواب، فقال إنه مسافر إلى لاهاي ليجتمع هناك بالمسيو (فنزيلوس) رئيس وزراء اليونان لحل بعض المسائل المعلقة بين الدولتين، وأمرني بأن أنتظر أوبته، فقلت: يسر الله لفخامتك كل عسير، ولكني لا أظنك قادرا على السفر وأوربا في هذه الحالة. فقال: أتظن أن الشعوب الأوروبية تشهر الحرب من أجل رجل وامرأة، فتسفك الدماء وتخرب الديار؟ هذا ما لا يفعلونه. فاستأذنت وانصرفت، وفي اليوم التالي تبودلت الإنذارات النهائية بين روسيا والنمسا، واشتعلت الحرب العظمى السابقة.
وزرته في الباب العالي فقال لي: صدق ظنك، تأخرت لسبب الحرب. فقلت له: أريد النتيجة عن ما جئت من الحجاز لأجله. فكلم وزير الداخلية بالهاتف عني، فأجابه أنه ينتظرني. فلما حضرت وسألته عن المقتضى قال: وهل هذا وقت تفكير في إنشاء خطوط حديدية؟ ومن أين القضبان والساحبات ومواد البناء، والحرب قد أشهرت؟ ولكن نريدك أن تسافر حالا إلى الحجاز لجلب المتطوعة، فإنه من الممكن دخول الدولة الحرب مضطرة. وهذه سيارتي اذهب بها إلى أنور باشا لتتذاكر معه في هذا الشأن.
فذهبت إلى أنور باشا، فقلت له: يظهر أن الحرب قد تشمل الدولة العلية، وأن مشروع الخط الحديدي قد يؤخر إلى ما بعد انتهاء الحرب هذه. قال: بالطبع، ولكن نريد متطوعة من العرب ليشتركوا في الجهاد. قلت أين والعدو من الجهتين؟ قال: ألا تريد أن نسترد ما أضعناه في القفقاس؟ ثم ألا تريد أن نسترد مصر؟ قلت: أريد دفع الأعداء إلى ما وراء أدرنة والقفقاس شاقة حربها بعيدة عن حاجة الإمداد لمن يقاتل فيها. ومصر كيف تستردها وهي لها صفة خاصة؟ قال: بإخراج الإنكليز منها. قلت: هذا هو التعبير الصحيح. فقال: كم يمكن أن يكون عدد المتطوعة من أهل الحجاز؟ قلت: والله لا أدري. فقال: قل بالقدر الذي يمكنكم أن تكسوه وتطعموه. فقلت: وهو كذلك، ولكن في الجبهات؟ قال: سنجعل القوة المنظمة في جبهة الروم ايلي وجبهة مصر، أما جبهة قفقاسيا فسنخصص لها علاوة على الجيش الذي بأرض روم كافة المتطوعين. قلت: متطوعة العرب يجب أن يقاتلوا في جبهة مصر، وأما المنطقة الباردة فمهلكة لهم، ولا أدري من عدو للدولة في الروم ايلي ما دامت بلغاريا والنمسا وألمانيا حلفاء الدولة. قال: الصرب ورومانيا. قلت: أنا أفهم من هذا أنكم تريدون إمداد حلفائكم بالقوات المنظمة. فاحمر وجهه جدا وقال: يجب أن تسافر في أول واسطة من أجل التطوع والسعي لإيجاد من يقوم بهذه الخدمة المقدسة. فخرجت من عنده والطبول تدق والمنادي ينادي بالتعبئة العامة وأنه يجب على كل إنسان أن يذهب إلى دائرة أخذ العسكر فيقيد نفسه وسنة ولادته وصنفه. ولما رجعت إلى الباب العالي ودخلت على الصدر وأخبرته بما سمعت، اندهش وقال: هل قالوا سيتأخر أمر الشمندفير؟ فقلت. نعم ويطلبون سفري من أجل المتطوعة. فقال: «جوق شي» يعني أمر غريب! قلت: أنا مسافر. فقال. على بركة الله، وقبل أيادي الشريف وقل له قد تأخر ما كان فيه تعبه.
وخرجت عائدا، وإذا بنبأ الاعتداء على الخديوي عباس وهو خارج من الباب العالي يبلغني، فذهبت إلى قصره ب«جيبقلي» فرأيته بعد أن أسعف. وفي اليوم الثالث زرته فكتب على لوح من الحجر بقلم جحري - كالذي يتعلم فيه الصبيان - كتب يقول: ماذا تظن في هذا الاعتداء ومن يكون المشوق؟ فقلت: صاحب السمو أعلم بأهل مصر والمعتدي مصري. فكتب ألا تظن أنه شوق من هنا؟ فقلت: أتظن أن هذا من ابن عمك الصدر الأعظم؟ فكتب: أنا أسألك. فقلت لا أنفي ولا أثبت إذ ما فائدته من هذا وولي عهد مصر موجود؟ فسكت فقلت له: متى تسافر سموك إلى مصر؟ فقال: بعد يومين أو ثلاثة. فقلت: بل سافر اليوم. فقال: لماذا؟ قلت: سيشهر هؤلاء الحرب على إنكلترا وروسيا، وفي بقائك هنا ما يشوش الإنكليز من ناحيتك، ووجودك في بلدك الآن من مصلحتك ومصلحة مصر. فقال: الطبيب لا يرضى فقلت: باخرتك فيها كل أسباب الراحة. أنا لا أنصح إلا بلزوم مغادرتك إسطنبول في هذه الليلة. فامتلأت عيناه بالدموع وقال: كل شيء سيسير إلى ما قدر الله. قلت: نعم. وكانت أجوبته بالكتابة، وكانت الإصابة في فمه ولسانه، وكان قد منع عن الكلام، فودعته وخرجت وسافرت في اليوم التالي على الباخرة الخديوية (إسماعيلية) ومعي المرحوم الأخ فيصل والشيخ حسن الشيبي ورفاقنا الآخرون.
فلما وصلنا إلى الدردنيل أشارت المدمرات التركية إلى باخرتنا بالوقوف، ثم أشارت إليها أن تدير مقدمة السفينة إلى ناحية إسطنبول منتظرة الأمر. وبعد قدر ربع ساعة أشارت بالحركة وبلزوم اتباعها، فكانت سفينتنا تتبعها من بين حقول الألغام، حتى أخرجتنا إلى عرض البحر من وراء الدردنيل، فوصلنا أزمير في الصباح الثاني؛ وجاء القنصل البريطاني فبلغ القبطان بأن يبقى بأزمير حتى يصدر إليه الأمر بالحركة. وجاء بعد مضي أكثر النهار وقال توجهوا، فاتجهت السفينة إلى (بيريه) - وكانت مملوءة بكثير من أهل مصر، منهم من حضر للمصيف ومنهم من حضر بسبب جرح الخديوي - فوصلنا (بيريه) قبل ظهر اليوم الثاني، وحجزت الباخرة هناك بسبب وجود الباخرة الألمانية الحربية (غوبان) بالبحر الأبيض ومعها الطراد (بريسلاو). وأنذرتنا الشركة الخديوية بأنه يجب علينا ترك الباخرة لأن الوقت الذي كان مأمولا فيه الوصول إلى الإسكندرية قد مضى. وبعد المذاكرة مع الركاب المصريين استأجرنا جميعا سفينة يونانية انتقلنا إليها، وعندما تحركت بنا وإذا بالباخرة (إسماعيلية) تسافر وقد سبقتنا إلى الإسكندرية. فلما وصلنا الإسكندرية وسافرنا إلى مصر - وكان موعد الباخرة من السويس إلى جدة بعد مضي أربعة أيام - نزلنا كالعادة بقصر عابدين، فزارني قبل كل أحد حسين رشد باشا رئيس الوزراء، فسألني عن الخديوي وموعد قدومه وعن صحته، فقلت: هو بخير ولكنه متأخر حتى يبرأ الجرح على ما قال لي، وقد نصحت له بأن يسافر حالا، فرأيته قد آثر البقاء على السفر العاجل، وهذا ليس في مصلحته، فلو استعجلتموه لكان من خيركم وخير مصر، قال: فعلت ذلك ولم أتلق أي جواب، وقد أدهشني ما بلغني من الخاصة الخديوية أن الجناب العالي قد طلب ببرقية خفية المجوهرات الخاصة والأواني الذهبية والكثير من الصناديق الحديدية المرقمة بأرقامه، وهذا لا يدل على نية القدوم، جعل الله العاقبة خير. ثم ودع، ولما وصل إلى الباب انحرف راجعا وقال: هل تأذن في أن أبرق إليه بأن الشريف عبد الله وصل بخير شاكرا الجناب العالي راجيا منه العودة السريعة؟
وقد علمت بعد ذلك من سموه، عندما زارني في عمان، أن السفير البريطاني زاره ب«الجيبقلي» بإسطنبول وهو جريح، وبلغه أن الحكومة البريطانية تشير إليه بالسفر حالا إلى روما وألا يرجع إلى مصر. قال قلت له أسافر إلى لندن. قال فأجابني السفير بأن خير ما يعمل تنفيذ ما طلب. قال سموه: قلت لا شأن لي بإيطاليا، فإذا كان الرجوع إلى وطني غير متيسر، فأنا حيث أنا. قال فقال له السفير: هذا شأن سموك ولكن أنصحك شخصيا أن تعمل بما أشير إليك. وانصرف.
فقلت لسموه: لو أخبرتموني بتلك الممانعة لكان في إمكاني أن أتحمل مسؤولية إصلاح ذات البين حال وصولكم إلى روما، فإنهم كانوا يظنون أنكم تميلون إلى ناحية الترك والألمان، وروما بلد محايد إن لم يكن حليف ألمانيا. فلو سافرتم إلى روما لراقبوكم حتى يطمئنوا من عدم دخول تركيا الحرب ضدهم، أو في حالة دخولها ينتظرون إلى أن تنكسر شوكة تركيا، ثم يدعونكم إلى ملككم بعد أن تحبطوا بحكمتكم وساوس وزير الحربية لورد كيتشنر خصمكم القديم. فقال رحمه الله: هذا قدر الله، ولست بآسف؛ لقد مللت الحكم خمسة وعشرين عاما، وهذا عمي يقاسي ما كنت قاسيته؛ ومن كان في ذلك المحل فمن المستحيل عليه إرضاء الوطن وإنهاء الاحتلال، لتفوق أولئك ولعدم القدرة على تغيير الحال بالقوة؛ وليس لي ما آسف له إلا البعد عن ديار الإسلام والنظر إلى المآذن والاستماع إلى ذكر الله، ثم أخشى ألا يدركني الأجل هناك فأدفن بالغربة. ولكن قد تيسر الآن لي أن أزور تركيا وهذه الأقطار في لمحات من الزمن. ولو عرف عمي العزيز نياتي لما تخوفني، فإنني قد جفلت من الماضي المخيف المؤذي الذي لا أريد أن يعود علي. وكان قوله بصدق وإخلاص رحمه الله، فقد مات ودفن في أوربا.
من الشريف الحسين بن علي إلى السلطان محمد رشاد
عدت إلى الحجاز وأوقفت الوالد على حقائق الأمور، فكتب رسالة إلى جلالة السلطان محمد رشاد وبعث بها إلى (المابين همايون) أي (البلاط الملكي) ذكر فيها حالة أوربا، وصور الاتفاق المثنى (روسيا وفرنسا) والمعاهدة الثلاثية (ألمانيا والنمسا وإيطاليا) والتفاهم الثلاثي بعد دخول إنكلترا الحرب إلى جانب الفرنسيس والروس بسبب اجتياح الألمان بلجيكا المضمونة أراضيها من جانب إنكلترا كإحدى الدول الضامنة لاستقلال هذه المملكة. وقال في رسالته:
تعلمون جلالتكم أن الحرب البلقانية قد انتهت على ما انتهت عليه، وأن الدولة الآن في حاجة إلى تجهيزات واستكمالات حربية لم تتم إلى الآن، وإنه في الدخول إلى جانب ألمانيا الخطر العظيم، حيث أسلحة الدولة كلها من ألمانيا وكذلك عتاد هذه الأسلحة، وإن المعامل بالطوبخانة العثمانية لا تكفي إمداد الجيوش بالعتاد اللازم، ولا تستطيع إمداد الجيوش بما يمكن أن تخسره من مدافع وأنواع الأسلحة الأخرى. عدا هذا فالأقطار المترامية إلى الجنوب من جسم الدولة، كالبصرة واليمن والحجاز، هذه البلاد المحاطة من كل ناحية بقوات مستعدة من الدول المعادية البحرية ستصبح في أحرج المواقف؛ وربما اتكلت الدولة في الدفاع على حمية أهلها، وهم ليسوا منظمين ولا مسلحين بالشكل الذي يستطيعون معه مقابلة جيوش أوربا المنظمة. وإنني أستحلف جلالتكم بالله ألا تدخلوا الحرب، وأن تعلموا بأنني أعتقد في كل من يرى الحرب إلى جانب الألمان عدم التمييز أو الخيانة الكبرى.
وقد وصل هذا الكتاب قبل إعلان الحرب. وفي شهر رمضان زار الوالي وهيب بك الأمير بالطائف، وقال له: أمرت ببرقيات، وردت إلي من وزارة الداخلية ووزارة الحربية، بأن أستطلع رأيكم السامي في إشهار الحرب على روسيا وإنكلترا. فقال: أنا لا أرى أن أجيب على هذا السؤال الشفوي بشيء، وإنني أنتظر هذا السؤال أن يرد إلي برقيا فيسجل ويسجل جوابه؛ ولكني أقول لك كجندي شريف إني لست بالخائن حتى أشير على الدولة بأن تدخل هذه الحرب التي لا ناقة لها فيها ولا جمل. ونحن محاطون هنا بالدول العظمى البحرية، وأنتم ستشغلكم جيوش روسيا وجيوش الإنكليز بمصر، مع أنكم غير متصلين بحليفتكم ألمانيا من البر، وصربيا معادية ورومانيا معادية. فقال بعد أن مس لحيته بيده - وكان ملتحيا - هي ورقة زرقاء نريد أن نقذف بها على ميز الميسر فقال: عجيب أبالأمة تقامرون؟! ثم خرج.
وبعد أربع وعشرين ساعة وردت برقية من الصدر الأعظم وبرقية من وزير الحربية أنور، بالسؤال عينه. فأجابهم رحمه الله بأنه قد قدم رأيه ونصيحته إلى جلالة السلطان بعريضة خاصة مفصلة، وهو الآن ينصحهم بعدم دخول الحرب ضد روسيا وفرنسا وإنكلترا؛ ويقول إن هذا العمل هو خرق عظيم وخيانة للأمانة، وإن البلاد بأجمعها لا ترضى عن حرب ضد هذه الدول؛ وإنهم إن كانوا عزموا على هذا، فقبل نشوب الحرب يجب عليهم أن يزودوا الجيش الخامس باليمن بما يكفيه لثلاث سنوات وباحتياطي لما يطلب من مجاهدين، وكذلك العمل للفرقة العسكرية بعسير وكذلك بالحجاز. وإنه يجب الإسراع في هذه المدة بخزن المؤن في هذه الولايات لمدة لا تقل عن الخمس سنوات، وإن لم يفعلوا هذا فهم سيضعون هذه البلاد في أحرج مركز قد يفضي بهم إلى ما لا تحمد عقباه.
فجاءت برقيات جوابية بأن الدولة قد فكرت في كل شيء، وأنها تشكر سيادته السامية على نصائحه.
ثم توجه في أواخر ذي القعدة إلى مكة، وفي أول أيام التشريق وردت البرقيات بأن روسيا قد اعتدت على الحدود العثمانية في الأناضول، وأن الأسطول العثماني قد ضرب السواحل الروسية، وأن الحرب قد أشهرت ضد روسيا وحلفائها. وفي الحقيقة أن الاعتداء وقع من الجانب التركي بحرا، وكان يقود الأسطول العثماني الأميرال سوخون الألماني في البارجتين (كوبان) و(بريسلاو) اللتين التحقتا بتركيا هدية لها من ألمانيا كي تدخل الحرب. وكان لا علم للسلطان ولا للصدر الأعظم ولا لأي شخص من الوزارة بذلك، سوى طلعت وأنور، وحتى جمال السفاح كان يميل إلى جانب فرنسا. وقد استقال يومئذ أربعة من الوزارة، منهم الفريق محمود باشا جوروك صولي وزير النافعة وثلاثة آخرون، كما استقال الصدر الأعظم سعيد حليم، ولكن استقالته لم تقبل.
هذه حقائق ما حدث حين ذاك. فدخلت الدولة في الحرب التي خرجت منها وهي محطمة. وتبع ذلك برقية من الشريف يلح فيها على إرسال النقود الكافية لليمن وعسير وللحجاز، فلم ينل أي رد.
ولم يحصل بعد ذلك من حكومة الاتحاد والترقي أي اهتمام بالولايات العربية، بل كان جل همهم حبس قسم من الجيوش الإنكليزية بمصر، والقسم الآخر بالعراق، لئلا تتفرغ هذه الجيوش إلى الحرب في الميدان الغربي، الذي هو أساس تدور فيه رحى الحرب، والمنتصر فيه هو الغالب.
ومضى الشتاء والأتراك في استعداد لحملة مصر، وقد ساقوا جيوشا جمة إلى جبهة القوقاز، وأخلوا العراق من الجيوش النظامية، واعتمدوا هناك على عساكر الرديف. ولما نزلت الحملة الإنكليزية إلى البصرة لم تجد من يناوئها فسقطت البصرة. وأخذ الجيش الإنكليزي يتقدم نحو القرنة، والعرب في حيرة وقد شعروا بأن الجيش النظامي من أبناء العراق قد أخذ للدفاع عن الولايات التركية، وكانوا يرون أن لو بقوا في وطنهم للدفاع عنه. وجاء الصيف وطلع الأمير إلى الطائف كعادته، ونزلت الجيوش الإنكليزية تتلو الجيوش بالعراق. وكانت الحملة المصرية بقيادة أحمد جمال باشا، فخذل وقهر الجيش العثماني كما هو معلوم.
مراسلات مكماهون
وفي تلك الأثناء، وإذا برجل يسمى علي أفندي البزار - مصري الأصل - جاء إلى الطائف وأحب أن يقابلني فقابلته، وإذا به يحمل كتابا من مستر ستورس الكاتب الشرقي في دار القنصل العام البريطاني بمصر - وقد جرى ذكره قبلا في هذه المذكرات - يقول فيه:
إلى الشريف عبد الله بك
بما أن الدولة العثمانية قد ضربت بصداقتها التقليدية مع بريطانيا العظمى عرض الحائط وانضمت إلى صفوف أعداء بريطانيا الألمان، فإن بريطانيا ترى نفسها في حل من تلك التقاليد التي كانت تربطها بتركيا من القديم. فهل إنكم وسمو والدكم المعظم على رأيكم الأول في القيام بما يجر إلى استقلال العرب استقلالا تاما؟ فإن كنتم وسموه على ذلك الرأي إلى الآن، فإن بريطانيا العظمى على استعداد لإمداد الحركة العربية بكل ما هي بحاجة إليه.
وبالطبع لم أبتهج بهذه الرسالة، للخطر المحقق الذي كانت تجر إليه، لو عرف عنها أو سقطت في يد غير أمينة أو تفوه هو بشيء أو باع نفسه. وبالطبع أجبته بأنك رجل مخاطر بذاتك وقد ارتكبت الشطط فيما فعلت، ولولا الأمانة بأنك رسول لما ابتهجت مني في قدمتك هذه بشيء. وأخذت الرسالة إلى الوالد وعرضتها عليه، فابتسم وقال: اكتب إليهم بوصول الرسالة وقل «بأنا على غير استعداد البتة في الوقت الحاضر للمطالبة بحق العرب» واصرفه أمينا مكرما. ففعلت وذهب.
وبعد شهر، أي على مسافة وصول الباخرة وقدوم أختها بعد الثانية، عاد برسالة أخرى من السر رولاند ستورس إلي، وبها كتاب من السر هنري مكماهون إلى سمو الشريف. أما كتاب ستورس إلي، فيرجوني فيه أن أقدم الرسالة إلى الشريف. وبالفعل قدمت، وبها صيغ من التعرف والإكرام وبيان حسن نية بريطانيا نحو العرب، وأنها - أي بريطانيا - قد انفكت من تقاليدها الودية مع تركيا ... إلى آخر ما قاله. فأجاب، بواسطتي، إلى ستورس فقط، بأن قال: الصيف ضيعت اللبن.
ثم تتابعت مراسلات مكماهون المعروفة. وخلاصتها أن بريطانيا العظمى ستساعد العرب في حربهم التحريرية، بكل ما سيحتاجون إليه، حتى يتم جلاء الأتراك والألمان عن البلاد العربية، التي حددها المرحوم، وفق ما جاء من الهيئة المركزية لحزب العربية الفتاة في سوريا من حدود وهي: من إسكندرونة جنوبا إلى الحدود المصرية برفح ثم التيه، فالبحر الأحمر غربا حتى باب المندب، ثم يشرق مارا بمسقط وعمان وينحرف إلى الشمال محترفا حدود البحرين والكويت، ثم يشرق مع حدود ولاية البصرة فحدود إيران، ثم يشمل إلى التقاء البلاد العربية ببلاد الكرد، ثم يغرب فيدخل الجزيرة والموصل ويترك ولاية حلب إلى الجنوب فينتهي عند الإسكندرونة.
وقد قال مكماهون في إحدى رسائله عن حكومته، إنها ستثابر على الحرب والمساعدة حتى يتم تحرير هذه الأقطار. وإن إنكلترا لا تستثني أي منطقة عربية لها فيها نفوذ، ما عدا الإمارات الواقعة على خليج فارس والبحر الهندي ، تلك البلدان التي لها صلات عهد بحكومة الهند من القديم، وهي إمارة الأمير عبد العزيز العبد الرحمن الفيصل آل سعود وإمارة الكويت وإمارة البحرين وسلطنة مسقط وعمان ومشيخات حضرموت وسلطنة لحج. ثم إنها لا تقول بمحض عروبة أضنه ومرسين وغرب ولاية الشام - وقد عنت بذلك لبنان الصغير بالطبع - وقال: إن لحليفتنا فرنسا فيها حقوقا.
ثم سأل في إحدى كتبه عن الكيفية التي ستدار بها البلاد المقدسة - يعني فلسطين - متى صارت في الحوزة العربية، فأجيب بأن النية منصرفة والعزم على إدارتها على حرية الديانات الثلاث. فجاء الرد بالشكر على ذلك، وأن بريطانيا العظمى ترحب بالخلافة الإسلامية إن هي عادت إلى الدوحة الهاشمية مرة أخرى.
بوادر الثورة
وبعد ذلك كانت تجري المخابرات مع الأحزاب العربية بالشام، بواسطة المرحوم الأخ فيصل؛ وترك تعيين زمن الثورة إلى العرب. فجاء الصيف وتحرك الركاب الأميري إلى الطائف، وقد حضر الأمير فيصل من الشام والأمير علي من المدينة، وانتهى كل شيء كما يجب عمله بالطائف، وتقرر زمن الثورة بعد مضي الصيف والشتاء. وعاد الأمير فيصل إلى الشام والأمير علي إلى المدينة. وفي هذه المدة استعدت الأفكار العربية للحركة، بسبب انقطاع موارد البحر والغلاء وعدم الرخاء، وأن ليس للعرب في متابعة هذه الحرب إلا نتيجة واحدة، وهي أنهم سيبقون تحت ربقة الحكم إن ظفر الترك والألمان أو انتصر الفرنسيس والبريطان. وكان لا بد من إعلان الحركة العربية والتخلص بالحرب من عواقب الاستكانة لتحكم الغير.
ولم تجب إسطنبول مطالب والي اليمن ومتصرف عسير مما طلباه من نقود، وكذلك فعلت بالحجاز. ثم تغلغلت الجيوش الإنكليزية في العراق، وتجاوزت حدود ولاية البصرة في طريقها إلى بغداد. ثم هزم أحمد جمال باشا بالترعة المصرية.
على أنه قبل أن يتم أي عمل أو قرار مع الإنكليز، كان قد طلب المرحوم - بواسطة الأمير فيصل إلى أحمد جمال باشا - ألا تكون البلاد العربية مضغوطا عليها، وأنه لا بأس من بر الدولة بوعدها للسوريين في منحهم الإدارة اللامركزية التي طلبوها. وقد صادف هذا الطلب اشمئزازا من أحمد جمال باشا، وألح في إرسال المجاهدين من الحجاز. ثم بعد ذلك، وفي أثناء وجود الأمير فيصل بالشام، زار أنور باشا وزير الحربية ووكيل القائد العام سوريا وفلسطين، وزار المدينة المنورة. وقد أهدى الأخ المرحوم الملك فيصل - باسم والده - لكل واحد منهما سيفا مرصعا، وقد كتب على كل سيف منهما اسم المهدي والمهدى اليه، فتقبلا الهدية بسرور وعادا إلى الشام.
ثم أقبل الصيف، وجاء الطلب مرة أخرى بإرسال المجاهدين، وجاء الطلب بإعلان الجهاد المقدس في أقطار الإسلام من مكة باسم الخليفة على روسيا وإنكلترا وفرنسا؛ فأجاب الأمير بأنه:
لأجل إعلان الجهاد وإرسال المجاهدين ينبغي إرضاء العرب بما تتوق إليه نفوسهم من الوصول إلى حقوقهم، وإن أول ذلك إعلان العفو العام عن المجرمين السياسيين ومنح سوريا إدارة لا مركزية وكذلك العراق، واعتبار الشرافة بمكة معترفا لها بحقها الموروث والمتفق عليه من عهد السلطان سليم وأن تكون وراثية فمقابل هذا تقوم الأمة العربية بواجبها عن إخلاص، وأنه سيبعث بالمجاهدين إلى الأمير فيصل بالشام، وأنه سيبعث أحد بنيه إلى الجبهة الأخرى بالعراق، بعد أن يقضي على أي زعامة غير موالية بشرقي الحجاز، وإن على الدولة التأثير على ابن رشيد بأن ينضم إلى الجهاد، وأنه بدون هذا لا يستطيع التقدم بالأمة العربية في حرب نصح بألا تثار وألا تشهر، وأنه سيكتفي بوظيفة الدعاء للدولة بالنصر والظفر.
ولقد جاء الرد على هذه البرقية من الصدر الأعظم سعيد حليم ومن وكيل القائد العام أنور باشا، وهذا نص ترجمتها:
إن التحدث في مثل ما بينتموه عن الحرب والعرب ليس من حقوقكم، وإن من بالشام من المجرمين سينالون الجزاء العادل، وإن ما بينتموه لا تكون نتيجته بحقكم مسرة؛ وعليه فسوف لا ترون نجلكم فيصل بك مرة أخرى قبل أن تبعثوا بالمجاهدين إلى الجبهة كما وعدتم، وإن لم تنفذوا هذا فكما قلنا فالنتيجة بحقكم لا تكون خيرية.
وقد أتيت بهذه البرقية للوالد، بعد أن حللت رموزها، وهو في الخارجة بمكة ليلا وأنا بيدي حامل الشمعة فقدمتها إليه، قال اقرأها ، قلت لا أقرأها، فتناولها ووضع المنظرة على عينيه، وبعد أن تلاها نظر إلي وقال: أيهددني؟! ثم قال:
سوف ترى إذا انجلى الغبار
أفرس تحتك أم حمار
ثم قال: اكتب الجواب للصدارة ووكالة القيادة العامة:
ليس لي ما أقوله سوى النصيحة الأخيرة في برقيتي وبها ضمان انحياز العرب إلى صفوفكم بقلوبهم. أما ابني فيصل فلم أبعثه إليكم وأنا أعتقد أني أراه مرة أخرى فافعلوا ما شئتم.
وبعد يومين وردت البرقية التي هذا نصها من الصدر الأعظم:
بعد التأمل رأينا شكر سيادتكم على أجوبتكم، فإذا بعثتم بالمجاهدين إلى الشام فقد أشعرنا جمال باشا ليذاكر نجلكم السامي الشريف فيصل بك فيما يتعلق بالمجرمين السياسيين.
فأجابه:
إنني ممتن على تلطفكم بالجواب. أما المجاهدون فأصروا على عدم السفر إلا إذا حضر فيصل ليأخذهم، فإن كانت الرغبة حقيقية فابعثوا به ليستصحبهم.
فجاء الرد على الفور:
سيتوجه الشريف فيصل بك إلى المدينة ليستصحب المجاهدين ويعود بهم إلى الشام، وإنا لنرجو أن تسترجعوا نجلكم السامي الشريف علي بك من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة لعدم امتزاجه مع المحافظ.
فأجاب على الفور بأنه:
عند وصول الشريف فيصل بك سيترك الشريف علي بك المدينة المنورة.
ولما وصل الأخ فيصل إلى المدينة، وكان فخر الدين باشا قائد القوى السفرية قد حضر إليها بقواته، وكانت القوى العربية مهيأة بالمدينة، تقرر استدعاء الشريف علي بك إلى مكة، فودع فخر الدين باشا والمحافظ وخرج إلى بئر الماشي - وهي على طريق مكة - وخرج معه أخوه فيصل لوداعه. ولما وصل إلى بئر الماشي، كتب إلى جمال باشا - وكان ذلك اليوم الثامن من شعبان:
إن المطالب العربية المعتدلة قد رفضت من جانب الدولة العثمانية؛ وبما أن الجند الذي تهيأ للجهاد سوف لا يرى عليه أن يضحي لغير مسألة العرب والإسلام، فإذا لم تنفذ الشروط المعروضة من شريف مكة حالا فلا لزوم لبيان قطع أي علاقة بين الأمة العربية والأمة التركية، وإنه بعد وصول هذا الكتاب بأربع وعشرين ساعة ستكون حالة الحرب قائمة بين الأمتين.
وبعد مضي ساعات كان الخط الحديدي بين الشام والمدينة يشلع ويهاجم.
الثورة
وفي اليوم التاسع من شعبان 1334 الموافق 10 حزيران 1916، أعلنت الثورة العربية في مكة والطائف وجدة وينبع والوجه وسائر مدن الحجاز، وصدر البيان بذلك من لدن صاحب السيادة العظمى الشريف الحسين بن علي.
ابتدأت الأمة العربية تتحمل مسؤولياتها بنفسها وتسعى لإنقاذ حريتها واستقلالها بسلاحها وجهاد بنيها. وكانت في ذلك الوقت قارة على ذلك، فإن بلاد الشام بأجمعها وكذلك البلاد العراقية كانت مهذبة التهذيب الكافي عسكريا وإداريا وعدليا. وإن رجالات العرب كانوا في ذلك الحين يمارسون المناصب والمأموريات على اختلاف أنواعها ودرجاتها كالترك أنفسهم، ما عدا الوزارة فإن الأغلبية كانت تركية دائما. وكان الجيش العثماني الخامس في مركزه بدمشق، وكان الجيش الرابع في مركزه ببغداد وقوامه العرب. فالعرب سلكوا هذا المسلك في هذين البلدين وقبلوا التوظف لا التطوع فيهما.
أما من حيث الثقافة فمن الممكن أن يقال إن الانكشاف في التعليم بسوريا ولبنان ربما كان يفوق أي درجة في تركيا العثمانية نفسها، وسببه أن المدارس العثمانية في بلاد الترك كانت ملكية وعسكرية لإخراج موظفين، وكذلك مدرسة الحقوق والمدرسة الطبية، وفي الولايات لها فروع في درجة السلطاني، ولكن العرب كانوا يحصلون العلوم في مدارس أجنبية بسوريا ولبنان، وربما رحل بعضهم إلى أوروبا أو إلى أمريكا؛ لذا فنسبة التعليم في العرب بمدنهم وقراهم قد يكون بنسبة عشرة بالمائة زيادة على التحصيل التركي في مدن الأناضول وقراه، ومدن الروم ايلي وقراه أيضا. هذه ملحوظة أحببنا إثباتها الآن كي نرى الفرق بين ذلك الزمان واليوم. ولا مرية في أنه كان حين ذاك تعادل أوجب ذلك التفاوت. فإن التحصيل الرسمي على الطراز العثماني - إذا أضيف إليه التحصيل الذاتي في ما ذكرنا من جهات - ضمن للعرب حين ذاك أفضلية الحال بالنسبة للوقت الحاضر الذي ليس فيه من التعليم إلا ما يروق سياسة الاستعمار. ومن هذا القبيل فقد أدخلت تعديلات جمة على مدارس التبشير الأميركية ومدارس الجزويت والمدارس العلمانية، فاصبح كل من درس وطلب العلم على هذا الشكل لا يدري عن تاريخه وقوميته أي شيء.
وإن هذا لمن أهم ما يجب تمحيصه والنظر في عواقبه، ولا سيما وأن الدول الاستعمارية تضع الشروط لنجاة البلاد من رباط الاستعمار، بأن تعقد هذه البلاد معها معاهدات ثقافية واقتصادية، والثقافة والاقتصاد هما كل شيء، بهما تبقى القومية مستقلة أو تنسخ في عوائدها ومعتقداتها والعياذ بالله. ومن هذا القبيل ما يقال الآن من أن عهدا سيعقد بين فرنسا وروسيا على هذا الأساس، حفظنا الله من عواقب الحرص وتفضيل مصلحة الذات على الواجب نحو الأمة في عقائدها ووطنها وكرامتها.
أما الحركات في الحجاز، فقد استولى العرب على الحاميات التركية بمكة المكرمة في أول يوم، وبقي الجيش العثماني محصورا في ثكنة جرول وقلعة جياد، وكان من بهذه القلعة من الجنود العثمانيين يضربون مكة بمدافعهم. وقد أصابت قنبلة البيت الشريف من فوق الحجر الأسود وأشعلت النار في الستار المبارك وقد أطفئت في الحال. وأصابت قنبلة أخرى أحد عقود الأروقة، ومن غريب التصادف أنها وقعت على اسم عثمان بن عفان فأزالته، وكانت هذه الإصابة من الأدلة على زوال دولة آل عثمان، وقد سقطت جدة في اليوم الثالث من الثورة، وقد سقطت قلعة جرول في اليوم التاسع وأسر فيها ألف ومائتا جندي وضابط. وأما قلعة أجياد فقد هوجمت وأخذت عنوة بعد جرأة قائدها اليوزباشي كامل أفندي وضربه البيت الحرام. وفي جدة كان الأسطول البريطاني يساعد من البحر على ضرب الثكنات العسكرية بضربات تخويفية. وأما الطائف ففيه كانت الفرقة العثمانية النظامية التي يقودها الوالي والكومندان الفريق غالب باشا، وكان يقود القوات العربية المحاصرة صاحب هذه المذكرات.
إننا نحب أن نتبسط هنا بعض الشيء. فإنه لما تقرر أن يكون اليوم التاسع من شعبان هو يوم النهضة، فقد أمرت بالسفر إلى الطائف كي أقوم بأهم واجب في تلك الحركة وهو حصر فرقة عسكرية أقرب ما تكون من القوات العثمانية إلى مكة المكرمة مركز الحركة ومقر الشرافة وعاصمة الإسلام. فوصلت إلى الطائف في أول شعبان وليس معي سوى سبعين هجانا، إذ أرسلت كل القوات الهاشمية إلى المدينة المنورة مع الأميرين علي وفيصل.
وقد قابلني الوالي مقابلة معتادة وأخبرته أنني سأخرج لتأديب قبيلة البقوم، وأن الشريف لم يتعين بعد وقت طلوعه إلى الطائف حسب المعتاد. وكان الأمير على الطائف يوم ذاك شرف بن راجح بن فواز بن ناصر، يساعده الشريف حسين الجودي أحد شرفاء ذوي جود الله. وكنت أستند في حركة حصر الفرقة وأخذها، على العشائر المحلية: عتيبة بني سعد - منهم حليمة السعدية ظئر الرسول
صلى الله عليه وسلم - والرئيس على هذه القبيلة وعلى من ينتسب إليهم من الثبتة الشيخ تركي بن هليل، وعلى الفخيذة الثانية من هذه العشيرة - عشيرة البطنين - ثم على هذيل الشفي أي السرات، ثم على ثقيف آل ساعد وآل منصور، ثم على عشيرة النمور، ثم على عشائر الروقة أهل الحرة، ثم من بقي ممن لم يلتحق بالقوات الهاشمية بالمدينة من عشيرة عتيبة من الكثمة والجوازي من الثبتة والعصرمة أهل ركبة والنفعة منهم أيضا، ثم عشيرة وقدان وثمالة، ثم عشيرة البقوم وعشيرة ابن الحارث، وسبيع أهل الخرما وسبيع أهل رنية وأشرافهم.
وفي الاجتماع الذي وقع قبل الثورة بليال، وقد حضره كبار الأشراف والشيوخ بعد تمهيد قام به الشريف شرف، لم يتبعني سوى الشريف حمزة الفعر وآخر وهو شيخ آل بطنين من آل سعد، فإنهما أظهرا أشد النفور والخوف من نتائج هذه الحركة. ولقد كدت أن آمر بالقبض عليهما لولا خشية شيوع ما ينبغي كتمانه.
وكان الوالي يسكن بقرواء خارج سور الطائف، وكان يشتكي من مرض الكلية، فزرته مرتين. وكاد قائد الفرقة الميرالآي أحمد بك يزورني الليلة بعد الليلة. وكان أشد الرجال العسكريين البكباشي سليمان بك، فهو كثير الاختلاط بالناس وقديم بالحجاز، ولقد شعر بشيء مما سيقع. وقد قيل لي إن أحمد بك قائد الفرقة وسليمان بك هذا يقولان: نكاد نأخذ أسلحتنا بأيدينا حتى نرى الشريف عبد الله، فإذا رأيناه ذهب عنا كل شك. وفي اليوم الثامن من شعبان، وقد أزمعت الخروج فيه بدعوى غزوة البقوم، استدعاني الوالي، وكان لدى الشريف شرف بن راجح والشيخ عبد الله سراج مفتي مكة المكرمة، فقالا: لا تذهب فإنا نخشى عليك أن يلقى عليك القبض فقلت: بلى سأذهب، ففي عدم الذهاب ما يخشى عقباه، ووعد الثورة لم يحن بعد. فركبت إليه ومعي أربعة: الشيخ فاجر بن شليويح أحد فرسان الروقة، والشيخ هوصان بن عصاي وهو أيضا من شيوخ تلك العشيرة وأحد الرجال الذين أثق بهم، وأحد خواصي وهو هوصان بن عفار المقاطي، وفرج حامل المظلة الملكية. وتوجهت إلى دار الوالي بقرواء وتعمدت الدخول من الثكنة بالطائف مما أدهش الترك والعرب معا، حيث قالوا: لو كانت الشوائع حقيقة لما مر بنا على هذا الشكل.
ولما أقبلت على دار الوالي، قلت لفرج: ابق عند الخيل، وقلت لهوصان بن عفار: كن على رأس الدرج، وقلت للشيخين فاجر وهوصان: قوما على باب الغرفة التي أنا بداخلها، فإن أراد الأتراك أن يلقوا القبض علينا، فعلي أنا القضاء على الوالي في الغرفة وعليكم أنتم القضاء على من يأتيكم من الدرج حتى نخرج. فقالا: اتكل على الله. فدخلت وجلست، وبعد أن رحب بي قال: إلى أين تذهب؟ قلت: كما تعلم أمرت بأن أؤدب البقوم. فقال: ليس هذا بالوقت المناسب، فلو أخرت خروجك إلى حين لكان ذلك أنسب؛ وفي البلاد شائعات لا بد أنها لم تخف عليك، إن الناس يقولون إن ثورة ستقع، وهذا أنت ترى أهل الطائف يرحلون بأمتعتهم وأطفالهم. فقلت: وماذا عليك من رحيلهم؟ إنني إن أخرت الغزو بعد شيوعه لأكد المخاوف هذا التأخير، وفي السفر تهدئة الخواطر وسيرجع الناس إلى محلاتهم، أما سبب هذه الحوادث فقول الناس عن مصادر تركية إنه سيقع تبديل في الشرافة وإن الشريف حيدر بن جابر قادم إلى المدينة؛ وقد تقول بهذا رجال منهم سليمان بك، فقال: لم تركت مكة وطلعت إلى الطائف؟ ليتني لم أفعل! فقلت: لا عليك.
ثم تناول مصحفا شريفا عنده، وقال لي: هل تعرف هذا؟ قلت: نعم كتاب الله، وهو مهدى إلى والدي مني، وهو كوفي الخط، وقد أهداه إلى دولتك، فقال: هل تشك في إسلامي؟ فقلت: معاذ الله أما الظاهر فإنك من خيار المسلمين ولا يعلم السرائر إلا الله. فوضع يده على الكتاب وقال: والله إني لمعكم ولست عليكم. فأصدقني الخبر عن هذه الشوائع. فقلت: شوائع الثورة؟ قال: نعم. فقلت: هي لا تعدو ثلاثة احتمالات: إما أنها مكذوبة، أو أنها عليكم وعلينا، أو أنها عليكم من الشرافة والناس، ولو كان هذا الأخير لما حضرت الآن بين يديك وقد تفعل بي ما تشاء. وعندئذ دخل أحمد بك قائد الفرقة وسليمان بك فارتخيا عليه وقالا ما لم أسمعه فانتهرهما فخرجا (وأخيرا علمت - بعد أن وقعوا جميعا بأسري - أنهما طلبا إليه أن يأمر بالقبض علي) فقمت مودعا فودعني وقال: لا تقطع الاتصال بي فقلت: ألست على اتصال بمكة بالتلفون؟ قال: بلى. فقلت: في هذا الكفاية، وقلت: سآمر قائمقام الطائف بأن ينادي بالأمان للناس حتى يرجع كل أحد إلى بيته، وفي هذا من التكذيب ما يكفي. فقال: هذا حسن وسأفعل أنا أيضا.
فخرجت ووجدت أحمد بك وسليمان بك في الصفة، ومعهما الأميرالآي حيدر بك متصرف عسير السابق، فلم يحتفلوا بي وقد خرجت ولم أحتفل بهم. وبعد أن استوينا على ظهور خيلنا يممنا قصر شبرا، وبها العلم الهاشمي والقوات. ولقد وجدت الشريف حسين الجندي على وعد مني عند العكرمية، فقلت: اذهب الآن إلى الوالي وقل إنك تلقيت مني أمرا بالمناداة بالأمان، ثم عد وابعث من يقطع أسلاك التلغراف من مركز معشي إلى الكر، وامنع كل من يسافر إلى مكة منع قتل وإبادة. ثم تحركت بالقوة إلى المركز الهاشمي للحركة، وهو عند سفح جبل سواقة على يسار الطريق للذاهب إلى مكة عن ناحية العرفية.
وفى تلك الليلة تلقيت مذكرة من الوالي غالب باشا هذا نصها:
إلى صاحب السعادة الشريف عبد الله بك، بعد توجهكم انقطعت الخطوط التلغرافية بين مكة والطائف، وإن الموظفين الذين أرسلوا لإصلاحه لم يعودوا، وقد شاعت الشوائع بأن المعتدين على الخطوط التلغرافية قد سجنوهم؛ ولذلك أطلب إليكم الرجوع حالا إلى الطائف، فإن تأديب عشيرة البقوم ليست من الأهمية بشيء إزاء الحالة الراهنة.
فأجبته بالآتي:
حضرة صاحب السعادة الوالي والكومندان بالطائف، لقد تلقيت مذكرتكم ليلا، ولم يبلغني خبر ما حصل على الخطوط التلغرافية. وإن وكيل قائمقام الطائف تحت أمركم لتنفيذ رغائبكم. أما أنا فسأكون بطرفكم بعد غد السبت إن شاء الله.
وفي 9 شعبان كانت الثورة في البلاد الحجازية، ما عدا الطائف فإن الهجوم قد وقع عليه في الحادي عشر من شعبان، بسبب بعض النواقص. وفي ليلة السبت الحادي عشر من شعبان، في نصف الليل، ابتدأ الهجوم من الجبهة الشمالية التي كنت أدير حركتها بذاتي.
وكان الأتراك قد حكموا سور البلدة، وحفروا خندقا من بستان الرياض متجها من الشرق إلى ناحية الغرب إلى مكان يسمى معشي، ثم انحرف إلى الجنوب إلى هضبة أم السكارى وبها أحد مراكزهم القوية وبها مدفعان، ثم انحرف خندقهم مشرقا مرة أخرى إلى أن حاذى برج غلفة، ثم مال إلى الشمال وخالط وادي وج، ثم انحرف مشرقا إلى الجنوب حتى اتصل بصفاة تسمى دقاق اللوز، ثم مال إلى الغرب مرة أخرى واتصل بالخندق الأساسي المار الذكر؛ وقد وصل هذا الخندق بخنادق فرعية تربط نواحيه الأربع بالمركز في خطوط متعرجة تحجب السائر فيها.
أما الهجوم فقد وقع بعنف شديد؛ وفي الجبهة الشمالية بالقلب كانت تتقدم الحملة البواردية الخواص وهم الرماة، يتقدمهم راقي بن عفار ثم من كان من الحملة من الثبتة الجوازي ومن الكثمة الغشاشمة والروانية ثم بنو سعد، عليهم جميعا الشريف سلطان بن راجح: فعاد المهاجمون ببعض الأسرى والأسلاب.
وعند بزوغ الشمس ابتدأت المدفعية التركية كأشد ما يكون ترمي بحممها المهاجمين، ولم أدر لماذا لم يعزز القائد التركي المدفعية بهجوم من المشاة. هذا ولم يتمكن بنو سعد من الوصول إلى أهدافهم، فاضطروا إلى التراجع إلى نواحي شبرا، ثم انصرفوا بشيء من عدم الطاعة إلى بلادهم. وقد جاءني من قائدهم الشريف سلطان ما يفيد بذلك فأمرته بأن يتركهم. وانصرف همي إلى إنقاذ القسم من الرماة الخاصة الذين حجزوا في العكرمية وفي أسفل شرقوق - وهو جبل بين مسرة وشبرا - وفي تلك الأثناء كان إلى جنبي الشيخ فاجر بن شليويح والشريف حمزة الفعر، وإذا بالأتراك يحرقون قصور الإمارة السبعة بالنار، فقلت لمن معي: لا ترهبوهم إنهم إنما أرادوا بهذا إخافتكم، ولو كانوا كما يقال لهاجمونا هجوما معاكسا؛ وهذه البيوت تبنى إن شاء الله في أسرع ما يمكن.
وطال الاشتباك وقل العتاد الذي لم يكن في درجة الكفاية، ولم يؤذن لأحد بأن يرمي إلا هدفا معينا مرئيا. وفي وقت الظهيرة وبعد أن اشتد الظمأ على أفرادي الخاصة، ابتدأ الهجوم من الشريف فهد بن شاكر من الناحية الغربية والجنوبية بعشائر النمور وهذيل وبني سفيان، ولقد كنا نسمع تكبيرهم وصياحهم. واتجه ضرب المدفعية إلى تلك الناحية، فتمكن عندها رجالي الخاصة من التراجع سالمين. فأمرت بتحصين جبل شرقوق، وأقمت بقصر شبرا قوة كافية، وانسحبت بالقوى العمومية إلى سواقه، وكان العتاد قد نفد بأجمعه.
ثم بعثت بأوامر مستعجلة إلى الشريف فهد بأن يكف قواته وأن يميل إلى طريق عقبة كرى، لئلا تخرج القوة من الطائف عامدة مكة. وأصبح همي الأول حجز هذه القوة للتغلب عليها، فإن ذلك لم يكن بالمتيسر في مدة وجيزة في قلعة حصينة كالطائف وبها فرقة نظامية. ففعل ما أردت. ولو خرج الوالي والقائد بقواته لكان وصل إلى مكة بسلام لنفاذ العتاد الحربي كليا.
وفي الوقت نفسه بعثت بكتب إلى العشائر التي تراجعت، أخبرتهم فيها بأن هجوم عشائر هذيل وثقيف والنمور أنقذ الموقف وأنا كررنا على الأعداء وحصرناهم؛ وطلبت إليهم الرجوع بعد أسبوع لنوزع عليهم السلاح الجديد ونقيد أسماءهم في دفاتر العطاء، مع تعيين ما يخص الرؤساء ومن يليهم من الأفراد. فجاءتني الأجوبة بلبيك لبيك.
ثم أوقدت النيران في تلك الليلة على كل جبل مشرف على الطائف؛ وكثر الصياح الحماسي؛ ودقت الطبول، واستمر رمي البنادق أمهات الفتيل إلى الصبح، مما أوجب الوهم الشديد في قلوب الأتراك عن اجتماعات عشائرية. وعلى رأس الأسبوع وردت الأسلحة الجديدة وهي بنادق للمشاة شبيهة ببنادق مصنع استير، يقال إنها يابانية؛ وكانت بعيدة المرمى، شديدة الإصابة لا يخطئ بها من يرمي، إلا أنها ينفجر بعضها. وبعد أن وزعت هذه الأسلحة، ولحسن الحظ، هجم الأتراك على نواحي دقاق اللوز، وشهار، وحواية، لأخذ البيادر التي كانت بها حيث قرروا الدفاع. وصادف أن كانت هذيل وبنو سفيان عادوا من المعسكر بالأسلحة الجديدة، وكان خروج الأتراك انصب على عشيرة وقدان بدقاق اللوز وبقملة، فنشبت المعركة وردت هذه الهجمة الفاشلة بخسائر فادحة.
وفي تلك الليلة هاجمت بنو سفيان وهذيل هضبة أم السكارى ليلا، وقضت على حاميتها، ثم استولت على مدفعين هناك للأتراك؛ وكان البيات في درجة فظيعة حيث لم تطلق بندقة واحدة، بل كان الهجوم بالخناجر والحراب، ولم ينج من الأتراك أحد. ولما حدث هذا تراجع الأتراك من هضبة أم الشيح، ومن شرقرق الذي كانوا استولوا عليه عنوة، إلى جبل أبي صحفة وخنادقهم القديمة، وتقدمت القوات العربية إلى مراكزها يوم بدء الهجوم. وقد استولى الحرس الأمامي على رسول من القائد التركي بالطائف إلى القائد التركي بمكة، ومعه رسائل موجهة بأوامر إلى القواد وإلى قائد القوة الإمدادية بالمدينة، يقول فيها إن الشريف الحسين قد أعلن العصيان، وإن قلعة الطائف والفرقة العثمانية تقاتل ببسالة ضد هجمات العرب الذين يقودهم الشريف عبد الله النجل الثاني للشريف، وإن مسؤولية هذه الحركة تقع على الشريف وأنجاله، ثم يقول: قاتلوا في مراكزكم ببسالة حتى ترد الإمدادات من الشام والمدينة المنورة، قاتلوا كما يقاتل هؤلاء العصاة واذكروا أسلافكم من آل عثمان، ولا تهابوا صولة هؤلاء العرب الذين تقدموا بأكمامهم البيض وسداريهم الحمر مستخفين بالموت في سبيل أميرهم ... قاتلوهم في سبيل السلطان والملة، واذا رأيتم راياتهم بألوانهم الأربعة من خضراء وحمراء وسوداء وبيضاء كالحية المدفونة فاسحقوهم بأقدامكم ولا توفروا منهم أحدا.
وثبتت الحالة بين الحاصر والمنحصر متكافئة، إلى أن جاءت بطاريات جديدة جبلية من مكة ثم جاءت المفرزة المصرية ومعها أربعة مدافع جبلية نصف سريعة، وكان عليهم الأميرالآي سيد بك علي، وكانوا في بادئ الأمر كثيري الاحتيار ثم ألفوا. وبعد ذلك وصلت إلى القوة مدافع الهاوزر نصف بطارية، فحصل الرجحان في هذا الجانب. ولم أكن بالمسرف في الضرب حيث النتيجة معروفة والإبقاء على النفوس من الجانبين ملتزم لدي.
استسلام القائد التركي الفريق غالب باشا
وفي العاشر من ذي القعدة تلقيت كتابا من القائد الوالي هذا نصه:
إلى الشريف عبد الله بك نجل الشريف حسين باشا: لكي نثبت للغرب مزايا الشرق، أقترح عليك أن تسمح للقوى المحصورة بالسفر إلى المدينة المنورة بجميع أسلحتها وبمن معها من عائلات الضباط ومن يرغب السفر معهم من الجالية التركية، فإذا وافقتم على ذلك وهو المعلوم ننتظر الجواب كي نشعركم بوسائط النقل اللازمة وعدد الجمال.
فأجبته:
إن هذا ليس بيدي، وإن الحالة الراهنة لا تكفل سلامة وصول هذه القوى المتراجعة إلى المدينة، وإن من خيركم أن تستسلموا جميعا ثم ترحل إلى المكان المناسب.
فلم يرد أي جواب.
ولما كانت قوات فخري باشا قد تمكنت من التضييق على الأميرين علي وفيصل فدفعت الأول إلى رابغ ودفعت الثاني إلى ينبع البحر، ولما كانت الأوامر ترد إلي مشددة بلزوم إسقاط الطائف وحث نار المدفعية الثقيلة على مركز القيادة، فما لبث القائد الوالي أن بعت إلي بهذا الكتاب، وقد ورد إلي بعد هزيع من الليل:
إلى قائد الجيوش العربية الشرقية الشريف عبد الله بن الحسين، إنه بالرغم من كثرة العتاد والذخيرة رأيت لزوم حقن الدماء، ولذلك أرجو قبول هيئة منا لتتذاكر معكم في معاملة التسليم والتسلم وفق حقوق الحرب الدولية، أو تتكرمون بإرسال هيئة منكم إلينا.
الإمضاء: كومندان القوة العثمانية المحصورة فريق غالب.
المنقذ الأعظم المغفور له جلالة الملك الحسين بن علي (أخذت هذه الصورة لجلالته في قصر رغدان).
فأجبته بالقبول وأن يبعث هو الهيئة التي يريدها. فبعث القائد سليمان بك ومعه رئيس أركان الحرب التركي ناظم بك وعليهم الأميرالآي حيدر بك قائد ومتصرف عسير سابقا، وحضروا إلى قصر الشريف فتن بن محسن بالمليساء. وكانت الهيئة العربية يرأسها القائد سعيد المدفعي والرئيس فؤاد والملازم أحمد حلمي. وتقرر التسليم على الآتي: (1)
يخرج الوالي والقائد والأمراء العسكريون حتى رتبة بكباشي في هذه الليلة إلى قصر شبرا. (2)
الطوابير تترك تحت قيادة الرؤساء اليوزباشية والملازمين الأولين والملازمين الثانين. (3)
تتراجع هذه الطوابير في منتصف الليل إلى الثكنة الكبرى وتترك على الأبواب بعض الغفراء، وفي تلك الساعة تتقدم القوات الراكبة العربية، بقيادة الشرفاء فهد بن شاكر وسلطان بن راجح والشريف حسين الجودي، لتحتل الأبواب وتؤمن السلام والأمن العام. (4)
مع الفجر يتقدم القائد سعيد بك ومعه من كان معه، ممن ذكرت أسماؤهم في مذاكرة التسليم، ليضعوا أيديهم على الأسلحة والمدافع الموجودة فتوضع في مخازنها وتمهر بالشمع الأحمر. (5)
تتكفل القيادة العربية بالإعاشة والتموين. (6)
تصرف للهيئة المستسلمة معاشات ثلاثة أشهر. (7)
تنتظر الأوامر بالتوجه حالا إلى الجهة المقتضية.
وقد تم كل هذا بهدوء وسلام، بعد أن أرخصنا للكثير من العشائر ليعودوا بعد مدة.
وفي اليوم الثاني جرى رسميا إنزال العلم العثماني عن القلعة، ورفع العلم العربي، بالتحية الرسمية لكلا العلمين. وكان منظرا مؤثرا، فإن العلم السابق كان العلم بالأمس، والعلم اللاحق هو العلم اليوم؛ والأمس أمسنا واليوم يومنا، ولكن الذنب على من سعى لترك الصبغة الإسلامية الشرقية والهروع إلى الحظيرة الغربية الإفرنجية. ومع الأسف فإن هذه الحركة الانفصالية لم تحل بيننا وبين الواقع فيما كنا نخشاه، فقد وقع ما هو أضر؛ أما الترك فعملوا ما شاءوا، ولكنهم أتراك في كل شيء، وأما نحن فقد أصبحنا أشكالا متعددة ونزعات متفاوتة لنا من كل قوم متبوع، وفي كل بيت ألف لسان.
ونعود إلى ذكر سقوط الطائف، فإنا بعد إتمام معاهدة التسليم والتسلم وفق الشروط الدولية، رحلنا القائد والوالي والجنود إلى مكة المكرمة، مرفهين غير منقوص لهم أي شيء، وقد صرفت لهم مرتبات ثلاثة أشهر.
أما أول ملاقاتي للوالي غالب باشا فإنها كانت غريبة، حيث إنني ما أحببت لقاءه أول ليلة لصداع شديد ألم بي، فبقيت بالمليساء وبعثت سماحة الشيخ عبد الله سراج مفتي مكة المكرمة والشريف شرف بن راجح إليه. فلما أنه لم يجدني ارتبك وظهرت عليه علامات القلق، فأرسل إلي الشيخ عبد الله يرجوني القدوم، فأتيت ولما رآني استبشر وضحك ، فجلسنا في البهو الكبير بقصر شبرا ومعه خمسة وسبعون ضابطا، من رتبة قائد إلى رتبة زعيم، إلا هو فرتبته كانت رتبة فريق.
وبعد صمت استمر ثلاث دقائق أو أكثر، قال لي: هذه فاجعة، بعد أن كنا إخوانا أصبحنا أعداء! وقد شعرت أنه قد زال عني بعض شعور الاستحياء منه والتكريم له، فقلت: نعم لكي يعود السيد لسيادته ويتحرر من رق من أخرجهم من الظلمات إلى النور، والشر بالشر والبادي أظلم. فاصفر لونه ثم قال: إنني كنت واثقا من أن الأمة العربية ستنفصل يوما ما عنا، ولكن ما كنت أؤمل أن يكون الانفصال على هذا الشكل وبهذه السرعة. فقلت له: صدقت، لقد أسرعنا، ومن منفعتنا الإسراع، أما الشكل فلا دخل له ولو أنكم أبقيتم سلطة الخلافة المطلقة لما تغيرنا عليكم، ولكن إرادتكم المشروطة هذه التي أحببتم بها السيطرة على السلطان وعلى الأمة معا هي السبب الأول في الإسراع. ولم هذا البحث الآن تفضلوا تناولوا شيئا من الفاكهة فقد طال عليكم الحصر وحرمتم الكثير منها. وأخذتهم إلى غرفة الطعام حيث كانت أعدت لهم تعتيمة فاخرة، فيها أنواع أطعمة الليل الشهية: العنب والدراق والكمثرى والرمان، وتركتهم معتذرا بصداعي إلى غرفتي.
وتوجه هو صباح الغد إلى مكة، ولما وصل جدة بعث إلي بسيفه لئلا يأخذه أي ضابط أجنبي، وكانت هذه منهم معاملة جد نبيلة.
ثم توجهت إلى مكة، بعد أن نظمت الأحوال في الطائف وبقي به الشريف حسين الجودي وكيلا عن الشريف شرف. ثم أمر سيدنا المرحوم أن يتوكل إمارة الطائف الشريف حمود بن زيد بن فواز. ووجدت بمكة السادة أهل الشام ولبنان: الشيخ كامل القصاب، والشيخ فؤاد الخطيب صاحب القصيدة المعروفة «حي الشريف وحي البيت والعلما»، والسيد محب الدين الخطيب، والسيد نسيب البكري وإخوانه. أما نوري باشا السعيد وسائر الضباط فقد التحقوا بمعسكر رابغ الذي كان يقوده الأخ علي (جلالة الملك علي)، والبعض الآخر التحق بمعسكر ينبع البحر الذي كان يقوده الأخ الأمير فيصل (جلالة الملك فيصل) ومعه الأخ زيد حفظه الله.
وكانت وضعية الجيش للثورة في غاية الحروجة والخطورة، حيث إن فخر الدين باشا قائد القوى السفرية التركية قد دفع بالأميرين فيصل وزيد إلى ينبع البحر، بعد أن هزم الصغير وهو زيد ببئر سعيد، وهزم الآخر وهو المرحوم الملك فيصل في وادي ينبع النخل ودفع بالأمير علي إلى رابغ، وأرسل الشيخ حسين بن مبيريك شيخ رابغ الذي خان الثورة إلى بلدة حجر، فأصبحت الطريق من بئر قيظي أسفل سطح الغاير إلى خليص فعسفان فمكة المكرمة مفتوحة له.
وكان الأمير فيصل يشكو جدا من تأثيرات الطيارات الألمانية في العربان، وفي ذلك الوقت كان الشريف علي حيدر باشا بن جابر بن سيدنا الشريف عبد المطلب بن غالب بالمدينة المنورة منصوبا أميرا على مكة من طرف السلطان محمد رشاد، وقد ركب إليه واستأمن الكثير من شيوخ حرب وجهينة المجاورين للمدينة المنورة. وكان يقول الملك فيصل: إن لم نمد بطائرات تقابل ما مع الأتراك وإلا فلا يبقى من العربان أحد في ناحيتنا وتحت أيدينا. وكان القلق ظاهرا في برقياته وتقاريره. أما الأمير علي فكان برابغ وكان معه الضباط العرب والجنود العرب الذين تمرنوا على الأصول العسكرية الجديدة وحاربوا وأسروا ثم نقلوا إلى المعسكرات الإنكليزية وطلبوا الالتحاق بالثورة العربية. وجاء الكثير منهم فتكونت في رابغ قوة نظامية لا بأس بها، وبها الصنوف الثلاثة المهمة العسكرية: مشاة ومدفعية ورشاشات، كما كان فيها مهندسون وقسم استحكامات، لا ينقص ذلك إلا الخيالة النظامية. وما لدى البلاد من القوات الراكبة العربية كانت كافية لهذه المهمة. أما عدد هذه المجموعة فبين الثلاثة آلاف والخمسمائة والأربعة ألاف، غير القسم الذي بينبع فكانت القوتان كالشوكتين إلى يمين أي قوة تريد النزول إلى مكة المكرمة، وإنه إذا صمم فخر الدين باشا على الإقدام على مكة المكرمة كان من واجبه إفراز قسم مهم من قواته لحصر هاتين المدينتين والنزول بالأقسام الباقية إلى مكة، وفي هذا من الصعاب ما لا يجهله أحد.
مع ستورس ولورنس في جدة
ولقد أمرني جلالة الوالد بأن أسافر حالا بما بقي من القوات التي كنت أحصر بها الطائف - وكان قد حضر إلى جدة المستر ستورس الكاتب الشرقي في دار الحماية بمصر والكابتن لورنس - لمقابلة جلالته والتشرف بتلقي أوامره. وحيث إنه لم يكن هناك ما يقتضي تشريف جلالته إلى جدة، أمرني بأن أذهب قبل السفر للاجتماع بهؤلاء الذوات وبتقديم الطلبات العسكرية التي هيأها رئيس أركان الحرب عزيز بك علي المصري. فاسترحمت من جلالته أن يقبل بنظرياتي في السفر أولا إلى مصر، لتنظيم المخابرات والكتب الواردة من السير هنري ماكمهون إلى شكل عهد قائم، ثم بعد عودتي - إذا وافق على سفري - يكون توجهي من الناحية الشرقية إلى الحناكية، وهو موقع مهم شرقي المدينة المنورة بشمال، ثم العبور مما وراء الخط الحجازي إلى وادي العيص، ونقل الثورة مما بين الحرمين إلى ما بين المدينة والشام؛ فوافق رحمه الله.
ثم كتبت للمرحومين علي وفيصل بأنه لا خوف من تقدم فخر الدين باشا إلى مكة ما دام أن قواتهما سليمة، فإنه يخشى أن تقطع هاتان القوتان الطريق بينه وبين المدينة، وقلت: إنني متوجه عن الطريق الشرقي وإن هذه الخطة أنكى للعدو وأوفق للثورة حيث تضم إليها عناصر العشائر الشرقية كلها.
ثم توجهت إلى جدة لمقابلة الذوات الإنكليز المومى إليهم، وخيمت بين الكندرة والسبيل، فزاروني ومعهم قائم مقام جدة الشيخ عبد الله شيبي ورئيس البلدية الشيخ سليمان قابل، فأجري لهم الإكرام اللازم. ثم زارني في اليوم نفسه الكولونيل بريمون رئيس البعثة العسكرية الفرنسية ومعه الكولونيل قاضي وهو من مسلمي الجزائر، وقد وصل إلى هذه الرتبة وهذا شيء عظيم لكونه من المسلمين وليس لهم أن يجتازوا هذه الرتبة. وفي الصباح التالي زرت البريطانيين بدار المعتمد البريطاني بجدة وكان الكولونيل ولسن (اللواء ولسن باشا) وكان معي عزيز علي بك المصري وكان الذي يترجم لهم ترجمان دار الاعتماد حسين روحي أفندي.
فلما جلسنا واسقر بنا المكان قال ستورس: لقد حضرت أنا ورفيقي الكابتن لورنس لنقوم لأقصى ما يمكن من الخدمات فرحين فخورين، ولكن لسوء الحظ تلقينا هذه البرقية البارحة وكانت لنا منها صدمة شديدة، وقد ترجمت إلى العربية وستقرأ على سموك الآن؛ فإذا تكرمت وأصغيت إليها علمت مقدار جزعنا لسببها. فقلت: تفضلوا اتلوها. وكانت برقية مطولة خلاصتها أن أخبار النهضة العربية لم تقابل في الهند إلا بالسخط، وأن وكلاء الألمان والأتراك اتخذوها وسيلة وزعموا أن الحلفاء احتلوا البلاد الإسلامية المقدسة. ولذلك ولأن الحكومة لا تستطيع إيجاد متاعب لها في الهند فهي قررت أن تسحب كل البعثات المرسلة من لدنها من المسلمين، وكذلك سترجع البعثات العسكرية الفرنسية، وستداوم الحكومة على تقديم المساعدات الأخرى من أسلحة وعتاد ونقود، وترى هي أيضا أن نهوض العرب بأنفسهم وبدون مساعدة قوات أجنبية هو خير لمستقبلهم.
كانت هذه البرقية صدمة شديدة لي ولعزيز علي بك، فقد كنا في حاجة إلى قوات من طيارات ومدفعية ورشاشات ومهندسين لا يحسن القيام بها إلا من سبق له أن تمرن عليها، وهذا ليس بالموجود عندنا. فقلت: أرجوكم أن تتلوها مرة أخرى لأنني أحب أن أتفهمها بزيادة. وكانت فرصة للتفكير، وقررت قراري. ولما انتهى قلت: فهمت ما تقولون تماما. وقمت مودعا فبهتوا وودعوني بكل احترام والارتباك ظاهر عليهم.
فيممت دار الكولونيل بريمون، فاستقبلني من الباب. وهو رجل إلى الطول أقرب، عريض الصدر طويل اللحية أشيبها. وبعد أن جلست قال لي: ما هذا؟! إن الأتراك قد وصلوا إلى بير قاظي! فقلت أنا: بل ما هذا؟! فإن دار الاعتماد البريطاني والموفدين البريطانيين أخبروني الآن بقرارهم على أن يسحبوا بعثاتهم العسكرية بما فيهم أنتم، وأنهم سيساعدون النهضة فقط بالأسلحة والعتاد والنقد؛ وأنا في حاجة إلى طائرات ومدفعية وغير هذا مما لا يتقنه الجنود العرب اليوم. فقال لم يبلغني ذلك وإن الأمر لخطير، فماذا أنتم فاعلون؟ قلت لا شيء غير الصلح، فإن الأتراك عرضوا علينا قبولهم ما نطلبه بكفالة إمبراطور ألمانيا، وإنني سأعود الآن وستستقيل الحكومة التي أنا وزير خارجيتها وتأتي حكومة أخرى من الحزب الجانح للصلح فننتهي على خير وقد نلنا ما أردناه، وليس علينا من حلفائنا في هذا أي لوم لأنهم يعرفون ما طلبناه وما قبلوه. فتغير لونه. وبعد أن شربنا القهوة خرجت إلى المخيم.
وبعد وصولي المخيم بنصف ساعة تقريبا جاءني قائد الجندرمة ومعه مذكرة من المعتمد البريطاني يقول فيها إنه هو والسير رونالد ستورس والكابتن لورنس يحبون أن يتناولوا الشاي في المخيم في الساعة الرابعة، فأجبته بالقبول. وقد حضروا في الوقت المناسب وقالوا لي: ماذا قلت سموك للكولونيل بريمون؟ فقلت: الذي سمعتموه منه، فإني بعد تبليغكم قرار حكومتكم لي، صممت على العودة لعرض الأمر على ولي الأمر وشرحه بتمامه، ثم الاستعفاء أنا والحكومة، لتأتي الحكومة من الحزب المائل للصلح مع تركيا فتقبل ما عرضه الأتراك علينا من قبول ما نريد للعرب بكفالة الإمبراطور الألماني ونتخلص من مشاق الحرب، ولا لوم علينا في هذا. فقالوا: ولم؟ قلت: للوصول للغاية بعد اعتذاركم. فقالوا: إنك لم تبق عندنا حتى نعرض عليك ما كتبناه للحكومة، وإننا ننتظر إيقافنا على ما تريدونه من مطالب، فقلت: بعد تصميمكم على سحب بعثاتكم تقولون إنكم كتبتم؟ وماذا تعني كتابتكم؟ فألحوا علي إلحاحا شديدا في تغيير رأيي، فقلت: لا أحيد عن رأيي قيد شعرة ولكن سأتأخر في الطريق اثنتي عشرة ساعة، فإن سبقتني الموافقة على ما تتطلبه الحالة الراهنة من إبقاء البعثات وإرسال الطيارات التي يطلبها الأمير فيصل فسأستمر على ما نحن عليه الآن، فرضوا وخرجوا بعد أن تناولوا الشاي.
وسافرت إلى مكة عن طريق بريمان والفج، تاركا على يميني جبلي ظاف ومكسر، وقضيت الليلة بقرب منازل لحيان؛ وكانت ليلة جميلة ضيفتنا فيها العشيرة خير ضيافة. ثم استأنفنا السير صباحا، وسلكنا طريقا تنخرط بنا على الحميمة وبها أقلنا، ثم روحنا بعد الظهر فأصبحنا أمام مكة المكرمة ودخلناها من طريق الحجون لا من طريق أجياد. وعند دخولنا البلد الأمين، واذا بجاد يقول «يا شاري العبد المليك، عبد يجمل من شراه» وإذا به الشيخ فاجر بن شليويح، وجاء على وعد مني للسفر إلى الجبهة.
فدخلت مكة وتشرفت بالمثول بين يدي المنقذ، فبادرني بقوله: لقد نجحت يا عبد الله في عملك، فقد وردتني برقية من المعتمد البريطاني يقول فيها «إن جميع مطالب الجبهات سوف تأتي بدون أي تأخير». فعلمت أن السهم قد أصاب وأن القوم قد فضلوا دوام الثورة العربية على الصلح الذي زعمت أنه ممكن؛ ولم أعرض لجلالته أي شيء عن الموضوع، غير أني علمت بعد ذلك أن عزيز علي قد عرض عليه الأمر.
إعلان استقلال البلاد العربية ومبايعة الحسين بن علي ملكا على العرب
ثم تذكرت أنه لا بد من إعلان استقلال البلاد العربية بأجمعها والبيعة لجلالته ملكا على العرب، لأن الترك في ذلك الحين كانوا ينظرون إلينا كعصاة خارجين، وأعداؤهم ينظرون إلينا كثوار لا أقل ولا أكثر؛ وفي هذا ما فيه من الخطر على مستقبل الأمة. فذاكرت زملائي الوزراء - ما عدا الأميرين علي وفيصل فإنهما كانا في الجبهة - ذاكرت الشيخ عبدالله سراج قاضي القضاة ونائب رئيس الوزراء، والشيخ يوسف قطان وزير الأمور النافعة، وحافظ محمد أمين أفندي ناظر الأوقاف، وعزيز بك علي المصري رئيس أركان الجيش العربي، وعلماء مكة مفتيها ومن حضر من رجالات الشام والعراق الذين منهم الشيخ كامل القصاب والسيد محب الدين الخطيب وآل البكري والشيخ فؤاد الخطيب - وكان معاونا للخارجية - وآل الداعوق وحضرات الضباط العراقيين ... فعرضت عليهم الأمر فوافقوني على ذلك وألحوا في سرعة التنفيذ.
فدخلت وعرضت الأمر على جلالته فرفض بشدة وقال: أنا لا أعمل للملك ولا أقبل هذا الأمر الذي تعرضونه علي. فتقدمت ولثمت ركبته وقلت: هذه العريضة مقدمة من عظماء الحجاز ومن حضر من سائر بلاد العرب وهم يرجون قبول عرضهم. فقال ليس عندي سوى ما قلته لك. فقلت: لسنا جميعا على استعداد لخدمة الثورة إلا على شرط قبول ما عرضناه، فاعمل ما تشاء مع سوانا. فقال: هل بلغت بكم الحال إلى هذه الدرجة؟ فقلت نعم. ففال: قف، فوقفت، ثم أمر بحضورهم جميعا. فلما جاءوا قال: أصحيح ما يقول هذا؟ قالوا لا يجرؤ أحد على أن يعرض على سيدنا ما لا صحة له. قال: هل عزمتم على ترك الدوام على الثورة إن لم أقبل أنا ما عرضتموه؟ قالوا: نعم، سننسحب كلنا. فقال: افعلوا ما شئتم والتبعة عليكم، أنا أقبل ما عرضتموه منفذا لرغبتكم لا موافقا عليها. قالوا: إذن وفقك الله، وستكون البيعة يوم الاثنين أول محرم سنة 1335 في المسجد الحرام، فقال: على بركة الله.
فكانت البيعة كما ذكرت وهي بيعة عامة، وقف الناس يبايعونه من ضحوة النهار إلى أن أذن المؤذن الظهر، أربع ساعات تامة. وبعد أن عاد إلى القصر الملكي ودخل الحجرة الخاصة، تقدمت مهنئا فقلت: هذه البيعة العلنية، أما البيعة السرية فكانت والأتراك في البلاد، وأخذتها من أحد عشر ألف رجل بمكة، كلهم بايعني على أن أختار لهم ملكا هاشميا يسير بهم على ما أمر الله ورسوله، وكانت بإذن جلالتك. فقال: تذكرت تذكرت، فقلت: وأنا الآن ذكرت أبا مسلم الخراساني، ولكن أرجو الله ألا تكون عاقبتك عاقبته. فقال: خسئ الأعجمي. ثم أبرقت بصفتي وزيرا للخارجية لكل وزراء الخارجية من دول الحلفاء والدول المحايدة، واستمر العمل ذلك اليوم من بعد الظهر إلى ما بعد نصف الليل. وكان يعمل معي الشيخ فؤاد الخطيب عمل المخلص المتفاني ولا نكران لذلك.
وفي اليوم الثاني طلب إلي المعتمد البريطاني الكولونيل ولسن والمعتمد الفرنسي الكولونيل بريمون المكالمة، فظننت أنهما سيهنئانني على ما وقع؛ وإذا بهما على عكس ذلك يقولان: لم فعلتم هذا الأمر قبل الرجوع إلى رأي حلفائكم؟ فقلت: عجيب ما تقولانه، إننا نقاتل بسيوفنا في سبيل الله وإعلاء كلمته وإرجاع حقنا القومي إلى نصابه؛ فمن ساعدنا وأيدنا فهو صديقنا، ومن نكص عنا وأحب أن يفت في عزائمنا فهو لا يريد بنا الخير؛ ونحن لا نسفك الدماء إلا في حقها وحلها، فإذا رأيتم أننا على خطأ فأنتم تضمرون لنا غير ما تعلنون. وإنني لأنتظر رد حكوماتكم، لا ردودكم الشخصية، وأنا أعتقد أن الترك وحلفاءهم اليوم سيقرون ما فعلناه ويقبلون الصلح وهذا أمر نحبه. فقالوا: تشك سموك في إخلاصنا؟ قلت: لا، ولكن نحن أعلم بما ينبغي لنا أن نفعله من أجل أنفسنا.
وفي اليوم الثاني جاءني الرد من المستر ستورمر وزير خارجية روسيا القيصرية، وقد اعترف باستقلال البلاد العربية وبملكية صاحب الجلالة الهاشمية الحسين بن علي ملكا على الأمة العربية، مقدما تحيات جلالة القيصر نيقولا الثاني إلى جلالته وتحياته هو إلي وإلى الحكومة. فبلغت هذه البرقية إلى دول الحلفاء قراءة. فقال لي الكولونيل ولسن: أتعد هذا اعترافا منه يا سمو الأمير؟ فقلت: وكيف يكون الاعتراف إذن؟ فقالا: تكرم إذن بقبول تهاني الشخصية على أن أقدم التهاني الرسمية بعد تلقي الاعتراف من حكومتي.
وبعد هذا أخذت في ترتيب السفر، وقلدت قيادة الجيش الشرقي العربي مرة أخرى، وعماد هذا الجيش فئتان من الهجانة المدربين والشوكة الهاشمية، وفئة الخيالة معها بطارية جبلية ثم عشائر عتيبة وعشائر مطير وعشائر حرب وعشائر هتيم. ثم عند الوصول إلى بلاد جهينة وبعد إتمام التجهيزات توجهنا في عشرين من شهر صفر الخير، ونزلنا وادي الليمون، وكانت قوات الأميرين في رابغ وينبع تحت ضغط شديد من فخر الدين باشا. وكاد الشيخ حسين بن مبيريك شيخ رابغ قد التحق بالقوى التركية وقام ببعض عشائره في حجر - موضع بأرض وعرة شرقي رابغ وعلى طريق خلص فعسفان - وبهذا كانت الطريق مفتوحة لقوات فخر الدين باشا بدون أي معارض.
فأسرعنا المسير، ولما وصلنا إلى البركة - منزل للحاج في الطريق الشرقي - تلقيت أمرا من القائد العام الأمير علي بن الحسين (جلالة الملك علي) يخبرني به أن الأمير فيصل في مضايقة شديدة بينبع، وأنه هو بذاته ينتظر كل آن هجوم فخري باشا عليه أو مروره على طريق خلص إلى مكة؛ ولهذا يشير آمرا إياي بالرجوع إلى مكة ومنها يأمرني أن أغذ السير إلى عسفان لتشكيل جبهة جديدة تدافع عن مكة؛ ويقول إن لم أفعل هذا فربما قطعت علي خط الرجعة، فيضمحل الجيش بدون أي خدمة.
ولما كنت أعلم جيدا أن في تنفيذ هذا الأمر انفراط أمر العشائر، عزمت على الآتي: فبعثت الشريف فوزان الحارث بألف وخمسمئة هجان مردوفة، وأمرته بألا يصبح إلا وهو قد احتل حجر واستأصل حسين بن مبيريك. وبعث بجوابي لجلالة الملك علي الذي يحمله إلى رابغ ويخبره بأن لا حجر ولا ابن مبيريك بيد الترك وينتظره هناك. وبعثت الشريف عبد الله بن ثواب الحارثي بمثل تلك القوة إلى المدينة المنورة وأمرته بأن يشن الغارة على مخافر الترك بجبل وعيرة وجبل أحد، وأن يوقد نيرانا كثيرة بالجبال والمرتفعات ويكثر الصياح، وأن يأسر كل محتطب أو ذا حاجة أو تاجر من تجار نجد ممن يخرج من المدينة أو يدخل إليها، وأن يطلق سراح الراجعين إلى المدينة بعد أن يتحقق من هوياتهم، وأن يزودهم بكتب إلى العشائر بغربي المدينة ممن التحق بالأتراك والشريف حيدر ويهددهم بالصياح إذا هم لم يتراجعوا إلى الأميرين بينبع ورابغ ويقول إنه في مقدمة الجيش الشرقي وقد نفذ ما عليه، كأن حجر قد احتلت في الوقت المعين.
وتوجهت أنا بالقوة الأصلية إلى ناحية الحناكية - موقع معروف شمال المدينة المنورة بشرق - فأقمت بها ثلاثة أيام والتحقت بي هنالك كل عشائر هتيم وحرب. وكانت القوى عشرين ألف راكب، فتوجهت بها نحو الغرب لأعبر السكة الحجازية ما بين محطتي أبا النعم وهدية. وفي طريقنا بالحرة كدت أقع أسيرا بيد الأتراك لولا عناية الله؟ وهو أنني تقدمت ومعي هجانان لشدة الحر يومئذ وللتخلص من وعورة الحرة، وإذا بقاع صحصح فيه دوحة عظيمة إلى جنبه غدير أفيح، فأنخت وأمرت بشيء من القهوة في انتظار قدوم العيون - عيون القوة - فكان كل من رآني هناك ينيخ، وأخيرا ولتأخر القوة وحملتها قررت أن تكون هذه الدوحة منزلة الظهيرة. وكان عندي حينذاك الشريف شاكر بن زيد وخالد بن لؤي والشيخ ناهس الذويبي شيخ مشائخ حرب.
وبينما أنا جالس معهم دخل رئيس عشيرة ولد، محمد رجا بن خلوي، وأشار إلي بأنه يريد محادثتي فقمت إليه، فأشار إلى تل لا يبعد عنا بأكثر من خمسمئة متر وقال: هل ترى هذا التل؟ قلت: أراه. قال: إن به قوة تركية. قلت: كيف؟ قال: اسمع من هذا الغلام. وإذا بغلام يفع تتقد عيناه يقول لي: يا سيدي عان الترك عانهم انظر إلى الترك انظر إليهم ! قلت: كيف؟ قال: «إنني وأخي زمالان للشيخ رجا بن خلوي، ذهبنا في مقدمة القوم نحتش حشيشا فألقى الترك القبض علي أنا وأخي، وقال كبيرهم لنا من أنتما ومن هؤلاء القوم؟ فقلت أنا مبادرا: هؤلاء هتيم وشيخهم سمران بن سمرة ونحن منهم قد بلغه أن الشريف عبد الله نزل الحناكية فرحل عن طريقه لاجئا إلى خيبر. فقال: لا تكذب، فقلت: ولم الكذب أطلقني إن أردت واحتبس أخي وأنا آتيك بسمران بن سمرة؛ فاحتبس أخي وأطلقني. ولكن عان يا سيدي الترك عانهم»! فقلت: هل رأيت كثرتهم؟ قال: هم كثير ولكن نحن أكثر، ابعث بي أدل القوم.
فانتحيت ناحية وقسمت الخيل إلى ثلاثة أقسام: القسم الأوسط مع قائدهم الشيخ هوصان بن عفار، والأيمنين على أخيه الشيخ راقي بن عفار، والأيسرين على الشيخ عبد الله بن مسفر، وأمرتهم أن يحيطوا بهذه القوة وأن يوغلوا إلى ما وراءها حتى يقفوا على حقيقة الحال: هل لهؤلاء من مدد أو قوة كاملة؟!
فتوجهت الخيل، ثم بعثت بمشاة العشائر من اليمين بقيادة الشريف خالد بن منصور، وبعشائر هذيل بقيادة الشريف فائز الحارث، وبعثت بعشائر ثقيف وابن الحارث وهذيل الشام بقيادة الشريف شاكر بن زيد من الميسرة فتبعوا الخيل؛ ولم تمض إلا دقائق حتى كان الاشتباك الشديد، وإذا برشاشاتهم تلعلع ومتفجراتهم ترعد فينعكس صوتها بين حلي الحرة وهضابها، فلم يقف إنسان بمحله بل حملوا حملة صادقة فأبادوا القوة التركية بأجمعها، وأتوا بقائدها الأميرالآي أشرف بك وأتوا بالمدافع وبالرشاشات وبغنائم لا تحصى وبهدايا إلى الأمير ابن رشيد وإلى الأمير ابن سعود وإلى إمام اليمن، ومن جملة الغنائم ثمانية وثلاثون ألف جنيه ذهبا عثمانيا ومن الأطعمة المجففة وسائر البسكوتات فأغنانا أياما عن الزاد ولقد كنا في حاجة شديدة حتى إلى الملح.
فسرنا، ولم نقم، لنعبر السكة قبل أن تأتي قوة تركية تمنع العبور ونحن في مفازة قتالة. ثم احتلت قواتنا ما بين هدية وأبا النعم، الخط إلى آبار أبا الحلو غربي السكة، واستمر العبور أربع ساعات ونصف على ثمانية خطوط. ثم اقتلعت أعمدة البرق وانتزعت قضبان السكة. وقد كتب أشرف بك مصيره في تقرير غلف ووضع على قضبان البرق. وكتبت أنا كتابا إلى فخر الدين باشا أقول له بأنا أسفنا على ما وقع على أشرف بك وحملته وعجبنا من بعثكم هذه القوة بهذه الأموال في بلاد ثائرة، وقلت إن الثورة قد انتقلت إلى ما بين الشام والمدينة.
وعليه فقد تراجع حالا هو من ينبع النخل ومن وادي الصفراء ومن بئر سعيد إلى بير درويش؛ وهذا جناحه الأيمن الذي كان يعمل ضد الأمير فيصل رجع من بير قاظي وسطح الغاير ومن برام وعبود إلى غدير مجز ومجزان إلى آبار علي، وهذا جناحه الأيسر الذي كان يعمل ضد الأمير علي تراجع أيضا، وتقدمت فنزلت بوادي العيص بربيعان، وكررت على الخط الحديدي أهاجمه ليل نهار، فتحررت قوة الملك فيصل واتجهت عن طريق الساحل إلى الوجه، وقد كان بيد الأتراك. وكان قائمقام القضاء في الوجه صديقنا العزيز عبد السلام بك كمال أحد أفراد دار كمال المعروفين بالقدس، وكان عثماني المذهب شديد التمسك بالترك، وهي مزية يشكر عليها لاعتقاده بأنها واجبة عليه. وكان معه - كقائد للمقاطعة - الأميرالآي أحمد بك على القوة النظامية العثمانية، وكانت مركبة من مدفعية ساحلية وبطارية جبل وطابور أفراده ألف ومئتا جندي غير الجندرمة. وقد كان بالوجه هجانة من عقيل أهل نجد مركبة من ثمانمئة هجان.
ولدى نزولي بوادي العيص كتبت إلى هؤلاء العرب أنصحهم بالانضمام إلى الثورة العربية قبل أن ينالهم التنكيل، فوردت أجوبتهم بالموافقة. وبعد أن استلموا معاشاتهم تركوا الأسلحة حيث هي وخرجوا ثم التحقوا بالثورة كأفراد وإن هذه المزية أيضا يشكرون عليها.
ولقد تقدم الملك فيصل من الساحل فاستولى على (أملج). ثم ضرب الأسطول البريطاني الوجه. وعند وصول أوائل قوى الملك فيصل، تراجع القائم مقام والأميرالآي بقواتهما إلى العلا، ودخل جيش الملك فيصل الوجه بدون مقاومة تذكر. ثم كتبت إلى عشائر عنزة وعلى رأسها الشيخ فرحان الأيدي والشيخ شهاب الفقير. أما ابن رفادة، شيخ الوجه وأحد رؤساء بلي، فقد فر والتحق بأحمد جمال باشا في الشمال.
وكانت الكتب المرسلة إلى شيوخ عنزة بهذا النص:
من عبد الله بن الحسين بن علي إلى الشيخ فرحان الأيدي والي الشيخ شهاب الفقير
أما بعد فقد بلغكم عبورنا خط السكة الحجازية بعد أن ظفرنا بأشرف بك في الجنبلة بالحرة ونزلنا بالمربع بوادي العيص. وكتابنا هذا كتاب دعوة لكم للالتحاق بالثورة العربية الحقة في مهلة لا تزداد على العشرة الأيام، تقدموا البت قبل مضيها مقدمين الطاعة مع البرهان بأن تهاجموا خط السكة وتأتوا بأسرى وغنائم. فإن لم تفعلوا ومضت المدة فلا لوم علينا إن نحن استعنا بالله عليكم وصبحناكم. وقد أفلح من اتقى.
فجاء خلال المدة الشيخ فرحان الأيدي سامعا مطيعا، بعد أن هجم على محطة من محطات سكة الحديد تسمى (البغلة) وظفر بمن فيها، وجاء معه مدفعان جبليان اغتنمهما منهم، فوظف قائدا في أراضي عنزة من الجهينة إلى حدود الفقير. وأما شهاب الفقير فكان غائبا عند وصول كتابنا، ولكن حضر أخوه الشيخ متعب الفقير بالنيابة عنه سامعا مطيعا، وقد وعد بأن الحركات ستبتدئ في جبهة الفقرة أيضا عند وصول الشيخ شهاب من الشام. فلم أقبل منه ذلك وقلت: الوعد المدة ولا على شهاب بأس ما دام أنه لدى الأتراك، وأنتم لا لوم عليكم بعد التهديد. وبينما هو يتجهز للرجوع وإذا بخبر ورود شهاب إلى عشيرته يأتي وأنه قد سمع وأطاع وباشر في الحركات. وهكذا ابتدأ الجيش الشرقي يعمل وقد لفت إليه الأنظار، وكان لأسر أشرف بك خبر ابتهاج عظيم في مكة، وفي المعسكرات العربية برابغ وينبع ولدى المحافل البريطانية، لشهرة أشرف هذا وعصابته ولكونه هو الذي صبح فرقة البرنس موريس البلغاري أثناء حرب البلقان وأوقع فيها وشتتها.
ثم إننا قطعنا الخط الحديدي بين محطة أبا النعم وهدية، وهيأنا القوة الكافية للكمون بطرف بئر عروة بالمدينة المنورة في أيام الجمعة، لاختطاف الأمير الشريف حيدر الذي يتنزه هناك بعد ظهر كل جمعة. وقد وصلت تلك القوة بالفعل إلى مكمنها، ولكن الشريف كان قد أخرج من المدينة إلى لبنان خوفا من وقوعه في الأسر إذا حوصرت المدينة. وكان رحمه الله يخدم القضية العربية بأن يقول لكل شيخ جاءه: اذهبوا وسأقابلكم بمكة متى وصلتم. وقد أسر لمن يثق به منهم بأن أعينوا أمراءكم فإن حصل أي فشل فإنني سأجتهد للتخفيف عنكم. رحمه الله.
وهكذا فإن الحركة العربية قد صادفت نجاحا عند اختياري سلوك الطريق الشرقية، وقد تتامت أسباب حصار المدينة بعد ذلك رويدا رويدا. وقد تحركت القوى الأصلية الهاشمية من رابغ يقودها جلالة الملك علي وأمراؤها من النظاميين: نوري باشا السعيد وعلي جودت بك الأيوبي وحامد باشا الوادي وإبراهيم بك الراوي؛ وأما العشائر فحرب وبنو سعد وسليم وهذيل والأشراف، وقد قصدوا قوى الترك الأصلية ببئر درويش وبمجز ومجزان. وكان سمو الأمير زيد يقود الجناح الأيمن. واستمر القتال بين القوتين ثلاثة أيام ظفر فيها الجيش العربي الهاشمي ببئر درويش وبمجز ومجزان، وتراجع فخري باشا إلى الجفر وإلى آبار علي. وقد قال في تقريره لجنوده «إنكم تقاتلون الآن قوة منظمة هي كفء لكم وليست المجادلة الآن بحرب عصابات أو شقاوة».
وظل الحال على هذا المنوال، فقد قصر فخري باشا خط الدفاع وخندق واستحكم. وكانت بالمدينة القوى السفرية تدافع إلى حد تبوك بفرقة ونصف، وكان الجيش الشرقي الذي أقوده بالعيص يدأب على قطع مواصلات القوى السفرية قطعا مستمرا بتدمير خط سكة الحديد الحجازية. ثم تقدم الملك فيصل من الوجه إلى جيدة - موقع يقابل العلا بأرض بلي - وجعل المركز العام له مدينة الوجه الساحلية. وكانت هجمات الجيش الشمالي الذي يقوده الملك فيصل تستمر إلى ذات حاج.
لورنس!
ثم بعد نزولي العيص بأسبوع، وصلت قوة من الجيش الشمالي مركبة من سبعة وعشرين هجانا ومعها الكبتن لورنس، أرسله الملك فيصل بقصد أن يدير حركات التخريبات الفنية على السكة الحديدية. ولم أكن بالفرح المسرور بقدومه حيث علمي بتأثيره المعاكس في العشائر المتعصبة. ولقد قال لي ابن لؤي الوهابي العقيدة: إنكم تقاتلون الترك بسبب أن الألمان استحوذوا على الترك، وهذا من يكون؟ إذا كانوا هم - يعني الألمان - أصحاب الأتراك فهؤلاء أصحابكم، فعلام القتال إذن؟!
وقال لي ناهس الذويبي: من هذا الأحمر القادم وماذا يريد؟! فأشعرتهم كلهم بأنه جاء لتهديم الخط وأنه مهندس وأنه يمثل إنكلترا حليفتنا وصديقتنا وأن الأمر ليس كما تظنون، بل إننا وهؤلاء اتفقنا على عدو لهم وعدو لنا؛ أما أعداؤهم فالألمان وأما أعداؤنا فهم الأتراك حين ذاك. وقلت: أتظنون أن هؤلاء يدفعون أسلحتهم وذخائرهم وأموالهم إليكم بدون أن يروا ما نوقعه في أعدائنا؟! لا يقول هذا إلا جاهل.
ومع أن هذا القول كان له التأثير، غير أن التبرم من وجوده كان جليا ظاهرا. ولقد حاول هو الاتصال بالعشائر ولكن لم يستطع للحرس الذي أقيم عليه، خشية أن يدس له الترك بيننا من يعتدي عليه بقصد إفساد ذات البين. ولقد سلمت العشائر الجنوبية من الكثير مما لحق بعشائر الشمال، يوم أن أطلقت له الحرية في جيش الملك فيصل فأصبح - بما بذل من مال وما قال من أقوال - ملك العرب غير المتوج، وأنه صاحب الثورة، وأنه لولاه لما نال العرب أي شيء!
وفي الحق أنه كان المزهو بنفسه الغريب الطباع. ولقد دس إلي من يغريني بملك الحجاز، بحجة أن الوالد المرحوم عنود في فكره متمسك برأيه، فقلت لرسوله - وهو الآن حي يرزق - قل لصاحبك هذا: إن أبي سيدي وملكي وبعده الأخ الأكبر وبعده نجله، وسأكتفي أنا بلقبي إلى آخر أيامي، وأما هو فقد خدمني وخدم العرب أكبر خدمة بقوله إن والدك عنود متمسك برأيه، إذ يظهر أنهم يطلبون من لا رأي له من الناس كي يعمل لورنس ما يشاء.
وقد رأينا ما آلت إليه الشام. ففيه ما يدل على أن فكرة إزالة الناهض المرحوم والمنقذ المظلوم كانت قديمة، وأن المحاولة البريطانية في تمكين ابن سعود - الذي كانت بريطانيا متعهدة بألا تدعه ولا سواه من الأمراء العرب الذين لهم صلات بحكومة الهند أن يقفوا ضد الثورة العربية حتى تتم، وأنه لا ينبغي لصاحب الثورة أن يضمهم أو يلحقهم إلى الحركة العربية لأنهم تبع لحكومة الهند - غاية في الإتقان؛ فأعلنت بريطانيا حيادها عندما صال ابن سعود بوحوش الوهابية على الحجاز المقدس، وألزمت العراق وشرق الأردن بذلك الحياد إلزاما إكراهيا. فأما شرق الأردن فقد بذل كل ما في وسعه لنجدة أم القرى ومركز الثورة العربية ومهبط الوحي، وأما العراق فقد ضن بما عليه. وفي هذا الشيء اليسير من أعمال لورنس ضد البيت الهاشمي.
ولم يكن هذا الموضع من المذكرات محلا لذكر هذه النبذة، ولكن حيث كان لقدوم لورنس إلى العيص هذه البادرة، جعلنا هنا محلا للاستهلال بما نعرفه عنه.
ولقد وجهنا قوة للتخريب وطرد الأتراك من محطة أبي النعم وجداعة والوقر وهدية، وكان هو من جملة الذين ساروا مع القوة لوضع المتفجرات التخريبية، فعاد وهو غير شاكر ما رأى، وأخذ يذم القوة ويقول بأنه كان في الإمكان عمل الشيء المؤثر، ولكن استعجلوا الرجعة. وفي ذلك اليوم نسفت قاطرة وخرب قطار بأجمعه ودمر حوالي أحد عشر كيلو مترا من الخط الحديدي. إن هذا العمل لم يرق لورنس، لأن الأمر لم يسر كما كان يريد. ولقد سافر الشريف حيدر من المدينة إلى لبنان بعيد هذه الضربة بأسبوع، وقبل أن نظفر به، كما رتب وقلنا سابقا، أثناء نزهته ببئر عروة. أما لورنس فقد نفرت في جسده دمامل وخراجات أزعجته، فاستأذن وعاد. ولقد كنت معه مكرما لطيفا معترفا بثمين مساعداته غير راض عن تدخلاته فيما لا يعنيه.
بعض من عرفت من الإنكليز إذ ذاك
استمرت الحالة بعد ذلك، من الضغط على الخط الحديدي الحجازي بلا انقطاع، فشلت حركات النقل سنة 1916 و1917 وبدأت القيادة التركية تخرج المدنيين إلى الشام؛ وأول ما أخرجت الشريف حيدر بن جابر الذي عينه السلطان أميرا على مكة عند إعلان الثورة العربية. وكان مركز الأمير فيصل - كما مر - بالوجه، ومركز الحركة في موقع جيداء وما جاورها. وكانوا حاولوا من ناحيتهم أيضا الضغط على الخط الحديدي من العلا إلى حيث يستطيعون نحو الشام.
ثم لما انبعثت الحركة في الجيش الشرقي الذي أقوده، ألحقت بنا مفرزت تخريب فنية يقودها ضابط بريطاني برتبة ميجر - ثم رقي فصار كولونيلا - واسمه «دافنبورت» وهو رجل دمث خلوق لا يهمه سوى عمله؛ طويل بالنسبة للعرب لا للإنكليز، عريض المنكب أحمر اللون كستنائي الشعر أزرق العينين، وكان قد أسبل لحيته بسبب الحرب. وممن كان في معيته من الإنكليز الكابتن «غارلند» وهو من محبي العرب، مخلص شديد الإخلاص، وكان من الساعين للعمل مع المخلصين من العرب للعرب، وليس هو من الذين يسعون لإيجاد أحد ممن يسعى لمنفعته الذاتية فيخدم عن غش غير أمته، وقد ينسى أن من غش نفسه لا ينصح للآخرين. ثم كان من الرجال الإنكليز الذين عرفتهم بطيبة النفس والإخلاص الكابتن «غولدي» وهو رجل نحيف طويل معروق الوجه أخضر العينين بشوش هشوش. ثم عرفت أيضا من الإنكليز عام 1916 و1917 الكولونيل «نيوكمب» - وهو ما يزال حيا يرزق - وهو ممن يتظاهر بمحبة العرب في كل محل، ومن كثرة أحبابه ظل في عمله.
وممن عرفت منهم الميجر جويس أو الكولونيل جويس أو جويس بك، وهو من أخلص الناس للإنكليز والقضية العربية، وقد خدم أكثر من لورنس خدمة حقيقية قاسى فيها أنواع الشدائد، من حرارة مواسم الحجاز في الذهاب والإياب في العمل. هذا ما يمكنني أن أقوله عن أصدقائنا الإنكليز حين ذاك.
الخط الحديدي
والسبب الأكبر في دوام محافظة الأتراك على الخط، هو عدم وجود قوات مدربة نظامية معنا، وقدرة الأتراك على الدفاع. أما التجهيزات فلم يكن يقدم للجيش الشرقي أي شيء سوى سلاح المحارب الراجل، وأما المدافع وما إلى ذلك مما تستعمل ضد القلاع والاستحكامات فلم يظفر الجيش الشرقي العربي منها بشيء. وكان لدى جيش الملك علي مدفعية محترمة من مدافع الصحراء ومدافع الهاوتزر ما تفوق به على الأتراك. وأما العناية بالتجهيزات فكانت مصروفة للجيش الشمالي، الذي كان يقوده الملك فيصل، ولقد كانت معه سيارات مدرعة ومدافع كثيرة جبلية وصحراوية ومدافع حصار، وكان كل الجنود المتطوعين من العرب والضباط يرسلون إلى ذلك الجيش، كجعفر باشا ونوري باشا وأمثالهما. وأما الجيش الشرقي فقوامه الملتحقون به من جنود عرب وضباط برتب صغيرة، يفرون من الجيش التركي إليه.
وكان من رأيي الاستيلاء على الخط ثم الاستيلاء على المدينة المنورة بالجيوش العربية الثلاثة: الجنوبي والشرقي والجيش الشمالي الذي يقوده فيصل. ولكن لسوء حظ العرب انتشر الضغط على الأتراك على طول الخط الحديدي، ثم تقدم جيش الملك فيصل واحتل العقبة ومنها أخذ يضيق على معان. فلو أسقطت المدينة المنورة في عام 1917 لكانت الجيوش العربية الثلاثة تتفرغ بمجموعها لفتح سوريا وللاشتراك في محاربات العراق، ولكن مال الآخرون إلى هذه الخطة. ولما هزم جيش اللورد اللنبي الأتراك في الناصرة، تقدمت مفارز من الجيش العربي الشمالي إلى الأزرق وأذرعات، فدخل الشام. وعلى الشام رفعت الرايات العربية بواسطة الأيوبي باشا وموافقة أحمد جمال باشا القائد التركي المعروف، وبإرادة سلطانية تعلن الاعتراف باستقلال البلاد العربية. وكانت القوى العثمانية المدافعة عن معان لا تزال بها لم تمس بسوء، أشبه ما تكون بالجيوش الألمانية في فرنسا عند غزو الحلفاء القارة الأوروبية في الحرب الأخيرة.
فخري باشا
هذا ما كان هناك ذلك الحين. ولكن فخر الدين باشا بقي في المدينة يدافع بإصرار، فلم يبق لزوم لأن يكون الجيش الشرقي بوادي العيص وبلاد جهينة. وبعد المخابرة مع جلالة الملك علي تحركت بالجيش الشرقي إلى الجفر - وهو موقع شمال المدينة المنورة بغرب يبعد قدر عشرين كيلومترا عنها - وبعد التضييق عليه ابتدأت الحركات الدالة على عدم الطاقة في المحصورين.
وقد ورد كتاب من السير وينجت - المندوب السامي بمصر بذلك الحين - إلى فخري باشا، يخبره فيه:
أن الأتراك قد هزموا، وأن الشام قد احتلت، وأن مسؤولية الدماء من بعد الآن ستقع عليك شخصيا إن لم تسلم.
فأجابه فخري باشا بالتركية بما نصه:
إلى جناب الجنرال ريجلاند وينجت بمصر: أنا عثماني، أنا محمدي، وأنا ابن بالي بك، وأنا جندي، وأرخ.
ثم فر بعض الضباط، منهم الكولونيل محيي الدين بك رئيس أركان حرب. ثم بعث فخري باشا بعد ذلك بكتاب إلى سمو الأمير علي (جلالة الملك علي) يقول له فيه إنه بعد هذا الجدال الطويل لم يبق أي سبب للدفاع وإنه قد أرسل الميرالآي علي نجيب بك والميرالآي صبري بك والأركان حرب اليوزباشي كمال بك لأجل التذاكر في كيفية تخليه عن المدينة وكيفية إجلاء الجنود الذين يمتد خطهم من تبوك إلى المدينة على سكة الحجاز. فبعث جلالة الملك علي إلي إشارة تلفونية يطلبني من الجفر، فحضرت حالا. وكان علي نجيب بك هذا قائد الآي من فرقة الحجاز بمكة المكرمة، وخرج بالآي هذا مع الوالي والكومندان وهيب بك المعروف، للقتال من أجل فتح مصر مع جمال باشا.
ولما ترجلت عن فرسي عند باب خيمة القيادة، خيمة جلالة الملك علي، تلقاني وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فقلت: أعلم أنك من أهل الإسلام. ثم دخلنا إلى حضرة المرحوم وطلب نجيب بك سرعة المذاكرة، فعينني جلالته رئيسا للجانب الغربي وعين نوري بك الكويري قائد الفرقة الجنوبية للجيش الجنوبي والأمير الآي السيد حلمي بك قائد الفرقة النظامية للجيش الشرقي، ومعهما القائد الشوربجي بك.
فابتدأت المذاكرة وطلب علي نجيب بك السماح للقوات التركية بأن تخرج بأسلحتها إلى ينبع البحر وإلى الوجه؛ وبالطبع رفض طلبه وتقرر:
أولا:
تسليم فخري باشا نفسه.
ثانيا:
تسليم كل الآي في الجبهات حيث هو وأخذهم من محلاتهم إلى الساحل بقوافل محروسة من الجيش العربي.
ثالثا:
كذلك القوات التي بالمدينة المنورة تسلم كل قوة في مركزها وتخرج.
رابعا:
أما القوات التي في العلا وتبوك فتستسلم هناك وتؤخذ بقوافل إلى الوجه إلى ظبا، وأن الأمتعة الخاصة بالضباط تكون تحت تصرفهم إذا أرادوا بيعها أو أخذها معهم.
خامسا:
أن يجري تسليم الأسلحة العسكرية الخفيفة والثقيلة بموجب الدفاتر والسجلات المحفوظة.
سادسا:
أن يجري التسليم فورا.
وبعد تنظيم هذه المواد، جرى التوقيع منا ومنهم، وعادوا إلى المدينة المنورة.
وفي الغد من يوم المذاكرة، أمر جلالة الملك علي - سمو الأمير علي يومئذ - نوري بك الكويري، والشريف أحمد بن منصور أمير حرب، بأن يذهبا لاستلام فخري باشا حسب الشروط فذهبا وكنا في انتظاره معهما إلى المساء، فلم يأتيا. وبعد غروب الشمس بنحو نصف ساعة، دعاني جلالة الملك علي إلى خيمته قائلا لقد عاد أحمد بن منصور ونوري الكويري وحدهما، أما فخري فعلى قولهما - رواية عن علي نجيب بك - إنه لما علم بالشرط الأول دخل الحجرة النبوية وهدد قائلا: إن أردتم إخراجي عنوة فسأشعل النار في كل العتاد الذي في المسجد - وكان الأتراك قد وضعوا المفرقعات النارية في المسجد خشية الطيارات - وأنه في الحالة هذه لا يمكن أخذه عنوة، وأنهم على استعداد لتنفيذ سائر الشروط.
وكان جلالته في ارتباك، فقلت: لنتركه في محله، فقال: إنه لا يؤمن وإنه ما زال هناك فإنا لا نأمنه. وفي الحقيقة كانت الحالة مربكة، وتجلى علينا الصمت إلى وقت العشاء؛ فلما دعينا إلى العشاء وانتصف الأكل وإذا بنا نسمع دمدمة، كأن شيئا قد ثار أو انهدم، فقام رحمه الله واقفا وقال: لقد أشعل الخبيث النار في المسجد! اركب الآن إلى جليجلة وافهم الحقيقة، واعمل على أخذه مهما كان الأمر. فقلت: أفعل. وطلبت إحضار الخيل.
فلما أتممنا العشاء، ركبت إلى جليجلة، وبها مركز الألآي الأول التركي، فسرنا ثلاث ساعات؛ وكان معي الشريف شرف بن راجح عبد الله المضايفي والمرحوم الشيخ هوصان بن عفار أمير الخيالة بالجيش الشرقي، وأمير اللواء السيد حلمي قائد الفرقة النظامية للجيش الشرقي، في سبعة عشر خيالا. وتقع جليجلة في أرض جبلية.
ولم يرعني إلا الضوء على باب محل المستحكم، وإذا الغفير يقول: من هذا؟ (كيمدرو)؟ فدفعت فرسي واندفع من معي نحوه، فارتبك فأخذناه، وقلنا: أين مركز الألآي؟ فقال: هو هذا وبه الأميرالآي (قائد الألآي) إسماعيل شكري بك. فخرج وإذا هو، فقلت: أنا الأمير عبد الله. فاندهش ... فقلت: لا عليك إن لزمت السكينة. أين محل الهاتف؟ أرنيه وأحضر علي نجيب بك. فقال: تفضل. فدخلت فأحضر علي نجيب بك على التلفون، فقال: من المتكلم؟ قلت: الأمير عبد الله بن الحسين، قال: كيف ومن أين تكلمني؟ قلت من جليجلة طبعا. قال: والألآي؟ قلت الألآي وقع بيدي. فقال: سبحان الله! فقلت: هذا بفضل الله، ولكن أين فخري باشا ؟ وكان اليوم موعد تسليمه حسب الشروط؟ قال: إنه كما أخبركم الشريف أحمد بن منصور ونوري الكويري بك، دخل الحجرة وهدد بأن ينسفها إن نحن حاولنا أخذه عنوة. قلت: لا أعتقد ذلك. فقال: أتريد أن تقع جناية في الحجرة؟ قلت: لا بالطبع ولكن أريد تنفيذ الشروط، أليست لديكم حرمة لتواقيعكم؟ فقال: أتريد أن يقتل من يدخل عليه في ذلك المحل؟ قلت: الذنب عليه وقد قتل عمر بن الخطاب بين المنبر والقبر. فقال: أتريد أن ينسف المسجد؟ فقلت: قد احترق المسجد النبوي في التاريخ مرتين، والنبي
صلى الله عليه وسلم
في الرفيق الأعلى، وإن وقع شيء من هذا فسيكون لنا حجة عليكم أنتم الأتراك. والآن أنت تكلم خصمك، فإن لم تنفذ الشروط فسيكون الموقف جد حرج، حيث تقرر استئصال كل من بالمدينة منكم. فقال: أمهلني نصف ساعة.
وبعد انقضائها عاد يقول لي في الهاتف: بعد المذاكرة تقرر إخراج فخري باشا بأية صورة كانت، صباحا في الساعة الحادية عشرة على حساب الساعة الغروبية. فانتظرنا إلى الصباح. وفي الساعة المحددة خاطبني بالهاتف أيضا وهو يقول: بعون الله ومدد روحانية رسول الله وبعزم رفاقي الكرام، أخرج فخري باشا من الحجرة بدون حادث، وسيق إليكم مع الأميرالآي صبري بك في سيارة محروسة، وسيصل إليكم بعد ساعة وربع.
وبعد ساعة وربع، وصل إلى جليجلة وكنت في مركز القيادة، فقابله حلمي باشا ومعه الشريف شرف من حيث السيارة وأخذاه إلي. فقال له صبري بك - بعد أن قدمه لي - هذا الأمير عبد الله. فحياني رافعا يده إلى صدره تحية الدراويش، فحييته بمثلها، وأخذته إلى الغرفة فجلس جلسة المقيت الغضيب، فبادرته قائلا: إننا قد علمناك شجاعا في الحرب وأثناء الحصر، وإنه ليسرنا أن نراك صبورا في هذه المصيبة مصيبة الأسر. ففرك يده بيده وقال: لا أعارض وإن تشكلت حكومة عربية. قلت: لقد عارضت وانتهت المعارضة، والآن فإن سمو ولي العهد المعظم الأمير علي في انتظارنا، فإذا سمحت نركب إليه بعد أن تتناول الشاي وترتاح قليلا. ثم خرجت من عنده وتركت القائد إبراهيم الراوي معه، فقال له: هل كنت معنا؟ أجابه بأن كنت معكم إلى أن أعلن صاحب الجلالة استقلال البلاد العربية فالتحقت بأمتي. ثم رجعت وإذا به قد أتم تناول الشاي، وهو كالنمر الهائج ينظر ما حوله فلا يرى مخرجا. فقلت: لنركب. فقام معي، فنزلنا وإذا بسيارته هناك، فقلت: اركب - وعمدت إلى فرسي - فقال: بل تركب معي.
فركبت معه، ثم اكتنفت الخيل السيارة، وتحركت بنا نحو المدينة المنورة. فلما اجتزنا جليجلة وإذا باستحكامات، فقلت له: هل هذه الخطوط الأمامية لكم؟ فقال: مضى علي زمن ولقد نسيت. فاستحمقت نفسي واستثقلت سؤالي وهو صامت، فقلت له مازحا: لقد أتحفتم أخوي عليا وفيصلا بناظورين عندما قدمتم المدينة المنورة، فأين حصتي؟ فضرب يدا بيد ثم مد يده إلى معطفه وراءه وتناول ناظوره فقدمه إلي، فخجلت جدا وقبلت الناظور على شرط أن يأخذ هو ساعتي التي معي كتذكار؛ فشكر ذلك مني، فدفعت إليه الساعة وكانت ثمينة ظريفة. أما كونها ثمينة فلأنها من جلالة الملك علي أنعم علي بها، وأما ظرافتها فلكونها رقيقة مذهبة وغطاؤها مغلف بالميناء الأزرق، وفي طرفها الأعلى لون وردي كأشعة الشمس عند الغروب، مكتوب على أحد وجهيها بخط النسخ الجميل وبذهب مطعم «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين»، وعلى الطرف الآخر «لي خمسة أطفي بها حر الجحيم الحاطمة: المصطفى والمرتضى وابناهما وفاطمة» فسر غاية السرور. وهو على ما علمت أخيرا بكتاشي الطريقة، والبكتاشيون شيعيون.
ثم تبسط معي وسرى عنه ما كان عليه من غم. ثم انفجرت إحدى إطارات السيارة فوقفنا لتعميرها، وإذ ببدويين يمران ومعهما بعض ما اشترياه من السوق ببئر درويش؛ فقال أحدهما للآخر: من هؤلاء؟ فقال الثاني: هذا عبد الله بن سيدنا، والآخر لعله فخري باشا. ثم تقدما مسرعين نحونا، وبعد أن حيياني قالا عن فم واحد: هذا فخري باشا؟ فقلت: إنه هو. فالتفت إليه أحدهما وقال: أأنت فخري باشا؟ قال: نعم. قال: امدد يدك أصافحك، فأنت الشجاع الباسل الذي صدنا عن المدينة المنورة شهورا عديدة. فمد يده إليهما وصافحهما، ثم قال لي: إن هذه لأكبر مكافأة لي من رجلين لا يؤملان مني أي صلة أو جاه، فإذا هي الحقيقة وبها الشرف لي - وامتلأت عيناه بالدمع - فقلت: إنهما من العرب، والعرب أمة شريفة تقدر الناس حق القدر.
وتم إصلاح السيارة، فتابعنا المسير، وإذا بقوة عربية نظامية من راكبي البغال عددها مئتان وخمسون بغالا، يقودها القائد شكري بك الشوربجي، مصطفة للتحية؛ وقد جاءت للاستقبال من بئر درويش بأمر من سمو الأمير علي الذي أخذ خبر قدومنا من الشيخ عبد الله بن مسفر المضايفي، وقد بعثته حين وصول فخري باشا يخبر سموه بأن المشار إليه قد أصبح في يدي. فالتفت وقال: هذه القوة عربية؟ قلت: نعم. فوازن نفسه وزرر معطفه ثم قابل التحية بتحية عسكرية وقال «هرشي اولمش بتمش» أي «كل شيء حصل وانتهى». وبدا عليه السرور مما رأى، وفي هذه نكاية، فإنه كان يظن أن العرب لا يحسنون تنظيم أنفسهم.
واستمرت بنا الطريق، ووصلنا إلى المضرب الهاشمي في بئر درويش في الساعة الخامسة، قبل الظهر بساعة - وكانت الساعات حين ذاك عربية - فترجلنا وأممنا القبة الكريمة، وكانت جموع الناس مجتمعة لترى فخري باشا، فدخل بعد أن صافحني قائلا: إنني سعيد لقبولي في ضيافتكم. واتجه نحو جلالة الملك علي وكان قد عرفه قبلا، أما لقاؤهما فكان مزيجا من العتب والعداء والشيء الظاهر من البرود. فانسحبت من الباب إلى خيمتي المعدة لي ببئر درويش، وقبل أن يتم لي غسل وجهي وإذا بي أطلب للمثول بين يدي سمو الأمير (جلالة الملك علي) فلما حضرت قال: سعادة الباشا لا يسره فراقك. فقلت: إنكم قد اجتمعتما ولقد خرجت وأنا هنا قريب.
وجاءت القهوة، وكان في المضرب كبار الأمراء العسكريين والشرفاء ورؤساء البعث العسكرية المحالفة، ثم جاء المضايفي وقال: إن خيام الضيف معدة. فنهض فخري باشا وهو يقول: لعلها بجوار الأمير عبد الله؟ فقيل له: نعم. فخرج وخرجت معه، وقلت: هل يأمر الباشا بأن نحضر إليه من يحب من الضباط الذين كان يألفهم ؟ فقال: اترك هؤلاء الخائنين، لا أريد منهم أحدا. فافترقنا، هو إلى خيمته وأنا إلى محلي، ثم طلبني جلالة الأخ فجئت فقبل رأسي وقال: إن هذه خدمة لا تنسى لك. فقبلت يده.
وبعد الاستراحة جاء وقت الغداء، ودعي فخري باشا فأكل هنيئا مريئا كأن لم يحدث عليه شيء، وخصص له مرافق من الضباط العرب الذين يتقنون اللغة التركية. ورغب في السفر عاجلا، فسافر في اليوم الثاني إلى ينبع بسيارته وأخذ بطرادة خاصة إلى المعتقل بمصر.
أما أنا فعدت إلى معسكري بالجفر، وشرعت معاملات التسليم تتم وفق الشروط. ثم استدعاني سمو الأمير علي (جلالة الملك علي) وأمرني بالشخوص إلى المدينة المنورة لأتولى مسائل التسليم وحفظ الأمن الذي اختل هناك. فجئت إلى بئر درويش، وبعد مبيت ليلة سافرت منها إلى المدينة ومعي العدد الكافي من الجيش الشرقي لاحتلال الأماكن المقتضية وحفظ الأمن. فدخلت المدينة المنورة صباحا وأممت المسجد النبوي، فكان الشعور الروحي في درجة أعجز عن وصفها. ثم نزلت في مركز القيادة العثمانية، وكان الحرس من الأتراك، وكنت أجلس معهم على السفرة في الفطور والغداء والعشاء. وأصبحت قائدا مسؤولا عن الجهتين المسلمة والمستسلمة، وكأنه لم يحدث بيننا وبينهم أي شيء. فجرى التسليم وفق الترتيب في يومه وساعته ودقيقته، وكان ترحيل أفواج القوى السفرية العثمانية من الداخل إلى الساحل يجري في الأوقات المعينة بالدقة التامة، ولقد سافرت براحة وشكران.
وإنني لأذكر أنني حاولت استبقاء العساكر العرب في الخدمة العسكرية بالحجاز، ولكن الشوق في العودة إلى أوطانهم تغلب عليهم، ولما قلت لهم: لا سبيل لكم إلى الذهاب لأوطانكم فورا إلا بالانضمام إلى الجيش العربي الهاشمي، وإن أنتم لم تفعلوا هذا فستنقلون إلى المعتقلات، ومتى تتيسر لكم العودة منها عدتم، وهذا مجهول التاريخ. فنكص كل عربي عن السفر، وطلبوا الرجوع إلى أوطانهم فأعيدوا مكرمين عن طريق السكة إلى معان فالشام.
ولم يقع من الحوادث المخلة بالأمن أي شيء مهم، غير أن بعض اللصوص تمادوا في كسر الأبواب من بيوت نقل أهلها بواسطة الإدارة العثمانية وأخذ منها بعض أمتعتها ، فألقي القبض عليهم وهم متلبسون بجريمتهم، فحوكموا عاجلا وكان قصاصهم الموت، فانتهت كل مفسدة. ثم نظم أمر الإدارة وعادت المياه إلى مجاريها، وعين سمو الأمير علي بن الحسين (جلالة الملك علي) أميرا للمدينة المنورة وشيخا للحرم الشريف النبوي وقائدا عاما لها.
الوهابية والوهابيون: معارك ومقدرات
وأمرت أنا بالرجوع إلى الطائف بالجيش الشرقي الذي تحت إمرتي، بقصد تأديب الشريف خالد بن لؤي بوادي الخرما؛ وهذا كان قد اعتنق المذهب الوهابي وطرد قاضي الخرما الشرعي وقتل الأبرياء كما قتل الشريف بعيجان - وهو أخوه من أمه وأبيه - لأنه لم يطعه على فساده، ثم أخذ يغير على من لم يدخل في هذا المذهب من العشائر التابعة للمملكة الهاشمية الحجازية. وكان الملك المرحوم قد وجه الشريف حمود بن زيد بقوة تأديبية إلى الخرما، فلم يستطع عمل شيء، فغلب، ثم بعث مرة أخرى فغلب وجرح؛ فأمددته وأنا بوادي العيص بقوة كافية تحت قيادة المرحوم الشريف شاكر بن زيد، فذهب بها وبعد تلكؤ بمران توجه إلى الخرما ونزل بشرقيها في الوادي نفسه، فهوجم وهو في منزله وغلب أيضا كما غلب الشريف حمود قبله. فجهز المرحوم قوة أخرى، وبعث بها معه ومع الشريف الأمير عبد الله باشا بن محمد بن عبد الله بن عون، فبقيت هذه القوة بحضن، وهو الجبل المعروف الذي ورد فيه الحديث «من رأى حضنا فقد أنجد».
وأمرت بأن أتجهز حالا وأن أقصد الخرما رأسا من المدينة المنورة، فحاولت منع هذا الأمر والدخول فيه لأسباب جمة، أولها سأم الناس من الحرب ضد الأتراك واستغناء الجنود المستأجرة ماليا، فقد أثروا وامتلأت جيوبهم ولم تعد لديهم رغبة في حرب أو جلاد. فاستأذنت بأني أحب القدوم إلى عشيرة - وهي ماء شمال الطائف وبها آبار عذبة على طرف الحرة في حد سهل من جبل - لأبعث بالأثقال وما لزوم له من أسلحة ثقيلة إلى الطائف وأتشرف بلثم اليد الملكية، فوافق رحمه الله على ذلك. ولما وصلنا إلى عشيرة وجدناه بها فأقمنا ثلاث ليال حاولت بهن صرف جلالته عن متابعة هذه الخطة وأن يسمح بجلب الأميرين عبد الله وشاكر كي يفي بالغرض المقصود.
وقد جاء في خدمة جلالته حسين روحي أفندي، كاتم سر المعتمد البريطاني بجدة، وقال لي:
إن بريطانيا نصحت بعدم متابعة الحرب ضد الوهابيين، وإنها ترى مقابلة الدعاية بمثلها، وإنها تعلم أن بيد الوهابيين قوى نشيطة متعصبة ينبغي إخماد نارها بالحكمة، وإن ما وقع على الشريف حمود في المرتين السابقتين وعلى الشريف شاكر في المرة الأخيرة يثبت هذا الظن، وإن جلالة الملك له من المسائل في البلاد العربية كالشام والعراق ما ينبغي أن ينصرف لها دون غيرها.
ولقد كنت أعرف مغزى تبليغاته. ولا أنسى ما كان قد قاله لي الصدر الأعظم إبراهيم حقي باشا من أن أرجو والدي - وهو يومئذ شريف مكة - أن يترك المسألة الوهابية وألا يساعد سعود بن عبد العزيز بن سعود العرافة على ابن عمه عبد العزيز بن سعود، لأن الحكومة البريطانية احتجت لدى الباب العالي في هذا الشأن، وقال: يجب ألا ننسى مسألة ابن صباح وحماية إنكلترا له؛ فالدولة العثمانية غير متفرغة الآن لمسألة تحدثها بجنوب البصرة وشرقي الحجاز.
وبعد إقامة لم تطل في المدينة المنورة، توجهت إلى الحجاز كما مر، وقبل ذلك كتبت كتابا إلى أمير نجد عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (جلالة الملك عبد العزيز) أخبره فيه بما تم من نصر في المدينة المنورة وبانقضاء حكم الأتراك على البلاد، محييا إياه مخبرا له بأنني أمرت بالسفر حالا إلى الحجاز لتأديب الشريف خالد بن لؤي الذي خرج عن الطاعة، وأنه ليس من قصد سوى هذا، وأنني من الساعين لإيجاد الصداقة والولاء بين والدي وبينه، وفي هذا من الدلالة على حسن نيتي الشيء الكثير. وربما أنني لم أكن قد تعديت حد اللياقة في جملة من جمل كتابي في صدد التزامه هو للحركة الوهابية وتشجيع الأعراب كي يعتنقوا هذا المذهب، وخصومة الوالد المرحوم لهذه الدعوة الضالة وسعيه لإخمادها فعلا؛ فقلت إنني ساع لإيجاد المودة الأكيدة بينكما، وأن ليس للعرب من فائدة في التنافر والتناحر ، فأحدكم يسوق ليكونوا معه بتمراته والآخر بدريهماته، وسيحاسبكم الله على ذلك.
فهذا ما كان. ولما وصلنا إلى عشيرة بالجيش، وجدت المرحوم هناك وكان قد سر بما رأى من قوة ومعدات، وكنت عرضت على جلالته قبل وصولي بكتاب بأني أرى لزوم تأخير هذه الحركة زيادة للتبصر وتمحيص الأمر، فأجابني رحمه الله بجواب عرفت منه عزمه وهو قوله:
يجب عليك أن تتوجه إلى الخرما للقضاء على هذه الحركة الفسادية، وإن معك من القوة ما لو قاتلت بها كل العرب لتغلبت عليهم.
ولو علم جلالته حقيقة ما أعرف لكان من الرأي على غير هذا؛ فإن قتال العرب ليس كقتال الترك، لأن الأتراك أهل ثقل في الحركات وإبطاء، ولا وسائل نقلية لهم، فكنا نهاجمهم متى شئنا وننجو منهم متى خفنا، لسعة حركاتنا ولكوننا في بلادنا؛ ثم كما قلنا آنفا فإن الجند الأجير قد ملأ جيوبه من الأموال واستغنى فهو لا يريد الحرب، والجند الوهابي حريص على الجنة حسب عقيدته أنه إذا قتل دخلها. فأملت أنني أمنعه رحمه الله. ولما اختليت به وعرضت عليه فكري، غضب غضبا شديدا وقال: هذا رأي أم عصيان؟ فقلت: أعوذ بالله من المعصية والعصيان، ولكنها النصيحة، فإنني عالم بروحية الفريقين. فقال: إذن إن لم تفعل ما آمرك به فأنا متخل عن الملك. فاستعذت بالله وقلت: إنني فداء لكم ولرغبتكم وإنني ذاهب حسب إرادتكم، وكأني أنظر إلى مصارع القوم بعيني. وأضفت قائلا: سأصدع بالأمر وأسأل الله لجندكم الظفر ولنفسي الشهادة.
فعاد رحمه الله إلى مكة وتوجهت بالقوة التي معي إلى البديع - ماء عذب بحضن جبل البقوم - وبعثت إلى الأميرين عبد الله بن محمد وشاكر بن زيد بأن يتركا محلهما وينزلا بالبديع.
وبعد يوم ويوم نزلت البديع، وهو في منتصف الجبل يمينه القسم الجنوبي من حضن ويساره القسم الشمالي منه. وأحببت لقاء العدو به لأنه مركز منيع لا يؤتى إلا من وجه واحد، وإنني متى تحصنت به وبثثت السرايا وقطعت النخيل وأخذت المعاويد - وهي دواب للسقايا - اضطررت الأعداء إلى الجلاء أو التسليم ؛ وإنه إذا اجتمع الوهابيون وقصدوني به، فإن الدفاع يكون به أهون وأنا متحصن وعلى الماء، ومهاجمونا يمنعهم من البقاء الظمأ.
فأقمت، وأنا أبعث أتحقق عن حالة العدو، وإذا بأمر سام يرد ويأمرني فيه بالقدوم حالا؛ وفيه أنه إذا لم ننفذ ما أمرنا به فستكون التبعة علينا وأنه لا ترسل ذخيرة للعسكر بعد وصول الأمر بثمانية أيام. فعلمت الرغبة الأكيدة وخفت عاقبة مخالفة جلالته، حيث طاعته واجبة معنى ومادة؛ فقررت تنفيذ ما أمر. وبعد التشاور مع من أعتقد إخلاصه من الرؤساء رجحت الاستيلاء على مدينة تربة وحصنها المعروف برمادان، وهو الذي ضربت فيه القوة المصرية في حركة الوهابيين الأولين وأتي على آخرها، وقد كانت هي أيضا تحت تأثير الحركة الوهابية.
فتحركت بالجيش صباحا وأمسيت بالقرب منها، وفي اليوم الثاني ضربت وافتتحت، وبها تلقيت كتابا من الأمير عبد العزيز آل سعود ومآله يعاكس كتابه قبل أسبوع، وهو يقول:
بلغني أنك جئت تجر الأطواب والعساكر (هذه لغته في كتابه) تريدنا بنجد وحنا (يعني نحن) ما عندنا بنجد إلا الرمث نتظلل به حنا وعولاتنا (يعني نحن وعائلاتنا) فأنت أعلم أن أهل نجد كافة جاءوك يمشون مرتهم تسبق رجالهم (يعني المرأة منهم تسبق الرجل) من أقصاهم في الشمال وأدناهم في الجنوب، وأنا خرجت ونزلت الصخة (عد بنجد) مثل الفراع. وعليه فأنت انكف لديرتك (يعني انكفئ راجعا إلى الحجاز وأنا بالحجاز) فإن فعلت فأنا أمنع الإخوان، وإن لم تفعل فبصرك بنفسك.
فأجبته حالا:
إنني تلقيت كتابك، ولم أستغرب ما رأيت من تفاوت بين كتابك الأول والثاني؛ فالتهديدات في الكتاب الأخير لا تتناسب مع إيمان الصداقة والمحبة في كتابك الأول. وأما ما ذكرت من ناس جاءوا يقصدونني المرأة تسبق الرجل، فمن هم هؤلاء؟ فإن كانوا عتيبة فنحن وهم من عهد محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى اليوم وعهد ظئره حليمة السعدية، من ذلك العهد وهم جيراننا ورعايانا؛ فإن صدقت فيما قلت وأصابونا فلا فضل لك في ذلك فالغالب هم، وإن قدرنا الله عليهم وأصبناهم فوالله لا تجد عليهم ولا تحزن ولا ينقصونك. وأما طلبك مني الرجوع فهذا لا يليق بأن يكتب إلي به وأنا لا يقعقع لي بالشنان. فخابر إن شئت ولي الأمر بمكة، وأنا مستمر في عملي متوكل على الله.
كان كتابي في هذا المعنى، وبعثته إليه مع رسوله. ثم مضت أيام وإذا بجموع الوهابية تصل إلى الخرما وتجتازها إلينا، وقد أغارت خيلهم على سرحنا وتقابل الخيلان وقدر الله فطردوا. وبعد ليال ثلاث جاءوا بمجموعهم يجرون الحجر والشوك، وهم عشائر مطير الدويش ومن معه، وعشائر حرب أهل نجد، وعشائر عتيبة وعلى رأسها سلطان بن بجاد الملقب بسلطان الدين، وعشائر الدواسر، وعشائر قحطان، وكافة سبيع أهل نجد والسهول، وسبيع أهل الوديان. يزاحمون الخمسة والعشرين ألفا. وكانت القوى التي معي - من حيث قوة النار - لا بأس بها، وأما العدد فكان الجند النظامي خمسمائة والجند من أهل الحجاز والأرهاط المكتوبة ثمانمائة وخمسين. فصبحونا بالخرما وكانت الملحمة حيث استشهد من الأشراف ثلاثة وخمسون في صفنا، ولم ينج من النظاميين إلا ثلاثة ضباط هم الأميرالآي صبري بك والقائد إبراهيم الراوي والقائد حامد الوادي؛ والذي سلم من القوة العربية الحجازية مائة وخمسون رجلا. أما هم فلم يبلغوا منا ما أرادوا إلا بعد أن حصدوا حصدا. وعلى ما قيل لي إن عدة من دخل العدة من نسائهم في الأرطاوية - قرية - هن سبعمائة وخمسون امرأة، هذه في قرية واحدة. وقد بلغني أن راية أهل الرين لم يرجع منها سوى ثلاثة أنفس. وكان قتلاهم فوق السبعة آلاف، والحول والقوة بالله. وكانت نجاتي منهم معجزة من المعجزات.
أما العقيدة الوهابية فهي عقيدة أعرابية محضة، بحيث وجد محمد بن عبد الوهاب صاحب المذهب أن الأعراب هم التربة الخصبة لهذا الزرع. وعند خروجه مر بكثير من المدن لينشر دعواه فلم يفلح، فذهب إلى نجد وهنالك وجد الضالة المفقودة، فرمى الناس بالشرك واتهم المسلمين بذلك. والشرك هو مذهب من يجعل مع الله آلهة أخرى، كمن يعبد الشمس والقمر والكواكب مع الله، مثال قوم إبراهيم - وإن الآيات في القرآن الكريم توضح ذلك - ومثل دين العرب قبل الإسلام إذ كانوا يعبدون الأصنام ويقولون إنها آلهة تشفع لهم، كاللات والعزى ومنات وما أشبه ذلك.
فمحمد بن عبد الوهاب رمى أهل الملة المحمدية بهذا السهم، وقال إنهم - أي المسلمين - يقولون: يا رسول الله، ويقولون: يا رفاعي، ويقولون: يا عبد القادر الجيلاني؛ وهذا دعاء غير الله. أما قوله عن المسلمين إنهم يقولون يا رسول الله فقد صدق في ذلك؛ فالمسلمون يقولون يا رسول الله وينعتونه بصفة الرسالة؛ ولا رسول إلا من مرسل ليبلغ عن المرسل ما أمر بتبليغه فهل رأى محمد بن عبد الوهاب أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
أمرهم بغير التوحيد؟ من أين له ذلك وهو
صلى الله عليه وسلم
مبيد الشرك ومكسر الأصنام، والمسلمون معه؟ ألم ير ابن عبد الوهاب، أن في كتاب الله آية لا يمكن لمن يقرأها أن يظن بالمسلمين ما ظنه ابن عبد الوهاب وهو قوله تعالى:
ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون *ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون
هذا قول الله وهو بين أيدينا، فكيف بعد هذا إذا قلنا يا رسول الله نشرك، والقرآن نهانا عن الشرك وأمرنا أن نقتل المشركين؟!
ومن المحزن انتقاصهم حق الرسالة وحطهم من قدر النبوة، وتشبيهه
صلى الله عليه وسلم
بأفراد الناس متناسيا ما جاء في التوحيد من صفات الرسالة، والجائز لها والمستحيل عليها، وفي حقه نزلت هذه الآية:
لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا
أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون
فقد ميز الله عبده ورسوله عن البشر في دعائه أيضا بغير ما يدعو الناس بعضهم بعضا، وجعل دعاء الرسول كدعاء الناس بعضهم بعضا عنده محبطة للعمل. وهذه الآية الكريمة
إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا * والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا
ففي هذه الآية نرى أن الله قرن عذاب من يؤذي الرسول بعذاب من يتطاول عليه جل وعلا، وجعل عذاب المؤمنين افتراء وبهتانا.
فالمسلمون يعلمون حق الرسالة فلا يتجاوزونها ولا يتجاهلونها، والمسلمون يبرأون من الشرك والمشركين، ويبرأون من رمي أهل الملة بالشرك أو الكفر. وعلى محمد بن عبد الوهاب - ومن كان معه ومن تابعه على مذهبه إلى يوم القيامة - وزر كل دم سفك وكل دم يسفك تحت هذه الدعايات التي لا يراد بها إلا سياسة الدنيا والوصول إلى الأغراض النفسانية.
فهم هؤلاء اليوم إلى ما كانوا عليه من شرب الدخان، كما أنهم ليشربون الخمور، وقد أباحوا لغير المسلمين دخول الحرمين الشريفين. وهم يكرمون أهل الملل الأخرى إكرام التابع للمتبوع ويحتقرون الإسلام والمسلمين. وقد صدوا الناس عن المسجد الحرام، فلا يحج إلا من دفع المكس وأدى الخراج لهم.
وقد ضربت القضية العربية في مركز نهضتها بأيديهم، فمزقت أيدي سبا وذهبت وحدتها، فهي اليوم فوضى متقطعة مشتتة. وماذا عسى أن تفعل جامعة الأمم العربية بعد التفرقة وتأكيدها، إلا أن يبقى كل شيء غير موحد وبأيد عاجزة عن سياسة الأمم وإدارة الممالك، فتبقى على عجزها في خطر أثناء الليل وأثناء النهار بلا حول ولا قوة.
ولو علمت وعلم من معي أن نتيجة الثورة العربية والنهضة القومية هي هذه، لتبرأنا منها وممن قال بها. فالبلاد المقدسة يحكمها اليوم بيت نشأ على النهب والسلب والغزوات والغارات وسفك الدماء، يحوط به أناس من الشام ومصر والعراق ممن ليسوا في العير ولا في النفير، كيوسف ياسين - وهو نصيري معروف - وفؤاد حمزة - وهو درزي غير خفي - وحافظ وهبه - وهو تاجر كان يبيع بالكويت. هؤلاء الساسة السادة، وبنهضتنا حصلوا على ما حصلوا عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. والله يعلم أنا لم نرد إلا خير الأمة العربية فيما عملنا واجتهدنا.
أما ما فعله هؤلاء في بلاد الله الحرام، فهو السيطرة والتحقير لأهل الحجاز وابتزاز الأموال والمكوس من الحجاج والمجاورين، للتبذير والإنفاق في كل محرم لا يحل. وفوق هذا فإن امتيازات النفط التي منحت بغير تفكير، جعلت الباب الشرقي للبلاد العربية مفتوحا على مصراعيه، وأنه كرأس جسر فيه من الأخطار على الأخلاق والدين ما يتجاوز أي خطر عسكري. وكل هذا وقع بدون رأي أرباب الحل والعقد، وبدون رأي أي مجلس تشريعي أو أي مجلس عمومي، ولا لوم إلا على العرب.
بعد تربة والخرما
ولقد عدت بعد الهزيمة التي وقعت، وبعد القتل المريع الذي أردى الألوف وأنا أرى ما سينجم من استفحال أمر هؤلاء على بلادنا، كما وقع. ولقد نصحت لوالدي في أن يترك أمر شرقي الحجاز إلى فرصة مناسبة، ريثما يستعد بجند نظامي قادر على كسر شوكة أهل البدع وإيقافهم عند حدهم، فلم أفلح في نصائحي، وكان مما أراده الله.
كانت الفترة بين واقعة تربة وبين قدومي إلى شرق الأردن، فترة اضطراب وقلق على الوطن ومصيره، وعلى النهضة وأتعابنا فيها، وعلى الوالد نفسه. فلقد وجدته بعد رجوعي إلى المركز - أي بعد واقعة تربة وفتح المدينة - على غير علمي بجلالته، وكان مرضه الذي توفاه الله به ابتدأه من ذلك الحين، فكان كثير الصلف، كثير النسيان، كثير التردد، قليل الاعتماد على من كان يعتمد عليه. وللمسألة خطورتها.
مثلا كان يظن جلالته أن في توقيف بيع مواد الإعاشة على القبائل أو تحديدها الزاجر لهم عن دخولهم في مذهب الوهابيين، فكان يمنعهم عن أخذ ما يريدون، مع أن للبدو مواسم يبيعون فيها أغنامهم وإبلهم ويبتاعون لوازمهم السنوية حال بيع ما عندهم، ويعودون بهذه اللوازم على إبلهم، فإذا لم يأخذ الرجل منهم ما يلزمه دفعة واحدة، اضطر إلى أن يأتي مرارا، وفي هذا التعب العظيم عليه وعلى وسائط النقل التي هي الجمال، على بعد المسافات. وكان إذا جاءه أي خبر من أي ناحية وصادف هذا الخبر ظنونه، أخذ بها وعمل بموجبها، ولهذا حف به الكثير من أرباب الفساد، فصارت لهم كلمة، والغاية كان لله مراده.
فحججت كسير القلب، وقد أنعم علي بقبضة من سيف مرصع كان لوالده المرحوم ، وأحب أن يمنحني هذا السيف بعد الظفر في تربة، ولم تمنعه الهزيمة عن تنفيذ هذه الرغبة. ولقد طلبت إجراء التحقيقات اللازمة في الهزيمة وأسبابها فلم يوافق.
وبعد انتهاء الحج، أمرني بأن أتوجه بالقوات التي جاءت من المدينة المنورة بمعية الأخ الملك علي، إلى الخرما، وأنا لا أثق بهذه القوة بعد أن رأيت ما حل بالجيش الشرقي الذي نشأ على يدي، وبعد علمي بأن إنكلترا سوف لا تصد ابن سعود مرة أخرى لو قصد الحجاز. فاعتذرت فغضب، رحمة الله عليه، وأسمعني ما لم آلف منه من كلمات تقريعية شديدة - بحضرة الملك علي - فتحملت وسكت.
ثم عزم الملك علي على تبديل الهواء بالطائف، وخرج معه مجموع ما جاء به من المدينة المنورة من قوات، واستأذن لي بالخروج معه فأذن رحمه الله فتوجهت. ولما وصلنا إلى ذات عرق تشرفنا بأمر ملكي أنا والمرحوم الأخ علي، وإذا بمنطوق هذا الأمر لزوم توجه أحدنا وهو علي بخاصته إلى الطائف، ولزوم توجهي بالقوات إلى الخرما. فكتبت معتذرا ومصرا بألا أفعل، وأنني أنصح بترك أي تقدم على نجد قبل الاستعداد الذي يضمن النتيجة، وبعد بناء قوات احتياطية لإمداد القوات المحاربة عند الاقتضاء. وأضفت على هذا قولي: إنني أذهب كجندي بقيادة أي شخص كان، إذ أصر ولي الأمر على ألا أعود حيا، ولكن لا أتحمل مسؤولية القيادة ثم أغلب وأهزم، فأجر على الحجاز وحوش نجد الكاسرة، وليس في الحجاز أي قوة احتياطية.
فغضب رحمه الله غضبا شديدا.
وبعد مدة طلب الملك علي إلى مكة، وبقيت بالطائف، فأمرت بتشييد سور الطائف وتشييد بروجه وبناء القلعة المعروفة؛ وتم كل ذلك على نفقتي، وأصبح الطائف حصنا حصينا لا يمكن للقوات البدوية التغلب عليه، ولم ينقصه إلا الحامية والأرزاق الكافية لها ولأهل الطائف فيما إذا حوصر.
اللنبي ... كاترو ...
وبعد أن أتممت هذا البناء، كانت زيارة اللورد اللنبي لجلالته بجدة، فطلبت بهذه المناسبة ووصلت إلى مكة المكرمة، وعلامات عدم الرضا تلوح على محيا جلالته نحوي. فسافرنا إلى جدة، وكانت زيارة اللورد ، وكانت المباحثات غير المنتجة سوى ازدياد عدم التفاهم، وكان الموضوع الشام وفلسطين والعراق. ثم كان أن طلب الملك فيصل بعض البطاريات احتياطا لديه للاستعداد ضد فرنسا، فأرسلت أربع بطاريات صحراء مدافع ميدان وأربعة مدافع من تلك التي يسميها الأتراك «ذات القدرة» وهي مدافع نمسوية سريعة الطلقات تجمع بين عمل مدفعية الجبل ومدفعية الصحراء.
وزارني ذات ليلة في ساعة متأخرة من الليل الكومندان (كاترو) - الجنرال كاترو اليوم - وكان يمثل جمهورية فرنسا بجدة، فسألني عن سبب إرسال هذه البطاريات إلى الشام - ولم يكن لدي أي خبر عنها - فقلت لا علم لي بذلك. فقال: قد وقع الأمر فعلا، فقلت: وماذا عليكم؟ إن الجيش الإنكليزي على وشك الانسحاب، وإنا سنواجه تركيا على انفراد، وربما كانت هذه لهذه الناحية. فاقتنع بأن لا علم لي أنا بذلك وقال: يجب عليكم أن تستندوا بالشام على فرنسا وألا تظنوا أن هنالك غير فرنسا. فقلت: نحن لا نحب أن نكلف فرنسا فيما يتعلق بوطننا، وإنا لم ندع للاستقلال لنقع من يد دولة بيد دولة. ورأيت في وجهه علامات العداء فقال: إن لفرنسا من الحقوق القديمة ما لا ينبغي تناسيه. فقلت: ربما كانت هذه الدعوة رائجة أيام تركيا، أما اليوم فالبلاد للعرب وهم أهلها، ومن الممكن إقامة الوداد على التساوي بيننا وبينكم. والآن نحن بليل وسأقابلك غدا في الساعة العاشرة، بعد أن أسأل عما ذكرت من أمر المدافع المطلوبة من الشام.
ولما أصبحت قابلت جلالة الملك علي، وهو الأمير بالمدينة المنورة والقائد العام بها، فعرضت عليه الأمر، فقال وقع ذلك، فقلت: ولم لا تخبروني عنه؟ فقال: هذه مسائل داخلية صرفة، والجيش الشمالي يحتاج إلى مواد مكننة، وما المقصود من هذا إلا الاستعداد للطوارئ، ويمكنك أن تؤمنه عند المقابلة، بأن الحكومة الهاشمية لا تؤمل في أي جزء من أجزائها إلا الوفاء من الدول الصديقة، وإذا جد منه شيء فلا تجب إجابة صريحة ولكن أرجئ الأمر لرأي مجلس الوزراء. ثم عرضت الأمر بعد ساعة على جلالة المرحوم فقال: وكيف علم؟ فقلت: بعثات عسكرية وضباط ارتباط في كل يوم يتلصصون إلى الدوائر، ولهم عيون أيضا في محطة السكة الحديدية بالمدينة المنورة. فقال جلالته: هذا صحيح، فافعل كما أشار إليك أخوك.
فرآني كاترو في اليوم الثاني، وكان كلامي معه في دائرة التعليمات التي أخذتها من جلالة الملك علي، فأظهر اقتناعه وخرج. وكاترو هذا رجل ذكي، على شيء كثير من الأدب والثقافة، وهو ذو مكر شديد. وبعد رحيل اللنبي - بدون ما فائدة - إلى مصر، أمرت بأن أعيد له الزيارة فزرته بمصر، وكانت حين ذاك أعلنت الملكية بسوريا، بالرغم من النصائح التي أسداها الوالد المرحوم في تأخير هذا الأمر الخطير إلى ما بعد عقد الصلح وتنازل تركيا عن حقها في هذه الأقطار لأهلها العرب.
وكنت أحمل أمرا بتعييني رئيس الوفد العربي في مجلس الصلح. فقال لي اللورد اللنبي: إن رئيس الوفد هو الأمير فيصل. فقلت له: هو الآن ملك سوريا. فأجابني: إن الحلفاء لم يعترفوا بهذا. فقلت له: إن الذي ولاه على هذه الرئاسة في مجلس الصلح قد اعتبر الأمر الواقع وعين رئيسا آخر هو أنا. فقال: هذا الأمر لا يقبله الحلفاء. فقلت: وما للحلفاء وتعيين موظف في وظيفته. فقال: هو ما سمعت.
وكان الموقف من أسوأ ما رأيت. فعرضت الأمر إلى مكة برقيا، ثم بعدها رجعت إلى الحجاز. وقد حدث هناك ما أوجب استقالتي من وزارة الخارجية.
القدوم إلى شرقي الأردن
ثم حدثت حوادث الشام وخرق فرنسا حرمة الحق والعهد وهجومها على سوريا والكارثة التي حلت بخروج الملك فيصل منها، ثم ما حدث على الوزراء السوريين الموالين لفرنسا في درعا وطلب أهل الإخلاص من أنصار القضية العربية في سوريا إرسال من ينوب عن الملك فيصل من الشخصيات الملكية في البيت الهاشمي.
وقد كنت حين ذاك لا أشتغل بوظيفة، فاستأذنت والدي وطلبت إليه أن يحملني تبعات هذه الحركة شخصيا، وألا تكون الوظيفة كمأمورية حجازية. فأذن لي وتوجهت من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، ومنها بالخط الحديدي إلى معان فوصلناها بمشقة شديدة - لخراب الخط - بعد شهر. وكان الوصول بتاريخ 11 ربيع الأول سنة 1339 الموافق 21 تشرين الثاني سنة 1920.
وقوبلت بحماس من أهل معان وباديتها. ووجدت هناك الأميرالآي غالب بك الشعلان (غالب باشا الشعلان) وكان هذا يقود فرقة الهجانة العثمانية في المدينة المنورة، ولطالما اصطدمت قواته بالمفارز العربية الهاشمية؛ ثم ترك المدينة إلى تركيا وعاد وثبت إخلاصه، وترقى إلى أن صار في رتبة أمير لواء في الجيش العربي رحمه الله. ووجدت هناك الرئيس عبد القادر الجندي (عبد القادر باشا الجندي الآن) والرئيس محمد علي بك العجلوني، والمرحوم خلف بك التل، وأحمد التل وغيرهم.
وفي 25 ربيع الأول سنة 1339 أصدرت المنشور الآتي:
إلى كافة إخواننا السوريين
سلام
لا أجد في نفسي أدنى ريب أو أقل شبهة، في أن أبناء الوطن السوري سيتلقون بياناتنا التالية بقلوب ملؤها التصديق والإخلاص. فليعلم أبناء سوريا أن ما أصابهم من الضياع المحزن، من اعتداء رجال الاستعمار الفرنسي على وطنهم ومبادرتهم بسرعة فظيعة غريبة لهدم عرشهم في أول سعيهم لتشكيل حكومتهم التي وضعت أساسها على سياسة الولاء والصداقة لكل الأمم على الإطلاق، قد أثر على حواس كل عربي على وجه الأرض. وفي الوقت نفسه نعلم علما يقينا أن أبناء سوريا الكرام هم من جملة المفاخر العربية وركن من أركان الجامعة القحطانية والعدنانية، لا يرضون بالذل ولا ينقادون إلى من جاء لإهانتهم في عقر دارهم، وأنهم لا يعذرون أبناء جنسهم إذا منعوا عنهم يد المعاونة والمدد في مثل هذه الآونة الخطيرة.
كل عربي يعلم أنكم يا أبناء سوريا تستنصرون وتستثيرون حميته، ليأتيكم مسرعا ملبيا مقبلا غير مدبر. ومن حيث قد توالت علينا الدعوات وصمت آذاننا الصرخات، فها أنا قد أتيت مع أول من لباكم نشارككم في شرف دفاعكم، لطرد المعتدين عن أوطانكم بقلوب ذات حمية وسيوف عدنانية هاشمية.
ليعلم من أراد إهانتكم وابتزاز أموالكم وإهانة علمكم واستصغار كبرائكم، أن العرب كالجسم الواحد إذا شكا طرف منه اشتكى كل الجسم. وأن الله سبحانه وتعالى لم يترك الأمة سدى بداد متفرقة مفتونة بالباطل مغرورة بالكذب وواهن القول.
ليعلم أبناء سوريا أن هؤلاء المعتدين قد عدوكم من جملة من أدخلوه تحت عار استعمارهم ووضعوهم في مصاف الزنوج والبرابرة، وظنوا أنكم لستم من ذوي الغيرات وأصحاب الحميات. كيف ترضون بأن تكون العاصمة الأموية مستعمرة فرنسية؟! إن رضيتم بذلك فالجزيرة لا ترضى، وستأتيكم غضبى، وإن غايتنا الوحيدة هي، كما يعلم الله، نصرتكم وإجلاء المعتدين عنكم.
وها أنا ذا أقول، ولا حرج، بأنني قد قبلت تجديد بيعة مليككم فيصل الأول عن الأكثرية الغالبة التي جددت تلك البيعة على يدي، وإنني سأعود إن أبقاني الله حيا إلى وطني يوم نزوح عدوكم من بلادكم، وعلي هذا اليمين بالشرف. وأمركم حينئذ لكم وبلادكم بين يديكم، متعكم الله فيها بالعز السؤدد والرفاهية والمجد.
أتينا لبذل المهج دونكم، لا لتخريب البلاد كما يفترى علينا. وكفانا دليلا صدق بلائنا في الله والجنسية والوطن، وتعريض النفس للأخطار والمحن؛ وما وضعه عليكم ذلك المستعمر من الضمانات المثقلة إثر اعتدائه عليكم لدليل لا يحتاج إلى دليل.
أتاكم ذلك المستعمر ليسلبكم النعم الثلاث (الأعيان والحرية والدكتورية).
أتاكم ليسترقكم فتكونوا غير أحرار.
أتاكم ذلك المستعمر ليأخذ منكم أسلحتكم فتكونوا غير ذكور.
أتاكم ليخيفكم بقوته وينسيكم أن الله بالمرصاد فتكونوا غير مؤمنين.
لذا ندعوكم للحياة والاجتماع والذب عن الوطن، وعدم الإصغاء لكل دسيسة تفل عزمكم وتبدد حميتكم.
وأستعين الله لي ولكم فيما نحن بصدده.
ثم كتبت للنواحي بأنني نائب ملك سوريا، ودعوت أعضاء المؤتمر السوري، للحضور إلى معان، وكذلك كل ضباط الجيش السوري ومجندوه طلبتهم للحضور إلى معان للقيام بالواجب. وتلقيت أجوبة من مشايخ البدو في الشمال غير مشجعة، وكذلك وردتني أجوبة من بعض كبار الضباط العرب يشترطون نقل حقوقهم التقاعدية على الحكومة الهاشمية بالحجاز فيما إذا أخفقت الحركات ضد فرنسا في سوريا، وقالوا إنه إذا قبلت الحكومة الهاشمية هذا يحضرون وإنه إذا لم تقبل الحكومة في الحجاز هذا الرجاء فإن عذرهم قد وضح.
ثم التحق بي إلى معان من الذوات المعروفين: عوني بك عبد الهادي، وكامل بك البديري، وذوات غيرهم يفدون ويرجعون. ولقد طلب منا المرحوم كامل بك البديري ثمانين ألف جنيه ليؤسس أقلام استخبارات ودعاية، وكذلك طلب نبيه العظمة مائة وعشرين ألف جنيه للغرض نفسه؛ بالطبع فإنني كنت لا أملك شيئا مما يطلبون، وكان مركزي المالي في غاية الصعوبة.
أما عامة الشعب في سوريا فكانوا على حماس تام. ولقد لاح لي من هذا كله أن الحركة إن لم تكن مؤيدة بالمال، فإنها لا تقوم لها قائمة، وكان الظن مني أن الوطنية الحقة ستسوق الناس إلى دفع ما يملكون لحفظ أوطانهم وعزتهم القومية.
وكان موقفي بعيدا عن التفاؤل الحسن، ولكن كان الأمر على خلاف ذلك في شرقي الأردن، فقد هرع الناس إلي يدعونني إلى عمان فكنت أجيبهم بأنني فاعل إن شاء الله. وكان البرد في ذلك العام في غاية الشدة فأصبت باليرقان.
أما المخابرة بيننا وبين الحجاز، فكانت تجري بواسطة المخابرات اللاسلكية، وأنه ذات ليلة عندما كانت محطة لاسلكي معان تطلب جدة، إذا بها تأخذ جوابا على الموجة نفسها من ديار بكر، فحيت هذه تلك وتعارفتا وجعلتا الساعة العاشرة مساء موعدا للتحية بينهما. فأخبرني بذلك غالب بك الشعلان، وفي الليلة التالية تلقيت من صديق لي يسمى عبد الله بك، وكان نائبا عثمانيا عن ديار بكر يعرفني وأنا نائب عن مكة، فحياني ببرقية خاصة. وكان الناس هناك يظنون أن ديار بكر ستلحق بالعراق، وكنت المسمى لملك العراق والمبايع له حين ذاك، فشكرته. وقال لي غالب بك الشعلان إنه يعرف مصطفى كمال باشا شخصيا يوم كانا جميعا ضابطين في طابور عثماني بيافا، وإنه يستأذن في تحيته وإبلاغه سلامي، وتكليفه بأن تتعاون الحركة العربية مع الحركة التركية لنجاة الجهتين، فأذنت له ففعل؛ وقد تلقى الجواب من مصطفى كمال باشا بالشكر والامتنان وأن التعليمات اللازمة قد أعطيت إلى كازم قره بكر باشا المتوجه إلى الجنوب مع مجرى الفرات، وأن رموزا جفرية للمخابرات سترسل بصورة خاصة.
وبعد هذا بليال علمت أن الأخ فيصل - رحمه الله - طلب إلى لندن، وقد كان حين ذاك في كوما بإيطاليا. ثم تلقيت برقية من الوالد المرحوم يخبرني بأن حكومة فلسطين تشكو من امتناع الأهلين في شرق الأردن من دفع الضرائب، ويأمرني بألا أربك الحكومات المحلية فيما لها وعليها.
ثم تلقيت برقية من الأخ فيصل من لندن يقول لي فيها إنه قد قابل جلالة الملك جورج الخامس وإنه ذكرني له وقال إنه يعرف الكثير عني، وقال إن الملك وعد - وبالطبع كان الوعد حسب الأصول بموجب رضا الحكومة البريطانية حكومة جلالته - بأن القضية العربية ستوضع على بساط البحث مجددة، وأنه لا ينبغي العمل على ما يهيج الفرنسيين لذلك. وبعد هذا الشرح رجاني الأخ بلزوم الاعتدال وأنه سيوافيني بما يجد.
وقد حضر أخيرا صبحي بك الخضرا ومعه رجال من حزب الاستقلال عملوا على تثبيط الهمم وألا تكون حركات ضد الإفرنج، فلم تكن له هناك قوة على ذلك. وأجبت الأخ بأنني عامل بما يقتضيه الظرف، غير مقيد بأي وعد، وأنه إذا وفق في عمله وعاد ظافرا فسوف لا يجد من الأوطان إلا الرضا والشكران. وقد تم الاستعداد بعد ذلك لدخول شرق الأردن.
ومن ظريف ما وقع وأنا بمعان، ذلك الكتاب الذي تلقيته من مظهر بك رسلان متصرف السلط - مظهر باشا رسلان رئيس الوزراء بشرق الأردن مرة، ووزير التموين أخيرا بسوريا وهو من أعيان حمص - يقول لي فيه:
إنه بلغ الحكومة الوطنية عزمكم على زيارة شرق الأردن، فإن كانت هذه الزيارة لمجرد السياحة فإن البلاد ستقابلكم بالترحيب، وإن كانت لأغراض سياسية فالحكومة ستتخذ كل الأسباب المانعة لزيارتكم.
فأجبته:
إنني سأزور شرقي الأردن زيارة احتلالية، وأنا عينت من الحكومة العربية الملكية بسوريا، وإنني أنوب الآن عن جلالة الملك فيصل ويجب أن تعلم ذلك، وإنه لمن واجبك تلقي الأوامر من معان وإلا فسيعين غيرك محلك.
فركب القطار وزارني بمعان واعتذر، وصار أخيرا من أصدق رجالنا في شرقي الأردن.
ثم إنه وقع أن علقت نشرات بعمان والكرك جاء فيها:
إنه بلغ الحكومة البريطانية ورود شرذمة من الحجاز لقتال فرنسا بسوريا، وإن الحكومة البريطانية غير راضية عن هذه الحركة. فالحكومة البريطانية تحتقر كل شخص يلتحق بهذه الشرذمة وتحذر الناس من الالتحاق بها.
وفي يوم الاثنين، في 20 جمادى الثانية 1339، غادرت معان في القطار إلى عمان، وقبل تحرك القطار من محطة معان، ألقيت على مودعي الكلمة التالية:
إنني الآن مودعكم، وأود ألا أرى بينكم من يعتزي إلى إقليمه الجغرافي، بل أحب أن أرى كلا منكم ينتسب إلى تلك الجزيرة التي نشأنا فيها وخرجنا منها؛ والبلاد العربية كافة هي بلاد كل عربي.
ومن أعجب الحوادث في تلك الأثناء، مقابلة الشيخ يوسف ياسين سكرتير جلالة الملك عبد العزيز لنا في الزيزاء - محطة في الطريق من معان إلى عمان - وقوله لنا:
أرجوكم أن تعودوا إلى معان، فإن المعتدين البريطان في شرقي الأردن قد انسحبوا إلى فلسطين، وأخلوا الطريق لفرنسا كي تخرجكم إن دخلتم.
وكانت يده ترتجف وهو متعلق بشباك عربة القطار، فقلت له: لا بأس عليك ولا خوف علينا. ثم دفعت يده من ملتزمها فانحط إلى الأرض.
وفي صباح الأربعاء 22 جمادى الثانية 1339 الموافق 2 آذار 1921 - بعد أن أمضينا ليلة بالزيزاء - تحرك بنا القطار إلى عمان فوصلناها قبيل ظهر اليوم نفسه.
وقد وصل إلي بعمان كل شيوخ الطفيلة والكرك وشيوخ البادية؛ فمن الحويطات حمد بن جازي ومن معه، ومن شيوخ الشمال مثقال باشا الفايز وكافة الصخور وكافة أهل الشمال.
وفي اليوم التالي من الوصول إلى عمان - أي يوم الخميس - ألقيت خطابا جاء فيه:
سروركم بنا وترحيبكم لنا واجتماعكم علينا أمر لا يستغرب. أنتم لنا ونحن لكم. وإنني لم أغفل كلمة مما جاء به خطباؤكم. ووطنيتكم أمر لا يخفى على الكون كله. وضالتكم المنشودة هي عبارة عن حقكم الذي تطلبونه. ويمكنني أن أقول بأن الله لا يترككم هكذا، وإني أقول لكم بأنه إذا جاء الوقت لاستعمال ما تستعمله الأمم من القوة، عند ذلك تثبتون بأنكم وجدتم ضعفاء، ولكن لا تموتوا بلا شرف.
فلا أريد منكم إلا السمع والطاعة. وما جاء بي إلا حميتي وما تحمله والدي من العبء الثقيل. ولو كان لي سبعون نفسا بذلتها في سبيل الأمة، لما عددت نفسي أني فعلت شيئا.
كونوا على ثقة بأننا نبذل الأنفس والأموال لأجل الوطن ...
وقد قابلني في مقدمة الناس مستر كركبرايد ببزته العسكرية، وكان يومئذ يمثل بريطانيا بعمان، فحياني - وهو كركبرايد الصغير، الأخ الأصغر لصديقي المعتمد الحاضر - فكان يوما مشهودا.
وبعد الدخول جرى احتلال المنطقة الأردنية بكاملها. وكانت تصدر الأوامر من عمان. وكان الناس في فترة لا يزور أحد أحدا، فالبلقاء للبلقاء وعجلون ولواؤها لعجلون وأهله، والكرك والطفيلة كذلك. فجمعنا كل هذه الأقطار، ووحدناها وزال الخلاف بينها.
ثم تلقيت برقية من جلالة الوالد يقول فيها:
إن وزير المستعمرات البريطانية المستر تشرشل موجود بالقدس، وربما طلب زيارة وادي موسى أو رغب في أن يدعوك إلى القدس ليراك، فإذا كان أحد الشقين من رغباته فأتم ذلك بكل إكرام ورعاية.
إلى القدس لمقابلة مستر تشرشل
ثم تلقيت مذكرة من السر هربرت صمويل، المندوب السامي البريطاني بالقدس، يدعوني فيها لزيارة القدس ومقابلة وزير المستعمرات، فأجبت الدعوة، وتعين اليوم.
ولما وصلت إلى السلط، وجدت هناك الكولونيل لورنس ومعه أحد قواد قوة الطيران البريطانية، لمقابلتي والذهاب معي إلى القدس. وتعشيا معي بحفل كبير في بيت الوجيه يوسف السكر، وبالليل أخبرني بملخص ما يريد قوله وزير المستعمرات لي من عدم إمكان رجوع الملك فيصل إلى سوريا، إلى غير ذلك مما سأثبته في المتن بعد هذا.
وتوجهنا في اليوم التالي إلى القدس، وتغدينا بالطريق عند المدفع التركي المقذوف في نهير شعيب. وكان معي في سيارتي لورنس، وكانت سيارة عسكرية بريطانية يقودها جاويش بريطاني. وكان معي في الركب كل رجالات سوريا وفلسطين. ورأيت بالنزل في أريحا جل أعيان فلسطين وعلى رأسهم موسى كاظم باشا الحسيني رحمه الله، من علماء وأعيان ومحامين ورؤساء روحيين. فكانت خطب حماسية وأجوبة مناسبة. ثم استأنفنا السير في قطار طويل من السيارات.
ولما أقبلنا على العيزرية، صادفتنا دراجة آلية، فدارت وقال سائقها لقائد السيارة - وقد حيا لورنس - يجب ألا تقف عن المستقبلين بالعيزرية، وأعلمني بذلك لورنس، فقلت له: ليس من اللباقة ألا نقف. فقال: لا أستطيع الأمر على سيرجنت ، فمرت بنا السيارة مسرعة وكنت واقفا فيها أحيي الجموع، فامتعض الناس وحق لهم أن يمتعضوا، ولكن ما كان في الإمكان إلا ما حصل أو أن يقذف الإنسان بنفسه؛ واعتقدت أن القوم حينما يعرفون حقيقة الحال سيعذرونني.
فوصلنا إلى دار الحكومة - وكانت بالعمارة الألمانية التي في جبل الطور - وهناك ثلة عسكرية معها علمها وموسيقاها فحيتني وفتشتها. وكان بالباب السر هربرت صمويل المندوب السامي فقابلني هاشا وبمعيتي غالب بك الشعلان، فدخلنا إلى البهو ووجدنا أن الشاي قد أحضرت موائده وعائلة المندوب هنالك. وبعد التعارف وتناول المرطبات دللت على حجرتي في الجناح الخاص، فوجدت هناك حقائبي وهناك أيضا محمد بك العسبلي المرافق الخاص.
أما السر هربرت صمويل فلا بد لي هنا من ذكر دماثة أخلاقه وجم أدبه وكماله، فهو سياسي محترم كامل. ولقد كان له ذلك الموقف الذي لا أنساه له، وهو موقفه عندما بلغني أن المطلوب من الوالد المرحوم ترك العقبة والسفر إلى قبرص يوم كارثة الوهابيين، بذلك اللسان الرقيق والتأثر باد عليه - وكان معه الكولونيل كوكس المعتمد السابق - وكانت الدموع ملء عينيه فقال: أرجوك أن تخبرني بكل ما يجيش به صدرك فإنني مقدر الموقف. فقلت: لا بأس عليك وإنني شاكر لك عواطفك، وهذه الدنيا كثيرة المحن وسنصبر ونحتسب. ثم إنه عند انقضاء مدته ورجوعه إلى إنكلترا قصد السفر إلى قبرص لزيارة الوالد المرحوم الذي عرفه بعمان يوم أن زار شرقي الأردن. وهذه أمور يجب علي أن أذكرها له بكل امتنان، والمنة لله.
ثم لما حان وقت العشاء، اجتمع الكل في البهو الكبير، وفيه المستر ونستون تشرشل؛ فحصل التعارف وجلسنا على المائدة، فكان هو الثاني عن يمين المندوب السامي وكنت الأول عن يسار الليدي صمويل. وفي أثناء الطعام قال لي وزير المستعمرات مستر تشرشل: ماذا وقع «في الشجرة»؟ لقد عصفت هناك عاصفة عصابة فاعتدت وقتلت، ولقد تلقيت من الحكومة برقيات تشير إلى هذا الحادث الذي يعزى وقوعه إلى تأثيرك؛ ولكن لي منكبان ضخمان يحتملان عنك احتجاج الحكومة. فقلت: أشكر فخامتك - أقول ذلك وأنا أبتسم - على أنه لم يبلغني خبر هذا الحادث إلا من فخامتك الآن، وإنني لم أتعهد لأحد بأي تعهد في معناه منع الناس عن الدفاع عن أوطانهم. والتفت إلي غالب بك الشعلان فسألته، فقام عن مقعده وضرب رجلا برجل، فحياني تحية عسكرية وقال: لعلها حركة لصوص غير مقصودة، أما الهيئات الوطنية فهي في انتظار أوامرك فيما ستفعل، وبالطبع ترجمت هذه العبارات على من بالمائدة، وكان الوزير قد تعجب من غالب بك.
صاحب المذكرات وإلى يمينه الليدي صمويل، وإلى يساره هربرت صمويل، فالمستر تشرشل وعقيلته، فالسير وندهام ديدس (في دار الحكومة بالقدس سنة 1921).
ثم انتهى العشاء وأديرت السجاير والسيجار على من يدخن. وكنت حين ذاك أتنشق، فأخرجت علبة سعوطي، وهي علبة ذهبية منمقة بالميناء الأخضر وعلى سطحها أشعة شمس غاربة في شفق أحمر غاية في الظرف، فطلب إلي العلبة فقدمتها له وبها نشوق إفرنجي يسمى بالتركية (رنده)، فتناول منه ضمة فعطس وضحك. ثم قمنا عن المائدة على وعد الاجتماع به صباح الغد في الساعة التاسعة والنصف.
كانت المقابلة كما ذكر، وفي الساعة المعينة، واحتوى المجلس من الإنكليز وزير المستعمرات مستر ونستون تشرشل، والمندوب السامي السر هربرت صمويل، والسكرتير العام لفلسطين سر وندهام ديدس، والكولونيل لورنس، وكنت بقيد الجلسة، وكان من الجانب العربي أنا وعوني بك عبد الهادي، ففتح الحديث وزير المستعمرات بذكر المقاصد الطيبة التي جمعت بريطانيا والعرب في الحرب وبالآمال المنوطة بتلك الروح وبذكر التعاون الذي حصل في الحرب، ثم ذكر جهود بريطانيا في الحيلولة بين حدوث ما حدث بين فرنسا والعرب، ثم قال: لذلك ولأن إنكلترا محايدة في القضية بين العرب والفرنسيين - وهم حلفاؤها - فإنها تنصح - وهو يبلغ هذه النصيحة إلي - بلزوم انصراف الأمير فيصل بن الحسين عن سوريا وسفره إلى العراق ليرشح نفسه لملك العراق. وأن الحكومة الإنكليزية تعلم أن فرنسا لا تشتغل بوجه من الوجوه مع الملك فيصل أو الأمير زيد، وأنها لا تريد أن ترى على عرش العراق إلا الشخص الذي تعتمد عليه؛ وأن طلاب عرش العراق كثيرون منهم ابن النقيب، ومنهم ابن سعود، وخزعل خان، وأنه يجب علي أن أساعد على هذا الغرض وأؤثر على والدي أن يقبل به، وأن أؤثر على العراق أن يرضوا بالأمير فيصل، وأن أبقى أنا هنا في شرق الأردن على تفاهم معهم، فأسير بالناس سيرة تبتعد عن تحدي الفرنسيين؛ وأنه إذا تم هذا فإنه يؤمل أن تعيد فرنسا النظر في الأمر، وبالنتيجة فإنه يعتقد الاستطاعة بعد ستة أشهر في أن يهنينا برجوع الشام إلى أيدينا.
صاحب المذكرات وإلى يمينه الكولونيل لورنس، وإلى يساره ماريشال الجو سالموند فالسير وندهام ديدس (في دار الحكمة بالقدس سنة 1921).
وأما فيما يخص فلسطين، فنوه بالوعد المنصوب المنسوب إلى بلفور، وقال إنه لا يستطيع البحث في هذا الشأن لأن الأمر سيترك للمندوب السامي. فقلت: إن كنتم ترغبون ترشيح الأمير فيصل لعرش العراق لأنكم تعتمدونه، فأنا يسرني تكييف ملك العراق وأن أخي كفء لذلك، وسأحض والدي على أن يسير على هذا المنهج. وأما أهل العراق فلا أستطيع أن أكتب إليهم ما يؤيد مرغوبهم لأنني لم أكاتب أحدا منهم إلى الآن. فأصر، وثبت أنا على رأيي.
ثم قال: إنكم إن لم تفعلوا هذا ستضيعون كل شيء، وإنه في إمكان ابن سعود أن يصل إلى مكة في ثلاثة أيام، وإن إنكلترا عملت ما تستطيع، فقلت له: أما فيما يخص بابن سعود وفيما ذكرتموه من إمكان دخوله مكة في ثلاثة أيام فذلك ممكن ومن الممكن ألا يتمكن ... واذا أرادت العرب استبدال بيت ببيت فذلك من حق العرب. ولكن ما هو مركز ابن سعود اليوم في نظر بريطانيا؟ هل هو ملك أو سلطان أو شيخ عشيرة أو ماذا؟! فنهض عن كرسيه إلى الشباك، ووضع يده اليسرى على خاصرته، ثم التفت إلى لورنس وقال له: قل للأمير إن هذا السؤال لا أستطيع الرد عليه إلى أن أسأل الوزارة.
ثم قلت له: أما فيما ينبغي أن أعمله هنا فإنني أوافق على وجاهة الرأي، ولكن لا أستطيع قبوله حتى أعرضه على زعماء البلاد وأحزابهم ، وهم هنا معي ومن غاب فله من يمثله، وأجيبكم غدا في مثل هذه الساعة. وأما أهل فلسطين فهم يرفضون وعد بلفور ويصرون على عروبة فلسطين، وكذلك هي، ولا نستطيع أن نرضى بفناء أهل فلسطين من أجل يهود العالم، وإنهم ليسوا كالنبات أو الشجر كلما قلم نبت، ولهذا شأن يطول. فقال: لقد أتعبناك، وإننا لننتظر جوابك في الغد.
وقد اجتمعت بالذوات الذين معي والذين ذكرت أسماءهم في مقدمة هذا البحث فوافقوا إجماعا. وفي الوقت المعين من اليوم الثاني، أبلغت الخبر وتقرر أن يزور المندوب السامي عمان لوضع الأساس للاتفاق على تشكيل الإدارة في جميع نواحيها: الجيش والمال والمعارف والعدلية وسائر الفروع.
أول حكومة في شرق الأردن
مجلس المشاورين
وفي أوائل شهر نيسان 1921 ألفت أول حكومة في شرق الأردن سمي رئيسها «الكاتب الإداري» وهو يرأس مجلس المشاورين المؤلف ممن يلي:
الكاتب الإداري ورئيس مجلس المشاورين ووكيل مشاور الداخلية
رشيد بك طليع
نائب العشائر
الأمير شاكر بن زيد
قاضي القضاة
الشيخ محمد الخضر الشنقيطي
مشاور العدلية والصحة والمعارف
مظهر بك رسلان
مشاور الأمن والانضباط
علي خلقي بك
مشاور المالية
حسن بك الحكيم
معاون نائب العشائر
السيد أحمد مريود
وبتاريخ 17 نيسان حضر لزيارتنا في عمان السر هربرت صمويل المندوب السامي لفلسطين، يصحبه المستر ديدس السكرتير الإداري المدني، والكولونيل لورنس، واللورد إدوارد هاي؛ وفي اليوم التالي ألقى المندوب السامي خطابا جاء فيه:
كان من دواعي شرفي أنني حظيت بمقابلة صاحب السمو الأمير عبد الله بدار الحكومة في القدس، بمناسبة زيارته لفلسطين، كما حظيت بمقابلة المستر ونستون تشرشل أحد أعضاء الوزارة الإنجليزية.
إن الحكومة البريطانية ترحب بالفرصة السانحة للتعاون في شرقي الأردن مع سمو الأمير عبد الله، الذي لها في حسن نيته وصداقته كل ثقة؛ وهي تقدر قيمة الصداقة وحسن النية التي تجلت في خلال هذه الحرب الضروس التي دارت رحاها في كل هذه المدة الطويلة؛ وتعلم الحكومة البريطانية كما تقدر الخدمات التي قدمتها جيوش العرب في ذاك الكفاح وترغب في أن توطد في زمن السلم دعائم التحالف الذي بني في خلال هذه الحرب.
فأجبته قائلا:
إنني أشكر فخامتكم على خطتكم القومية، وأقول بالإجابة عن نفسي وبالنيابة عن الحاضرين إن الأمة العربية ستبرهن على أنها قادرة على تحقيق الآمال التي وضعت فيها وأنها جديرة بكل ما تساعدهم فيه حليفتهم الكبرى.
وفي منتصف شهر أيار 1921 وقع حادت الكورة. وبتاريخ 5 تموز 1921 جرى تبدل في مجلس المشاورين، على أثر استقالة رشيد بك طليع وإعادة تأليفه المجلس، وكان هذا التبدل عبارة عن جعل مظهر بك رسلان مشاورا للمالية بدلا من حسن بك الحكيم، وتعيين رشدي بك الصفدي مشاورا للأمن والانضباط بدلا من علي خلقي بك وإدخال غالب بك الشعلان في المجلس بعنوان «مشاور القيادة العامة».
مجلس المستشارين
وفي منتصف شهر آب سنة 1921 استقال رشيد بك طليع وحل محله مظهر بك رسلان، وألفت الحكومة على الوجه الآتي، وقد أبدل عنوان المجلس فصار يسمى مجلس المستشارين، ودعي الرئيس برئيس المستشارين:
رئيس المستشارين والمستشار المالي
مظهر بك رسلان
نائب العشائر
الأمير شاكر بن زيد
مستشار الأمور الشرعية
الشيخ محمد الخضر الشنقيطي
مستشار الأمن والانضباط
رشدي بك الصفدي
مستشار القيادة العامة
غالب بك الشعلان
معاون نائب العشائر
السيد أحمد مريود
وخلال شهر تشرين الثاني ألغيت مستشارية الأمور الشرعية، وأضاف رئيس المستشارين إلى نفسه لقب المستشار الملكي وعين شكري بك شعشاشة وكيلا للمستشار المالي.
وفي بداية شهر شباط 1922 حضر من دمشق أحمد حلمي بك وعين مستشارا للمالية.
وفي أوائل شهر آذار 1922 وصل رضا الركابي وألف حكومته الأولى بتاريخ 12 آذار 1922 و14 رجب 1340 بعنوان رئيس المستشارين وعين الرئيس السابق مظهر بك رسلان مستشارا ملكيا، وبقي كل من نائب العشائر والمستشار المالي في منصبه.
وفي أوائل شهر أيار 1922 وصل إبراهيم بك هاشم وعين مستشارا للعدلية، ثم جاء الشيخ سعيد أفندي الكرمي خلال شهر آب 1922 وعين قاضيا للقضاة.
إلى لندن
وفي يوم الثلاثاء المصادف 3 تشرين الأول 1922 و12 صفر 1341 سافرت وبمعيتي الركابي باشا إلى أوربا؛ وقد عدت تاركا الرئيس هناك، فوصلت عمان في أوائل كانون الثاني 1923- 14 جمادى الأولى 1341 وفي اليوم التالي ألقيت على الوفود البيان التالي:
ليس من عادتي كتابة خطاباتي ثم تلاوتها، ولكن في سوء تصرف الرواة وتحريف بعضهم للقول وأهمية الموضوع ما يحملني على ما ترون؛ ولذلك أتلو عليكم ما سيأتي:
لا شك في أنكم تتطلعون إلى ما ستسمعونه عن رحلتي المعلومة، وأنتم محقون في ذلك وعليه أقول: اعلموا أن هذه الرحلة كانت لصالحكم وأنها والحمد لله فيها كل ما هو مطابق لمصالحكم ورغائبكم، خصوصا أمر استقلال منطقتكم، فإنه الجزء المهم من سلسلة التشبثات التي ستطلعون على تفاصيلها إن شاء الله تعالى، بعد قدوم دولة رئيس المستشارين المتخلف لإنهاء هذه الأغراض.
وعلاوة على هذا أقول لكم إنني رجعت وكلي رجاء في الوصول بمشيئة الله إلى النتيجة الحسنة فيما رمت إليه النهضة العربية المستندة إلى الآمال القومية، وإنني كما قلت للجموع في موقفي هذا عند قدومي إلى هذه المنطقة كما تتذكرون، من أنه لو كانت لي سبعون نفسا فقدتها كلها في سبيل القومية والوطن لما رأيتني قمت بالواجب.
ولكن لخدمة الوطن وجوها ولكل وجه سبب، وأفضل تلك الوجوه الآن وفي كل آن، أسلمها عاقبة وأقلها ضررا. ومع أنني عالم بثقل لوازم الوطن ومقتضياته ومتاعب الوصول إلى غاياته، أقول إن كل هذه الصعاب ستذلل إن شاء الله بالحكمة القومية والتعقل العبقري اللذين ورثتموهما عن آبائكم مع الاتكال على الله تعالى في كل الأحوال.
ويحسن بي القول هنا أيضا إنني قد عدت من هذه الرحلة وأنا مشاهد آثار المودة البريطانية التي سنجني باستمرارها حقائق المنافع المرموقة، كما وإنني عظيم الرجاء في أن الحكومة الجمهورية الفرنسية الفخيمة الموجودة الآن على الوجه المعلوم بالقسم الشمالي من وطننا المحبوب، لا تحمل حقدا على قوميتنا وقضيتنا، وإننا بمشيئة الله سنصل قريبا إلى إسعاد الوطن كله بتعضيد دولتي التحالف الكبيرتين وانكشاف الآمال الشريفة القومية على الوجه المطلوب.
هذا وقبل أن أختم قولي أريد أن أثني على رجال حكومتنا الذين قاموا في غيابنا بما أودع إليهم من الأمور حق القيام، كما وإنني أشكر للأهلين جميعا حميتهم الوطنية وائتمارهم بأوامر الحكومة وانصرافهم إلى أعمالهم التي تعود عليهم وعلى وطنهم بالخير والسلام.
وهنا أعلن بلسان الصرامة تأكيد عزمي السابق من جعل هذه البلاد بلاد دعة وأمان، ترتاح لحسن إدارتها أقطار محبيها، خالية من وجود شكاوى قاطنيها ومجاوريها. وأتعشم أنني أصبت بهذه الصورة ما يرتئيه محبو الوطن وطالبو الخير له. والله الموفق لما فيه النجاح والمصوب لما فيه السداد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حادثان هامان
أما الركابي باشا فقد عاد من أوربا فوصل بتاريخ 16 كانون الثاني 1923 ولكنه استقال في غاية الشهر المذكور.
ويجدر بنا أن نذكر حادثين هامين حصلا في زمن الركابي: أولهما تأديب الكورة في صيف سنة 1922، ورضوخ كليب الشريدة وجماعته، وثانيهما اعتداء الوهابيين على قبائل بني صخر في اليوم الثالث عشر من شهر آب 1922، وقد دام القتال من فجر ذلك اليوم إلى ضحى اليوم الثاني وكان عدد المغيرين نحو ألف وخمسمئة، قتل منهم لا أقل من ثلاث مئة رجل.
الحكومة الرسلانية الثانية
وفي 1 شباط 1922 ألف مظهر باشا رسلان الحكومة للمرة الثانية على الوجه الآتي:
رئيس المستشارين
مظهر باشا رسلان
نائب العشائر
الأمير شاكر بن زيد
قاضي القضاة
الشيخ سعيد أفندي الكرمي
المستشار المالي
أحمد حلمي بك
المستشار القضائي
إبراهيم بك هاشم
إعلان استقلال شرق الأردن
وفي 9 شوال 1341 الموافق 15 أيار 1923 أعلن استقلال شرق الأردن في حفلة رسمية حضرها رجال الحكومة ووفود من فلسطين، وقد وصل لهذه الغاية من القدس المندوب السامي السر هربرت صمويل يصحبه الجنرال كلايتون. وقد ألقيت الخطاب التالي:
أيها الشعب الكريم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. وبعد فإن الله سبحانه وتعالى قد بعث محمدا والعرب منكمشون في جاهليتهم المظلمة وماضون في حروبهم الداخلية والطوائل والأحقاد مستحكمة في أفئدتهم، فوحد كلمتهم، وألف بين قلوبهم وجمع بين أهوائهم وقادهم إلى ما فيه طريق رشادهم وأخرجهم من الضلال إلى الهدى وملكهم الدنيا وهم آبون كارهون، ورب قوم يقادون بالسلاسل إلى الجنة. وتركهم على خير ما ترك نبي أمته، فجزاه الله عن العرب خيرا
صلى الله عليه وسلم . ثم خلف من بعده الخلف الصالح وهم الخلفاء الراشدون، فاتبعوا سنته وفتحوا الفتوح وأسسوا دعائم الدولة العربية وشادوا لهم من المدنية صرحا، فبه
صلى الله عليه وسلم
وبهم رضي الله عنهم، كان للعرب ما كان من المفاخر المادية والمعنوية حتى أصبحوا مصابيح الوجود ونباريس الكائنات. وكلكم تعلمون ماضي دولكم من أمويين وعباسيين وأندلسيين وفاطميين، كل ذلك كان بالاقتداء بتعاليمه
صلى الله عليه وسلم
وبالاعتصام بالوحدة في الرأي والعمل، وبالائتمار بأوامر من كانت بيده مقاليد الأمور وبني عليه الأمل.
ثم شاءت الأقدار الصمدانية للحكمة الأزلية أن يقلب الدهر للعرب ظهر مجنه، ويصحبهم بكوارثه ومحنه، فأصابهم ما أصاب غيرهم من الأمم وضرب التخاذل بينهم بجرانه، وعمت التفرقة وانتشرت الفوضى وتسلطت الأعاجم على أهم أمورهم ومراكز إدارتهم وشؤونهم، فوقع على الدولة العباسية ما وقع وأضاع العرب ما اكتسبوه بالأنفس والنفائس، وظلوا بعدها كما تعلمون إلى أن أذن الله بالحرب العامة في أثناء انتباه الأفكار العربية وسعيها لإعادة مجدها السابق وعزها الغابر، فوقعت النهضة العربية المباركة على يد من اختاره الله سبحانه وتعالى قواما لها وقائدا لأمورها، فنادى إلى الحق فأيقظ الهاجد في عماه، ونبه الغافل في كراه، وخاض غمار الحرب العامة في أشد أوقاتها خطرا متكلا على الله وعلى قومه، والنصر من عند الله، فكلل جميع أعماله بالنجاح لائتمار العرب أثناء الحرب بأمر واحد واتباعهم مركزا واحدا.
ثم إني لا أرى هنا حاجة لذكر ما عقب الهدنة من الاستعجال المشمومة منه رائحة الانقسام، والذي أدى لمصابنا في أهم أجزاء وطننا وأحبه، والذي أخر النتيجة المطلوبة، مما يجب أن يكون محلا للانتباه والحذر من الآن فصاعدا، ويوجب الاستمساك بوحدة الرأي والعمل؛ كل ذلك كان من الأقدار الإلهية، حرسنا الله مما فيه غضبه ووفقنا لما فيه رضاه.
وإنني في هذا الموقف بعد الشكر لله سبحانه وتعالى، أخبركم بما تم على يد صاحب الجلالة الهاشمية وصاحب الحشمة الإمبراطورية البريطانية من العهد الضامن إن شاء الله لكل الرغائب، وأشترك معكم بكل سرور في هذه الحفلة بما كان قد تم في أثناء وجودي في لندن من اعتراف الحكومة الفخيمة البريطانية باستقلال هذا القسم من المملكة العربية. ولا شك بأن ذلك أيضا من نتائج السياسة الحكيمة التي اتبعت هنا ومعاضدة الحكومة البريطانية العظمى.
ويسرني جدا أن أعلن شكري لحضرات المستشارين والذوات الذين ساعدوني على السير في هذه الخطة الحكيمة، وللشعب المتمسك بحبال وطنيته الصادقة وأمانيه الحقة وسيره الحكيم والطاعة لأولي الأمر والثقة بأعمالهم المعقولة التي تكللت بالنجاح. وإنني لا أشك في أنه سيثابر على سيره بعد الآن كما سار بالأمس، وإننا نبشره بأن حكومتنا ستشرع في إعداد القانون الأساسي للمنطقة وتعديل قانون الانتخابات بما يوافق روح البلاد وطبقتها وبيئتها.
وبهذه المناسبة لا يمكننا أن نغفل عن الشكر للحكومة البريطانية العظمى، حليفة العرب وعضدهم القوي في السياسة العربية منذ النهضة العربية المباركة حتى الآن. ولا ريب أن العرب أثبتوا في جميع الظروف والأحوال حسن ولائهم وصداقتهم لحليفتهم العظمى، كما أنه لا يسعهم إلا أن يكونوا مدينين لها بالشكر الجزيل لاعترافها لهم باستقلال البلاد العربية كافة وتعضيد العرب على تأليف وحدتهم وفاء بعهودها. وإني لآمل أن يكون موقف الدولة الفرنسية الفخيمة تجاه قضيتنا العربية المقدسة وتجاه القسم الشمالي الباقي من وطننا المحبوب آخذا بها إلى عهد جديد كاف للدلالة على احترام أبناء الثورة الفرنسية لحرية الأقوام واستقلالها.
وإن المساعدات التي قام بها شخصيا كل من فخامة المندوب السامي المحترم وسعادة كبير المعتمدين المستر فلبي الموقر نحو هذه المنطقة، لجديرة بالإطراء. وإننا ننوه هنا بذكر الهيئات الوطنية والشيوخ والوجوه كافة والرجال العاملين الذين عضدونا في السير إلى هذه الخطوة المحمودة، وآزرونا في السعي خلال عامين في هذه المنطقة، موآزرة اعترف البعيد والقريب بصلاح نتائجها وشهد آثارها الجميع.
وإني لآمل أن يكون هذا اليوم يوما سعيدا للأمة تتخذه عيدا تظهر فيه سرورها وحبورها. ومنه تعالى نستمد العون ونسأله أن يطيل بقاء وتوفيق جلالة أمير المؤمنين مولانا الحسين بن علي بن محمد بن عون. والله ولي التوفيق.
وبعد ذلك ألقى فخامة المندوب السامي الخطاب التالي :
إني أرغب بالنيابة عن جلالة الملك جورج الخامس وحكومته، أن أقدم أصدق التهاني لسمو الأمير عبد الله وأهالي شرق الأردن، وبالحقيقة إلى جميع العرب بمناسبة هذا العيد السعيد.
إننا ندخل اليوم في طور عظيم الأهمية في تاريخ الأمم الكبير. فبعد أن كان للعرب عصر مجيد اشتهر بالإدارة والآداب والفنون والعلوم تقهقروا تحت اضطهاد دولة دخيلة غير راقية، ولكن الحرب الكبرى منحتهم فرصة لتحرير أنفسهم؛ فقد اشتركت جيوش بريطانيا العظمى تساعدها الجيوش العربية بقيادة أنجال شريف مكة المكرمة مع القوات العثمانية في حرب طال أمدها، وتكللت الثورة العربية ضد تركيا بالتعاون مع حملة الحلفاء بنجاح تام. وقد مهدت السبل الآن لنهضة عربية يتوقف انتشارها وأهميتها على العرب أنفسهم.
إن فصل هذه البلاد عن المملكة العثمانية وضع على عاتق بريطانيا العظمى مسؤولية تجاه عصبة الأمم، الجمعية الجليلة القدر التي تمثل رأي القسم الأكبر من العالم المتمدن، وستنجز الوعود التي أعطيت لجلالة الملك حسين في أثناء الحرب، ووفقا لهذه الخطط أعترف بشريف مكة ملكا مستقلا. وقد نصب جلالة الملك فيصل ملكا على العراق وأعطي سلطات فعلية. وقد عقدت معاهدة مع الملك حسين حديثا وستعلن نصوصها قريبا، وهي تدل على أن النهضة العربية قد دخلت في طور جديد.
وها نحن نحتفل الآن بالاتفاق الذي عقد مع سمو الأمير في أثناء زيارته لجلالة الملك جورج والحكومة البريطانية، ولا يخفى عليكم أن الاتفاق ينص على اعتراف حكومة جلالة الملك بوجود حكومة مستقلة في شرق الأردن برئاسة صاحب السمو الأمير عبد الله بن الحسين، شرطا أن توافق جمعية الأمم على ذلك، وأن تكون حكومة شرق الأردن دستورية تمكن حكومة جلالة الملك من القيام بتعهداتها الدولية فيما يتعلق بتلك البلاد، وذلك بواسطة اتفاق يعقد بين الحكومتين.
ولم تنقض سنتان على استلام الأمير إدارة شرق الأردن، حتى خرجت من طور التشويش واختلال النظام إلى طور سلام وتقدم متزايد. فاستفاد من هذا التحسين جميع الأهالي على اختلاف طبقاتهم سواء في المدن والقرى أو بين الفلاحين والبدو . والأمل وطيد بأن التقدم سيثمر بدرجة متزايدة. والفضل في ذلك يعود أيضا إلى المستشارين الذين اختارهم سمو الأمير، وأخص بالذكر منهم مظهر باشا رسلان الذي أرغب أن أقدم له التهاني الخالصة لنيله هذه الرتبة الجديدة.
إن الحكومة البريطانية تفتخر أنها استطاعت الاشتراك في ذلك التقدم باذلة لحكومة الأمير مساعدة فعلية معنوية. وقد تمتعت هذه الحكومة بمساعدة مالية أيضا مما سهل إيجاد قوة سيارة منظمة ووحدات أركان الأمن العام في هذه البلاد. وقد وضعت طيارات وسيارات مصفحة تحت تصرفها إذا دعت الحاجة إليها، وقدم لها مستشارون سياسيون وعسكريون عند الاقتضاء. وسعت حكومة جلالة الملك في الوقت نفسه ألا تتدخل في الإخلال في إدارة الأمير، وقد أصبح استقلال إدارة الأمير أمرا حقيقيا.
واسمحوا لي أن أذكر في هذا المقام عظيم تقديري لأسباب شخصية للصداقة التي استحكمت حلقاتها بيني وبين سمو الأمير؛ ويسرني أني تمكنت بالفعل من تعضيد التطورات التي جرت مؤخرا، سواء كان فيما يتعلق باستقلال شرق الأردن أو التقدم الناشئ عن المعاهدة مع الحجاز.
وأنا آمل من صميم الفؤاد أن الحزم السياسي وروح التساهل وحسن تدبير الأمور الإدارية التي امتازت بها حكومة الأمير ستدوم طويلا بعناية الله تعالى، لتعكس ضياء جديدا على سموه وتؤدي إلى دوام خير ونجاح الأهالي الذين تحت سلطته.
سمو الأمير عبد الله وحوله لفيف من كبراء عمان سنة 1923، ويرى منهم إلى يسار سموه المرحومان خالد باشا أبو الهدى وعلي رضا باشا الركابي من رؤساء الوزارة في شرق الأردن.
مجلس الوكلاء
وبتاريخ 11 حزيران أصدرنا الإرادة السنية بتبديل لقب رئيس المستشارين بلقب رئيس مجلس الوكلاء، ولقب قاضي القضاة بوكيل الأمور الشرعية، والمستشار المالي بوكيل الأمور المالية، والمستشار القضائي بوكيل الأمور العدلية.
مجلس النظار
وعلى أثر حادث العدوان استقالت حكومة مظهر باشا وعهد بتأليف الحكومة إلى حسن خالد باشا أبو الهدى بتاريخ 24 محرم الحرام 1342 الموافق 5 أيلول 1923 فألفها كما يلي، وسمي مجلس الوكلاء (مجلس النظار):
رئيس النظار
حسن خالد باشا
نائب العشائر
الأمير شاكر بن زيد
قاضي القضاة
الشيخ سعيد أفندي الكرمي
ناظر المالية
أحمد حلمي باشا
ناظر العدلية
إبراهيم بك هاشم
ناظر المعارف
علي خلقي بك
أول برنامج وزاري
وقد كانت الظروف آنئذ تستدعي وضع برنامج حسب إشارة أبديناها، فاتخذ مجلس النظار قرارا بإذاعة البرنامج التالي: (1)
تأييد العلائق الودية والروابط الاقتصادية الحسنة بين حكومة شرق الأردن وإنكلترا وفرنسا. (2)
تعزيز الأمن العام والضرب على كل يد عابثة بالسكينة وفقا لموجبات المصلحة وما يقضي به العدل. (3)
رعاية الحال الاقتصادية وتخفيض الرواتب والنفقات جهد الاستطاعة والاستغناء عن الوظائف الزائدة. (4)
إصلاح طرق توزيع الضرائب وجبايتها بصورة تكفل مصلحتي الخزينة والأهلين معا. (5)
ترجيح تعيين الأكفاء من أبناء المنطقة على غيرهم في الوظائف. (6)
السعي وراء نشر المعارف وتسهيل المواصلات بتزييد المدارس وإنشاء الطرق وتعميرها إلى غير ذلك من أمور الإصلاح.
المنقذ الأعظم في عمان ومبايعة جلالته بالخلافة
في يوم الجمعة 11 جمادى الثانية 1342 الموافق 18 كانون الثاني 1924 شرف جلالة المنقذ الأعظم مدينة عمان.
وبتاريخ 5 شعبان 1342 الموافق 11 آذار 1924 بويع جلالته بالخلافة وأصدر المنشور التالي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحسين بن علي
الحمد لله رب العالمين مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله أفضل الصلاة والتسليم وعلى آله وصحبه وكافة أنبيائه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
أما بعد فإني أسأله الرأفة والرحمة بعباده والتوفيق، وأن يجعلنا هادين مهتدين غير ضالين ولا مضلين، فإنه هو الرحيم المنان الكريم. ثم إنه لما كانت الإمامة الكبرى والخلافة العظمى نظام عقد الأمة وسند قوام الملة، وكان أمر صيرورتها وكيفيتها وما جرى فيها مدونا ومنقولا عمن تلقينا عنهم ديننا القويم، وكان كل ما جرى من بعد عهدهم السعيد في كيفية حقوقها وصلاحيتها وسائر معاملاتها إلى يومنا هذا موضحا في تواريخ العالم الإسلامي وسيره المثيرة، فإقدام حكومة أنقرة على ذلك المقام المكرم كيفما كان شكله، جعل أولي الرأي والحل والعقد من علماء الدين المبين في الحرمين الشريفين والمسجد الأقصى وما جاورها من البلدان والأنصار يفاجئوننا ويلزموننا بيعتهم بالإمامة الكبرى والخلافة العظمى، حرصا على إقامة شعائر الدين وصيانة الشرع المبين أبسطه لعدم جواز بقاء المسلمين أكثر من ثلاثة أيام بلا إمام كما يفهم صراحة من توصية الفاروق الأكرم رضي الله عنه لأهل شورى البيعة بعده كيفما كانت صيغة تلك الإمامة وأشكالها إلى الآن.
وعليه ولما كانت المملكة الهاشمية والقطعة المباركة الحجازية مهد الإسلام ومحل ظهوره ومطلع نوره، وكانت مصونة بعنايته تعالى من كل شائبة في حالتيها السابقة والحاضرة، ولا سيما العمل فيها بأحكام كتاب الله وسنة رسوله بجميع خصوصياته وعمومياته وانطباق حكم البيعة المشروعة من المبايع والمبايع له انطباقا لا يتصور حصوله في أي مملكة أخرى في الوقت الحاضر، كان حقا علينا إجابة ذلك الطلب الديني المشروع بعد الاتكال على الله سبحانه واستمداد روحانية نبيه
صلى الله عليه وسلم .
لذلك قبلنا البيعة متوكلين عليه عز وجل، مستمدين منه الغوث والعون والتوفيق لما يحبه ويرضاه، وإننا نرجوه سبحانه وتعالى أن يكون هذا الأمر الذي قضى في حكمته الأزلية وقدرته الصمدانية وأظهر حكمة قوله تعالى:
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
مضاعفا إلهاماتنا باتباعنا مسلك السلف الصالح.
نعم إنا لم نعترض البحث في شؤون ذلك المقام الجليل إبان نهضتنا، لا بل إلى قبيل جرأة أنقرة على الكرامة كيفما كانت وضعيته، وذلك حذرا من توسع شقة الاختلاف لئلا يتخذه أعداء الإسلام وسيلة للتعريض بمكانته، ولا نكلف سوانا بما لا يراه، عملا بقوله تعالى:
قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا
ومع هذا فهو المسؤول أن يجعل هذه البيعة مدار ألفة للمسلمين تضم قاصيهم ودانيهم، وتسوقهم إلى حسن التآلف مع مجاوريهم من أبناء دينهم وسكان بلدانهم من أهل الكتب السماوية وسائر مواطنيهم، بما ألقته إليهم الشريعة الإسلامية، وتطبيق ما فرض في أمر «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» وكل ما أوجبه عليهم من المنكر، مؤملين منهم حسن القيام بكل ما هو في معنى هذا مما أوجبه الله عليهم فردا فردا وجماعة جماعة، وبالأخص العلماء والأعلام في أقطار الإسلام كافة.
وإنه لما كانت العائلة العثمانية ممن سبقت لها خدمات لا تنكر ومفاخر لا تستحقر للإسلام والمسلمين، ولما كان الحكم الأخير عليهم مما تتفتت له الأكباد وتتفطر منه المهج، رأينا من واجب أخوة الإسلام أن تهيئ لها ما يساعدها بما يقوم بأودها ويدفع عنها الغائلة في أمر معاشها.
فمن أحب الاشتراك في هذه المثوبة العظمى من سائر أرباب الشهامة، فعليه أن يشعر رئاسة وكلائنا بمكة المكرمة بما يريده؛ والله جل شأنه وتعالت قدرة سلطانه يعلم أن غايتي الوحيدة هي خدمة الإسلام وأقوامي أبناء الجزيرة خصوصا والمسلمين عموما، فهو المسؤول وحده لا شريك له وأن يجعل لنا وإياهم منه وليا ويجعل لنا من لدنه نصيرا، وهو المستعان وهو ولي التوفيق ولا حول ولا قوة إلا به، والصلاة والسلام على خير خلقه وآله وصحبه أجمعين.
الحكومة الركابية الثانية
وغادر جلالته شرق الأردن عائدا إلى مكة يوم الخميس في 14 شعبان 1342 الموافق 20 آذار 1924.
وفي أوائل شهر نيسان 1924 وصل المعتمد البريطاني الكولونيل كوكس وباشر عمله.
وبتاريخ 3 أيار 1924 الموافق 29 رمضان 1342 ألف الركابي وزارته الثانية كما يلي:
رئيس النظار
رضا باشا الركابي
نائب العشائر
الأمير شاكر بن زيد
ناظر المالية
حسن خالد باشا أبو الهدى
قاضي القضاة
الشيخ سعيد أفندي الكرمي
ناظر العدلية
إبراهيم بك هاشم
وقد ذكر في برنامج وزارته أنه سيتبع الصدق والإخلاص في القول والعمل، والعزم والحزم في الأمور، وتوزيع العدل بين أفراد الشعب، والمراعاة التامة للقواعد الاقتصادية والكفاآت في الوظائف والموظفين والنفقات، وقمع بذور الفساد وما يسيء السمعة بكل شدة وعدم التحزب والتحيز، والتعاضد والتكاتف في جميع أمور الإصلاح وصيانة المنطقة من الأحوال المخلة بالأمن، والسعي وراء انعقاد المجلس النيابي تدريبا للأمة على الحكم الدستوري.
تطورات ...
غادرنا البلاد قاصدين الحجاز يوم الجمعة بتاريخ 24 ذي القعدة 1342 الموافق 27 حزيران 1924، وعدنا يوم 19 محرم 1342 الموافق 19 آب 1924 وبينما كنا في الطريق - يوم الخميس في 14 آب 1924 - اعتدى الوهابيون مرة أخرى على شرق الأردن، فطردوا وتركوا خمسمائة قتيل وعددا عديدا من الجرحى.
وكانت قد حصلت في غيابي حوادث تخل بالأمن في جهة سوريا، مما أدى لأن توجه الحكومة البريطانية إنذارا طلبت فيه بسط المراقبة المالية دون قيد وشرط، وإخراج المتهمين بالتحريض في حوادث الحدود وإلغاء نيابة العشائر، إلى غير ذلك من شروط أخرى. وفي اليوم التالي لوصولي البلاد ألقيت على أركان الحكومة ورجالات البلاد الخطاب الآتي:
بمناسبة رجوعنا من الحج وإظهار الأمة عواطف إخلاصها، أولا أشكر الأمة على عواطف حبها وإخلاصها، ثانيا أحمد الله الذي من علي برؤيتكم مرة ثانية.
لقد وقع إبان سفرنا حادثان في هذه المنطقة: الأول حادث الوهابيين الذي دفع بالتنكيل الشديد بهمة الأهلين والقبائل وقوة الحق؛ وإننا لا ننسى في هذا الشأن مساعدة المصفحات والطيارات البريطانية. والثاني حادث العصابات في جنوبي سوريا الذي أدى إلى دخول قسم من الدرك البريطاني إلى هذه المنطقة.
إنكم تعلمون أننا قدمنا إلى هذه الديار ونحن لا نألو جهدا في خدمتها وتحسين شؤونها، وغرضنا الوحيد من كل ما نسعى إليه هو الوصول إلى الغاية التي نتطلبها كلنا وهي تحرير بلادنا جميعها تحريرا تاما بالحكمة والنظام.
ومما لا ريب فيه أن الأمم لا تصل إلى غاياتها إلا بالعقل، والعقل يكون بالنظام، والنظام هو الذي يوصل إلى الغاية المنشودة. أما الذين ينصاعون إلى الفوضى ولا يدخلون البيوت من أبوابها، فيسلكون غير طريق الحق والنظام، فهؤلاء ليسوا إلا خطرا على بلادهم مهما حاولوا تبرير أعمالهم.
نعم نحن خرجنا من الحرب العامة لنكون أصحاب بلادنا، ولكن من هو الذي يقول إننا على أهبة في وسائلنا وأوضاعنا لمقاومة الأمم؟! إن المقاومة التي تجلب الشر ليست سوى جريمة، والشجاعة الحقيقية هي في معرفة الإنسان نفسه وسلوكه مسلك الحق والحكمة وأن يسعى قبل كل شيء في إعداد نفسه ليكون رجلا أو أمة.
أنا لا أخون الله والأمانة التي أودعت إلي، بل أجهر بالحق ليسمع الجميع. إن كل من يعبث بالأمن في سوريا وفلسطين من دعاة الفتنة نعتبره خارجا علينا، إذا ما سولت له نفسه استخدام هذه المنطقة الآمنة في مناحي هواه، لأننا لا نريد أن تجني هذه البلاد ذلا بسوء تصرفات أولئك العابثين. وإني لأقول لكم اسمعوا وأطيعوا فإن الطاعة لا بد منها في محافظة الكيان.
لقد سألت بعد وصولي عن سبب ورود سرية الخيالة البريطانية والأربع مصفحات إلى عمان، فأخبرت بأنها جلبت بسبب حادث الوهابيين تعزيزا لقوة الطيران. وبناء على إيضاحاتنا الكافية كتب سعادة المعتمد البريطاني إلى مرجعه بعدم لزوم بقائها. أما القوة الثانية التي دخلت إربد فسوف لا يعود لها لزوم أيضا حينما يتضح الأمر بانقطاع الأسباب الموجبة لقدومها.
إنكم لتعلمون أن الأمم التي انتدبت لمساعدة العرب هما إنكلترا وفرنسا، ونحن لا نستطيع التعاون مع هذه الأمم إلا بالإخلاص والدربة والحكمة، حتى إذا وثقتم بأنفسكم وسلكتم مسالك الأمم وتمسكتم بالمبادئ المشروعة وصلتم إلى كامل حقوقكم ونلتم ما تصبو إليه نفوسكم.
أنا لست بالجبان، وإذا وقعت مصيبة فلا بد لي من الموت؛ غير أنني في الأربعين وباستطاعتي أن أخدم أمتي، فلا أريد أن أضحي بنفسي من غير روية، بل لا أريد أن أؤلب على العرب دولتين عظيمتين. وحسبي أن أقول لكم إن اليقظة العامة والتيار الذي أوصل الأمم إلى حقوقها سيوصلكم إلى حقوقكم، والأمم كلها سائرة في طريق التقدم.
إن الذين يشجعون رجال العصابات أو يقبلون حمايتهم في هذه المنطقة إنما يخونون أنفسهم وبلادهم. نحن لا نريد أن نكون خطرا على غيرنا. الدنيا بيت واحد، والأمم المتمدنة قد توحدت مصالحها حتى أصبحت كعائلة واحدة، إذا اختل النظام هنا اختل هناك.
نحن نريد الحياة من طريقها المشروع، وأنا لا مصلحة خاصة لي في هذا الجزء المحبوب من أجزاء الوطن العربي؛ والقضية بصفتها قضية محلية هي قضيتكم والوطن وأمتكم.
نعم أنا رجل للحجاز وسوريا وفلسطين واليمن ونجد وكل بلد عربي، وسأبقى عربيا أعيش للأمة العربية كلها، وأشهد الله أنني لأتألم لكل كارثة تقع على العرب. لذلك فإني لأود ألا تحمل نصائحي على غير اليقين بأن الحقيقة يجب أن تقال وأن تسطع كالشمس ليراها الجميع.
أنا شخصيا أريد أن أسعى لإزالة كل ما يجول برأس الحكومة الفرنسية الفخيمة نحو هذه المنطقة من الريب، وسنبرهن للجميع على أننا أمة تريد أن تعيش بشرف وبحق الحياة ليس إلا.
إنني والحمد لله أقول إنني لم أر حتى الآن من بدو هذه البلاد وحضرها إلا كل ما يسر، ولي معكم مجالس أخرى سأتحدث بها إليكم بأشياء تتعلق بمصالح الوطن.
وبعد فإن جلالة مولانا أمير المؤمنين يقرئكم السلام. وقد قضى الحج في هذا العام بالصحة التامة والحمد لله. وإخواننا الحجاج من سائر الأقطار الإسلامية قد أقبلوا على البيعة بكل ثقة. وجلالة الملك المعظم ما زال عاملا على توثيق علائق الود مع حلفائه. فنسأل الله دوام التوفيق وأن يجنبنا العثرات ويمدنا بروح من عنده.
تنازل الحسين عن العرش
وفي منتصف شهر صفر سنة 1343، ويوافق ذاك التاريخ منتصف شهر أيلول أيضا من سنة 1924، هجم الوهابيون على مدينة الطائف، وعقب ذلك نشوب الحرب بين الحجاز ونجد.
وبتاريخ 5 ربيع الأول 1343 تنازل جلالة المنقذ الأعظم عن العرش وبويع بالملك صاحب الجلالة الملك علي بن الحسين.
وفي الثلث الأخير من الشهر المذكور، وصل جلالة الملك حسين إلى العقبة، حيث بقي فيها ما يقارب الثمانية أشهر، ثم غادرها بتاريخ 26 ذي القعدة 1343 الموافق 17 حزيران 1925.
وبتاريخ 3 ذي الحجة 1343 الموافق 24 حزيران 1925 أصدرنا الإرادة التالية:
نظرا لتنسيب صاحب الجلالة الهاشمية الملك علي المعظم، ملك البلاد المقدسة الحجازية أيده الله وأدام نصره، ضم ولاية معان والعقبة إلى إمارتنا، اقتضى إصدار إرادتنا إليكم إعلاما بذلك، مع الشكر الدائم لجلالته الملوكية الهاشمية منا ومن شعبنا وحكومتنا.
وفي اليوم التالي أي يوم الخميس وصلنا معان، وكان معي رئيس النظار، وجرت مراسيم الانضمام الرسمية، ورفع علم شرق الأردن، واعتبر يوم 25 حزيران 1925 التاريخ الرسمي للإلحاق.
الحكومة الخالدية الثانية
المجلس التنفيذي
وبتاريخ 16 ذي الحجة سنة 1344 الموافق 26 حزيران 1926 ألف حسن خالد باشا أبو الهدى حكومته الثانية. وقد عرض، في العريضة التي ضمنها أسماء زملائه الذين اختارهم، أنه ينسب تشكيل مجلس تنفيذي برئاسته وأن يحل هذا المجلس محل مجلس النظار وتودع إليه صلاحياته. وقد وافقنا على ذلك، أما المجلس التنفيذي فألف كما يلي:
رئيس النظار وناظر الداخلية
حسن خالد باشا
قاضي القضاة وناظر العدلية
الشيخ حسام الدين أفندي جار الله
السكرتير العام
عارف بك العارف
محافظ الآثار
الدكتور رضا بك توفيق
مدير النافعة
عبد الرحمن بك غريب
مستشار المالية
كركبرايد بك
وقد جاء في برنامج الحكومة أنها تسعى قبل كل شيء إلى أن يخضع كل فرد للقانون كما تحترمه هي، وأن ذلك الضمان الكافي لإيجاد الثقة بين الأمة والحكومة، وأنها ستتبع الصدق والصراحة والإخلاص في جميع تصرفاتها وتضمن العناية بشؤون المدافعين ورعاية مصالحهم، وتطلب إليهم الابتعاد عن التدخل في الشؤون السياسية، وهي عازمة على وضع نظام خاص يعين حقوقهم وواجباتهم، وأنها ستولي الأمن العام والشؤون المالية والاقتصادية والمعارف والصحة جل اهتمامها، وستسعى لحفظ علائقها الودية مع حكومات المناطق المجاورة وتوقيعها، وستصرف عنايتها الخاصة لتأسيس مجلس تشريعي يمثل طبقات الشعب كافة فيشرف على التشريع ويعاون الحكومة في الأمور الداخلية في اختصاصه الذي سيعينه الدستور.
هذا هو ملخص برنامج الحكومة، وقد كان برنامجا طويلا حوى التفاصيل الكثيرة عن الأمور التي احتواها هذا التلخيص. وكما أن مجلسا تنفيذيا حل محل مجلس النظار، فقد أشار البرنامج إلى أن مجلسا تشريعيا سيحل محل المجلس النيابي الذي مر ذكره في برامج ومناسبات قبل تأليف هذه الحكومة.
إن وجود مستشار المالية في المجلس التنفيذي لم يدم طويلا، ففي 11 أيلول 1926 خرج منه بناء على تشبثات جرت مع الجانب البريطاني، وحل محله مدير المعارف السيد أديب وهبة. تم بتاريخ 17 نيسان 1927 أخرج من المجلس مدير النافعة وهو موظف مستعار من حكومة فلسطين، وحل محله إبراهيم بك هاشم الذي عين آنئذ مديرا للخزينة. وبعد مدة أدخل في المجلس التنفيذي توفيق أبو الهدى بدلا من الدكتور رضا توفيق، وبعد ذلك بسنة حل محل السكرتير العام الذي كان مستعارا من حكومة فلسطين فعاد إلى محله هناك.
وبتاريخ 26 آذار سنة 1928 نشر نص المعاهدة الأردنية البريطانية، الموقع عليها في القدس بتاريخ 20 شباط 1928 من قبل اللورد بلومر وحسن خالد باشا. وبتاريخ 19 نيسان 1928 نشر القانون الأساسي لشرق الأردن. وبعدئذ أصدر قانون انتخاب أعضاء المجلس التشريعي.
واجتمع أول مجلس تشريعي للنظر في المعاهدة وإقرارها بتاريخ 22 شوال 1347 الموافق 2 نيسان 1929، وقد استمر درسها ومناقشتها مدة شهرين، صدقت بتاريخ 4 حزيران 1929.
وقبل أن يعقد المجلس التشريعي دورته الاعتيادية في شهر تشرين الثاني 1929، رأى حسن خالد باشا الذي صار يلقب (برئيس الوزراء) بحكم الدستور، ألا يظل في المجلس أحد من المستعارين - وكان لا يزال فيه الشيخ حسام أفندي جار الله والدكتور حليم أبو رحمة - وأن يدخل في المجلس اثنان من أعضاء المجلس التشريعي المنتخبين؛ فاستقال ليؤلف وزارة جديدة على هذا الأساس، وألفها فعلا. إلا أن تجربة الاستفادة من أعضاء منتخبين من المجلس التشريعي لم تنجح، فأعطي لهذين العضوين مركزان في الحكومة، وانفصلا عن صفتهما الانتخابية في المجلس، حيث انتخب عضوان بدلا منهما.
استمرت حكومة حسن خالد باشا في الحكم مدة تقارب الخمس سنوات، ثم استقالت بعد أن حلت المجلس التشريعي الذي رفض أن ينظر في قانون الميزانية ويلبي طلبات الحكومة.
الوزارة السراجية
وبتاريخ 5 شوال 1349 الموافق 22 شباط 1931 ألف الشيخ عبد الله أفندي سراج حكومته، فاحتفظ لنفسه إضافة للرئاسة بمنصب قاضي القضاة ووزارتي الداخلية والمالية، وجعل المجلس التنفيذي مؤلفا برئاسته، ومن السكرتير العام توفيق بك أبو الهدى، ووزير العدلية عمر حكمت بك، ومدير الخزينة شكري بك شعشاعة، ومدير الآثار أديب بك الكايد، والنائب العام عودة بك القسوس. ولقد أعلنت هذه الحكومة منهاجا مفصلا أهم ما فيه: (1)
شعورها بالمسؤولية المشتركة الملقاة على عواتق أعضائها بمدلول القانون الأساسي تجاهنا. (2)
وعدها بالسعي لتعديل المعاهدة ضمن حدود الإمكان والاعتدال. (3)
تعهدها بأن تترك أمر الانتخاب للمجلس التشريعي حرا بعد أن حل المجلس السابق وأن يكون في منجاة من أي تدخل غير مشروع. (4)
الحرص على استعمال الحقوق المعينة في القانون الأساسي والقوانين الأخرى كاملة غير منقوصة مع مراعاة القيود التي نصت عليها المعاهدة. (5)
ما تذكره الحكومات عادة من أمور الإصلاح والتحسين في جميع الأمور النافعة.
وزارة إبراهيم باشا الأولى
بتاريخ 1 شعبان 1352 الموافق 18 تشرين الثاني 1933 ألف فخامة إبراهيم باشا هاشم وزارته، فاحتفظ إضافة إلى الرئاسة بوزارة العدلية ومنصب قاضي القضاة، وألف المجلس التنفيذي على الشكل التالي:
إبراهيم باشا هاشم
رئيس الوزراء ووزير العدلية وقاضي القضاة
شكري بك شعشاعة
مدير الخزينة
عودة بك القسوس
النائب العام
سعيد بك المفتي
المفتش الإداري
هاشم بك خير
مدير الآثار
قاسم بك الهنداوي
عضو المجلس التشريعي
وقد كان منهاج الحكومة مختصرا، يتضمن العزم على انتهاج كل خطة للاضطلاع بأعباء المسؤولية وفق رغبتنا بما يحقق أماني البلاد ومصالحها، مع العناية بالشؤون الاقتصادية والعمرانية والحزم في محافظة الأمن والنظام، وتحقيق مطاليب البلاد الدستورية بجميع الوسائل المشروعة.
وبتاريخ 19 صفر 1352 الموافق 2 حزيران 1934 غادرنا الإمارة في زيارة إلى إنكلترا وقد عدنا بتاريخ 8 ربيع الثاني 1353 الموافق 20 تموز 1934.
وبتاريخ 22 تموز 1934 أعلن نص الاتفاق المعقود بيننا وبين صاحب الجلالة البريطانية ملحقا للاتفاقية المؤرخة في 20 شباط 1928 ومعدلا بعض موادها لمصلحة شرق الأردن.
وفي آخر شهر نيسان 1937 غادرنا بلاد الإمارة مرة أخرى لحضور حفلات التتويج، وعدنا من إنكلترا يوم 13 حزيران 1937.
وزارات توفيق باشا أبو الهدى
وبتاريخ 3 شعبان 1357 الموافق 28 أيلول 1938 تألفت وزارة توفيق باشا أبو الهدى، وصار المجلس التنفيذي على الشكل الآتي:
توفيق باشا أبو الهدى
رئيس الوزارة ووزير الخارجية
السيد أحمد السقاف
قاضي القضاة
عبد الله بك الحمود
مدير الخزينة
خلف بك التل
مفتش الإدارة
نقولا بك غنما
النائب العام
هاشم بك خير
مدير الآثار
ولقد كان المنهاج في هذه المرة أيضا مختصرا، تضمن أشد الارتباط بنا والعزم على السعي لأن تكون للبلاد مكانة في المجموع العربي كما لغيرها من الأقطار الشقيقة، من وجود وكرامة مع التمسك بمبادئ القضية العربية التي وضع كيانها المنقذ الأعظم رضي الله عنه، حتى يتيسر الوصول إلى غاية العرب المنشودة وهي الوحدة القومية.
وكذلك أشير إلى ما يشار إليه عادة من الحرص على الأمن العام والعناية بالمصالح الاقتصادية وتخفيف العبء عن المكلف في الأوقات العسيرة، والاهتمام بالمعارف وجميع الشؤون النافعة واتباع النظام الكامل في دوائر الحكومة.
مجلس وزراء بدل المجلس التنفيذي
وفي بداية سنة 1939 انتدبنا رئيس وزرائنا للسفر إلى لندن ممثلا عنا ، لحضور المؤتمر الذي عقد من أجل قضية فلسطين. ولقد انتدبناه للقيام بإيصال طلباتنا بشأن تعديل الاتفاقية الأردنية البريطانية والمفاوضة في هذا الشأن. ولقد أسفرت النتيجة عن إجراء تعديلات أخرى لمصلحة شرق الأردن، وتم الاتفاق كذلك على تعديل القانون الأساسي في أمور كثيرة، وقلب المجلس التنفيذي إلى مجلس وزراء أسوة بالبلاد الدستورية وجعله مسؤولا تجاهنا.
وبتاريخ 6 آب 1939 تم تعديل القانون الأساسي، واعتبر الأمير بمقتضى هذا التعديل «القائد الأعلى للقوات العسكرية»، ونص على تأليف مجلس الوزراء وصلاحياته ومسؤولياته. ثم استقال الرئيس وفق التقاليد الدستورية وألفت أول وزارة في هذا العهد الجديد كما يلي:
توفيق باشا أبو الهدى
رئيسا للوزراء ووزيرا للخارجية والعدلية
السيد أحمد علوي السقاف
قاضيا للقضاة ووزيرا للمعارف
رشيد باشا المدفعي
وزيرا للداخلية والدفاع
عبد الله بك النمر
وزيرا للشؤون المالية والاقتصادية
نقولا بك غنما
وزيرا للتجارة والزراعة
علي باشا الكايد
وزيرا للمواصلات
وأعلنت الوزارة في منهاجها عزمها على التمسك بمبادئ النهضة العربية والتآزر مع المخلصين لها، حتى تصل الأمة إلى ضالتها ووحدتها بإذن الله، وعلى حفظ روابط الإخاء والتعاون الوثيق مع الأجزاء الأخرى من الوطن العربي لكل ما فيه المصلحة؛ ونوهت أن البلاد خطت خطوة طيبة بفضل الخطة المثلى والحكمة البالغة اللتين أبداهما أمير البلاد وما أظهره شعبه الكريم من الإخلاص والطاعة.
صورة رد الحكومة البريطانية البرقي على طلبات شرق الأردن المبلغ بكتاب المعتمد البريطاني
المؤرخ في 1944/6/16
إن حكومة جلالته قد أولت مذكرة مجلس الوزراء المؤرخة في 4 تشرين الثاني 1934 في وضع شرق الأردن في المستقبل اعتبارا جديدا وعطفا.
فهي تقدر اسمى تقدير صداقة الحكومة والأهالي ومعاضدتهما غير الملتويتين بزعامة سمو الأمير الرشيدة، وهي تدرك شاكرة ممتنة أنها استطاعت في كثير من الفترات العصيبة في العشرين سنة الأخيرة، ولا سيما إبان أشد أيام الحرب الحالية، الاعتماد دون ما تردد على إدارة جميع طبقات الأمة في شرق الأردن وعلى تعاونها تعاونا فعالا إلى مدى ما أوتيت من قوة ومورد.
إن حكومة جلالته تقدر تقديرا تاما أن رغبة الشعب الأردني تتجه إلى وجوب وضعه على قدم المساواة مع شعوب الأقطار العربية المجاورة، ولهذه الغاية ترحب حكومة جلالته بعقد معاهدة مع شرق الأردن تتلاءم إلى حد أقرب مع ظروف الأحوال مما هي عليه اتفاقية سنة 1928.
إنه لأسباب فنية يجب أن ينظر للمفاوضة في معاهدة كهذه إلى نهاية الحرب، ولكنه بالرغم من أن العلائق الرسمية بين حكومة جلالته وبين حكومة شرق الأردن ينبغي في الوقت ذاته أن تستمر على ما هي عليه في الوقت الحاضر، فإنه سيكون غرض حكومة جلالته أن تفسر هذه العلائق تفسيرا فيه المراعاة لقصدها هذا.
وتعرب حكومة جلالته عما يخامرها من الأسف لما حدث من التأخير في هذه المسألة، فإن هذا التأخير لا ينطوي على شيء من عدم المجاملة نحو حكومة شرق الأردن، وإنما هو يعزى إلى انهماك حكومة جلالته انهماكا كبيرا.
الوزارة الرفاعية
وبعد أن قام توفيق باشا أبو الهدى بأمرنا بإعادة تأليف الوزارات عدة مرات، استقال بتاريخ 14 تشرين الأول 1944 وخلفه في منصبه سمير باشا الرفاعي الذى ألف وزارته على الشكل التالي:
سمير باشا الرفاعي
رئيسا للوزراء ووزيرا للخارجية والدفاع
الشيخ فهمي أفندي هاشم
قاضيا للقضاة ووزيرا للمعارف
سعيد بك المفتي
وزيرا للداخلية
مسلم بك العطار
وزيرا للمالية والعدلية
هاشم باشا خير
وزيرا للمواصلات
نقولا بك غنما
وزيرا للتجارة والزراعة
وذكرت الحكومة في منهاجها أن المنهاج الأساسي الذي وضعته الوزارة السابقة - وكان رئيس الوزراء الحالي أحد أعضائها - والذي كان من حسناته ضمان الاستقرار لهذه الإمارة السعيدة طيلة سني الحرب وفي أخطر أدوارها والذي كان محل الرضا من لدنا، إنما هو بنفسه منهاج الوزارة الجديدة.
وزارة إبراهيم باشا الثانية
وبتاريخ 18 مارس 1945 استقال سمير باشا، وفى اليوم الثاني ألف إبراهيم باشا هاشم وزارته من أعضاء الوزارة السابقة باستثناء هاشم باشا خير، الذي حل محله في مجلس الوزراء دولة توفيق باشا أبو الهدى وتولى وزارة الخارجية.
وأشار منهاج هذه الوزارة إلى الحرب، وأنها وإن تكن قد انتهت في أوربا إلا أن أيام السلم تتطلب الكثير من الجهد والبذل وتدعو إلى التساند والتعاون التامين للخلوص نهائيا مما خلفته الحرب من مشاكل وأرزاء، ولإنجاز ما ارتكنته من مشاريع إصلاحية، وللحصول على ما تترقبه الأمة من استكمال استقلالها وتحقيق آمالها وأمانيها في الوحدة القومية المنشودة. وذكر في المنهاج أن الحكومة لا ترى عرض برنامج لما تعتزمه من أعمال إنشائية، وأن من الخير أن تعلن الأعمال عن نفسها بنفسها، وأن سياستها ستكون الحرص على التعاون الكلي مع دول الجامعة العربية والسعي لإتمام الأهداف التي رسمتها الثورة الكبرى.
وزارات ومعتمد
ومما هو جدير بالذكر في صدد وزارة إبراهيم باشا الأولى، أنه قبل أن أعهد إليه بتأليف الوزارة، بعد إقالة الشيخ عبد الله سراج، كان المعتمد السابق - السير هنري كوكس - عندما سألني عن خلف الشيخ، ذكرت اسم المرحوم حسن خالد باشا، فلم يرعني إلا قوله: أرجوك أرجوك، لا أستطيع التعاون معه ...
وأنا لم أقل له حسن خالد باشا، إلا لئلا يظهر عدم ارتياحه من إبراهيم باشا، لأنني كنت سمعت منه عن فلان وفلان أنهما أصلح من يكون لهذه الرئاسة، وقد صار أحدهما وزيرا للداخلية ووزيرا للدفاع في وزارة توفيق باشا أبو الهدى، وأما الآخر فلم يكن إلا نسخة ثانية من هذا الذي لمحت به.
ولم يعترض على ترئيس إبراهيم باشا هاشم، فجاء للوزارة بنشاطه المعروف، وصرف جهود الجبابرة، واستمر إلى أن تغلب عليه اليأس، حيث ضيق الميدان القيد الأجنبي الممل.
ولم تكن الحكومة الإنكليزية تعرف هذا، مع أنني لم أخف متاعب رؤساء الوزارات من تدخل المعتمد السابق فيما ليس له فيه أي حق. وقد أخبرت بذلك المندوب السامي سير شانسيلور، وأعلمت السير آرثر واكهوب، وأخيرا انتهت وظيفة السير هنري كوكس في عهد السير مكمايكل، وهي خير خدمة وقعت من مندوب لشرق الأردن. وأنا لا أقصد من هذا الحط من قدر السير هنري كوكس، فإنه كان يحبني كثيرا ويخلص في عمله لاعتقاده أنه يسدي الخير للناس رغم أنوفهم.
ثم استقال إبراهيم باشا وجاء إلى الرئاسة توفيق باشا أبو الهدى، وكنت أعتقد أنه يرضى بالتعاون معه الكولونيل كوكس، وإذا الأمر بالعكس؛ فإنني لما أردت تعيينه للسفر إلى لندن يوم تعديل المعاهدة، اعترض ورجح أن أعين إبراهيم باشا لهذه المهمة، فأصررت على رأيي، ثم أوعز إلى السير مكمايكل أن يأتي ليحاول أن أغير رأيي، فجاء وحدثني فلم أوافق.
وبين يدي سفر الباشا قال لي المعتمد: إن توفيق باشا أصبح لا يعتمد عليه، فقلت: عجيب! من أخبرك بذلك؟ إنه لدي في منتهى درجات الاعتماد.
وفي اليوم التالي حضر الباشا المشار إليه مع المعتمد، فقلت له: سافر يا باشا وثق بأنني معتمد عليك في كل أمر دق أو جل.
وبعد خروجهما زار المعتمد الباشا واعتذر إليه وقال إنه يحبه ويعده بالمعاونة النزيهة.
وعند سفر رئيس الوزراء كنت بالغور وكان المعتمد عندي فقال لي: أتسمح يا سمو الأمير لي بأن آخذ رسم توفيق باشا فمن الممكن ألا يعود من إنكلترا؟ فقال له توفيق باشا: خذ رسمي ولكن من الممكن أن أعود فلا أجدك هنا. وكان ذلك فجاء الباشا بالتوفيق وسافر المعتمد.
وجاءت الحرب ومضت، وقد تعب فيها توفيق باشا كثيرا؛ وإنها لمهمة شاقة، وإن الباشا المشار إليه لمن خيرة رجال العرب، ومن الأشخاص الذين إذا صادقوا يصدقون وإذا عادوا لا يتسترون.
ثم استقال توفيق باشا، ولما لم يقبل إبراهيم باشا الوزارة أحببنا توجيهها إلى حامد الوادي باشا، فحالت بعض الظروف دون ذلك؛ فأولينا ثقتنا سمير باشا الرفاعي، وهو من نتاج شرق الأردن، حيث تمرن وتقلب من عهد الركابي باشا إلى أن نال الرئاسة وهو بالقرب من الرؤساء وليس بالبعيد منا؛ ولكن كانت مدة وزارته قصيرة، ولكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.
وإنا لنرجو من الوزارة الحاضرة، المتحلية برئيسين سابقين التوفيق في كل الأمور وبالأخص في أمر الوحدة السورية التي بها يتم استقرار بلاد العرب، ودوام أمرها وسلامتها من الأخطار السياسية وما في التجزئة من وهن وضعف.
المعتمدون البريطانيون
بعد أن تشكلت الإدارة في شرقي الأردن على شكلها المعلوم برئاسة رشيد بك طليع، عين مستر أبرامسون معتمدا بريطانيا لدى هذه الإمارة، وكان على ما يظهر في العقد الخامس من سنه، وهو رجل محترم وقور، فمكث في المعتمدية نيفا وستة أشهر.
ولما حضر الكولونيل لورنس إلى عمان ومعه حداد باشا للنظر في المعاهدة الحجازية الإنكليزية، بقي وكيلا للمعتمد إلى أن تهيأت الأسباب فعين مستر فلبي معتمدا بشرقي الأردن، وهو معروف لدى العرب، على شيء كثير من الإخلاص في البلاد التي يعمل فيها.
ومن جملة ما أذكر له - كفكرة ظريفة - في إحدى الليالي، وقد كان في المجلس شخص طلب أن يكتب كل من حضر المجلس جملة أدبية في دفتره، فكتب مستر فلبي البيت المشهور لعبيد بن الأبرص:
ساعد بأرض ما دمت فيها
ولا تقل إنني غريب
وهذا شاهد على ما قلت، وإن إخلاصه للملك عبد العزيز بن سعود يكاد يفوق إخلاصه لملكه وبلده. وقد سافر معي إلى لندن في السفرة الأولى، ولم يأل هنالك جهدا في القيام بواجبه، ولقد كان بيننا أحيانا ما يكدر صفو الوداد لصلف يبدو منه، ولقد كان هنا يوم شرف الوالد المرحوم شرقي الأردن وحين البيعة للخلافة، ولقد حرض الناس وحض عليها.
ثم استبدل بالكولونيل كوكس وهذا الأخير له شخصية إدارية، ولا يحب إلا أن يعمل مع أشخاص يرتاح إليهم، وكان زمن بدئه عمله زمن حظ سيئ لشرقي الأردن وللبيت الهاشمي من حيث هو. فمكث تلك المدة الطويلة، ولولا الصبر والحكمة التي من الله بها علينا لكان الامتزاج معه من المستحيلات.
ثم عين أخيرا وبين يدي هذه الحرب، المعتمد الحالي مستر كركبرايد، وهو من أصدقاء العرب القدماء، حيث شهد الحرب السابقة في الجيش الشمالي برفقة الأخ الملك فيصل. وإنه من أعز الأصدقاء لنا شخصيا، فقد ظهر في وقته الشيء الكثير من التوفيق، واستراح في أمر التعاون معه توفيق باشا أبو الهدى بمجموع وزاراته، كما أنه تعاون مع سمير باشا على تلك الوتيرة، وهو الآن مع إبراهيم باشا صديقه القديم على تعاون ونزاهة. وكذلك كان في وكالاته عن المعتمد السابق. وإني لأرجو له من كل قلبي مستقبلا حسنا وصحة وعافية.
المندوبون السامون
سير هربرت صمويل
كنا تكلمنا عن أول مندوب عرفناه في فلسطين وهو السير هربرت صمويل - الآن لورد صمويل - بما عرفناه عنه؛ وإنه لمن الرجال الأفذاذ الذين عرفتهم كوزير ورجل دولة، وكمتفان بحكمة في قوميته. وكانت الليدي صمويل مكرمة للضيف وقورة محترمة.
اللورد بلومر
إن اللورد بلومر هو المندوب الثاني في فلسطين في عهدي، وهو نبيل وقور كريم، ومشير فخيم، لطيف المعشر وصريح. وفي عهده أبرمت المعاهدة البريطانية الأردنية. وفي عهده أنقص عدد الجيش العربي، وأخذت منه المدفعية وأنشئت قوة الحدود. ولقد كنت نصحت بعدم فائدة هذه الإجراءات، ولكن لعل ذلك من ظواهر الانتداب. وإنه لخير كثير حيث لم تقع هذه البلاد فيما وقعت فيه سوريا التي تعاني من الحكومة الفرنسية إلى الآن ما تعاني. ولقد تعاونت مع اللورد بلومر، ولقد عاونني ضمن الحدود التي له ولي.
سير جون شانسيلور
هو ثالث مندوب وهو رجل حليم مدقق، وفي عهده بدأ الشعور القومي ينمو في فلسطين. وكانت أول المظاهرات والثورات واللجان البريطانية للتحقيق، وحوادث البراق. وكان صديقا حميما لي.
سير آرثر واكهوب
إن هذا الجنرال هو الثاني من المندوبين السامين العسكريين. وكان كشرارة تتقد، حسن النية جوالا شاطرا. وفي وقته كانت الثورة المعلومة في فلسطين، وفي وقته قيل عن التقسيم. وبهذه المناسبة أتساءل: هل يمكن لعاقل في الدنيا القول بتهويد فلسطين؟! إنه لمن خير اليهود ومن واجب الذين يحدبون على اليهود أن يقنعوا بما حصل؛ ولتقف الهجرة ولتستقل فلسطين عربية، ولتكن الطائفة اليهودية لها ما لسواها من حقوق لمواطنين فلسطينيين؛ فإن محاولة أي حل غير هذا فيه الكوارث والخراب والدمار.
سير هارولد مكمايكل
حضر هذا المندوب السامي إلى فلسطين بعد فتور الثورة العربية بفلسطين، ولم يمض زمن حتى كانت الحرب الأخيرة فشغلت الناس عن كل شيء. وفي الحق أنه أحسن عمله في هذه الفترة الخطيرة من الزمن. وأن محاولة الاعتداء عليه من اليهود تري الإنسان من هو مكمايكل في نظر اليهود.
اللورد غورت
لقد كنت أتوقع تولية هذه الشخصية الكريمة لهذا المنصب، بعد أن تولى الدفاع عن جبل طارق وعن مالطة. ولقد صدق الفعل الظن؛ فهو المندوب اليوم، وهو ثاني مشير بريطاني يشغل هذا المقام السامي، وهو من النبلاء المعروفين، يضرب به المثل في الشجاعة كجندي وكقائد عظيم. وإن التراجع العظيم الذي تولاه فأنقذ الجيش البريطاني في أول الحرب من دنكرك، يريك من هو لورد غورت. وإنه في مركز شديد الخطورة، وفي بلد أموره شديدة التعقيد؛ يواجه العرب ومن ورائهم الإسلام في هذه الدعوة الصهيونية. وإنا لنرى فيه خير رجل لهذا الوقت في فلسطين.
سمو الأمير عبد الله وإلى يساره البروفسور ريجنالد كوبلاند، فاللورد بيل، فالسير هوراس رمبولد.
الجيش العربي
حين تشكيل إدارة شرق الأردن، جرى الحديث بين رشيد بك طليع والسير وندهام ديدس السكرتير العام لحكومة فلسطين حين ذاك، عن إيجاد قوة لتأمين الأمن الداخلي في البلاد وعلى حدودها، بعد ما دار من حديث بيننا وبين مستر ونستون تشرتشل. وكنت رأيت لزوم تشكيل فرقة نظامية بما تحتاج من الصنوف العسكرية المقبولة حين ذاك، من مشاة ومدفعية وخيالة، وأن تكون مركبة من ثلاث كتائب، كل كتيبة مركبة من ثلاثة أفواج، وكل فوج مركب من ثمانمائة نفر، مع ما يتبع هذه الكتائب من مدفعية جبلية ومدافع ميدان ورشاشات، وأن يكون فوج فرسان مركب من ألف وخمسمائة رمح أو سيف أو فلنته (بنادق صغار) مع السيف أو الرمح فقط.
ولما جرى البحث بين رشيد بك طليع والسير وندهام ديدس، لم تقرب الحكومة البريطانية إلى تأييد هذا بالمرة، معتلة بفداحة المصاريف، ولكن رضيت بأن تضمم القوة التي جاءت معي من معان وهي مركبة من متطوعين نظاميين إلى القوة السيارة، وهي قوة فرسان كانت موجودة في شرق الأردن بقيادة الكبتن بيك وهو (الفريق بيك باشا أخيرا) ورضوا بأن تكون معها بطارية جبلية وأن تتكيف من قوة درك في المناطق الثلاث: عجلون والبلقاء والكرك، هذا عدا قوة البوليس.
فدأب الكبتن بيك بصفته مفتش الجيش وساعده فؤاد بك سليم وعبد القادر باشا الجندي ومحمد علي بك العجلوني وغيرهم من حضرات الضباط العرب، وكانت هذه القوة جديرة بالإعجاب في سرعة تنظيمها وتدريبها وفي لباسها وسائر مقتضياتها.
ولقد قامت بواجبها أثناء حركة الكورة بسير جبري من الكرك إلى عجلون، فوصلت سيرا على الأقدام في أربعين ساعة، وتمكنت من إرضاخ كليب الشريدة ومن معه وانصياعهم إلى القانون. ثم كانت موفقة أيضا أثناء حركة البلقاء المعروفة وبعدها.
وفي عهد الكولونيل كوكس، يوم أن كان لورد بلومر مندوبا ساميا وكان المستر سايمس سكرتيرا عاما، وبين يدي المعاهدة الأردنية الإنجليزية، أنقصت من قوة الجيش العربي قسم المدفعية وأنشئت قوة الحدود، وكانت هذه عملية غير متناسية بالنسبة للقرارات الأولى.
ثم تعين كلوب بك قائدا لقوة البادية، بعد أن تحقق فعلا عدم اقتدار قوة الحدود على أي شيء يودع إليها في نواحي البادية. فبنشاط كلوب بك وبالقابلية الحربية في البدو ظهرت قوة البادية بالشكل الموجب للفخر.
وبعد أن أسندت قيادة الجيش للقائد الحاضر وحدوث الحرب الحاضرة وثبوت صداقة شرق الأردن وإخلاصنا لقولنا وعهدنا، توسع الجيش العربي الحاضر فأصبح مفخرة للبلاد، ولا ينقصه من الأسلحة الجديدة سوى قسم الطيران والمدفعية الثقيلة. وإن للفريق كلوب باشا الهمة والجهد المخلص في هذا الباب. فقد قام هذا الجيش إبان مضاعفات الحرب الحاضرة لعملية مهمة في العراق وبمساعدات قيمة أثناء طرد فرنسا الفيشية من سوريا.
وإنا نثبت فيما يلي البرقيات الواردة من القواد الإنكليز في هذا الصدد:
يا صاحب السمو المعظم
الآن وقد رجع الفريق كلوب باشا وفرقة جيشكم العربي إلى عمان، بعد قضائهم ذلك الأمد القصير المظفر في العراق، أجد لزاما علي أن أسجل الشرف العظيم الذي تولاني بانضمامي إلى رجالكم البواسل في المعركة. وليس ذلك فحسب وإنما تقديري الشديد لعملهم الباهر كجنود.
إن أعمال قوة الجيش العربي الناجحة في اجتياز الصحراء في مقدمة خطوطنا الميكانيكية، وتدميرها لمواصلات العدو وقطعها السكك الحديدية، وصيانتها لمواصلات أحد خطوطنا المستقلة من الهجوم الخلفي، كل ذلك جعلني أقدر أياديها العسكرية العديدة حق التقدير.
إن تقدم تلك القوة وعزمها وبشاشة رجالها في شتى الأحوال بعثت في النفس أعظم السرور للانضمام إليها في ميدان المعركة.
فاسمحوا لي يا صاحب السمو أن أهنئ سموكم على الفعالية التي قامت بها هذه القوة الممتازة، وأملي الوحيد أن يسعدني الحظ فأنضم إليها وإلى قائدها الشهير في الأعمال الحربية المقبلة. ولي الشرف أن أبقى خادم سموكم المطيع عن قيادة قوات الحبانية: 1 حزيران 1941.
الميجر جنرال
جورج كلارك
صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله - عمان
بمناسبة عودة قوة البادية من العراق أحب أن أبعث إلى سموكم بأحر تهاني، على العمل الباهر الذي قاموا به لقيادة قائدهم وجميع الضباط والرجال في الواجب النبيل لاستعادة الحرية والحكومة الدستورية.
مكمايكل
1941/6/3
صاحب السمو المعظم أمير شرق الأردن
هل لي أن أعرب لسموكم عن تقديري وشكري، للخدمات القيمة الباسلة الممتازة التي قامت بها قوة البادية من الجيش العربي وقائدها في العمليات التي أنجزوها في العراق بمؤازرة الجيش البريطاني وسلاح الجو.
الجنرال سير ه. م. ولسون
1941/6/4
إلى صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله المعظم - عمان
لقد قامت أمس قوة البادية الأردنية في السخنة بقيادة كلوب باشا، بأعظم عملية ناجحة؛ فقد أسرت ثمانين أسيرا وست سيارات مصفحة واثني عشر متراليوزا. فأقدم لسموكم تهاني مشفوعة بكل احترام، على روح العمل وصفات القتال في قواتكم.
الجنرال ه. م. ولسون
1941/7/2 •••
صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن الحسين أمير شرق الأردن
يا صاحب السمو
بمناسبة الانتهاء الظافر للحرب في أوربا، أشعر بأنه من واجبي أن أقدم إلى سموكم بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن الجيش البريطاني في الشرق الأوسط تشكراتي الخالصة على الخدمات الجلى التي قدمتها شرق الأردن والجيش العربي للقضية المتحدة.
إن البسالة والثبات اللذين أبداهما سموكم في السراء والضراء طيلة سني هذه الحرب الطويلة، كانتا محل إعجاب القادة البريطانيين في الشرق الأوسط.
إن موقف سموكم كان بدون ريب الملهم لجنودكم؛ وعندما كانت بريطانيا في سنة 1941 في موقفها الحرج، وقف الجيش العربي وقفة صادقة بجانب حلفائه البريطانيين. وقد قام جنود سموكم بدور هام في عمليات العراق وسوريا، ولولا مساعدتهم في عمليات العراق لكان من الممكن أن تتخذ هذه العمليات شكلا آخر. وإنه لمما يؤسفني ويؤسف سموكم أيضا كما أنا متأكد أن الفرصة لم تتح لجنود سموكم بالاشتراك في العمليات الحربية في أوربا. إن بقاء قواعد الشرق الأوسط في قبضة الحلفاء كان على كل حال عاملا رئيسيا في كسب الحرب، وإن جنود سموكم في هذه السنوات الخمس قد لعبت دورها الهام في هذا الواجب الحيوي.
إن نظام الجيش العربي قد استوجب احترام القادة البريطانيين الذين كان هذا الجيش يعمل تحت إمرتهم. وقد كانت علاقاتهم بالجيوش البريطانية دائما علاقات الزمالة العسكرية المخلصة.
وإني أود أن أبين تقديري لموقف الصداقة والمساعدة الذي وقفته حكومة سموكم والشعب الأردني تجاه القوات البريطانية التي كانت في البلاد. وإني على يقين بأن روابط العطف والزمالة التي وجدت في وقت الحرب بين الجيش البريطاني والشعب الأردني ستستمران أثناء سنوات السلام التي نأمل أنها أمامنا.
لي الشرف أن أكون خادم سموكم المطيع.
باجت
8 أيار 1945
حول فتنة العراق
ولمناسبة ذكر فتنة العراق سنة 1941، أود أن أثبت هنا البيان الذي كنت أذعته في شعبي الأردني العزيز، في ذلك الظرف العصيب.
بيان إلى الشعب الأردني الكريم:
لقد علمتم بما يجري في هذه الآونة في بلاد العراق الشقيقة من حوادث مؤسفة، نشأت عن أن فئة اغتصبت سلطة الحكم في هذا القطر العزيز قد رغبت في اتباع سياسة خاطئة ترمي إلى تعريض هذا البلد العربي الكريم إلى القلاقل والفتن وسلامته واطمئنانه إلى الفوضى والاضطراب.
ولقد كنت أول من انتابه الحزن والأسى لوقوع هذه الحوادث المؤسفة في قطر كانت الأمة العربية بأجمعها ولا تزال تعتبره المثل الحي للاستقلال الكامل الذي ما برح أمنية البلدان العربية الأخرى تسعى إليه بجهود قومية موفقة إن شاء الله.
ولكن الغموض الذي رافق هذه الحوادث في بدايتها وما تغذيها به الدعايات الخبيثة المغرضة من أفكار السوء والدس والفتنة، كل ذلك لم يساعد الرأي العام على الوقوف على حقيقة هذا الموقف الطارئ الذي أرادت تلك الدعايات السامة أن تروج به مقاصدها الهادمة لاستقلال العراق وحريته وتسميم الأفكار العربية جمعاء.
وإنني بالنسبة لما أشعر به نحو العراق الشقيق من عواطف الحب والولاء الشخصية فضلا عن روابط الإخاء الصادق التي تربط هذه الإمارة به وفضلا عن خدمة البيت المالك في البلادين، قد رأيت من واجبي أن أذيع على شعبي الكريم بياني هذا، لأعلن لهم فيه أن الحركة القائمة هناك أدت إلى نزوح حضرة صاحب السمو الملكي الوصي على عرش العراق، تبرؤا مما جرته هذه الفتنة على العراق من ويلات ومصائب كما جاء في بيان سموه الذي أذيع على الشعب العراقي بعزمه الصادق على العودة إلى العراق إن شاء الله مرجعا لتلك البلاد استقلالها وسيادتها وطمأنينتها إن شاء الله. وكما علمنا من تصريحات وزير خارجية بريطانيا العظمى المستر ايدن من أنه ليس في نية الحكومة البريطانية الانتقاص من حقوق العراق الاستقلالية وسيادته بأي صورة من الصور، وليس بينها وبين الشعب العراقي أي اختلاف أو عداء. هذا وإن العزم منصرف إلى إعادة الحالة الطبيعية والود الحقيقي بين الأمتين الحليفتين، وإني موقن بذلك كل الإيقان إن شاء الله تعالى. فلإيضاح الحال وتنوير الأذهان أعلن هذا لشعبي الكريم.
عمان في 19 ربيع الآخر سنة 1360
الموافق 16 أيار 1941 «عبد الله»
وبتاريخ 18 أيار 1941 - وأنا في إربد - أرسلت الملاحظات التالية:
إلى سعادة الجنرال ولسون (1)
مساعي الألمان الإفسادية في بلاد العرب وكيف نستطيع إحباطها. (2)
تجلى للعيان أن الألمان قد توقفوا في مساعيهم في العراق. (3)
تبذل هذه المساعي بكل قوة في المدارس والكليات بسوريا ومصر وفلسطين وشرق الأردن. (4)
تبذل هذه المساعي بين العمال في كل محل يوجدون به. (5)
إن إذاعات الراديو في فلسطين ومصر تساعد على تلك المساعي بإذاعة ما يظنون أنه لهم وإذا به عليهم. مثال ذلك ذكر نزول الطائرات المعادية بسوريا والعراق، فهذا يجعل الناس يظنون أن الألمان يستطيعون عمل كل شيء. (6)
يجب سرعة ضرب الأعداء في العراق بأسرع ما يمكن. (7)
بقاء الجيش البريطاني بالصحراء بين الرطبة والفلوجة وبالبصرة دون تقدم، أمر لا أرضاه، وأرى أنه يقوي الخصوم ودعايتهم. (8)
الحالة في سوريا تأتي بالدرجة الثانية بعد العراق. وإنني أرى الحكمة في سياسة حكومة جلالته بالنسبة إلى حليفتها السابقة فرنسا، ولكن أعتقد جازما بأن العملية التي قامت بها ضد أسطول فرنسا في وهران يجب أن تطبق حالا في سوريا. لذلك أرى أنه أولا يجب طلب كل دبابة وكل سيارة مصفحة في سوريا وكل طائرة، وتسليمها لجيش جلالته أو حجزها تحت ضغط قوات بريطانية، أو نقلها إلى بلد محايد كتركيا مثلا، على أن تبقى الإدارة في سوريا في أيديهم - أيدي الفرنسيين - وإذا لم يقبلوا فيجب الدخول إلى سوريا حالا، حيث من المقرر إعلان وحدة العراق وسوريا بتعضيد من الألمان. وإنه من المقرر جلب جنود ألمان بالطائرات وتسليم كل الأسلحة الفرنسية من آليه وغيرها إليهم، وحينئذ ينبغي على حكومة جلالته أن تعاني متاعب إيجاد قوة عظيمة هنا وفي فلسطين مثل قواتها على حدود ليبيا. (9)
يجب إعادة روح الصداقة في العراق وسوريا بين العرب والإنكليز حالا، بالقضاء على المتمردين، وفق ما شرح أعلاه. (10)
إنني منزعج لعدم وقوفي على الحالة السياسية والحركات العسكرية في حينها، ومنزعج لإمكان تغلغل الدعاية المعادية إلى بلادي إذا طال المدى. إنني في وضع عادي، أي كأنه وليس في الدنيا شيء، عاطل غير عامل لخير بلادي وأصدقائي. وربما يلاحظ أن شيوع مساعداتي تغضب ملكا من ملوك العرب، ولكن أرى أنه قد لا تكون هذه الملاحظة مفيدة في هذه الأوقات الحرجة. وإنني أطلب أن أكون سيد بلادي الأمين لحلفائي والقائم بوظيفتي قبل فوات الفرص. (11)
ليس لي ما أقوله في مسألة التحكيمات المقامة من إربد إلى سال، والأخرى في ناحية المفرق، غير ملاحظتي بأن المسافة بينهما عظيمة جدا ومن الممكن للعدو المفروض اجتياز ما بينهما ليلا. (12)
ألاحظ أن هذه التحكيمات لا تكون ضامنة النتيجة إلا إذا كان جبل الدروز في يد الجيش البريطاني؛ فإنه إذا كان هذا الجبل على حاله في أيديهم، ففي إمكان الأعداء دخول البلاد من شرقي المفرق فالزرقاء فوادي الأردن فضفاف الشريعة - إن شاء - أو من عمان أو من وادي الزرقاء ومنحدرات جبل عجلون. •••
ولما أخمدت فتنة العراق، وانهزم مثيروها الهوج، وعاد الملك والوصي إلى مقرهما تلقيت من سمو الوصي البرقية التالية:
حضرة صاحب السمو الملكي سيدي الأمير عبد الله المعظم - عمان
بحمد الله ورعايتكم انتهينا هذا اليوم من حل مشاكلنا وقد تألفت الوزارة برئاسة فخامة جميل المدفعي، وما أخرنا عن إرسال برقية إلا انتظارا لتصفية جميع الأمور لتكون البشرى التي أرفعها لسيدي كاملة، لأني أعلم كما يعلم غيري أن ما يعنينا يعنيكم أكثر من أي إنسان، وما ذلك إلا لحنوكم الأبوي وكونكم الأساس المتين الذي ترتكز عليه عائلتنا عند الشدائد والمحن، وليس من المستبعد أن نستنير بهدى من عركته الأيام وصقلته التجارب. وبالختام أتمنى لمولاي وللعرب جميعا أياما كلها عز وسؤدد.
عبد الإله
3 حزيران 1941 •••
وبتاريخ 9 جمادى الأولى 1360 الموافق 4 حزيران 1941 عادت قوات الجيش العربي الأردني من عملياتها الموفقة في العراق، فألقيت فيها الكلمة التالية:
مرحبا بالقوة الموفقة، مرحبا بالقوة الظافرة المطيعة، وشكرا لها ولقائدها.
لقد عدتم من مهمة دقيقة مثلتم فيها الوفاء وواجب الطاعة والإخلاص للبيت الهاشمي.
لقد عدتم بعد أن قمتم مساهمين في إطفاء هذه الفتنة أحسن مساهمة، فبورك فيكم وفي عملكم.
لقد وصل الوصي إلى بلاده وعدتم أنتم إلى بلادكم وكلا البلادين بلاده وبلادكم. وعلي أن أنبئكم بأننا جميعا في طريق وحدة كنا نرجوها وقد مزقها أولئك الذين طردتموهم من العراق.
استعدوا دائما للقيام بما يطلب إليكم كما استعد أجدادكم الذين كانوا مع أجدادنا، واحذروا الفتن ودعاتها واحذروا أهل الدس والنفاق.
لقد عدتم والوجوه باسمة مشرقة، لقد عدتم وأنا راض عن عملكم كل الرضى، فأنتم فخرنا وعليكم بعد الله اعتمادنا.
فليحي الجيش العربي الباسل ولتحي قوة البادية الظافرة ولتصل الأمة العربية إلى أمانيها القومية بفضل الله وكرامة رسوله
صلى الله عليه وسلم ، وبحسن مؤازرة حليفتنا بريطانيا العظمى، ولنف لها كما وفت لنا ولنساعدها في مهمتها العالمية الشاقة بكل شهامة واهتمام.
والآن أوجه إلى قوة البادية الباسلة المحبوبة وسام النهضة العلي الشأن من الدرجة الثانية، مرفوعا على هذا العلم الذي أسلمه إليكم لترفعوه عاليا، ولتدافعوا تحت ظلاله عن مجدكم، كما أنني قد أصدرت إرادتي بصنع سيف ذهبي مرصع يهدى إلى قائدكم تقديرا لعمله وشجاعتكم.
رسالة من نوري السعيد والجواب عليها
سيدي ومولاي صاحب السمو الملكي
بعد التشرف بلثم اليدين الكريمتين والابتهال إلى الله جل وعلا بأن يطيل عمر مولاي ويقرن أيامه الغر بالعز واليمن. أعرض أنني أرى من واجبي - وقد عدت إلى العراق - أن أعرب عن عظيم تأثري وعظيم اغتباطي بالعطف السامي والفضل العميم اللذين شاء نبل مولاي أن يغمرنا بهما في أثناء إقامتنا في الشرق العربي في الآونة الأخيرة.
والواقع أن ما لقيناه من سموه الملكي في أثناء الفتنة المؤسفة التي اجتاحت العراق في تلك الآونة ليس سوى حلقة جديدة من سلسلة أفضال سموه التي تتابعت علينا خلال بضع السنوات الأخيرة المكتظة بالأحداث والأرزاء، فكانت خير بلسم لجراحنا وأسطع نبراس أنار طريقنا في المراحل المظلمة التي اجتزناها، وأفضل مشجع لنا على مجابهة المصاعب المختلفة ومعالجة المشاكل المتنوعة التي اعترضت سير البلاد نحو أهدافها السامية ومثلها العليا التي اختطها لها البيت الهاشمي العظيم وتولى قيادتها إليها.
وإذا كان قلمي عاجزا عن التعبير عما أشعر به نحو عطف مولاي من التقدير والامتنان، فإني مطلق لساني بترتيل آيات الشكر والامتنان ومتوجه بقلبي إلى الله تعالى، سائلا إياه أن يجزي مولاي عنا خير الجزاء، وأن يقر عينيه بتحقيق آمال الأمة العربية التي وقف عليها جهوده، فيجلي عن آفاقها سحب الظلمة والإبهام، ويبدل ذعرها أمنا وشكها يقينا وأمانيها حقائق، ويمهد أمامها سبل المجد والفلاح.
وأنتهز هذه الفرصة لتقديم عظيم احترامي وخالص أماني للأمراء الكرام، سائلا المولى أن يقر بهم عيني سموه وأن يديمه ذخرا وملاذا للأمة العربية، وليتفضل مولاي بقبول فائق احترامي وتعظيمي.
العبد المخلص نوري السعيد
بغداد في 15 حزيران 1941 •••
عزيزي نوري باشا
لقد تلقيت بأنامل السرور رسالتكم الكريمة المؤرخة في 15 حزيران 1941 والصادرة عن بغداد، ولقد قدرنا ما جاء فيها من جمل وكلمات حق التقدير؛ وإنه من كان له مثل سابقتكم في الحجاز في حروب الثورة من بابها إلى أن بلغت نصابها فحري أن يكرم ويبجل متى كان لذلك التكريم والتبجيل سبب وسبيل.
أما وجودكم لدينا قبل قدوم سمو الوصي وأثناء وجوده هنا، فهو منكم عمل فذ لا يقوم به إلا كل شهم محب لوطنه. فقد برأكم الله من كل ما ألم بالعراق في تلك المدة من خراب وتدمير على أيدي الأثمة الأشرار، سواء من كان من أهل العراق أو ممن حرضهم أعداء الكمال والاستقرار من فرار الأقطار بفلسطين وسوريا. والله أسأل أن يعيذنا جميعا من شر كل هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم.
رغدان في 24 حزيران 1941
سمو الأمير عبد الله لدى نزوله من الطائرة في مطار بغداد، في زيارته الأخيرة للعراق.
استعراض الموقف الحاضر في البلاد العربية
موقف العراق والأردن إزاء التضافر السوري اللبناني النجدي وتشجيع السياسة العليا له، وموقف مصر كالوسيط في تنفيذ سياسة مجهولة، ووجود نجد بالحجاز وما يجب على البيت الهاشمي وأنصاره بالعراق وشرق الأردن إزاء ذلك
تمهيد
بالنظر لما يجري اليوم من أحاديث ومحاولات، وبالنسبة لأن الفكر القائم الآن قد يخرج السير العربي نحو استكماله من طور إلى طور، فمن واجب الأمانة وضع مبادئ الثورة العربية الكبرى ومبانيها في هذا البيان لإطلاع صاحب السمو الملكي الوصي المعظم ورئيس وزراء العراق ووزير خارجيته ورئيس وزارته السابقة الفخام على ذلك.
الأمة العربية
الأمة العربية ذات التاريخ وصاحبة الماضي المجيد والتي نزل على نبيها القرآن والتي فتحت المشرق والمغرب في أقل من ربع قرن وجاءت بالإصلاحات الدينية والمدنية وبما يقتضيه الإخاء الإنساني، أمة لا يجوز أن تكون مستعمرة مستعبدة، بل هي أمة قائمة مستقلة هادية. أما بقاؤها في ظل حكومات غير عربية ولكنها مسلمة فقد جاء عن رضوخ تلك الأمم للتعاليم الإسلامية والإخاء المحمدي. فإذا سادت تعاليم القرآن وعمل بالسنة فالعربي حينئذ سواء عنده أكان سلطانه عربيا أم كان ينتمي إلى غير العرب من المسلمين. لذلك كانت الأمة العربية تنظر إلى سلاطين الإسلام بما أعطاها الله من شرف خص به النبي العربي عليه الصلاة والسلام.
تصدع الرابطة العربية العجمية
على أنه لما جاء العصر الأخير والذي قبله، حدث شيء من التحور زلزل تلك الرابطة الجامعة بين العربي والعجمي؛ فمنشور التنظيمات الخيرية الصادر في عهد السلطان محمود الثاني كان أول مرقاة للخروج على التعاليم العربية المستمدة من قرآنها وسنة نبيها إلى الشكل الغربي الغريب الذي لم يفهمه منتحلوه أنفسهم؛ فكانت النكسات والاختلافات والتعثر في السير والتلكؤ في العمل. ومن ذلك تحوير شكل الجيش والإدارة فجأة والقضاء على العسكرية الينيشارية وإيجاد الجند المسمى «بالنظام الجديد»، وحوادث مورة التي استخدم فيها الجيش المصري بأمر من السلطان إلى والي مصر محمد علي باشا آنذاك، وما كان هناك وفي كريت من فواجع وخاصة على الأسطول التركي المصري في ناوارين، ثم صدور الأمر السلطاني إلى والي مصر بالتوجه إلى الجزيرة العربية أيام محمد بن عبد الوهاب، وقد حدث ذلك، وتكلل الجهد المصري بالنجاح في الحجاز ونجد وعسير حتى صنعاء.
بوادر الانفصال
بعد ذلك تراءى لوالي مصر الوهن في الجسم العثماني، فاقتحم إلى سوريا والأناضول، وكانت هزيمة الجيش العثماني المشهورة أمام الجيش المصري، ثم تدخل روسيا وإنكلترا في الأمر وإرجاع الجيوش المصرية إلى مصر مخلية الأناضول وبلاد العرب بأجمعها، وإرضاء والي مصر بأن تكون ولايته فيه وفي أعقابه باسم والي مصر وبفرمان سلطاني، ومشى به الأمر كذلك حتى زمن الخديوي إسماعيل الذي حصر الإرث في نسله على أصول الوراثة الأورباوية وسمي «الخديوي».
وكانت هذه الظاهرة أول صبغة عربية استقلالية بدت في مصر، عقبتها محاولة الشريف عبد المطلب بن غالب - الذي كان أميرا على مكة بعد الشريف محمد بن عون رأس الأسرة الهاشمية الحاضرة، والصديق الحميم لمحمد علي باشا والي مصر - فقد انتهز ذلك الشريف الفرصة السانحة بسبب الحرب الروسية العثمانية المعروفة بحرب القرم، فحاول إعادة استقلال الحجاز إليه إلا أنه لم يتوفق إلى ذلك.
وعند الانقلاب العثماني الأخير الذى أعيد بسببه الدستور العثماني لسنة 1293 تحولت الحاكمية السلطانية إلى حاكمية ملية محصورة في العنصر الذي منه السلطان، وغدت سائر العناصر والأقاليم تبعا للعنصر الحاكم ، وشرع في تتريك العناصر الأخرى لتغيير صبغتها القومية ودفع الخطر عن السلطنة الدستورية التركية، الشاعرة بوجود أجناس أخرى في الإمبراطورية هي أكثر عددا وتدين بالإسلام. وبدأت الأحزاب المختلفة والأندية المتعددة لكل أمة تتشكل وتتكيف وتناضل عن حقها وتطالب. وأحس بالضغط من فرقة الاتحاد والترقي التركية في الانتخابات للبرلمان العثماني كي لا ينجح في عضوية البرلمان إلا من كان تركيا أو اتحاديا. عند ذلك شعر العرب، وشعر معهم بقية الأقوام الأخرى ممن تتكون منهم الإمبراطورية، أنهم على خطر الزوال؛ فحدثت الثورات في بلاد الأرناؤوط وفي جبل الدروز وفي الكرك، وتولى إخماد الثورة العربية سامي باشا الفاروقي المعروف، وكانت الثورة في عسير وقد أخمدها أمير مكة الشريف الحسين بن علي، وثورة اليمن وقد أخمدها المشير عبد الله باشا وأتم أمرها المشير عزت باشا.
وكان الشريف متمسكا حينذاك بالرابطة العثمانية، يفضلها ويرى بقاءها ويؤثرها على انهيار وتصدع لا يعرف مداه ولا تؤمن عاقبته، إلى أن بلغ الصلف الاتحادي ذراه وشوهد أن أمر انفصال العرب عن الأتراك الذين تعادوا وتهوروا وازدروا كل ما سواهم أمر لا بد منه. فطالبت سوريا بإدارة لامركزية واستولى ابن سعود على الأحساء واتفق الإمام في اليمن مع الاتحاديين على شكل معين، وشد الأمر بين السيد الإدريسي والترك على طريقة خاصة؛ وكانت هذه أول مرقاة أيضا إلى الانفصال والقلوب مفعمة بالعداء ورجال الدولة من الاتحاديين يحرقون الأرم على كل عربي نابه.
الوفود إلى الحجاز والمساعي العربية
ثم ترامت الوفود إلى الحجاز من القطر الشامي، وعرضوا على الشريف في مكة ما الناس فيه من سوء حال ومستقبل مظلم مع الظلم والاضطهاد والنفي والإبعاد، حتى جاءت الحرب السابقة وجاء جمال باشا بسلطانه وعدوانه إلى دمشق، فضاقت الأرض بما رحبت وخاف بأسه كل عزيز وذليل. وفي غضون ذلك كانت مذاكرات القضية العربية بين الشريف وبين رجال الاتحاد والترقي تجري بالمخابرة أحيانا، وأحيانا بواسطة الأمير فيصل بن الحسين ملك سوريا أخيرا وملك العراق فيما بعد ذلك. وكانت المكاتبات تدور من الناحية الأخرى مع بريطانيا العظمى لإيجاد الحلول الموصلة العرب إلى حقهم الأكبر فيما إذا أخفق العرب والترك في الاتفاق.
تحديدات
وقبلت بريطانيا العظمى مساعدة العرب بقيادة شريف مكة، لوصولهم إلى استقلالهم وتحريرهم من نير الأتراك والألمان في كافة البلاد العربية، ما عدا الساحل الغربي من ولاية الشام وذلك يعني جبل لبنان، فقد كان الرأي المتقرر في مكة عدم إكراه لبنان على ما لا يرتضيه، وأن له الحرية التامة في أن يسعى لنفسه ما يشتهيه، وما لبنان في البلاد العربية إلا عون لها مع أية صبغة يكتسبها.
ويدل التحديد المتقدم على أن ساحل حلب والساحل الفلسطيني معترف بهما للناحية العربية، واستثنت بريطانيا الإمارات العربية التي لها صلات عهدية مع حكومة الهند، وهي الإمارات التالية:
إمارة آل سعود في نجد، إمارة الكويت، إمارة البحرين، سلطنة مسقط وعمان، سلطان حضرموت، ولحج، وإن مستعمرة عدن والنواحي الست التي على حدها مستثناة، هذا ولم يستثن من الحركة العربية سوى ما ذكر أي بلد.
فاليمن وعسير وإمارة حائل في عهد ابن رشيد، والعراق كله وسوريا؛ هذه تعهدت بريطانيا العظمى، ألا تعقد أي صلح مع تركيا وألمانيا قبل أن يتم تحريرها.
وعلى هذا بنيت الثورة العربية لإيجاد دولة عربية واحدة يرأسها ملك واحد وترمي إلى هدف واحد. وكانت الأمة حينذاك مستكملة الشروط الضامنة لقيامها على قدمها، وكانت لها متصرفية فلسطين وولاية بيروت وولاية حلب وولاية سوريا وولاية بغداد والموصل وولاية البصرة وولاية الحجاز، تلك المجموعة من الولايات الغنية بشبابها ورجالها من ملكيين إداريين وعدليين ومن قضاة شرعيين وأمراء عسكريين من أعلى الرتب إلى أصغرها، وكانت الجيوش العثمانية العربية مركز أحدها دمشق ومركز الثاني بغداد، وفي الحجاز الرجال الذين حملوا عبء هذه المسؤولية العظمى متكلين على الله وعلى الإخلاص والأمانة في الأمة وعلى الوفاء من حليفتهم بريطانيا العظمى.
نتائج
وما إن ألقت الحرب أوزارها حتى عاد أناس من العرب الذين كانوا يخدمون الأتراك بالاتفاق مع حزب الاتحاد والترقي واختلطوا برجال الثورة العربية في هذه الأنحاء، واختطفوا منهم زمام التوجيه فعملوا على استقلال سوريا والعراق. وكان عهد سايكس بيكو وجاءت الانتدابات على موجبه فكافحوها وأوجدوا الميثاق القومي الذي نص على حدود سوريا من أولها إلى آخرها، ميثاقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ثم جاءت الضربة الفرنسية وأخرج الملك ونكست الأعلام فتخبطت سوريا بعد أن أضاعت مركزها العالي الرفيع، وتقسمت كما هو معروف إلى سوريا ولبنان الخاضعين للانتداب الفرنسي، وفلسطين وشرق الأردن الخاضعتين للانتداب البريطاني، وجاء التحديد الحاضر بين أجزاء هذا البلد الواحد على هذه الكيفية ولهذا السبب ولقيام الانتدابين.
وبعد ذلك كانت الحركة الوهابية الأخيرة التي أدت إلى خروج العائلة الهاشمية من الحجاز، بعد جهاد وجلاد أدى فيه البيت حقه لبلاده المقدسة وحرص على ألا تصبح الأمة العربية متحيرة لا رأس لها يجمع كل أجزائها، ليتابع مسؤولياته في الاحتفاظ بحقوقها. ومن المعلوم أن بريطانيا العظمى كانت متعهدة بألا تسمح لأي واحدة من الإمارات والسلطات العربية التي لها صلات عهد بحكومة الهند في أن تعرقل مساعي الثورة العربية أو تقف معاكسة لها، حتى تتمم واجباتها القومية، وقد أوقفت الحكومة البريطانية اعتداءات الوهابيين علي المملكة الهاشمية في الحجاز أكثر من مرة، وأخيرا في مؤتمر الكويت، ولما لم يوصل إلى اتفاق حينذاك، كان ما كان مما حصل فسقط الحجاز، وبسقوطه أصبحت القضية العربية منقسمة إلى قضايا مشتتة بين يمن ونجد وعراق وإمارة وجمهوريات في سوريا وبلاد منتدب عليها فلسطين. ومن المقتضى عدم إغفال بيعة الناس في مكة لصاحب النهضة بأنه ملك البلاد العربية، وقد ضربت السكة النقدية بهذا الاسم، ثم جاءت التجزئات السابقة كما ذكر.
وإننا، لما ذكر، نلقي هذه الحوادث بين أيديكم ليتبين أنه من الخسران العظيم على الأمة العربية أن تظل التجزئة فيها تحث اسم استقلالات واهنة تجعل كل جزء من هذه الأجزاء غير قادر فعلا واقتصادا على حفظ كيانه إن لم يعد بمجموعه إلى كيان واحد، واضعين أمام الأمة هذه الحقائق خشية فوات الوقت ومخافة العمل على دوام هذا الشكل بهذه الأسماء، التي لا تلبث أن تعصف بها أعاصير السياسة فيأتي الندم حين لا ينفع الندم. وأي خسران على رجال الثورة إذا رأوا أن عملهم الانفصالي لم تكن له نتيجة سوى تجزؤات لمنفعة أشخاص وعدم ظفر الأمة بما كانت ترمي إليه من مجد موحد وحق تاريخي.
وعلى هذا، وبعد البيان الموجز الذي سردناه فيما يتعلق بمبادئ الثورة ونشأتها ومراميها، نرى أن إيجاد هذه الدويلات في الشام من حدود مصر إلى العراق إلى تركيا هو تقسيم ضار بمصلحة العرب، وأنه التحديد الذي أقامه شكل الانتدابين وأنه هو الذي كافحه الوطن ووقف في وجهه. فإن قبلنا هذا التقسيم وأقررناه فكأننا رضخنا لما كانت الأمة رفضته، وستكون حجتنا واهية واهنة إزاء مطامع اليهود وأنصارهم إن طلبوا مثل ذلك في فلسطين.
من هذا كله يتبين أن البلاد العربية التي لا تزال في يد ورثاء الثورة من رجال البيت الهاشمي وأشياعه هم العراق وشرقي الأردن، وأن عليهما واجبات وتبعات من المقتضى أن ينظروا إليها بحقيقتها والاعتراف بها بالنظر للحقائق الآتية، وهي: (أ)
الإقرار بأن سياسة إعلان استقلال سوريا والعراق عند انتهاء الحرب السابقة وفصلهما عن الحجاز قبل أن يتم الصلح بين تركيا وأعدائها، وقبل أن تتنازل الحكومة التركية عن حقوقها في هذه البلاد لهذه الأمة كان من أكبر الأخطاء. (ب)
الاعتراف بأن استقلال سوريا والعراق وانفصالهما عن الثورة العربية والملك الواحد هو الذي جر الانتدابات على هذه البلدان. (ج)
الاعتراف بأن إقرار التغيير في البيت المالك للحجاز هو إزالة الرئاسة الواحدة للبلاد الواحدة وأن كل هذا ليس في مصلحة الأمة العربية بأجمعها.
وعليه فخلاصة ما هو واقع الآن من دعوة إلى وحدة أمر لا يعرف منشأه والغاية منه. إلا أن هنالك مساعي خفية يجب البحث عنها والعثور عليها. فمسألة إيجاد وحدة عربية أو اتحاد عربي مسألة موهومة خطيرة، ففلسطين لا تزال محل إصرار لإتمام آمال اليهود فيها، وإنها لا تزال تحكم حكما مباشرا من إنكلترا، سوريا ولبنان وإن كان يقال إنهما قد استقلا استقلالا ذا سيادة وإن لديهما وزراء مفوضين من دول كبرى، فإنه مع هذا يقال عنهما إنهما لم يزل عنهما الانتداب الفرنسي بشكل فني؛ وهذه نقاط ارتكاز إن دلت لا تدل إلا على التشكيك. وكذلك فشرقي الأردن الموعودة بصورة صحيحة إلى الوصول إلى مصاف أخواتها مرجأ أمر تحقيق ما طلبت إلى ما بعد الحرب، فهي مقيدة الحرية نوعا. ولا تزال المملكة الحجازية منضمة إلى نجد وهي عقدة العقد لدى البيت الهاشمي وعقدة العقد لدى العالم الإسلامي بأجمعه في حجه وزيارة قبر نبيه، إذ إنه محظور على هذا العالم الكريم من أن يقوم بواجبات معتقداته كما يريد، وإن الأقلية المتعصبة المتحكمة فيه ليس لها في قديم الإسلام ولا جديده من فضل، وهذا لا ينبغي أن يغفل أمره.
وإنه لا ندري بالنظر للمسائل المعلقة بين إنكلترا ومصر فيما يتعلق باحتلال مصر فيما ينوب الجانبين في السودان، ثم إنا على جهل تام من درجة تحقيق أماني الوحدة أو الاتحاد وما يملكه رئيس وزراء مصر من وعود سرية يعلمها هو من لدن إنكلترا وأمريكا إلى أي حد هي. فإذا وقع أي إشكال بين الدول الغالبة التي لها من الحرب السابقة يد قوية على البلاد العربية، فهل سيسمح للمؤتمرين أن ينفذوا ما سيقررونه أم لا؟
ولذلك فمن واجب بغداد وعمان السعي للسير على سياسة هاشمية موحدة مع صرف المساعي للقضاء على من يريد إخراج القضية العربية عن مبادئ النهضة الأولى، بالأخص في القطر السوري الذي قد قام به تفاهم سعودي سوري لبناني خطير، وبذل الجهد لإحياء أنصار الثورة مرة أخرى بهذه الديار وإعادة الدعوة الهاشمية بها. هذا فيما يخص العراق والأردن وإنه يجب عليهما لفت نظر النحاس باشا إلى أن يطلب باسم المؤتمر من الحكومة العربية السعودية إيجاد إدارة دستورية وحكومة مسؤولة بالحجاز قائمة على هذا الأساس، لتأمين الرقي واستكمال أسباب الدفاع وتأمين حرية المذاهب في البلاد المقدسة، حتى تتمكن الحكومة النجدية من اكتساب ثقة العالم الإسلامي.
وكذلك فمن واجب الساعين للاتحاد أو الوحدة إظهار الرغبة في أن تكون المملكة اليمنية تحوز شيئا من الإصلاح العصري. مع شكر جلالة الإمام على أنه احتفظ بهده القطعة المباركة بشكلها الحاضر سالمة نقية، وأنه ينبغي تدريبها لكي تستعد لتنظيم خطاها فيما بعد مع أخواتها. ولذلك ولئلا يقع أي فشل في هذا الجهد، فمن الممكن عقد اتفاقات ترمي إلى وحدة عسكرية في نظامها، ووحدة مالية من حيث النقد وقيمته، ووحدة ثقافية ووحدة اشتراعية في غير الحجاز، ثم إيجاد عهد دفاعي لدرء أي خطر قد يقع على أي قسم من هذه الأقسام، وأن تتم هذه في سنين معينة بعد التداول، ومع هذا فلا ينبغي منع هذه الأقسام من أن تنضم متحدة أو موحدة كلها أو بعضها متى شاءت وفي أي لحظة أرادت.
وإنه ينبغي وحدة العمل وبناء وحدة عقيدة يدافع عنها الجميع أثناء الخروج من الحرب الحاضرة إلى حالة السلم، وما يمكن أن ينجم من وراء هذا من أضرار تلحق بالبعض أو الكل، مع الدعوات الطيبة وتمنيات الخير للأمم العربية وملوكها وزعمائها الكرام.
الوحدة العربية وكيف مزقت
وسوريا وكيف ضاعت، وسوريا ورئاسات الدولة فيها وجمهورياتها، وفلسطين وأحزابها وصهيونيتها وسبب ضياع الحجاز من أجلها، وسوريا واستقلالها الأخير المزعوم وحالتها اليوم
مزقت الوحدة العربية بسبب الانتدابات، وكانت مساعي منوري سوريا في عهد الدستور العثماني طلب إدارة لامركزية، وبالطبع فإن دعاتهم جعلوا مركز دعايتهم في أوروبا باريس وفي الشرق مصر. ونظرا للضغط التركي كان العطف على هذه المزاعم في كل بلد عربي مرئيا ظاهرا، فجاءت الحرب العامة فاستغلت وقامت الثورة العربية.
ولما تبين أن الحركة العربية ثابتة، جاء سايكس وبيكو إلى جدة ومعهما الملك فيصل، فكان ما تذاكروا فيه - مما خفي علي إلى الآن - غير ما كتب إلي الوالد عنه وأنا بوادي العيص، وهو قوله: «حضروا فأبدوا لنا ما أرادوا فأجبناهم بما ألهمنا الله وقد عادوا وعاد أخوك».
فمنذ ذلك الحين والجيش الشمالي العربي الذي يقوده الملك فيصل، كان ينال كل مساعدة وتأييد من الإنكليز والفرنسيين؛ وباقي جيوش الثورة في الحجاز كانت لا ينالها من المطر إلا الرشاش. وتبين أن هذه الجهود تنصرف لإيجاد قوة تسند جيش اللنبي من يمينه، وتبيين أن المحادثة كانت لإيجاد سوريا مستقلة عن الحجاز، وإيجاد دولة عراقية مستقلة عن الحجاز أيضا.
وبعد أن جلت الجيوش العثمانية عن بلاد الشام إلى ما وراء حلب، ظهر عيانا أن سفر الأمير فيصل إلى أوروبا باسم رئيس الهيئة العربية في مؤتمر الصلح إنما هو أمر ظاهر، والحقيقة هي أنه كان يعمل بين لندن وباريس للاتفاق على إيجاد مملكة سورية مستقلة عن الحجاز؛ وإن الأمر لظاهر، فإن في إنزال الراية العربية عن بيروت في أول أيام الهزائم التركية ما يشير إلى صحة ما ذهبنا إليه.
فهذه السياسة هي التي مزقت وحدة العرب وملك العرب. فلما تم ذلك وكانت البلاد ترغب شيئا، والذين يريدون الرئاسة والحكم يعجزون عن الحصول على ذلك الشيء وهو استقلال البلاد الحقيقي، جاء التبلبل والتردد مع عدم الاستعداد، وعملت العصابات ما أشير إليها.
ثم لما وقعت الواقعة دخلت فرنسا وفر المترئسون، وهكذا سقطت سوريا وجاء الرجال الذين ترأسوها تحت إمرة المفوضين السامين الفرنسيين من رؤساء الحكومة ورؤساء الجمهوريات إلى أن حلت الحرب الأخيرة، فهزمت فرنسا واستسلمت، وجاءت حكومة فيشي وسيطرت، وجاءت اللجان الألمانية الإيطالية، واضطرت إنكلترا إلى التدخل لسلامة نفسها قبل كل اعتبار، فأدخلت معها ديغول ومن معه، فكان للإنكليز فرنسا وللألمان فرنسا أخرى. أما العرب فهم ينتظرون مصيرهم مستسلمين، ولقد وقع ما كان ينتظر.
وبعد أن تم إخراج فرنسا الفيشية قيل إن ميدان الحرب بعد عن الشرق الأوسط، وأن لا مانع من إعادة الحياة الدستورية إلى سوريا ولبنان مع الاعتراف باستقلالهما؛ وقد جرى ذلك تحت ضمانة بريطانيا كما يعرفه الناس.
وكانت الانتخابات وجاء البرلمان السوري وجاءت الجمهورية الحاضرة، ثم حصل ما حصل بين هذه الجمهورية وفرنسا، وتدخلت إنكلترا لتأمين الأمن فكبلت أيدي الفرنسيين وأرخت الحبل بيد الحكومة السورية، على أن يكون في لندن مؤتمر لحل المشكلة؛ وهذا يعني أن الإشكال لا يزال في طريق الحل، وأن إنكلترا كانت أوصت الطرفين بالتقارب، وأنها تريد نفاذ استقلال سوريا ولبنان ، ولا تنكر مركز فرنسا الممتاز في البلدين.
أما فلسطين فلا تزال تتخبط تحت شهوات أحزابها. فالعرب في تأخر واليهود كل يوم يستزيدون أرضا يملكونها. ولقد أدهشني ما رأيت بينما أنا في طريقي من جنين إلى اللد، من مستعمرات اليهود؛ فالساحل كله من حيفا إلى يافا أصبح بأيديهم، وقد عمروا تلك الرمال واستخرجوا مياهها وأحيوا مواتها وجعلوها جنات عدن وألجأوا العرب إلى الجبال القاحلة. ولا تزال الأحزاب العربية تناضل عن الشخصيات الذين على أيديهم خربت البلاد، بعد أن كان لمساعي هؤلاء التأثير الكبير في سقوط الدولة الهاشمية في الحجاز. لأن الدفاع السلبي غير المتقن الذي اتبعه جلالته تحت تضييقهم قد أدى إلى سقوط الحجاز. وفي كل هذه الأمور العبر.
أما الجامعة العربية ومركزها بمصر، فهو أمر خطير للغاية. اسم كبير ودعاية عريضة طويلة، واجتماع ممثلين ليس لهم من الاتصال بالرغائب القومية ولا بوسيلة من الوسائل، وكل دولة من دول الجامعة مرتبطة بدولة أجنبية كبيرة لا تمكنها من التصرف خارج الالتزامات المتعهدة بها، والأمم العربية وملوكها في منعزل عن ذلك؛ فاعتبروا يا أولي الأبصار.
وإننا نثبت هنا ما كنا أوصينا به توفيق باشا أبو الهدى ثم سمير باشا الرفاعي لدى سفرهما إلى مصر للمشاورة في مسألة الوحدة العربية.
إلى فخامة رئيس وزرائنا توفيق باشا أبو الهدى
تعليمات خاصة بمسألة الوحدة العربية: (1)
قد أطلعكم فخامة نوري باشا على ما يجب مما كان أساسا للمذاكرة بين الرئيسين المصري والعراقي في صدد الوحدة. (2)
إن ما اطلعنا عليه مما جرى بين رفعته وفخامته هو غاية ما يمكن ضمن تلك الدائرة. (3)
شرق الأردن تؤيد هذه المساعي المحمودة بكل تصميم. (4)
عني المرحوم الملك حسين بالبلاد العربية تلك البلاد التي تحدها من الغرب الحدود المصرية والبحران الأبيض والأحمر، ومن الشمال الولايات التركية ومن الشرق الحدود الإيرانية مستثنية الإمارات والسلطنات التي لها صلات عهدية بحكومة الهند وهي الأمير ابن سعود (يومئذ) وأمير البحرين وسلطان مسقط وسلاطين حضرموت ولحج. أما ولاية اليمن العثمانية ومتصرفية عسير وولاية الحجاز وإمارة شمر، وهي إمارة الرشيد ومركزها حائل، فكلها ضمن البلاد العربية المقصودة، ولا يخرج من هذا إلا أولئك الأمراء والسلاطين الذين لهم صلات عهد بالهند كما جاء آنفا، ومستعمرة عدن البريطانية والنواحي الست. (5)
لقد جاء في التحفظات البريطانية ذكر الساحل الغربي من بلاد الشام كمرسين وأضنه، وقد رضي المرحوم باعتبار مرسين وأضنه ليستا بعربيتين محضا. (6)
وبما أن البلاد الفلسطينية والسورية ساحلا وداخلا كانت الهدف من الثورة، فهي القضية التي ينبغي إذن الخروج منها بوحدة شاملة أو باتحاد تعاهدي؛ فبالمعنى الأول جعل المجموع حكومة واحدة بصبغة وفق ما جاء في قرار المؤتمر السوري 2 تموز 1919 والمبلغ للدول ذات العلاقة يومئذ من لدن الحكومة الفيصلية، وبالمعنى الثاني اتحاد تعاهدي يبقي الحكومات الإقليمية كما هي ويضمها في أمور تتعين لربط أجزائها بعضها ببعض تحت رئاسة واحدة. (7)
إن الاتحاد المعمول به اليوم والمرتكز على مصر والعراق لا يكون محكما قبل أن تتحد البلاد الشامية (سوريا الكبرى) أو أن توحد، وإذا بقيت هذه البلاد منقوصة السيادة تحت انتدابات أجنبية أو تشتت محلي، فأمر تمشيها مع مصر والعراق يكون من الضعف وعدم التماسك بصورة تجعلها تعجز عن القيام بما يجب عليها في هذا المضمار. (8)
من المعتقد أن بريطانيا العظمى والأمم المتحدة على أثر عهد الأطلنطي وبنتيجة ما أثبتته الحرب الحاضرة لا بد أن تكون قد عزمت هي ومن معها على تصحيح غلطات الحرب السابقة وعلى بناء الديموقراطية بناء صحيحا يجعل الأمم الشرقية في منزلة الاستقلال والشرف القومي والاستعداد، واصلة إلى الكفاءة الجديرة بالاعتماد عليها لحفظ السلام العام على طول الساحل الشمالي لأفريقيا والساحل الغربي لفلسطين وسوريا. ولذلك فالمعتقد أن أمر الوحدة متى عولج بطريقة صحيحة متساندة من العراق ومصر بعد الإصرار الكلي على وحدة سوريا أو اتحادها، سوف لا يجعل هناك مصاعب يواجهها العاملون على الاتحاد العربي إزاء إنكلترا أو أميركا. أما الانتداب الفرنسي فموقف فرنسا الحاضر هو بنفسه يقرر أن قيام فرنسا بعبء كهذا مرة أخرى ليس من الممكنات، وأن عرب سوريا الكبرى مصممون على وصولهم إلى حقوقهم في بلادهم ، وتلك الحقوق هي الاستقلال والوحدة والاتحاد، وإن هذه النتيجة ضرورة حيوية عسكرية للعراق ولتركيا ولمصر في آن واحد. (9)
أما القضية الفلسطينية فقد أعلنت بريطانيا العظمى سياستها فيها في الكتاب الأبيض الذي لم تنقضه إلى اليوم، وليس بد من إدخال فلسطين في الاتحاد أو الوحدة، وأن هذا الإدخال لا يتنافى مع أي حل كان قد قدم من أية لجنة بريطانية أوفدت لهذا أو من أي مؤتمر عربي قدم اقتراحاته في هذا الصدد، ومن الممكن الاعتماد على قرارات مؤتمر لندن بهذا الشأن أو على مقررات المؤتمر البرلماني العالمي العربي الذي عقد بمصر.
وأما لبنان فلا مانع من جعل الخيار له في الوحدة أو الاتحاد مع كل هذه البلاد العربية واحتفاظه بما يريد من شكل وكيفية، على أن مسألة لبنان الكبير هي من جملة الحقوق السورية التي لا ينبغي إغفالها. وأما السودان فهي كما معروف مصرية بريطانية. وأما شمال أفريقيا فمن المستحسن التوسل للتفاهم مع حضرة صاحب الجلالة السلطان لمراكش ومع حضرة صاحب العظمة باي تونس. أما ليبيا وطرابلس فأمرهما حتى يحين الحين، وإن الأمل في أن سيكون لليبيا كيان عربي مشكوك فيه. وأما مصر فمع كون اسمها مصر، فهي من أمهات البلاد العربية وهي الكنانة وهي التي لها من الصلات القديمة والروابط القومية ما لا يمكن التبرؤ منه والعياذ بالله.
فالبلاد العربية ترحب بالاتحاد بهذا القطر العزيز بكل قواها، وتشيد بذكر الساعين إليه وعلى الأخص زعيمها المحترم. (10)
إن أمير شرق الأردن يؤيد بكل جهده مساعي مصر والعراق ويصر على أن على مصر والعراق السعي لوحدة سوريا أو اتحادها قبل أي اتحاد عربي آخر.
فلتكن مذاكرات فخامتكم مع رفعته على هذا الأساس، وإننا ننيركم بهذه التعليمات ونترك مسألة ما يمكن أن يتجدد من أبحاث إلى فطنتكم ورويتكم المعروفتين.
حاشية: فيما يتعلق بنجد والحجاز واليمن، أرى ألا يلح عليهما فيما لا يستأنسان به، مع جعلهما على وقوف عما يجري فيما لا يعده العراق ومصر ومن معهما سرا لا يزال.
رغدان في 23 شعبان 1362 الموافق 24 آب 1943
عزيزي سمير باشا
هذه تعليمات لفخامتكم فيما يتعلق بمهمتكم في مؤتمر وزراء الخارجية العرب بمصر: (1)
اقرؤوا السلام دولة ماهر باشا والنقراشي باشا وليعلما أنني محتفظ لدولته ولمعاليه بأرق شعور المودة وأحاسيس الأخوة. (2)
أقدر تمام التقدير الشعور العام العربي بخصوص الوحدة العربية وقد نظرت باهتمام إلى البروتوكول الذي هيأه مؤتمر الإسكندرية، ومن المعلوم أن الوحدة العربية إذا حصلت تكون الأساس المتين للعرب في آسيا وأفريقيا وفي البلاد الإسلامية كتركيا وإيران والأفغان. إن هذه الوحدة متى اقترنت بالحرية والسيادة والعسكرية غير المقيدة كانت خير عون للديمقراطيات في كل موقف وفي كل أزمة، وإذا قلنا الديمقراطيات فنحن نعني بها أي دولة قديمة ديمقراطية لها أغلبية كبرى من التبعة المسلمين، تلك الحكومات التي مشت مع التاريخ الإسلامي من القرن المسيحي السابع إلى اليوم. (3)
من المعلوم أن النهضة العربية عند نجومها، كانت البلاد العربية موحدة بمجموعها خديوية مصر بالنظر لسلطة السلطان العثماني، وليست هناك حواجز جمركية أو موانع تتعلق بجوازات السفر، وقد كانت وحدة تعليمية. (4)
إنه لما جاء الدستور العثماني وتسلطت فرقة الاتحاد والترقي على الدولة العثمانية ومشت نحو تتريك العناصر وإخراجها عن صبغتها القومية وعدم الاعتداد بمرامي الشريعة السمحة المحمدية، والثورات في اليمن وعسير، والمطالبة في سوريا بإدارة لا مركزية، كل هذه الدوافع ساقت العرب إلى الرغبة في الانفصال عن هذا الجسم العتيق الواهي، وكانت النهضة وهي الحركة العربية الثانية التي تلت حركة محمد علي باشا والي مصر الذي وصل بجيوشه إلى قونيا لهذا الغرض نفسه. (5)
فإن كانت الحركة الأولى جرت إلى حيازة مصر العزيزة ما حازته من تخلص من تلك اليد، فإن الحركة الأخيرة العربية أدت إلى عين النتيجة نفسها في البلاد، ولم يكن يتصور أن هذه الحركة تجر إلى تفتت وتفريق يقع علي أثر انتهاء الحرب العظمى السابقة، ذلك التفرق الذي تسعون جميعا اليوم لجمعه. (6)
ومن هذا يفهم أن الأمر دقيق وخطير، ولكن نعتقد بحسن النية في الجميع. فالبيت الهاشمي الذي تزعم هذه الحركة التي لها صلة غير منفكة بتاريخ محمد علي باشا الكبير وبتاريخ الشريف محمد بن عون صديق ورفيق محمد علي باشا، يضع نصب عيون اعتباركم مسؤولياتها في تحقيق مراميها. ونلفت الأنظار إلى حالة التقسيمات الحاضرة لتنظروا إليها بعين حقيقتها. وليست البلاد العربية اليوم حرة بعيدة عن الأيدي والأنظار التي لها مقاصدها الكبرى اليوم غير ما كانت عليه قبل عصر المطامع في الغاز والمعابر إلى البحار الكبرى، يجعل هذا الشرق في دقة ورقة مخيفتين. فإذا رأينا إلى ما لمصر من إدارة وتشكيلات، وما للعراق كذلك من وحدة وتهيئة، لا نرى هذا في الحجاز ونجد ولا في سوريا بأجمعها؛ وإن لمصر من المعلومات والأخبار عن حالة الأمة الحجازية ما يغنينا عن الشرح، ولديها أيضا من الأخبار والمعلومات عما للقضية الصهيونية والانتداب الفرنسي بسوريا ما يغنينا عن الإشارة إلى ذلك. وإن لكل بلد من المجموعة الأفريقية وآسيا من المسائل المعلقة غير المحلولة ما يلفت النظر. والوقت ليس بوقت تشكيك، بل هو وقت ائتلاف وتضامن نزيه يوجب الاعتراف بما هنا وهناك من أدواء قومية وأجنبية واجبة الإصلاح. لذلك تتقدمون إلى المؤتمر وأنتم على علم من هذا لنقله إلى رئاسة الوزارة ووزارة الخارجية بمصر، وأن الاعتقاد في أن مصر تقف موقف الأخ المحايد الجامع الناس للخير، وهذه فكرة العراق الشقيق، والسلام عليكم.
رغدان في 29 صفر 1364 الموافق 12 شباط 1945
سوريا
كيف تستقل وتدوم وهي مجزأة؟!
أليس من العجيب أن ترفض سوريا كل انتداب على أثر انتهاء الحرب العظمى الأولى، وتعلن وحدتها وتختار ملكها وتصر على مبدأها وتقاتل عنه، فتهاجم فيقضى عليها وتدار أمورها مدة ما بين الحربين بأيد أجنبية وبوحي أجنبي، فتثور ثورتها المعروفة وتجاهد جهادها القويم، ثم تأتي اليوم تخالف ذلك المبدأ فترضى بالتجزئة وتسعى لإبقاء الحالة الراهنة كما هي، ضاربة بالشعور الماضي عرض الحائط تاركة ميثاقها القومي؟! تالله إن هذا لأمر عجيب!
إن التجزئة الحاضرة هي بعينها تطبيق عهد سايكس بيكو بعينه، زد على هذا الآن سعي إنكلترا لإحلال النظام الذي أخلت به فرنسا في سوريا باعتدائها الأخير. فبريطانيا التي تعلن أنها نصحت للجانبين السوري والفرنسي بأن يتساهلا فيتعاقدا على عهد يحفظ الوداد بينهما ويعطي سوريا استقلالها ويعطي فرنسا مركزها الممتاز، جاءت هي فكبلت أيدي الفرنسيين وحلت قيود الوطنيين واستولت بجيوشها على سوريا تديرها لتعيد النظام. وستظل كذا حتى المؤتمر الثلاثي وحتى تعاهد سوريا ولبنان فرنسا، ولا يعلم أحد متى وكيف يتم هذا.
يا قوم لا حياة لسوريا وهي مجزأة. يا قوم إن حياة الفرد قصيرة وإن حياة الأمم طويلة. يا قوم ألا تتعظوا بما هو واقع نصب أعينكم؟ لقد حرص هتلر على أن يكون أبرز شخصية في تاريخ البشر، فدعا أكبر أمة في أوروبا ليقودها فاستقادت له فخر صريعا في جداله الظالم وخرت صريعة معه، فلم يغن عنه حرصه شيئا، ولم تغن عنه تلك الأمة العظيمة، لأن عمله عمل باغ ومسعاه لنفسه لا لأمته وشعبه.
يا قوم، أنتم الذين جئتم لإعادة الحياة البرلمانية إبان الحرب الحاضرة وفي وقت بعد فيه ميدان الحرب نوعا ما عن الشرق الأوسط، فقبلتم ما عرض عليكم بحرص شخصي ورغبة ذاتية، لتحكموا فتأمروا وتنهوا متكئين على حراب معادية أثبتت تحت أقدامكم، إن تحركتم عليها خرجت من رؤوسكم.
يا قوم، لم تبوأتم مراكزكم قبل أن تضعوا أيديكم على ما هو لكم، ولقد نصحكم الناصحون حينذاك لقد خدعتم - يا قوم - أو تخادعتم، إنها يا قوم صفقة خاسرة. فيا هل ترى ماذا أنتم صانعون؟! إن لفرنسا حقا ممتازا، تقول إنكلترا إنها لم تنكره، وتقولون أنتم لا تقبلونه، وأنتم والفرنسيس اليوم في قبضة إنكلترا التي اشترطت لخروج جيوشها ما يرفضه الجانبان.
يا قوم لا مخرج لكم اليوم من هذا المأزق بغير إعلان الوحدة وتنفيذها؛ فإن هذا العمل يجعل قضية بلاد الشام في يد جانبين: العرب أهل الحق، ودولتي الغرب إنكلترا القوية وفرنسا الخاسرة. وعالم اليوم ليس هو بعالم الأمس، والحق لصاحب الحق ...
امتيازات البترول في الحجاز
كتاب من صاحب هذه المذكرات الأمير عبد الله بن الحسين إلى فخامة المندوب السامي لشرقي الأردن
عزيزي سير هرولد مكمايكل
عز علي أن أسافر إلى العراق قبل أن أراكم، ولكنها الظروف قد حالت دون ذلك فأخرت زيارتكم لإربد فجرش، حيث كان في الإمكان أن أراكم في أثناء تلك الزيارة. والآن يسرني أن أودعكم كتابة، حيث إنني عزمت على السفر إن شاء الله يوم السبت القادم الموافق 8 نيسان 1944، وأملي أن أعود بعد عشرة أيام أقيمها هناك.
عزيزي سير هرولد: أنا لا أدري كيف أبدأ فأكتب أفكاري الذاتية إليكم، في الموضوع التالي الذي يهم كل مسلم ومسلمة على وجه الأرض، ويهمني ويشغلني معهم وزيادة عليهم، لأنه موضوع يتعلق بوطني المقدس ووطن أجدادي إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. حيث قد شاع لدى الرأي العام أن امتيازات للبحث عن البترول والتبر قد أعطيت لشركات أميركية في الحجاز، بمهد الذهب، وهو محل يقع في الوسط شرقي المدينتين القدسيتين مكة المكرمة والمدينة المنورة. وقد أوجدت هنالك محلات للسكن ومراكز للأشغال ربطت بالساحل في البحر الأحمر، وإنه علاوة على ذلك قد أسس مخيم لشركة أميركية لتشغيل الذهب والنفط غربي جبل رضوى على طريق ينبع البحر - المدينة المنورة، ومخيم آخر بموقع بريمان شرقي جدة وشمال طريق جدة - مكة المكرمة تعمل على ما يقال طريقا معبدة إلى منطقة غامد وزهران بالحجاز إلى جنوب الطائف.
ومن المعلوم أن المنطقة من مدينة صالح إلى حدود اليمن بما فيها متصرفية عسير، من الشمال إلى الجنوب إلى حدود إمارة حايل وهي شرقي تيما وشرقي الحناكية في خط يمتد فيدخل حرة كشب، إلى شفا نجد فيترك للحجاز وادي الخرمة وتربة ووادي بيشة من ناحية الشرق، ثم ما يصاقب هذا الحد من مداين صالح فحدود اليمن من ساحل البحر، هي منطقة مقدسة لا تفتح لعمل ما ولا لقصد ما غير أعمال التعبد للمسلمين، من حج وعمرة وزيارة. فهي بلاد الهدوء والسكينة وطرح الأوزار والتفرغ لعبادة الله وأداء الواجب، وقد بقيت هكذا في العصور الإسلامية بأجمعها.
وإنني أقول إذا كان جلالة الملك ابن سعود قد احتلها ونزل بها، فليس لجلالته أن يخل بقدسيتها أو يغير طقوسها ويدخل إلى ساحة قدسيتها عمالا يعملون لدنياهم، فيغيرون أخلاق سكانها ويصرفونهم عن وظيفة المجاورة للبلدين القدسيين، فتصبح مجالا لأعمال الدنيا التي تقلق راحة الذين يؤمونها من أقطار العالم لطرح الأوزار ونسيان الدنيا والخروج بالتوبة من الآثام.
أكتب هذا إليكم كمسلم وكأمير هاشمي، يقول هذا هو الحق الذي أرجو رفعه لرئيس الوزارة البريطانية الأفخم، ليعلم ما يهم أهل الإسلام في محل عباداتهم وقبلتهم وقبر رسولهم؛ وبعلمه لما قلت لا شك أنه سيعمل على اجتناب ما فيه قلق العالم الإسلامي من ناحية رقيقة دقيقة.
أما جلالة ملك نجد فربما لم يبلغ علمه ما أعرف، حيث هو جديد فيما هو فيه؛ وإنه وإن كان الأمين اليوم على الحرمين فليس له أن يتصرف فيهما وضمن حدودهما بما يخل بقدسيتهما المحضة القديمة.
راجيا وزن أفكاري بميزان بريء من كل قصد غير الحقيقة، وعرضه بأسرع الوسائل حسبما ذكرت.
إن الموضوع لمهم، وإنه متى انتهت الحرب وعاد العالم إلى السلام فرأى وسمع، فسيكون لهذه الأمور المخيفة الآن ضجتها المزعجة في العالم الإسلامي غدا، وبالخاصة في الهند. وإن ما أكتبه لهو مبني على حسن النية والإخلاص للمسلمين وللدولة البريطانية - التي لديها منهم العدد الوافر - وللملك ابن سعود نفسه، وقد كتبت إليه عن الموضوع ما يجب.
وتقبلوا شعوري الودي عزيزي.
12 ربيع الثاني 1363 الموافق 5 نيسان 1944
ونستون تشرشل وبريطانيا العظمى والعرب
أود أن أتكلم عن هذا الرجل الذي قام في الحربين بما يدهش العالم، وبالسياسة التي سار عليها في وزارة لويد جورج في القضية العربية يوم أن كان وزيرا للمستعمرات.
ونستون تشرشل هو سعد بريطانيا وحظها ورجلها الفذ في العصر الأخير فقد قيض له أن ينجو بالمملكة المتحدة وبالإمبراطورية بما يشبه المعجزة.
لقد تحمل هذا الرجل عبء المسؤولية وهو يعلم ما عليه. لم يجهل تشرشل ما كانت عليه ألمانيا من استعداد عظيم مفاجئ، وما يكنه صدر كل ألماني من حقد على بريطانيا في الدرجة الأولى قبل سواها؛ ويعلم ما كانت عليه المملكة المتحدة من عدم استعداد جرته عليها الوزارات والبرلمانية البريطانية السابقة، منذ سقوط وزارة لويد جورج حتى وزارة تشمبرلن وكانت الحرب الأخيرة في عهدها.
ولكم حذر قومه من ألمانيا، وكم خطب، وكم أنب؛ فشاء الله القدير أن يقع هو تحت عبء ما حذر قومه منه، وينجو ببريطانيا وبالعالم على الشكل المعلوم، وبعد المحن والمشاق التي مرت على الإنكليز في هذه الحرب الضروس. ولكن لولا الإنكليز وإخلاص كل إنكليزي وإنكليزية لوطنهم وسعيهم، ماذا كان يستطيع أن يعمله تشرشل؟! فإنكلترا بلد كفء لتحمل كل ملمة وكل كارثة مفاجئة، وتشرشل أثبت أنه الكفؤ لقيادة هذه الأمة الوادعة، القاسية، المترفة، الناعمة، الشجاعة.
فإنكلترا وحدها، ورئيس وزرائها وحده، هما اللذان مثلا للعالم مثال الوطنية والصبر والجدال عن الحق، وبذل الأنفس والأموال لسلامة الوطن وعز القومية وصيانة الشرف؛ فحازت بريطانيا عن جدارة واستحقاق غار الظفر، وفاز تشرشل بالقيادة المشرفة لهذه الأمة.
إن في تراجع دنكرك مثال الشجاعة والصبر، وفي هجوم الأسطول البريطاني على وهران، وفي تدمير الأسطول الإيطالي في معقله، وفي عمل ويفل وهزيمة غرازياني، وفي القضاء على الجيوش الإيطالية في الحبشة والإرتريا، وفي الاستعدادات في بريطانيا لتلقي الغزو الألماني، وفي شجاعة وتضحية سلاح الطيران الملكي في الدفاع عن بريطانيا، وفي الهجوم على الأعداء في كل محل، ما يثير الإعجاب والدهشة؛ مع أن هذه الأعمال المجيدة ليست في ميدان واحد، بل هي واقعة في ميادين مترامية متناثرة في بحار الله وأرضه، تلطم أعداءها حيث تراهم، وفي حيث تجدهم، بشجاعة وتمكين متزايدين.
تالله إنها لمن المعجزات المحيرات، وإن في وقوف بريطانيا تقاتل المحور البطاش وحدها قبل أن تدخل أمريكا الحرب باعتداء اليابان عليها، وقبل أن يحارب هتلر روسيا، القول الفصل لمن يقول كلمة الحق عن إنكلترا ورئيس وزارتها. وما ثنى عنان الغزو الألماني إلى روسيا إلا عنف الدفاع في بريطانيا، وظن الزعيم الألماني أن المخرج في روسيا؛ وما النصر إلا من عند الله.
ومستر تشرشل هو الذي حضني على أن أسعى لأخي فيصل في أن يكون ملكا على العراق، فأحل في شرق الأردن وأعمل بالحسنى لاستعداد وحدة سوريا؛ وهو الذي سعى كل السعي في أن يحل الوئام محل الخصام بين الوالد المرحوم وابن سعود. وإنني في هذه الكلمة أطوي شعوري عن الزعيم وهذه الأمة التي تتعامل مع العرب.
فيا أيها العرب! اعلموا أن في مصاحبة إنكلترا وجوب الاستعداد وفي مخالفتها ما عجزت عنه الأمم الكبار، وحاذروا. فإن إنكلترا لا تقيم لأحد وزنا إن لم يكن كفؤا، وإنكلترا لا تصاحب الكذوب ولا الجبان ولا النوام، وإنكلترا لا تبني سياستها على العاطفة ولا على ما قدم لها من مساعدة في حلف ما أو حرب ما، بل إنكلترا أمة المثابرة والدوام، تحترم القوي وتحب أن تضمه إليها، وتكره التخاذل وتبتعد عنه. فكونوا أقوياء حذرين أوفياء يقظين، تكن معكم بريطانيا وتوليكم اعتمادها.
وأخيرا تحياتي وإعجابي وأحسن تمنياتي لبريطانيا ومليكها ولزعيمها تشرشل.
Page inconnue