نترك جماعة الفلاسفة فليس هذا موضع الكلام عنهم، كما أنا نأخذ من النقاد والمؤرخين الجانب الذي يمس الأدب عن قرب، ونذكر كلمة عن كل من الآخرين بقدر ما يسمح به المقام.
قلنا إن كتاب النصف الثاني من القرن التاسع عشر أظهروا مبادئ أو بالأحرى مبدأ جديدا في الكتابة، ذلك هو الناتوراليسم
Naturalisme
وهو يقصد وصف الحياة كما هي من غير تحسين ولا تجميل، وذكر كل ما يقع فيها كما يقع من غير أن يكون للكاتب شخصية ظاهرة أبدا ومن غير إهمال شيء دق أو جل مما يحصل في الظروف وفي الأشخاص الذين يرسم الكاتب بقلمه، وكان أشد أنصار هذا المبدأ جوستاف فلوبير وأميل زولا، والرواية التي وضعها فلوبير تحقيقا لهذا المبدأ - مادام بوفاري - آية من آيات الأدب الفرنسوي، يحس الإنسان حين يقرأها أنه يسير بين الناس ويرى باطن نفس أشخاص الرواية منشورا أمامه ظاهرا ما يحويه عن خير وشر، وأحسن ما قيل في وصف مادام بوفاري أن كل قارئة تقرأها تحس بنفسها بطلة الرواية وكل قارئ فيها الحياة كما هي، هذا فوق أن قلمها من أبدع وأدق ما يكون، نقول أدق ولسنا مغالين؛ فلقد كان فولبير يمضي ساعات يبحث عن الكلمة المضبوطة التي يضعها صفة لشخص أو لحادثة معينة لتطابق الواقع كل المطابقة ... وكان يتفق له أن يبقى أياما كاملة قبل أن يجد هذه الكلمة.
وأحب ما في فلوبير تشيعه إلى أقصى درجات التعصب للفن (l’art)
فقد كان يعد كل ما سواه وكل ما في الحياة العملية سافلا خسيسا، وأخذ عليه ذلك ناقد معاصر هو المسيو هنري لوجل حين تساءل عن أفضلية الرجل الذي يكسر رأس نفسه وراء صفة من الصفات على ذلك العامل في مكتبه يقضي وقته في العمل النافع المفيد، ولا شك أن كليهما متطرف ولكن فلوبير أقرب إلى الحق، ويعجبني حكم أناتل فرانس فيما بينهما حيث قال: «ولا شك أن الرجل الذي يقضي حياته لمصلحة الجميع يفضل ذلك الأناني الذي لا يفكر إلا في نفسه».
أما زولا
Emile Zola
وقد كان (ناتورالست) متطرفا وإلى الجهة السوداء، وقسم كبير مما كتب يتعلق بعائلة من عمال المناجم، ولقد وصف هذه الحياة وما فيها بصراحة تبلغ أحيانا الخروج على معتاد الأدب، فهو لا يعبأ بذكر ما يقع بين الرجل والمرأة بأوضح ألفاظه، ولا يخجل أن يصف أي جزء من أجزاء الجسم، لكنه مع ذلك عظيم المقدرة إلى حد غريب، إذا وصف خيل لك أن الموصوف موجود أمامك تنظره بعينك وتلمسه بيدك.
ربما كان من مستلزمات ذكر فلوبير وزولا أن نذكر جي دموباسان وهو تلميذ فلوبير المفضل، وأحد الكتاب الذين كانوا يأخذون الحياة كما هي، لا يجاهدون أن يجدوا فيها جمالا ساحرا يأخذ باللب، كما أنه في بعض الأحيان يظهرها لنا لذيذة براقة أشد ما يكون استيلاء على النفس، لكنه كان مع ذلك دائم الميل إلى الحزن والشجن، ورواية «حياة»
Page inconnue