ولسنا ندري أكانت تلك الفرس العالية، من ناحية روح اللعب المستمكنة منها، تريد أن تلهو لهوا بريئا مع المستر ونكل، أم خطر لها أن تقطع الرحلة على هواها بغير راكب يعلو صهوتها، فإن ذلك أمر لا نستطيع أن نقطع فيه برأي حاسم، ومهما يكن الباعث الذي بعث الفرس على هذا المسلك، فلا ريب في أن المستر ونكل لم يكد يلمس اللجام، حتى بادرت الفرس إلى التطويح به من فوق رأسها، واندفعت إلى الخلف تجره في إثرها جرا إلى نهاية طرفيه.
ومضى المستر ونكل يقول متلطفا لها مواسيا: «مسكينة مسكينة ... يا لك من فرس كريمة سمحة!» ولكن الفرس «الكريمة السمحة» كانت في مناعة من الملق، أبية على المديح، فجفلت كلما حاول المستر ونكل الدنو منها، تتثنى مبتعدة، ورغم كل صنوف التلطف، والمداراة، والممانعة، راح هو وهي يدوران ... ويلفان، زهاء عشر دقائق، ولا يزال كل منهما مبتعدا عن الآخر، المسافة ذاتها التي كانت بينهما من البداية، وهو أمر مجهد في الظروف المألوفة، ولكنه أجهد وأشق خاصة على طريق منعزل، يعز فيه الظفر بمعين أو نصير.
وصاح المستر ونكل بعد أن طال الأمد على هذه المراوغة: «ماذا تراني أصنع ... وليس في إمكاني التغلب عليها ...»
وأجابه المستر بكوك من فوق المركبة قائلا: «يحسن بك أن تقودها حتى تبلغ بابا من أبواب المكوس.»
وعاد المستر ونكل يصيح قائلا: «ولكنها لا تريد أن تسير، هلا جئت فأمسكت بها؟»
وكان المستر بكوك المثل المجسم للرفق والإنسانية، فلا عجب إذا هو ألقى باللجام على ظهر الحصان، وهبط من مقعده، وجر العجلة بعناية إلى ناحية السياج؛ مخافة أن يأتي شيء ما على الطريق، وعاد ليعاون صاحبه في محنته، تاركا صاحبيه الآخرين في المركبة.
ولكن ما كادت الفرس تشهد المستر بكوك يتقدم نحوها، والسوط في يده، حتى استعاضت عن الدوران الذي كانت ممعنة فيه، بحركة تراجع حاسم شديد، لم تلبث أن اجتذبت بها المستر ونكل - وهو لا يزال ممسكا بالطرف الآخر من العنان - جذبة أسرع من الجري العاجل ، في الاتجاه الذي جاءوا منه.
وجرى المستر بكوك لنجدته، ولكنه كلما أسرع في جريه، أسرعت في ارتدادها، واشتد احتكاك الأقدام، والركل بالأرجل، حتى تعالى الغبار وتطاير العثير، وعندئذ شعر المستر ونكل بذراعيه تكادان تنخلعان من كتفيه؛ فترك العنان ينفلت منه.
ووقفت الفرس ساكنة، ثم حملقت، ثم هزت رأسها وتولت بظهرها، وبكل رفق وهدوء انطلقت خببا عائدة إلى روشستر، تاركة المستر ونكل والمستر بكوك يتبادلان النظرات في ذهول واكتئاب، ولكن لم يلبث أن طرق سمعهما صوت جرجرة من مكان قريب، فرفعا البصر ليريا ماذا جرى.
وفي الحال صرخ المستر بكوك صرخة المبهور المعذب: «ويلنا ... إن الحصان الآخر يريد الفرار!»
Page inconnue