وأجاب المستر بكوك قائلا: «أنت على حق يا سيدي ... فهم لا يستحقونه، وإني لخجلان من أنني استسلمت لهذا الغضب الذي بدر مني ... هلا قربت كرسيك من المنضدة ياسيدي؟» فامتثل الرجل التعس في الحال لأمره، وانتظم القوم حلقة حول الخوان، وعاد الوئام يسود القوم، وإن بدا على المستر ونكل شيء من القلق قد ظل مخامرا صدره، ولعل مرجعه إلى انتزاع ثوبه من الحقيبة، وغيابه عنها إلى حين، وإن لم يكن من المعقول أن نظن أن حادثا يسيرا كهذا يمكن أن يثير غضبا ولو عابرا في صدر رجل من معاشر «البكويكيين».
وفيما عدا هذا عاد القوم إلى مرحهم، واستردوا صفو مزاجهم، وانتهى المساء بالروح المرحة التي بدأ بها.
الفصل الرابع
يوم ميدان ومبيت في الخيام ... أصدقاء جدد آخرون ... دعوة إلى زيارة الريف. ***
نرى خلقا كثيرا من المؤلفين يقيمون اعتراضا سخيفا، بل في الواقع اعتراضا غير صادق على الاعتراف بالموارد التي استقوا منها معلوماتهم النفسية ورواياتهم القيمة، ولكنا لا نرى هذا الرأي، وإنما نحاول أن نؤدي على أكمل وجه واجبنا بوصفنا ناشرين، ومهما يصح أن نحمله في هذه الظروف من الطموح أو الرغبة في ادعاء تأليف هذه القصة، فإن احترام الحقيقة يمنعنا أن نفعل ذلك، هل يقتضينا ألا نعزو من الفضل أكثر من جهد التنسيق الحكيم، والسرد النزية، جاعلين مذكرات «بكوك» بمثابة منبع النهر الجديد، ونحن إزاءها أشبه بشركة هذا النهر ومؤسسته، فإن جهد غيرنا هو الذي هيأ لنا معينا عظيما من الوقائع الخطيرة، وكل مهمتنا أن نبسطها ونسوقها في «فيض رقراق»، أو «غدير» رقيق، في هذه الفصول المتتابعة، إلى العالم «المتعطش لمعرفة البكويكيين».
وعملا بهذا المبدأ، وتنفيذا صادقا لعزمنا على الوفاء بحق والمراجع التي استأنسنا بها؛ نقول بصراحة: إننا مدينون «لكناشة» المستر سنودجراس بما أوردناه من الحوادث في هذا الفصل ، والذي سيليه، والآن وقد أرضينا ضميرنا، نمضي في السياق بغير تعليق آخر.
نهض أهل روشستر جميعا وسكان المدن المجاورة من مراقدهم في ساعة باكرة من صباح اليوم التالي، وهم في قلق بالغ وحماسة ظاهرة؛ لأن عرضا عسكريا كبيرا سيجري في الميدان، وأن القائد العام سيتفقد بعين النصر مناورات ستة آلايات ستشترك فيه، وقد أقيمت استحكامات موقوتة لهذا الغرض، ووضعت التصميمات لمهاجمة القلعة والاستيلاء عليها وتفجير الألغام.
وكان المستر بكوك من أشد المعجبين بالجيش، ولعل قراءنا قد أدركوا ذلك في النبذة اليسيرة التي أوردناها عن وصفه «لشاتام»، فلم يكن ثمة شيء أشد إمتاعا له، ولا أكثر انسجاما مع إحساس كل رفيق من رفقائه من هذا المشهد المرتقب، فلا غرو إذا هم بادروا إلى المسير نحو أرض العرض، وكان الناس قد استفاضوا إليه قبلهم، من مختلف الأحياء وعديد الدروب.
وكان الاستعداد في الميدان يوحي بأن الاحتفال المنتظر سيكون على أعظم جانب من الخطورة والروعة والجلال، فقد أقيم الحراس حوله حتى تظل أرضه الفضاء مخصصة للجنود، ومضى الخدم في المدفعية يحجزون أماكن للسيدات، والجاويشية يروحون ويغدون مسرعين، وقد حملوا كتبا مجلدة بالقماش تحت آباطهم، وبدا الأميرالاي بولدر في ثوبه العسكري الكامل، ممتطيا صهوة جواده، وهو يعدو به من موضع إلى آخر، ويدخل به في غمار الجماهير، أو يتمخطر فوقه ويصيح بأعلى صوته حتى يبح من كثرة الصياح، ويحمر وجهه أشد الاحمرار لغير ما سبب ظاهر أو باعث معقول، والضباط يجرون إلى الأمام وإلى الخلف، ويتحدثون أولا إلى الأميرالاي بولدر، ثم يصدرون الأوامر إلى الجاويشية، ثم يعدون جميعا مبتعدين، وكانت وجوه الجنود أنفسهم وهم في أحذيتهم اللامعة، وأطقمهم البراقة، تبدو عليها خطفة من هيبة وجلال تكفي للدلالة على ما لهذا الاحتفال من شأن خاص.
ووقف المستر بكوك ورفقائه الثلاثة في الصف الأول من صفوف الجماهير، ولبثوا في لهفة يرتقبون ابتداء العرض العام، وكان الزحام يشتد بين لحظة وأخرى؛ فشغلهم الجهد الذي اضطروا إلى بذله للعرض على المكان الذي وقفوا فيه عن كل شيء سواه ، ساعتين كاملتين، وأحسوا ضغطا شديدا في فترة ما من خلفهم، وإذا بالمستر بكوك يدفع فجأة إلى الأمام دفعا عدة ياردات بسرعة ورجرجة لا تتفقان مطلقا مع وقاره وهيبته، وفي لحظة أخرى سمع صيحات تأمره بالتراجع عن الخط، وأحس مؤخر بندقية يسقط فوق أصابع رجله لتنبيهه بإطاعة الأمر، أو في صدره للتحقق من امتثاله إليه، وإذا بعض الماجنين عن شماله، يضغطون من هذا الجانب بجمعهم عليه، ويحشرون سنودجراس حشرة أليمة متناهية في الإيلام، صائحين به: «إلى أين أنت ذاهب؟» وما كاد ونكل يفرغ من إبداء غضبه المتناهي من مشهد هذا الهجوم عليهم بغير داع، حتى عمد أحدهم من خلفه إلى إرخاء قبعته على عينيه، ومطالبته بأن يتكرم فيضع رأسه في جيبه، فكانت هذه المداعبات بجانب الدعابات الأخرى، ثم اختفاء السيد طبمن فجأة بلا سبب، وحيرة أصحابه في الاهتداء إليه؛ مما جعل الموقف يبدو - في الجملة - مزعجا أكثر منه سارا، أو مرغوبا فيه.
Page inconnue