201

Les Mémoires de Pickwick

مذكرات بكوك

Genres

وأنشأ توم يحدث نفسه فقال: «لعنة الله على قحته، ما شأنه في مكان الشرب البديع؟ وأي عمل له فيه؟ إنه لقبيح الصورة دميم، لو أن للأرملة ذوقا جميلا لاختارت إنسانا أحسن من هذا نوعا ما.» ومضت عينه تنتقل بين الزجاجة المقامة فوق المدفأة، وبين الزجاجة الموضوعة فوق المائدة، وما إن شعر بأنه قد أمسى ثائر العاطفة، حتى أفرغ القارورة الرابعة في جوفه، وطلب الخامسة.

وكان توم سمارت أيها السادة لا يكف من قبل عن التعلق بالحانات، والولوع بالشراب، وكان كل مناه من عهد طويل أن يقف في مشرب يملكه، مرتديا سترة خضراء، وأربطة ركبتين، وحذاء مستطيلا، وكانت نفسه أبدا تهفو إلى الجلوس في مكان الصدارة من مجالس الشراب ومطارح السمر، ولطالما تخيل نفسه مقتعدا كرسي الرياسة في حجرة يملكها، ويدير الحديث بلباقة وحذق، وأي أسوة حسنة هو المتجمل بها أمام زبائنه في الجناح المخصص للشراب، ولم تلبث هذه الأخيلة كلها والأماني الماضية أن خطرت في تلك اللحظة بباله، وهو جالس إلى قوارير شرابه بجانب النار التي تزأر في الموقدة، فلا عجب إذا هو شعر بغيظ شديد من مشهد ذلك الرجل المارد، وهو قد أوشك أن يظفر بهذا البيت البديع، بينما هو - توم سمارت - لا يزال يهفو في أثر أمنية بعيدة لا تقترب أبدا، وبعد أن ظل طيلة بقاء القارورتين الأخيرتين أمامه يفكر مليا هل من حقه أن يخلق سببا للاشتجار مع ذلك المارد؛ لأنه عرف كيف يظفر بالحظوة عند تلك الأرملة البضة، وانتهى به التفكير إلى نتيجة مقنعة، وهي أنه رجل أساءت الدنيا كثيرا إليه، واضطهدته الأقدار، فمن الخير له أن يأوي إلى الفراش.

وتقدمته الفتاة الرشيقة، تصعد به سلما قديما رحيبا، وتظلل شمعة الحجرة بكفها؛ وقاية لها من التيارات الهوائية التي تجد لها في ذلك البيت القديم الذي تخفق الأرواح فيه سبيلا إلى التسرب خلال منافسه، والعبث فيه كما تشاء، دون أن تطفئ نور الشمعة، ولكنها مع ذلك قد هبت عليها فأطفأتها، مهيئة لخصوم «توم» فرصة اتهامه بأنه هو الذي أطفأها، ولم تكن الريح هي التي أخمدت أنفاسها، وإنه بينما كان يتظاهر بأنه يحاول إضاءتها، كان في الواقع يقبل الفتاة ويلثمها، وسواء كان هذا أو ذاك هو الصحيح، فقد تيسر الحصول على ضوء آخر، وتقدمت به الفتاة في تيه من الحجرات والدهاليز حتى بلغ الغرفة التي أعدت لمبيته، فسلمت الفتاة مودعة، وتركته وحده.

وكانت الغرفة رحيبة ذات مرافق كبيرة، وتحوي سريرا يصح أن يتسع لمنام طلبة قسم داخلي في إحدى المدارس، فضلا عن صوانين للثياب من خشب السرو يتسعان لأمتعة جيش صغير، ولكن أشد ما استرعى نظر توم وأثار خياله مقعد غريب رهيب المنظر، عالي المسند، تناهى في طرافة الشكل، وله وسادة من الدمقس المزين بالأزهار، وركبتان مستديرتان في أسفل ساقيه، مربوطتان بقماش أرجواني، كأنما يشكو من نقرس أصاب أصبع قدميه.

وخيل إلى توم أنه دون سائر المقاعد كلها يبدو «غريبا» حقا، وكان الأمر محتملا أن ينتهي عند هذا الحد، فينشغل الرجل عنه، لولا أنه لاحظ على ذلك المقعد بالذات شيئا آخر، وإن لم يتبين فعلا ما هو، فقد كان من الشذوذ والغرابة بحيث لا يماثله مقعد آخر من كل المقاعد وقطع الأثاث التي شهدها في حياته، حتى لقد استهواه، واجتذب خاطره اجتذابا، فجلس قبالة الموقدة، وظل يحملق البصر في ذلك المقعد القديم نصف ساعة، وهو لا يستطيع أن يسترد عنه عينه، ولا يشيح بوجهه دونه.

وراح توم يقول لنفسه وهو ينضو عنه ببطء ثيابه، ويطيل النظر إلى ذلك المقعد القائم بجوار مضجعه بشكله الغريب المرهوب: «لعمري ما رأيت في حياتي عجبا كهذا في أيامي الخاليات.» وكان توم قد استحال «حكيما» فيلسوفا من أثر «البنتش الساخن» الذي شربه، فمضى في نجواه يقول: «هذا غريب جدا، غريب جدا!» وانثنى يهز رأسه هزة الحكمة البالغة، ويلقي نظرة أخرى على المقعد، ولكنه لم ير شيئا جديدا يمكن أن يستخلص منه علة، أو يهتدي إلى سر، فدخل في فراشه، وتغطى بلحافه ليدفئ بدنه، وما لبث أن هبط في سبات عميق.

ولكنه بعد نصف ساعة أو قرابته استيقظ مجفلا من حلم مضطرب، تراءت له فيه صور عمالقة ومردة وقوارير من شراب، وكان أول شيء تمثل لخياله في يقظته، هو ذلك المقعد الغريب.

فقال في نفسه وهو يحاول إغماض أجفانه، ويقنع نفسه أنه عائد إلى النوم: «لن أعيرك نظرة بعد الآن.» ولكن النوم لم يطاوعه، فلم يلمح غير مقاعد غريبة تتراقص أمام عينيه، وتهز سوقها، ويقفز بعضها فوق ظهور بعض، وتحدث من الألعاب صنوفا وألوانا.

وأخرج توم رأسه من تحت الأغطية، وهو يقول: «ليس ثمة ضير من أن أشهد مقعدا واحدا حقيقيا، كما لو شهدت مجموعتين أو ثلاث مجموعات من الكراسي المزيفة، ونظر إلى المقعد فإذا هو قائم حياله ظاهر واضح على وهج النار المشبوبة في المدفأة، يبدو متحديا مستفزا كدأبه.

وفيما كان يطيل البصر إليه، إذ بدا له فجأة أن تحولا متناهيا في الغرابة قد عراه، فقد بدأ المسند العالي يتخذ تقاطيع وجه بشري مغضن كثير المكاسر كوجوه الشيوخ، واستحالت الوسادة الحريرية رويدا رويدا إلى صدار غريب ذي شقين، والركبتان المستديرتان إلى قدمين اثنتين منتعلتين خفا من قماش أحمر اللون، وبدا المقعد القديم أشبه شيء برجل متقدم في السن دميم الخلقة إلى حد بعيد، من شيوخ القرن الماضي، وهو مشتبك الذراعين، فاستوى توم في مرقده، وراح يفرك عينيه ليطرد الصورة الماثلة لهما، ولكن بلا فائدة ولا جدوى، لقد تمثل المقعد القديم أمامه رجلا عجوزا دميما، بل أدهى من ذلك وأنكى، راح يغمز بطرف عينه لتوم سمارت.

Page inconnue