وهمست إيزابللا واردل كذلك: «جميل الملامح أيضا.»
وقالت العمة العانس: «بلا شك.»
وتذكر المستر طبمن عندئذ واقعة الحال مع أرملة روشستر؛ فانشغل باله واضطرب خاطره.
ولم يفد الحديث الذي تلا ذلك، واستغرق نصف ساعة في تهدئة هواجسه.
وطفق الزائر الجديد يكثر من الكلام، ولم تكن حكاياته ونوادره ليفوقها شيء، غير أدبه الجم، ولطفه المتناهي، وأحس المستر طبمن أنه كلما ارتفعت مكانة «جنجل» في القلوب ارتد هو إلى الظل، وفقد موضعه، فظل ضحكه مفتعلا، ومرحه مصطنعا، وحين وضع صدغيه أخيرا بين أطواء لحافه وأغطيته، مضى يتصور في سرور شنيع مدى الاغتباط الذي كان يشعر به، لو أنه استطاع في تلك اللحظة أن يدس رأس «جنجل» بين الفراش الريشي والحشية ليخنقه خنقا.
واستيقظ الغريب - الذي لا يعرف الكلال، ولا ينتابه الإعياء - مبكرا في الصباح، ولا يزال رفقاؤه في مراقدهم من أثر إفراطهم في الليلة البارحة، ومضى ينشط ويؤدي من الحركات الرياضية ما يزيد في بهجة مائدة الفطور ولذة الطعام، وكانت محاولاته وجهوده موفقة ناجحة إلى حد جعل السيدة العجوز الصماء تلح عليه أن يحكي لها نادرة أو نادرتين من أحسن نوادره من خلال جهاز سمعها، بل لقد تنزلت من عليائها لتقول للعمة العانس: إنه - أي «جنجل» - فتى جسور لا يعرف الحياء ... وهو رأي وافقت عليه كل ذوات قرباها الحاضرات، وأقررنه على الأثر.
وكان من عادة السيدة العجوز في كل صباح صاف في فصل الصيف أن تذهب إلى الخميلة، التي كان السيد طبمن قد انكشف فيها أمره، وقد بدأ الغلام البدين بإحضار قبعة صغيرة من الحرير الأسود اللون، كانت معلقة في مشجب خلف باب مخدع السيدة العجوز، ثم جاء بلفاعة كثيفة من القطن، وعصا غليظة ذات مقبض كبير، وما أن وضعت السيدة العجوز القبعة على رأسها، وتلفت بلفاعتها على مهل، واتكأت على العصا بإحدى يديها، وبالأخرى استندت إلى كتف الغلام البدين، ومشت الهوينى إلى الخميلة، حيث اعتاد الغلام أن يتركها لتستمتع باستنشاق النسيم العليل نصف ساعة أو نحوه؛ فيعود أدراجه إليها، ويسير بها عائدة إلى البيت.
وكانت السيدة العجوز دقيقة في ملازمة هذه العادة، ومعنية بكل دقائقها وجزئياتها، وقد انفرطت ثلاثة أعوام متوالية، وهي في كل صيف تجري عليها، فلم تنحرف يوما أقل انحراف عن شيء منها، فلا عجب إذا هي أحست ببعض الدهشة في ذلك الصباح بالذات حين رأت الغلام البدين لم ينصرف من الخميلة، بل خطا بضع خطوات، ثم تلفت بحذر حوله في كل ناحية، وعاد يمشي نحوها مختلسا الخطى في شكل يثير أشد العجب.
وشعرت السيدة العجوز بوجل ... وأوجست خيفة - وكل العجائز أبدا موجسات - وكان أول خاطر تبادر إلى ذهنها أن الغلام المتورم يريد أن يمسها بأذى بالغ لينتزع النقود الصغيرة التي لديها، وكانت توشك أن تصرخ طالبة النجدة، لولا أن الكبر والعجز قد أفقداها من زمن بعيد القدرة على الصراخ، فقنعت بمراقبة حركاته، وهي في رعب شديد لم يلبث أن ازداد حين رأته يقترب كثيرا منها، ويصيح في أذنها بلهجة مضطربة، وإن بدت لها هي متوعدة مهددة: «... يا سيدتي ...!»
واتفق في تلك اللحظة أن كان المستر جنجل يتمشى في الحديقة بجوار الخميلة، فسمع صيحة الغلام لها، فوقف ليستمع إلى مزيد، وكانت لوقوفه واستراقه السمع ثلاثة أسباب، أولا: أنه كان خاليا من كل عمل، وفضوليا. وثانيا: أن مثله لا يعرف التردد مطلقا، ولا وخز الضمير. وثالثا وأخيرا: أنه كان في خفية عن الأنظار خلف بعض الزهر وقصار الشجر.
Page inconnue