Problèmes de la civilisation moderne
معضلات المدنية الحديثة
Genres
إذا أردنا أن نبلغ ببحث هذا الموضوع قسطا أوفى من الكمال، وجب علينا أن ننظر في التاريخ باعتباره تفسيرا فلسفيا للماضي، وأن نبحث في ما يمكن أن يلقى من ضوء على مشكلات الحاضر والمستقبل.
وكثيرا ما نظر بعض الكتاب والباحثين في التاريخ معتقدين بأن من ماهيته أن يؤيد معتقدات أو مذاهب فكرية. ومما لا ريب فيه أننا إذا رجعنا إلى ذلك العدد العديد من المذاهب التي أيدها التاريخ، ظهر لنا أن في هذا الزعم قسطا من الحق كبيرا. ولقد أشرت من قبل إلى أن تلك النظريات العالمية أو الاجتماعية التي تعتمد في بقائها على الحقائق التاريخية، يكون لها في أذهان الناس قيمة ووزنا أكبر من قيمة تلك النظريات التي تعتمد في البقاء والثبات على النظر الاستقرائي العميق فى ما يحيط بنا من الأشياء.
إذا قرأنا ما كتب كونت وبوكل وسبنسر، وأمعنا النظر فيما ذهبوا إليه من الآراء في تعليلهم حقيقة الارتقاء الاجتماعي؛ يخيل إلينا دائما أن النظريات التي يحاولون إقرارها قد قامت في عقولهم مستمدة من الحقائق التي يروونها، بنفس السهولة التي نستوعب بها تلك النظريات من كتبهم. وعلى هذا يأخذنا الزهو والإعجاب بما نوهم أننا وهبناه من قوة عقلية تمكننا من أن نحيط، كما يحيط الله، بكل ما قطعت الإنسانية من أشواط التقدم والارتقاء، في نظرة واحدة نلقيها على الصورة الماثلة بين يدينا، في حين أن العين لتبهر وتفقد قوتها على الإبصار، وأن قوة التصور لتنوء بثقل ما يتراكم عليها من حمل التقاليد؛ فيرتد الإنسان كليل البصر، فاقد الحيلة. غير أن العقول الفذة الكبيرة لتدرك بأن النظرية، بدلا من أن تستمد مباشرة من الحقائق استمدادا ذاتيا، قد تكونت في صميم الحقائق ذاتها، وبالأحرى نقول بأن النظرية ليست هي النتيجة الأخيرة التي يخلص بها القارئ بعد طول اطلاعه وإكبابه على القراءة، بل على الضد من ذلك نجد أن القراءة لم تكن في الحقيقة إلا جهدا يبذل في سبيل الوقوع على حقائق تؤيد النظرية، وبدلا من أن تستمد النظرية من سلسلة طويلة من الحقائق التاريخية، نجد أن النظرية إنما تستحدث من مشاهدات محدودة قوامها الرجال، والأشياء التي تحيط بهم.
والنتيجة أن النظرية ليس لها أقل تأثير على الحد الأخير الذي تبلغ إليه الحقائق التي تستمد منها لأول وهلة، على نفس الصورة التي نلحظها في آلة ضخمة كبيرة؛ إذ لا يكون لها من تأثير على المحرك الذي يحركها، وخذ لذلك مثلا من الفيلسوف سبنسر، فإنه يعتقد أن نظريته في النشوء، على الرغم من أنها تظهر للقارئ كأنها قد استمدت مباشرة من الحقائق المفصلة التي سردت لتأييدها؛ كانت في الحقيقة نتاجا مباشرا لمشاهدات وقع عليها العلامة فون باير، محصلها أن العضويات في نمائها الجسماني تنتقل من حال التجانس إلى حال التنافر، وهذه الفكرة التعميمية التي تركزت في كل ذي ألفة واتساق كانت بدورها ذات أثر كبير في عقل سبنسر، حيث استطاع من طريقها أن يضع نظريات جديدة في كثير من فروع العلوم. وما النظرية لدى الحقيقة إلا فكرة تعميمية، تتحدد وتأخذ صورة معينة، ومن ثم تستمد من حقائق العلوم والمعارف الإنسانية ما يثبت أن هذه النظرية هي «القاعدة» أو «السنة» التي يخضع لها نظام الطبيعة، وهذا أمر طبيعي ما دمنا نعتقد أن حقائق العلم إنما هي حقائق «موضوعية» قد يصح نظرنا فيها اليوم، ثم لا نلبث أن نأخذ في بحثها ثانية في الغد، وإعادة النظر فيما تقوم عليه من القواعد والأسس. ولا جرم أن هذا النظام يظل سائدا ما دام الإنسان ينظر في المفصلات، غير أنه إذا أراد أن يرجع إلى أصل الأشياء ويبحث في منابعها الأصلية ويتساءل «كيف وجدت؟» كما فعل سبنسر في كتبه الكثيرة التي حدثنا فيها عن كيفية نشوء الحياة والأنواع والجهاز العصبي، وكيف حدث ما نسميه الزمان والمكان والإدراك والحواس والجمال والفضائل، وكيف نشأت الجمعيات البشرية والديانات والحكومات؛ كل هذا على قاعدة أن نظرية النشوء هي الأصل الذي ينير لنا سبيل معرفة هذه الأشياء، فإنه إذ يرى أن أصل الأشياء إنما يقع في حيز بعيد عن أن تتناوله مشاهداتنا وأنه مدفون برمته في ثنايا الماضي السحيق، فمن البين أن تفسيراته إنما تنحصر في البيان عن الكيفية التي يمكن أن تنشأ بها الأشياء، إذا صحت نظرية النشوء، لا في البيان عن النمط الحقيقي الذي نشأت به الأشياء، وكذلك الحكم في صحة نظرية النشوء نفسها أو فسادها، فإن ذلك لا يتوقف على مقدار المدى الذي تبلغه في البيان عن الكيفية التي وقعت بها ظاهرات «الماضي»، بقدر ما يتوقف على بيانها عن الظاهرات التي تقع حفافينا في «الحاضر».
5
من هنا نرى أن التاريخ، على أي وجه من الوجوه قلبته، لا يستطيع أن يرشدنا عن المستقبل، بل على الضد من ذلك نقرر بأن وقوفنا على حالات «الحاضر» هو الذي يزودنا بقوة نستطيع بها أن نتغلغل إلى طيات الحق الثابت.
فمثلا أية قيمة لتلك المجموعات الضخمة التي جمعها مونتسكيو ليؤيد بها مذهبه في أن الطقس هو السبب الأول الذي يحدث التباين بين الأمم من حيث القوة والنشاط والعادات ونظام الحكم، إذا دلتنا التجاريب والمشاهدات على أن تأثير الطقس، على الرغم في أنه من المؤثرات التي تكون الظاهرات الاجتماعية، ثانوي صرف؟
من هنا نعتقد أن التاريخ أولا: فن صرف، ثانيا: أنه لا يرشدنا في المستقبل ولا يكشف لنا عن حقائق الماضي، وأن «الحاضر» وحده هو الذي نستطيع إذا ما وقفنا على وقائعه أن نسترشد به في تفسير التاريخ وفي معرفة شيء مما سوف يجود به المستقبل.
فهل لنا أن يصبح «الحاضر» معبودنا الأعظم كما هو معبود الغرب، فنتبدل من العقلية الشرقية القديمة بعقلية غربية جديدة، تمهد لنا السبيل لكى ننظر نظرة مستقيمة في حقائق الأشياء؟
3
Page inconnue