١٠- تنوير: ولأن النفوس أيضًا قد اعتقدت أن الشعر كله زور وكذب على ما رآه قوم ابن سينا رادا عليهم. وكان يجب على هؤلاء إن كان لهم علم بالشعر ألا يحملهم الحسد فيما قصرت عنه طباعهم على أن يتكلموا في ذلك بغير تحقيق. وكثيرا ما يذم الإنسان ما منعه، شيمة ثعالية، فيحملهم الحسد على الغض من الشعر ومن أهله بإخراجه من الحقائق جملة، وإن كانوا ممن ليس لهم به علم، وما أجدرهم أيضًا بهذا! فكان يجب عليهم أن يتعلموا أو لا يتكلموا فيما لم يعملوا. فالناس إذا اعتقدوا هذا الاعتقاد كانوا خلفاء بأن يأخذوا أنفسهم بألا تتحرك للشعر ولا تهتز غليه. وأنت إذا نظرت من تعلم منه شيمة حسد من الكهول والشيوخ الذين يئسوا من البلاغة في النظم والنثر وجدته إذا أنشدته شعرا حسنا إما شديد الحبوس مربد الوجه لشدة الاغتياط، وإما باديا فيه يسير من الهزة وظاهرا منه أنه يقمع نفسه ويمنعها تسريح العنان في الهزة لئلا يسر بذلك المنشد ولاسيما إن كان الشعر له. فأما الأحداث فمثل هذا الحسد فيهم قليل لأنهم لم يقطعوا يأسهم من إدراك البلاغة، وأيضا فإنهم لا يطالبون أنفسهم في السن الحديثة من الاستكمال والأنفة من النقص في المعارف بما طالب به أنفسهم أولئك.
١١- إضاءة: وربما قال قائل: إذا كانت الأقاويل الشعرية منها ما يخيل الشيء ويمثله نفسه بتعرف صورة الشيء مما أعطاه ومثله القول المخيل، كالذي يحاكي بالدمية صورة امرأة فتعرف صفاتها بها، ومنها ما يترك فيه المعنى المخيل للشيء ويخيل بما يكون مثالا لذلك المعنى، كالذي يتخذ مرآة فيقابل الدمية بها فيريك تمثالها فتعرف أيضًا صورة الشيء المحاكى بالدمية بالتمثال الذي يبدو للدمية في المرآة. وقد رأينا من يرى الدمية أو تمثالها في المرآة لا يتحرك لها ولا لتمثالها بنسبة مما كان يتحرك لرؤية الشخص الذي حوكيت صورته بالدمية. فيجب على هذا أن لا يكون التحرك لما يتخيل من الشعر بنسبة من التحرك لمشاهدة الأشياء التي خليت. وأنتم تقولون إن الأقاويل الشعرية ربما كان التحرك لما يتخيل من محاكاتها أشد من التحريك لمشاهدة الشيء الذي حوكي، وابتهاج النفس بما تتخيله من ذلك فوق ابتهاجها بمشاهدة المخيل. فيقال له أولا: إن الدمية والشخص الذي صورت على صورته يختلف اعتبارهما في تحريك النفوس. فالدمية تحركها بالتعجيب من حسن محاكاتها وإبداع الصنعة في تقديرها على ما حكي بها، والشخص الذي هو تمثال له إن كان مستحسنا فإنه يحرك الذي هي تمثال له من هذا الطريق، بل الأمر في الأكثر على ذلك. والقول المخيل قل ما يخلو من التعجيب، بل كأنه مستصحب له من اقل ما يمكن من ذلك في القول المخيل على أكثر ما يمكن. والتعجيب في القول المخيل يكون إما من جهة إبداع محاكاة الشيء وتخييله كما كان ذلك في الدمية، ويكون من جهة كون الشيء المحاكي من الأشياء المستغربة والأمور المستطرفة. وإذا وقع التعجيب من الجهتين المذكورتين على أتم ما من شأنه أن يوجد فيهما فتلك الغاية القصوى من التعجيب. وللنفوس على ما بلغ هذه الغاية تحريك شديد.
١٢- تنوير: ثم يقال لمن اعترض بأن محاكاة الشيء يجب أن يكون التحرك لها أقل من التحرك لمشاهدته أن تمثلنا في المحاكتين بالدمية والمرآة على جهة من التسامح. وإنما ينبغي أن يمثل حسن المحاكاة في القول بأحسن ما يمكن أن يوجد من ضروب تصاوير الأشياء وتماثيلها. فأقول إن من أحسن ما يرى من ذلك تصور أشعة الكواكب والشمع والمصابيح المسرجة في صفحات المياه الصافية الساكنة التموج من الخلجان والأودية والمذانب والأنهار. وكذلك نمثل أفانين شجر الدوح بما ضم من ثمر وزهر في صفحات الماء الصفو إذا كان الدوح مطلا عليه. فإن اقتران طرتي الغدير الدوحية بما يبدو من مثالها في صفاء الماء من أعحب الأشياء وأبهجها منظرا. ونظير ذلك من المحاكاة في حسن الاقتران أن يقرن بالشيء الحقيقي في الكلام ما يجعل مثالا له مما هو شبيه به على جهة من المجاز تمثيلية أو استعارية كقول حبيب: (الخفيف -ق- المترادف)
دمن طالما التقت أدمع ال ... مزن عليها وأدمع العشاق
وقول ابن التنوخي: (الطويل -ق- المترادف)
لما ساءني أن وشحتني سيوفهم ... وأنك لي دون الوشاح وشاح
1 / 41