أحدهما أنها احتاجت إلى فروق بين المعاني. وقد كان يمكنها أن تجعل لذلك علامات غير اختلاف مجاري الأواخر كما فعل غيرها من الأمم، لكنها اختصرت وجعلت مجاري الأواخر، التي احتاجت إليها لتنويع مجاري القوافي والأسجاع وتحسين نهايات الكلمة بالجملة، فروقا بين المعاني، فاجتمع لها في إجراء الأواخر على ما أجرتها فائدتان. والوجه الثاني في السبب الذي لأجله التزموا إجراء الكلام على قانون قانون بحسب موضع موضع أنهم لو أجروا أواخر الكلم كيف اتفق لم يكن ذلك ملذوذا لأن ذلك أمر لا يرجع على نظام. ولجري الأمور على نظام منضبط محكم موقع عجيب من النفس بحفظ المتكلم لنظام كلامه ومقابلته بضروب هيآته ضروب هيآت المعاني اللائقة بها. ولو كان الأمر في ذلك على غير نظام لما كان للنفوس في ذلك تعجيب، ولكانت الفصاحة مرقاة غير معجزة أحدا.
٨- تنوير: ولنرجع على ما كنا بسبيله من المتكلم فيما تكون عليه النفس من استعداد لقبول المحاكاة والتأثر لها أو غير ذلك. فنقول: إن الاستعداد الذي يكون بانطواء السامع على هوى يكون غرض الكلام المخيل موافقا له فينفعل له بذلك أمر موجود لكثير من الناس في كثير من الأحوال. وأما الاستعداد الذي يكون بأن يعتقد فضل قول الشاعر وصدعه بالحكمة فيما يقوله فإنه معدوم بالجملة في هذا الزمان، بل كثير من أنذال العالم -وما أكثرهم! - يعتقد أن الشعر نقص وسفاهة. وكان القدماء، من تعظيم صناعة الشعر واعتقادهم فيها ضد ما اعتقده هؤلاء الزعانفة، على حال قد نبه عليها أبو علي ابن سينا فقال: "كان الشاعر في القديم ينزل منزلة النبي، فيعتقد قوله ويصدق حكمه، ويؤمن بكهانته" فانظر إلى تفاوت ما بين الحالين: حال كان ينزل فيها منزلة أشرف العالم وأفضلهم، وحال صار ينزل فيها منزلة أخس العالم وأنقصهم! ٩- إضاءة: وإنما هان الشعر على الناس هذا الهون لعجمة ألسنتهم واختلال طباعهم. فغابت عنهم أسرار الكلام وبدائعه المحركة جملة فصرفوا النقص إلى الصنعة، والنقص بالحقيقة راجع إليهم وموجود فيهم، ولأن طرق الكلام اشتبهت عليهم أيضا. فرأوا أخساء العالم قد تحرفوا باعتفاء الناس واسترفاد سواسية السوق بكلام صوروه في صورة الشعر من جهة الوزن والقافية خاصة، من غير أن يكون فيه أمر آخر من الأمور التي بها يتقوم الشعر. وكأن منزلة الكلام الذي ليس فيه إلا الوزن خاصة من الشعر الحقيقي منزلة الحصير المنسوج من البردي وما جرى مجراه من الحلة المنسوجة من الذهب والحرير، لم يشتركا إلا في النسج كما لم يشترك الكلامان إلا في الوزن.
ولكثرة القائلين المغالطين في دعوى النظم وقلة العارفين بصحة دعواهم من بطلاهم لم يفرق الناس بين المسيء المسف إلى الاسترفاد بما يحدثه وبين المحسن المرتفع عن الاسترفاد بالشعر. فجعلوا قيمتهما متساوية، بل ربما نسبوا إلى المسيء إحسان المحسن وإلى المحسن إساءة المسيء. فصارت نفوس العارفين بهذه الصنعة بعض المعرفة أيضًا تستقذر التحلي بهذه الصناعة، إذ نجسها أولئك الأخساء واشتبه على الناس أمرهم وأمر أضدادهم، فأجروهم مجرى واحدا من الاستهانة بهم. فالمعرة لا شك منسحبة على الرفيع في هذه الصنعة بسبب الوضيع. فلذلك هجرها الناس، وحقها أن تهجر.
1 / 40