De la transmission à la création
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (١) التدوين: التاريخ – القراءة – الانتحال
Genres
أما علوم الحكمة فإنها استغنت استغناء شبه كلي عن الدليل النقلي، واعتمدت على اتساق الخطاب العقلي وحده؛ فالحكمة تتجاوز الديانات والكتب المقدسة. هي الحكمة الخالدة الواحدة التي وراء تنوع الشرائع وتعدد الديانات. علوم الحكمة بهذا المعنى تطوير للاعتزال. كان الكندي متكلما قبل أن يصبح فيلسوفا، وله رسالة في الاستطاعة في موضوع خلق الأفعال. ثم خطا خطوة أبعد نحو علوم الحكمة، فكان أول فيلسوف، فيلسوف العرب. (د)
علوم الحكمة تطوير طبيعي لعلم أصول الدين، وتحول للعقائد إلى نظريات، وقواعد الإيمان إلى تصورات عامة للكون، وباختصار تحويل «الثيولوجيا» إلى «أنطولوجيا». لقد وضع علم أصول الدين نظرية الذات والصفات والأفعال، وتنازعها تصوران، التشبيه والتنزيه، الحلول والمفارقة، التشخيص والتعقيل. ثم طورتها علوم الحكمة إلى نظرية واجب الوجود، الموجود لذاته في مقابل الموجود بغيره، انتقالا من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان، دون ما حاجة إلى أدلة على وجود الله كما هو الحال في علم أصول الدين أو إلى دليل أنطولوجي كما هو الحال في الفكر الغربي. صحيح أن نظرية الوجود في المقدمات النظرية في علم أصول الدين قد اقتربت أيضا من مباحث الأنطولوجيا، ولكنها ظلت أنطولوجيا الأجسام المادية؛ أي الجوهر والأعراض، منها إلى الأنطولوجيا العامة.
20
وصحيح أيضا أن علوم الحكمة ما زالت متصلة بالعقائد بالرغم من تحولها إلى تصورات؛ فصفات واجب الوجود مثل العلم والحياة والقدرة تشبه صفات الذات في علم أصول الدين. كما أن موضوع قدم العالم وحدوثه هو الغاية القصوى من مبحث الوجود في علم أصول الدين من أجل إثبات حدوث العالم كدليل على وجود الله. وموضوع المعاد في علم أصول الدين مشابه لموضوع البعث في علوم الحكمة دون صوره الفنية ابتداء من عذاب القبر حتى الصراط والميزان والحوض. علم العقائد يغذي علوم الحكمة من الباطن وإن لم يبد على السطح في التصورات النظرية العامة في علوم الحكمة. (ه)
علم أصول الدين علم مفرد كما يدل على ذلك تسميته بلفظ مفرد، لم تتمايز علومه بعد إلى علم الإلهيات وعلم النبوات أو علم العقليات وعلم السميعات . في حين أن علوم الحكمة علوم بالجمع كما يدل على ذلك تسميتها بلفظ الجمع. تمايزت فيها علوم المنطق والطبيعات والإلهيات طبقا للقسمة الثلاثية الشهيرة. وبالتالي تعتبر علوم الحكمة أكثر تطورا من علم أصول الدين من حيث تحول العلم الواحد الشامل إلى علوم جزئية متخصصة. وقد حدث نفس التمايز في علوم التصوف بالنسبة إلى علم أصول الفقه؛ فقد تمايزت العلوم داخل التصوف لدرجة أن كل مقام أو حال أصبح علما في حين ظل علم أصول الفقه علما واحدا، وكما تدل على ذلك تسمية كل علم بالجمع أو المفرد. ولا تدل وحدة علم أصول الفقه على تأخره، بل على وحدة النسق العلمي بالرغم من اعتماده على علم أسباب النزول وعلم الناسخ والمنسوخ المستمدين من علوم القرآن. ولا يدل تعدد علوم التصوف على تقدمها بل على تشعبها. (و)
علم أصول الدين يتعامل أساسا مع الداخل، مع الموروث الديني، في حين تتعامل علوم الحكمة أساسا مع الخارج، الوافد المنقول بعد أن أصبح موروثا بعد عصر الترجمة. صحيح أن علم أصول الدين يتعامل أيضا مع الخارج، ولكن في مرحلة متأخرة وليس في مرحلة النشأة، في مرحلة التطور والاكتمال وليس في مرحلة التكوين الأولى أو حتى في مرحلة الانهيار الأخيرة، مرحلة قواعد العقائد السلفية. وقد استخدم البعض منه كأدوات وثقافات حديثة لنصرة العقائد القديمة والدفاع عنها وليس كحقائق مستقلة بذاتها.
21
كانت أقرب إلى علوم الوسائل منها علوم الغايات، في حين أنها في علوم الحكمة أقرب إلى علوم الغايات منها إلى علوم الوسائل.
22
كان هدف علم أصول الدين الدفاع عن الأنا ضد الآخر، خاصة في البداية وعلى مستوى العقائد، في حين كان هدف علوم الحكمة تمثل الآخر واحتوائه واستعماله كأدوات وألفاظ للتعبير بها عن مقاصد الحضارة الجديدة الناشئة. وبالرغم من اقتراب علم الكلام المتأخر من علوم الحكمة، إلا أنها ظلت فيه خارجية عن بنية العقائد، مجرد مقدمات نظرية وصلت إلى حد ثلاثة أرباع العلم. أما علوم الحكمة فإنها تكاد تخلو من العقائد الكلامية المباشرة، وتعبر عن تصورات عامة وشاملة للكون اعتمادا على الثقافة الوافدة، ومن خلال مفاهيمها وألفاظها وتصوراتها. فإذا كان علم أصول الدين رؤيا للأنا من خلال الأنا وواقعها، فإن علوم الحكمة رؤيا للأنا من خلال تفاعلها مع الآخر. (ز)
Page inconnue