أتراه قد عرف؟ يا ليت ...! إنه هو وحده الذي يستطيع أن يفعل أشياء كثيرة غير البكاء! لو أنه جاء الساعة يطلب يدها، إذن لاستطاعت أن يكون لها رأي، وأن يكون لرأيها اعتبار ومكان ...!
ولكنه جالس مجلسه هناك، ينتظرها لموعدها، فمن له بأن يعرف؟ من له بأنه لن يرى هدى بعد، ولن تراه؟ ... أتراه لو عرف يسرع إلى بابها فيزحم هذا الخاطب المجهول بما له من سابقة وصلة قريبة، فماذا منعه من ذلك قبلا لو كان يريد؟ ... ومضت أيام قبل أن تعلن هدى رأيها إلى أبيها، لقد حاولت في هذه الأيام أشياء كثيرة لتشعر فتاها من بعيد بما تريد أن يفعله، ولكن محاولاتها جميعا قد باءت بالخيبة ولم تستطع أن تحمله على ما أرادت. ليتها تعرف أكان ذلك منه غباء أم تغابيا !
ولم تجد الفتاة سبيلا إلى الخلاص بعد، فرضيت!
لم تكن هدى من الغفلة بحيث تجهل أنها مقبلة على عهد جديد ليس بينه وبين ماضيها سبب، وأن ذلك الماضي بما فيه من أماني وذكريات قد ذهب إلى غير رجعة، فإن هي لم تستطع أن تنزع من نفسها كل ما يربطها به فقد ضلت وأثمت وبذلت ما لا تملك لمن لا يملك؛ فراحت من أول يوم تحاول أن تدفن ذلك الماضي في أعمق أغوار النسيان، فلا تدع سبيلا يذكرها به إلا أبعدته وعفت آثاره، فلا رسالة، ولا صورة، ولا جريدة فيها شيء عن معناه أو معنى يتصل به إلا أحرقتها وأذرت رمادها، وحتى المخدع الذي كان طيفه يلم بها حين تأوي إليه في الليالي الطويلة الساهدة لم تدعه في موضعه، والصورة التي تصورتها يوما لتهديها إليه حين يطلبها - ولم يطلبها - لم تبق عليها، والمسرة التي طالما تحدث فيها إليها وتحدثت إليه في غفلة من أهلها وأهله، لم تحاول أن تمسك سماعتها من بعد مرة واحدة لتنادي أحدا أو تجيب نداء ...
ولكن هدى مع كل ما فعلت وما غيرت من نظام حياتها كانت من أوهامها ووساوسها على حذر ورقبة، تخشى يوما يستيقظ فيه ذلك الشبح الراقد في قلبها فيفسد عليها حياتها ويزلها!
وتركت ما كانت فيه من أسباب اللهو ومتاع الشباب إلى الصلاة والعبادة، لعل الله أن يجدد لها السعادة ويهب لها السلوان ويمنحها الستر والتصون. وجلست في مصلاها ورفعت يديها ضارعتين إلى الله تدعو: «يا رب! هذه طاقتي فيما أملك فجنبني الإثم والخطأ فيما لا أملك!»
ولما حدد يوم العرس بعد أيام، رجت أباها وخطيبها أن ينسآ الأجل؛ إذ كانت تريد ألا تذهب إلى زوجها إلا فارغة القلب له، مغسولة الصفحة من ذكريات الماضي جميعا!
وجلست هدى إلى خطيبها وجلس إليها، ورأت فتى يستحق الحب لو أنها تملك أن تحبه، فمنحته الاحترام والطاعة!
وكثر لقاؤها خطيبها، وطالت مجالسهما وطابت. وخلا إليها ذات مساء يحدثها وتحدثه، ومضى الحديث فنونا، وكشف لها عن صدره ووضع بين يديها أمانيه، ونظر إليها بعينين صافيتين فيهما طهر وبراءة، ونظرت إليه فأغضت من حياء، ونهضت معتذرة فأوت إلى مخدعها تبكي!
أرأيت دموع الندم في عيني فتاة قط ...؟!
Page inconnue