De la croyance à la révolution (2) : L'Unicité
من العقيدة إلى الثورة (٢): التوحيد
Genres
والطريقة الأولى وهي الاستدلال بحدوث الأجسام طريقة الخليل في القرآن مما يدل على أنه لا شأن له بالحضارات المجاورة أو بأقوال الحكماء،
82
وهي مركبة من مقدمتين، الأولى أن العالم محدث والثانية أن كل محدث له محدث. وبالتالي يكون هو محدث الأعراض بدليل انقلاب النطفة علقة ثم مضغة ثم لحما ودما، ولا بد من مؤثر وهو ليس الإنسان أو أبويه. والحقيقة أن الاعتراض على الدليل موجود عند القدماء وهو: «لم لا يجوز أن يكون المؤثر هو القوة المولدة المركوزة في النطفة»؟ والرد بضرورة الشعور والاختيار والقصد لا يستدعي بالضرورة وجود كائن مشخص، إذ يمكن أن تكون الطبيعة واعية من خلال الغائية والقصدية. والطريقة الثانية الاستدلال بالإمكان كما تم من قبل الاستدلال بالحدوث للأجسام. والطريقة الثالثة الاستدلال بحدوث الأعراض وإقامة الدليل على أنه واجب الوجود، ويستحيل أن يكون أكثر من واحد وأن نشاهد الأجسام كثرة ممكنة وكل ممكن له مؤثر. والطريقة الرابعة الاستدلال بإمكان الأعراض فالأجسام متساوية في الجسمية مختلفة في الصفات واختلافها لا يعود إلى الجسمية بل في حاجة إلى مؤثر.
والحقيقة أن دليل الإمكان له بعض المميزات كما لدليل الحدوث، إذ يعتمد على الإمكانية وهي جوهر الحياة. فالإمكانية تعني الفعل بالقوة، الشيء قبل التحقق، الكمون، الخصب، النماء، ويوحي بالطبيعة في الظهور والطفرة والتطور والازدهار من خلال الفعل والجهد والعمل. فالعالم ممكن، أي أنه قابل للفعل، يظهر وينمو، حياة وأمل، غاية وهدف، قصد واتجاه، تحقق ونشاط. كما يقوم على نظرية عقلية ممكنة هي نظرية أحكام العقل الثلاثة: الوجوب والإمكان والاستحالة، وهي نظرية يصعب نقدها لأنها تعتمد على طبيعة العقل وبناء الفكر البشري، وبالتالي فهي بديهية يمكن لكل إنسان أن يعقلها وأن يطبقها، لا فرق بين دين ودين، وعقيدة وعقيدة. وإذا كان الإمكان يعني التغير، والتغير مشاهد بالحس، اعتمد الدليل أيضا على شهادة الحس بالإضافة إلى أوائل العقول.
ومع ذلك فللدليل عيوب كثيرة، منها ما هو خاص بالمنطق، ومنها ما يتعلق بالطبيعة والفكر العلمي، ومنها ما يرتبط بالدين والفكر اللاهوتي. فمن حيث منطق الدليل لا يمكن إثبات تصور ميتافيزيقي مثل إمكان العالم بمشاهدات حسية مثل الأعراض وأن العالم مركب. فنوع المقدمات لا بد وأن يتفق مع نوع النتائج، وأن يبقى الاستدلال على نفس المستوى من الحكم. كما أن شهادة الحس بأن الأجسام متماثلة تنتهي أيضا إلى أن الأجسام مختلفة، وبالتالي لا تكون شهادة حس كاملة بل ابتسار لها، ورؤية جزئية، شهادة حس تقوم على وجهة نظر موجهة بموقف إيماني انفعالي وجداني. إن العالم يمكن أن يرى ليس فقط على أنه مركب وكثير، بل أيضا على أنه بسيط وواحد، كلاهما ممكن. بل إن الثاني أقرب إلى الميتافيزيقا، وبالتالي يتفق مع نوع النتائج المطلوبة. ولا يمكن الانتقال من مقدمة عن الإمكان إلى نتيجة عن الحدوث؛ لأن الإمكان والحدوث لفظان مترادفان يشيران إلى نفس المعنى، الأول لفظ ميتافيزيقي، والثاني فيزيقي. إن أقصى ما يمكن أن يشير إليه الدليل هو حاجة الذهن إلى نقطة بداية مطلقة أو ما يسمى بواجب الوجود، وهو ما يعبر عن حاجة معرفية خالصة، وهي البداية بالأوليات والمصادرات كأساس لأي نسق دون تشخيص لها في موجودات مشخصة. هي وظيفة معرفية وليست حقائق أنطولوجية. ومن ثم كانت ضرورة النهاية إلى واجب مطلق تضع نهاية للعالم وللذهن معا، ويستحيل معها تصور تقدم مستمر إلى الأمام مما يوقف الشعور الإنساني وهو على عكس ما يهدف إليه التعالي الذي يعني التقدم المستمر، والتجاوز، وعدم الوقوف عند صياغات أخيرة لأية ماهية وإلا وقعنا في القطعية والمذهبية وخلطنا بين العلم كبحث مستمر وأحد مراحله وصياغاته. تعني الضرورة على هذا النحو في الدليل الانتهاء إلى نقطة معينة ليس بعدها شيء، صياغة أخيرة، وبالتالي إعلان العجز والتسليم، وإلقاء السلاح والتوقف، على عكس التسلسل إلى ما لا نهاية الذي يفيد التعالي المستمر والتجاوز الدائم. وما زال الدليل يقوم على برهان الخلف، أي أنه دليل سلبي بمعنى أنه يبطل الاحتمالات كلها إلا احتمالا واحدا، فيثبت نظرا لبطلان غيره، وهو أقل يقينا من الدليل المثبت للشيء وليس للناهي عن ضده. وقد لا يكون الحصر شاملا، وقد لا يكون النفي للاحتمالات كلها نفيا، كما تبدو بعض المفاهيم متناقضة مثل مفهوم ممكن الوجود، فليس هناك ممكن لذاته بل ممكن بغيره أو واجب بغيره، فالذات تعني الاستقلال في حين يعني الممكن التبعية للغير.
ويكشف الدليل عن زحزحة الفكر الطبيعي العلمي جانبا لحساب الفكر الديني. يقوم الدليل على القسمة التي تكشف بدورها عن ثنائية متطهرة كقناع للإيمان الديني التقليدي، وبالتالي توضع المستويات الثلاثة في وضع رأسي أعلاها الواجب وأقلها المستحيل وأوسطها الإمكان. في حين أن الفكر العلمي لا ينقسم بل يحلل، ولا يرتب ويفرق بل يداخل ويجمع، وتتسلسل فيه الأمور تسلسلا دائريا إلى ما لا نهاية، فالشيء يكون علة ومعلولا، أثرا ومؤثرا، فاعلا ومنفعلا. الطبيعة متداخلة، وحدة عضوية واحدة دون ما حاجة إلى الخروج عليها. التفكير العلمي دائري في مقابل التفكير الطولي الديني. الدليل كله إيمان عقلي مقنع. فكل شيء في هذا العلم ممكن إنما هو نتيجة مقلوبة لحكم إيمان مسبق بأن «الله» واجب الوجود، ثم لزم ضرورة بعد ذلك أن كل ما سواه فهو ممكن، وأن الله واجب الوجود تجريد عقلي لموقف إيماني يقوم على التسليم بوجود «الله». وقد تمت استعارة لفظ فلسفي هو واجب الوجود في مرحلة غزو علوم الحكمة لعلم أصول الدين نظرا لأنها أكثر عقلانية وإحكاما. بل إن مقولتي الواجب بذاته، والواجب بغيره، أي الممكن، مقولتان دينيتان تكشفان عن العلاقة التقليدية بين «الله» والعالم. «الله» هو الموجود بذاته، والعالم هو الموجود بغيره، وهو مجرد تغير لفظي للدلالة على مستوى أعم وأكثر تجريدا. وخطورة هاتين المقولتين عندما تتحولان في ميدان الاجتماع والسياسة لتحدثا نوعين من العلاقة، علاقة الاستقلال وعلاقة التبعية. كما تتحول صلة الله بالعالم إلى صلة الحاكم بالمحكوم، فيصبح الحاكم موجودا بذاته، والمحكوم موجودا بغيره، الحاكم مستقل، والمحكوم تابع. فلا ينتهي هذا الدليل فقط إلى القضاء على استقلال الطبيعة وحتمية قوانينها بل يجعل العالم كله، الطبيعي والمجتمع، خاضعا لسلطان قاهر. ويحتوي الدليل على قدر كبير من التشخيص، وإسقاط البعد الإنساني على الطبيعة و«الله» معا كما يبدو ذلك من ألفاظ حاجة واحتياج، ومرجح وترجيح، وقصد وغاية. يقوم الدليل إذن على التشبيه ويكشف عن موقف وجداني خالص في عبارات مثل: لا بد، حاجة الأثر إلى مؤثر، حاجة التخصيص إلى مخصص، حاجة الممكن إلى واجب، وهي علاقة الاحتياج والعوز والتبعية، وتنتقل إلى العلاقات الاجتماعية على هذا النمط فتنشأ علاقات الاحتياج والتبعية بالرغم مما يبدو على الدليل من تجريد وطابع ميتافيزيقي. يكشف الدليل عن الجانب الوجداني في الإنسان بمفاهيم الاحتياج، والافتقار، والترجيح، والاشتراك، والاقتضاء، والتأثير، والتخصيص، والمشابهة، والاستفادة، والقدرة، والإرادة، والصدور، والنقص، والكمال.
83
إن احتياج الممكن إلى مخصص وجعل المحتاج دون المحتاج إليه افتراض تشخيصي محض، مجرد إثارة غبار من أجل إزالته فيما بعد، ووضع مسألة من أجل حلها، وبالتالي فهو تمرين عقلي يقوم على أساس وجداني لإقناع النفس والتكيف مع الذات، تكيف العقل مع الوجدان حتى يصير العالم مفهوما. الأشياء على ما هي عليه بالطبيعة، وتحولات الشيء تخضع لقانون طبيعي، بالتفاعلات الداخلية وليس بأسباب الخارجية، والتعليل الذاتي أكثر علمية من التعليل بالآخر. يكشف الدليل عن علاقات قوى بين الطرفين،
84
ولماذا الخشية من الإيجاد بالذات؟ ولماذا يكون الإيجاد بالعلة الخارجية؟ لماذا لا يكون الشيء سبب وجوده؟ لماذا يكون وجودي مستمدا من غيري؟ بل إن الدليل لم يحرص على التنزيه، وحول الوجود بذاته إلى كائن ممسوح لا غاية له ولا هدف ولا قصد إمعانا في التنزيه ونفي جميع مظاهر النقص الإنساني كالاحتياج والافتقار، فانقلب إلى الضد، وهو نفي القصد والغائية، وبالتالي الانتهاء إلى الموت، فكيف يمكن الترجيح دون قصد أو غاية؟ وكيف يتم استبعاد الاحتمال المرجوح؟ ولماذا يتم استبعاده إن كان ممكنا؟ ولماذا لا يكون الترجيح اختيارا طبقا للحرية أو للصلاح والأصلح وليس مجرد عشوائية لا قصد فيها ولا غاية؟ إن افتراض الشيء على غير ما هو عليه افتراض يقوم على الرغبة في تدمير العالم، ونفي أوضاعه، وتحيل إمكانيات لا وجود لها، فالشيء لا يمكن إلا أن يكون على ما هو عليه، فلا يصبح البرغوث فيلا أو الفيل برغوثا. ليس العالم ممكنا بهذا المعنى الذي يدمره. فإذا كان الممكن هو أن يكون الشيء على غير ما هو عليه فليس المحيط ممكنا؛ لأنه لا يمكن أن يكون على غير ما هو عليه فيصبح يابسا. وليس الجبل الشاهق ممكنا لأنه لا يمكن أن يكون على غير ما هو عليه فيصبح هوة سحيقة في باطن الأرض. إذا كان الممكن هو ما سوى «الله» فإن العالم ليس ممكنا لأنه لا يمكن أن يكون على غير ما هو عليه، ويصبح «الله»! لا السماء ولا الأرض، ولا الشمس ولا القمر، ولا النجوم ولا الكواكب بممكنات، أي أن تكون على غير ما هي عليه، وإلا اصطدمنا بقوانين الطبيعة الثابتة وبأوائل العقول وبمبادئ الميتافيزيقا وفي مقدمتها مبدأ الهوية، وهو أن يكون الشيء هو هو وليس غيره، ومبدأ الاختلاف وهو أن يكون الشيء هو غيره، ومبدأ الثالث المرفوع وهو استحالة وجود وسط بينهما، فالشيء لا يمكن أن يكون ذاته وغيره في آن واحد. قد يكشف الدليل على هذا النحو عن انفعال ديني، وتمن لعاجز، ورغبة مكبوتة لتغيير الواقع في الخيال والوهم، وليس في الواقع بالفعل. بل إن الدليل كله يصطدم في نهاية الأمر بما تواجهه الأدلة جميعا من نقص في بيان كيفية الانتقال من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان، من أحكام العقل الثلاثة، وهي أمور اعتبارية صرفة كما بان ذلك من «ميتافيزيقا الوجود» في نظرية الوجود إلى واجب الوجود بالفعل. يقوم الدليل إذن على حجة أنطولوجية كافتراض مسبق. فهو ليس دليلا أولانيا بسيطا؛ لأنه يعتمد على دليل آخر متضمن فيه وهو الدليل الأنطولوجي. وتظهر هذه الصعوبة في وصف أحكام العقل الثلاثة: هل هي قسمة للمعلومات، وهو ما يبدو من الدليل، أو قسمة الموجودات؟ وما الدليل على التوحيد بين المعلومات والموجودات إلا افتراض الدليل الأنطولوجي.
Page inconnue