De la croyance à la révolution (1) : Les prémisses théoriques
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
Genres
ويأتي تحليل المعلومات عن طريق القسمة عند المتكلمين والحكماء على السواء؛ فالمعلوم عند المتكلمين إما موجود أو معدوم؛ لأن المعلوم أعم من الموجود لأنه قد يكون موجودا أو معدوما. وينقسم الموجود إلى قديم وحادث، ثم ينقسم الحادث إلى جسم وجوهر وعرض. وهنا تبدو القسمة العقلية تعبيرا عن إيمان ديني خالص؛ لأن مقولة «القديم » استباق لموضوع الصفات وافتراض ديني إيماني مسبق؛ إذ لا يوجد إلا الحادث كوجود عيني. أما القديم فهو افتراض ذهني خالص يأتي عن طريق القلب أو التضاد بالاقتران أو التضايف. فالموجود القديم كالعلم القديم، كلاهما مطلوب إثباته، وبالتالي فلا يدخلان في نظرية العلم أو في نظرية الوجود كبناء أولاني نظري خالص. فكما تداخلت الإلهيات في نظرية العلم في قسمته إلى قديم وحادث تدخلت أيضا في نظرية الوجود في قسمته إلى قديم وحادث، وهي القسمة المبدئية التي لا مبرر حسيا لها، بل تعبر عن مجرد الإيمان الخالص وتتخلى عن التعقيل من أجل تأسيس العلم وتأصيل الوجود. قسمة الوجود إلى قديم وحادث افتراض مسبق، وهو المطلوب إثباته، أي إنه استدراك على المطلوب، واعتباره مسلمة. أما قسمة الحادث إلى جسم وجوهر وعرض، فإنها تقوم على مفهوم التحيز؛ أي الوجود في المكان؛ فالحادث إما أن يكون متحيزا وهو الجوهر أو حالا في متحيز وهو العرض أو لا هذا ولا ذاك. فالجوهر والأعراض هما ببساطة الشيء وصفاته. أما الجسم فهي مقولة ثالثة لإفساح المجال للأفلاك والأجرام والكواكب طبقا لعلم الفلك القديم. فإذا كانت القسمة الأولى الجوهر والأعراض لها ما يبررها في علوم الطبيعة في الصفات الأولى والصفات الثانية، فإن القسمة الثالثة وهو الجسم حكم مسبق مفروض على الطبيعة لخدمة غرض ديني خالص. كما أن الذي منع القسم الثالث من الوجود الذي لا يكون متحيزا أو حالا في متحيز هي عاطفة التأليه ورفض مشاركة الموجودات العينية في صفات الموجود القديم وهو «الله». قسمة المتكلمين إذن في بدايتها علمية، وفي مقصدها ليست علمية؛ لأنها تدخل المطلوب إثباته كأحد فرعي القسمة، وهو الموجود القديم، كما أنها تجعل القسمة الثالثة فارغة لإعطاء الفرصة للذهن لنفيها خشية الشرك، وكأن وظيفة العقل هو إفساح المجال لتأسيس العقيدة.
4
هذا بالإضافة إلى أن إعمال العقل على هذا النحو لا يخدم العقل ولا الإيمان؛ لأنه يتنازل عن حق العقل في التنظير الخالص ويضعف التنزيه. فلا العقل يقبل ولا الإيمان يرضى وضع «الله» مع الأجسام والجواهر والأعراض، وأن يفسح له مكان لمزاحمة الأشياء، وأن يكون طرفا في قسمة عقلية محدودة. فهذا مضاد للعقل ولعواطف التنزيه على السواء. وأن أقصى درجات التنزيه وضع «الله» في «قمة الكون» وفي أعلى رتبة كملك للملوك، وهي إحدى صور التشبيه.
5
فالتفكير في «الله» وإدخاله في قسمة الموجود هو قلب للوجود عن طريق التشابه أو التضاد، فيكون الله موجودا وليس جسما أو جوهرا أو عرضا. وينتهي الأمر إلى أنه لا يمكن التفكير في «الله» إلا كطرف للعالم، فيكون في مقابل الحادث لا في محل، ولا يحتاج إلى محل بفعل عواطف التأليه.
والمعلوم عند الحكماء أيضا هو الموجود. ولكن ينقسم الموجود إلى وجود ذهني يظل جزءا من نظرية المعرفة وإلى وجود عيني خارجي بناء على القسمة المشهورة بين عالم الأذهان وعالم الأعيان. وينقسم الموجود العيني إلى واجب وممكن وممتنع أو ضروري وجائز ومستحيل، وهنا تبدأ القسمة في الاضطراب. فالموجود العيني الواجب لا وجود له لأن واجب الوجود ليس عينيا بل ذهني خالص، والوجود الممتنع أو المستحيل ليس وجودا عينيا، فالمستحيل لا وجود له، ولكنه افتراض عقلي ثان. ويبقى القسم الثالث الوحيد الممكن وهو الوجود العيني الممكن. ويبدو أن الإيمان عاود الظهور من ثنايا العقل ففرض الوجود والواجب أو الضروري وجعله وجودا عينيا لإفساح المجال لإثبات «الله»، ثم انقلب عن طريق الضد إلى الوجود الممتنع المستحيل دون أن يستلزم بذلك وجودا عينيا له إلا إذا كان «الشيطان» في الأذهان؛ فهو القادر على فعل المستحيلات. والبداية كلها في كلتا الحالتين الواجب والممتنع، الضروري والمستحيل هو الممكن أو الجائز، فهو الوسط الذي له وجود بين طرفين لا وجود لهما إلا افتراضا بفعل الإيمان في العقل وزحزحته إياه عن وظيفته في العلم لإفساح المجال للمعلوم الإيماني الخالص الذي استعصى على العقل وشرع بفرض نفسه عليه قبل أن يتأسس فيه. تصح القسمة عندما يعمل العقل في الحس ويدرك الوجود العيني الممكن ثم تفسد عندما يتدخل الإيمان، فيدفع العقل إلى طرفين فيوقعه في افتراضين لا عقليين ولا وجوديين، وهما الواجب والممتنع أو الضروري والمستحيل، فإذا كشفت هذه القسمة البداية بالوجود العيني أي العالم الحسي، فإنها تكشف أيضا على أن النهاية أي الواجب أو الضروري هو مجرد يقين إيماني أو أخلاقي أو معنوي أو مجرد افتراض معرفي وليس وجودا حسيا مرئيا، نشأ عن طريق التضايف أو التضمن أو الالتزام كعلاقة الابن بالأب أو الكبير بالصغير. واليقين الديني أو الأخلاقي أو المعرفي مطلب حقيقي. ولكن الإشكال هو هل يتحقق هذا المطلب من داخله فيكون فارغا بلا مضمون، ذاتا بلا موضوع، متقوقعا على النفس، نرجسية، وانعكاسا مجردا، أم أن يكون له مضمون من العالم وفي العالم كبناء للشعور الفردي وكنظام اجتماعي وكقانون لحركة التاريخ؟
أما قسمة الممكن إلى جوهر وعرض، فعلى الأقل لم تفترض قسما ثالثا وهو الجسم لإفساح المجال لعالم الأفلاك القريب من «الله» والمشارك له في الصفات! ولكن يعود الإيمان ليقصي العقل، وذلك بقسمة الجوهر إلى قديم، وهو ما لا أول لوجوده ومحدث وهو ما له أول. وفيها تظهر الغاية من هذه التقسيمات المتتالية في نظرية الوجود والتي تبدو عقلية طبيعية يخرج كل منها من الآخر خروجا طبيعيا منطقيا وهو إثبات وجود «الله» أو استنباطه من تحليل عقلي وجودي مسبق.
أما قسمة الممكن إلى جوهر وعرض فهي قسمة طبيعية تدل على وجود عنصري الثبات والتغير في الطبيعة، الجوهر هو الثابت والعرض هو المتغير، ثم تتحول هذه القسمة إلى تصور عام للإنسان والمجتمع والتاريخ. وهو التصور القائم على القلب والأطراف أو المركز والمحيط، والتي ارتكز عليها الفكر الديني وهو في أعلى درجات التنزيه.
6
بل ويمكن أن يقال إن قسمة الجسم إلى جوهر وأعراض قسمة عقلية افتراضية لا تأتي من طبيعة الجسم؛ فالجسم جسم، يتغير لونه وشكله، ثقله وخفته، حرارته وبرودته، وضعه ومكانه، هيئته وملامحه، خشونته ونعومته. لماذا افتراض أن هذه التغيرات أعراض تقوم على جوهر هو الثابت والحامل؟ إن افتراض الجوهر نابع من إيمان عقلي بوجود الثابت وراء المتغير، وأن هناك مركزا ثابتا لكل المتغيرات تدور حوله كما تدور نقط المحيط حول مركز الدائرة. وهو تصور عقلي خالص أو صورة فنية تعبر عن نوع معين من العلاقات الاجتماعية أو الطبيعية من بين عدد آخر من التصورات الممكنة مثل أن الجسم يتغير شكله ولونه ووضعه وهيئته طبقا للاستعمال أو المجال؛ أي أن الجسم يدخل في علاقة مع الإنسان كطرف مقابل له، ومن ثم فلا مكان للطبيعيات المجردة بل الطبيعيات للاستعمال. وقد حاول القدماء إيجاد هذه العلاقة مع الطبيعيات ولكنهم جعلوها رأسية لإثبات وجود «الله» في حين أن علاقات الطبيعيات بالإنسان علاقة أفقية تجعل الإنسان والطبيعيات معا جزءا من التاريخ وبعدا للزمان. لما كانت علاقة الطبيعيات «بالله» بعد الخلود، ومن ثم لزم الجوهر الثابت فهو المؤشر لوجود «الله» الثابت في مقابل الأعراض المتغيرة فهي المؤشر لوجود العالم المتغير.
Page inconnue