De la croyance à la révolution (3) : La justice
من العقيدة إلى الثورة (٣): العدل
Genres
الخاطر. لا يعني وجود الخاطر في النفس تدخل أية إرادة خارجية في صورة عقل أو وحي أو إلهام من أجل إعطاء الإنسان إما الأساس النظري للفعل أو واقعا مرويا عليه. بل إن هذا الخاطر يكون نتيجة تفكير إنساني سابق في الموضوع، وانشغال الذهن به، وتوقد الشعور فيه. هو حصيلة كسب من الإنسان. وتنشأ الخواطر في النفس بطبيعتها، وتشير إلى قدرة الشعور على الخلق والإبداع، وتثبت الحرية ليس فقط في الأفعال الخارجية بل أيضا في أفعال الشعور.
135
ولكن هل يلزم خاطران حتى يصح الاختيار؟ الشعور ذاته حرية، والحرية تعني إمكانية الحركة. فإذا كان الخاطر يعني الباعث، فالبواعث تتدافع فيتحقق الفعل طبقا للدافع الأقوى. وإن كان الخاطر يعني الفكر، فالأفكار تتصارع فيتحقق الفعل طبقا للفكرة التي تتحول إلى باعث قوي. والشعور بطبيعته يتجاذبه طرفان؛ حركة وسكون، إقدام وإحجام، تقدم وتأخر، يقظة وغفلة، ازدهار وتقلص، نمو ونكوص، حياة وموت. وهذان الطرفان لا يعرضان إلى الشعور من الخارج ليختار الإنسان عقليا بينهما بعد عدد من العمليات الحسابية بأية مقاييس ذاتية أو نفعية، بل حياة الشعور ذاتها تسري بين هذه الأطراف، والحرية هي التي تحدد المسار. ليست الحرية ملكة أو قوة أو عضوا، بل هي طبيعة بممارستها فرديا وجماعيا مع الذات ومن خلال الجماعة. قد يحدث الخاطران؛ خاطر الإقدام وخاطر الإحجام. ولكن هذين الخاطرين ينشآن من الموقف الاجتماعي. فما الداعي أن ينشأ خاطر الإقدام من العالم وخاطر الإحجام من الخارج؟ صحيح أن الطبيعة خيرة وفاعلة بطبعها، ولكن خاطر الإحجام قد ينشأ من إغراء في العالم أو من تقلص في الطبيعة ونقص في الازدهار. ويكون السؤال: وكيف ينشأ خاطر الإحجام من الخارج والمؤله المشخص خير كله؟ ولماذا يحدث خاطر الإقدام من الخارج وخاطر الإحجام من العالم؟ وهنا تكون الطبيعة فاسدة لأنها لا تقدم على فعل بل تحجم عن كل فعل. ويبقى السؤال: كيف يصدر عن المؤله المشخص، وهو خير كله، الشر في العالم؟ أما إذا كان الخاطران من الخارج، الإقدام والإحجام معا، فهنا لم يعد يبقى شيء للإنسان، بل إن الإنسان نفسه لم يعد موجودا. الخاطران من الخارج وما هو إلا آلة. أما الخاطر الذي يأتي بفعل خارجي حتى يعين الإنسان على الإتيان بفعل تكرهه النفس وتعافه فهو إلغاء وضع خاطئ بمثله. فالفعل الذي تكرهه النفس لا يمكن أن يكون أمرا، فأوامر الوحي كلها طبيعية، تعبر عن طبيعة الذات في حال كمالها. حتى ما يظن أنه صعب على النفس الإتيان به ما أسهله عليها لو توافر الباعث عليه. وعلى فرض أن النفس تأتي بأفعال تعافها وتكرهها، كيف يأتي العون من الخارج؟ كيف يأتي المؤله المشخص ليصحح وضعا خاطئا كان من السهل أولا عدم إيجاده؟ كان من الممكن أن يأمر بفعل تحبه النفس وتميل إليه بدل أن يأمر بفعل تعافه النفس، ثم يخلق الدواعي للعون عليه! قد يحدث أن يأتي الإنسان بفعل مكرها عليه، ولكن في هذه الحالة لا يكون فعلا حرا، ولا يعبر عن طبيعته لأنه يفعله رغما عنه بلا شوق أو فرح وبلا ارتياح أو حماس. حتى لو أتى الإنسان به فإنه قادر على أن يأتي بفعل حر، وبإرادته المستقلة، وفي هذه الحالة يصبح الإنسان نفسه موضوعا للإرادة أو مقدورا للقدرة. إن جعل خاطر الإقدام من النفس بطبعها يمنع كونه بفعل خارجي. ولكن النفس ليست عالما قائما بذاته، بل هي وجود اجتماعي، وما يجعلها تقدم أو تحجم هو باعث اجتماعي. أما إذا تشخص الخاطران، وأصبح داعي الإحجام شرا مشخصا وداعي الإقدام خيرا مشخصا؛ يصبح الإنسان ألعوبة بين شخصين، كل منهما يود أن تكون الغلبة له. وسواء غلب هذا أم ذاك فالإنسان في كلتا الحالتين هو الخاسر لأنه هو الفاقد حريته، المسلوب إرادته، يفعل فيه ولا يفعل؛ لذلك قد ينكر البعض الخاطر كلية. ويكون الإنكار في هذه الحالة إنكارا للخاطر بفعل خارجي، ويكون الخاطر حينئذ هو الباعث النفسي أو الدافع على الفعل الذي ينشأ من موقف نفسي واجتماعي.
136
إن احتياج الفعل إلى سبب مهيج أي إلى باعث لا يعني على الإطلاق حدوث هذا الباعث من إرادة خارجية تتدخل في الفعل الإنساني بإحداثها هذا الباعث، وما على الإنسان إلا التنفيذ الآلي له. فالباعث هو الفعل نفسه كفعل ضمني. وهو الفعل الشعوري أي الوجود الأولي للفعل قبل أن يتحقق. والحقيقة أن الباعث ينشأ في الإنسان كموجود اجتماعي. الإنسان في موقف، والموقف يحتاج إلى تغيير، ومن ثم ينشأ الباعث على التغيير في الإنسان. الموقف الاجتماعي هو مصدر الباعث. وبمجرد حدوث الباعث في الشعور يتحول إلى طبيعة. الطبيعة هي مجموعة البواعث، والبواعث أبنية ممكنة للعالم تتحول إلى أبنية واقعية بالفعل الإنساني .
137
وإذا كان السبب المهيج فكرة، فالفكرة من الوحي ولكنها تحولت إلى طبيعة بمجرد فهم الإنسان لها وظهورها على أنها بناء مثالي لموقف يريد أن يتغير. (7)
الابتهال والدعاء والسؤال والشكر. كل ذلك ليس دليلا على وجود قدرة خارجية يستدعيها الإنسان كي تتدخل في فعله وتعينه على الإتيان به، بل مجرد موقف نفسي يدل على انحراف في السلوك. ففي مجتمع مهزوم تكثر مثل هذه الابتهالات والدعاءات لطلب النصر لعجزه عن الإتيان بالنصر بالفعل. وفي خضم هذه الانفعالات الحادة ينشأ فعل جاد ولكنه منحرف وهو الابتهال والدعاء. وفي اللحظة التي يدرك فيها المهزوم خطة عمل وباعثا وغاية يبطل دعاءه وابتهاله ويحقق ما يريده بفعله الخاص، وهو قادر عليه. الابتهال فعل الضعيف العاجز، ونشاط انفعالي حين يعجز عن الفعل، وإغراق في الأدب والتصوف حين يطمس العقل ويزيف الوعي.
138
وقد انتشرت الأدعية والتواشيح والابتهالات في عصور التخلف والانحطاط مع الفرق الصوفية وبعد تشخيص الوحي في محمد كما تم من قبل تشخيص الوعي الخالص في المؤله. وقد يحدث الابتهال أو الدعاء أو السؤال في مجتمع منتصر. وفي هذه الحالة يكون موجها من العامة إلى السلطة المنتصرة. بدلا من أن تطلب حقها بالفعل تدعو وتبتهل وتتبرك بالسلطة كما تفعل بالأولياء. وكثيرا ما يتحول التضرع والابتهال إلى تملق ونفاق وتقرب وإذلال للنفس باسم الدعاء،
Page inconnue