إن العالم الذي يجزم في قول من هذه الأقوال باسم العلم، يدعى على العلم كذبا، وينم على عقل ضيق لا يصلح للنظر في هذه الآفاق.
فإذا كنا لا ننفي وجود المستقبل نفيا مقطوعا به مستندا إلى حجة أو بينة، فالغيب غير مستحيل، والعلم به لا يدخل في باب الممنوعات أو غير المعقولات.
وإذا كان عنصر العقل في هذه الأكوان أكبر من أن يحصره رأس الإنسان وحده، فانتقال المعرفة منه إلى عقل الإنسان جائز جدا، أو جائز على الأقل كجواز الانتقال بين الأفكار على تباعد الأمكنة والعقول. ولا ندعي أن هذا الانتقال الفكري بين عقول الناس قد ثبت في هذا الزمن ثبوتا قاطعا في جميع التجارب والمحاولات؛ فإن هذا الانتقال - المسمى بالتلباثية - يصيب ويخطئ، ويكفي أنه لم يبطل كل البطلان باعتراف الملحدين والماديين إلى جانب المتدينين والمؤمنين.
فإذا كان وجود المستقبل لم يبطل، فكيف يبطل العلم بما جرى فيه؟ إنه قد يبطل إذا تحقق بالبينة أن عنصر العقل وراء عقل الإنسان مستحيل، فإذا كان وجود هذا العقل الأكبر لم يمتنع، ولم يدخل في باب المستحيلات، فكل دعوى هنا للجزم بإنكار الغيب وإنكار العلم به، أو الإيحاء به إلى إنسان من الناس، فإنما هي دعوى تهجم على الواقع، ولا يكفي أن يقال فيها: إنها تهجم على الغيوب والمجهولات.
فليكن رأينا إذن في تخريجات الباحثين عن الطوالع والعلامات ما يكون، فإن هذا الرأي لا يبطل الإيمان بالغيب إلا على لسان مجازف يخبط بالقول حيث يجهل المدى الذي يخوض فيه. وإنما نقبل تلك التخريجات أو لا نقبلها لأن الباحثين فيها أصابوا أو أخطئوا في التخريج والتأويل، وإنما نقبلها أو لا نقبلها كرة أخرى لأن قيام الدعوات النبوية متوقف عليها أو غير متوقف عليها، بل ماض في سبيله على اختلاف هذه العلامات.
أما الإنباء بما في الغيب بمشيئة العالم به، والقادر عليه، فلا يمنعه علم ولا منطق ولا تجربة قاطعة من تجارب العيان.
الفصل الثاني
الأحوال العالمية قبل الدعوة المحمدية
مقدمات النبوة
والآن، وقد أقررنا الطوالع والعلامات في قرارها الذي يسهل الاتفاق عليه، نطرق الأبواب الواسعة التي تتفتح أمامنا للبحث في مقدمات النبوة الإسلامية، وهي أبواب البحث في الحوادث التاريخية والآيات الكونية، وليس أثبت منها في مقام الكلام على النبوة الإسلامية بصفة خاصة بين سائر النبوءات.
Page inconnue