وقد تم ذلك حين استدعى الرومان حاكم بريطانيا الكبرى، ومعه جيش نكل باليهود، وحمل طائفة منهم أسرى إلى مصر، وطائفة إلى رومة من طريق البحر سنة 132، فلم تنته حرب الرومان سنة 70 ميلادية، بل جاءت بعدها تلك الحرب التالية مصدقة لنبوءة الدمار على يد القادم من بعيد، ونبوءة النقل على السفن إلى الديار المصرية وما وراءها.
يقول المؤلفان، ويعتمدان في ذلك على إجماع الشراح: إن اليوم من أسابيع دانيال سنة، وإننا إذا أضفنا أربعمائة وتسعين سنة إلى 132، فتلك سنة 622 التي هاجر فيها النبي - عليه السلام - إلى مدينة يثرب، وبعد أربع عشرة سنة دخل جيش الإسلام القدس الشريف، وبنى المسجد الأقصى في مكان الهيكل. وكان الفرس قد ملكوا فلسطين أربع عشرة سنة، أباحوا فيها لليهود إقامة شعائرهم، ثم عاد الرومان وتلاهم المسلمون. فكانت السنون التي مضت بعد الهجرة النبوية مقابلة لتلك السنين التي ارتفع فيها الحجر عن اليهود على عهد الدولة الفارسية. •••
هذه العلامات إنما هي نماذج لأضعاف أضعافها لم نحصرها؛ لأنها تستغرق مئات الصفحات، ولا يلزمنا حصرها جميعا؛ لأن الأمثلة المتقدمة تكفي للتعريف بها، وإن لم تجمعها بحذافيرها. ونحن أمام هذه البحوث المستفيضة نتوخى فيها الحد الوسط بين الفضول، وهو جمع هذه البحوث كلها في هذه الرسالة، التي لا تتوقف على العلم ببحوث - العلامات والطوالع جميعا - وبين النقص، وهو إهمال هذه البحوث كل الإهمال في رسالة تدور على بيان مقدمات النبوة الإسلامية، وعلى الآراء المختلفة في شرح ما سبقها من هذه المقدمات. ومهما يكن من رأي القارئ في هذا العصر، فالرأي الذي رآه الناس منذ ألوف السنين - ولا يزالون يرونه - لا بد أن يكون له مكانه التاريخي ودلالته النفسية في هذا السياق.
ولسنا هنا بصدد الإسهاب والتفصيل في نقد الأساليب التي يعتمدها الباحثون في حل الرموز، أو خلق هذه الرموز على الأصح في بعض الأحيان، ولكننا نوجز فنقصر التعقيب على مقطع الآراء الذي لا يطول عليه خلاف بين المنصفين، فكل من راجع العلامات النبوية في كتب الديانات من أقدمها قبل موسى وعيسى ومحمد - عليه السلام - إلى يومنا هذا، يرى ولا شك أن العلامات التي لخصناها هنا من أقواها وأوضحها، وأقلها اعتسافا واستكراها للألفاظ والتراكيب على غير معانيها، وإنما ننظر إليها على كل احتمال مفروض فلا نرى أنها تغني عن الدلائل الكونية، ولا نعلم أن قيام الدعوة المحمدية قد اعتمد عليها عند أحد من المسلمين الأولين، أو عند أحد من الذين دانوا بالإسلام في الزمن الحديث.
فإذا فرضنا أن التخريج صحيح في كل ما أورده الباحثون المتقدمون وغيرهم؛ فإن هذه العلامات لم تنفع أحدا من الذين كانوا يقرءون التوراة في عهد الدعوة المحمدية، ولم نعلم لهم موقفا من الدعوة غير اللجاجة والمكابرة، والاشتداد في الإنكار على نحو لم نعلمه من الجاهليين والذين لم يطلعوا على حرف من كتب العهد القديم. وإذا قدرنا أن هذه العلامات لم ترد قط في كتاب سابق للدعوة المحمدية لم يكن ذلك مما يضير هذه الدعوة، أو يصدها عن طريقها، أو يسلبها وسيلة من وسائل الإقناع والذيوع التي اعتمدت عليها.
هذا على تقدير الصحة والصواب في كل تخريج، وفي كل علامة مذكورة مشروحة، فأما على غير هذا التقدير فلا حاجة بنا إذن إلى تعقيب طويل أو قصير.
ولا ندع الكلام على النبوءات الغيبية حتى نقرر فيها الرأي الذي يسلمه المنصفون، ولا يجرؤ أحد على إنكاره باسم العلم، أو باسم المنطق، أو باسم القياس الصحيح.
فما من أحد يجرؤ على أن يقول - باسم العلم - إن الإلهام بالغيب مستحيل؛ لأنه إذا جزم باستحالته وجب عليه قبل ذلك أن يجزم بأمور كثيرة لا يستطيع عالم أمين أن يقررها معتمدا على حجة أو سند قويم.
يجب على العالم الذي يجزم باستحالة الإلهام بالغيب أن يقرر لنا أنه عرف حقيقة الزمن، وعرف - من ثم - حقيقة المستقبل، ويجب عليه مع ذلك أن يقرر تجريد الكون من عنصر العقل غير عقل الإنسان والحيوان.
فما هي حقيقة الزمن؟ هل هو موجود في الماضي والحاضر والمستقبل، أو هو يوجد لحظة واحدة ثم يزول؟ وما هي هذه اللحظة الواحدة؟ وما مدى إحاطتها بالبعيد والقريب من الأمكنة الشاسعة في هذه الأكوان؟ وهل المستقبل موجود الآن؟ أو هو عدم يوجد لحظة بعد لحظة؟ وكيف يوجد العدم بعد أن لم يكن له وجود؟
Page inconnue