وفي اليوم الأول بعد دخول الكرادلة في مقام الانتخاب المعد لهم عند الساعة الثامنة، ناداهم مدير التشريفات بدق الجرس ثلاثا وهو يقول: «سادتي إلى المعبد. فلما قرع الناقوس توارد الكرادلة يتقدم كلا منهم خدمه حاملين محفظته حتى إذا دخلوا المعبد، تلا أسقف رومة الصلوات مبتهلا إلى الروح القدس طالبا أنواره، ثم أشار مدير التشريفات إلى الذين كانوا هنالك من غير الكرادلة أن يخرجوا فخرجوا وبقي الكرادلة وحدهم في المعبد، وأقفل المعبد من داخله، ثم جلس الكرادلة على مقاعد منتظمة على شكل مربع حول الهيكل وفوق رءوسهم مظلات وأمام كل مقعد منضدة للكتابة مغطاة بطنفسة نسج عليها شعار الكردينال الجالس إليها، وبإزاء الهيكل منضدة كبيرة عليها كأس من فضة جعلت فيه أوراق الانتخاب، واتخذ لذلك أوراق مطبوعة كتب عليها: «إني أختار الكردينال (فلان) حبرا أعظم.» فلما كتبت هذه الأوراق قام كل كردينال إلى الهيكل وصلى صلاة وجيزة راكعا أمام الصليب، وأقسم مرة ثانية بأنه ينتخب من يراه أحق بالسدة البطرسية، وأشهد الله على نفسه ثم ألقى الورقة في الكأس وعاد إلى مكانه بعد الانحناء أمام الصليب، وعدت أوراق الانتخاب عدا مدققا حتى تكون بعدد الكرادلة المنتخبين، ثم راجعوها وهم يعدون الكردينال منتخبا للبابوية إذا نال ثلثي الأصوات في هذه الجمعية، وكانوا في مدة الانتخاب يحرقون تبنا في موقدة ليتصاعد دخانه، ويعلم الشعب الواقف في ساحة القديس بطرس أن الانتخاب ما زال مستمرا.
فلما تم الانتخاب أحرقت أوراق بلا تبن لنارها لهيب بلا دخان، فعرف الواقفون خارجا أن الانتخاب قد تم، وعند ذلك تقدم كبير الكرادلة سنا مع مدير التشريفات والكرادلة الثلاثة الموكول إليهم في ذلك اليوم ترتيب المجمع، فسألوا البابا الجديد بصوت جهوري: «أترضى بانتخابك القانوني لرتبة عظيم الأحبار؟» فحالما أجاب بالقبول أعلن مدير التشريفات قبوله للفيف الكرادلة المجتمعين، فحاد عنه في الحال الكردينالان الجالسان إلى يمينه ويساره إجلالا لرتبته الجليلة ونزعت كل المظلات إلا مظلته إشعارا بمقامه، ثم سأله كبير الكرادلة ثانية: وبأي اسم تريد أن تدعى؟ فقال: باسم بيوس العاشر، وللحال كتب كاتب الكرسي الرسولي قرارا بذلك، وسار البابا بين اثنين من الكرادلة إلى الهيكل، فنزع ملابس الكرادلة وتردى بالثياب الحبرية وجلس إلى كرسي أمام المذبح ووجهه إلى جهة الحاضرين، فتقدم إليه كل الكرادلة وجثوا أمامه ولثموا يديه فقبلهم بقبلة السلام، وفي أثر ذلك قدم الكردينال الحكمدار للحبر الجديد خاتم الصياد فجعله في إصبعه، وفي هذا اليوم أعلن انتخاب الحبر الأعظم رسميا فأسرع البناءون إلى فتح النوافذ المسدودة، وفتحت الأبواب فسار أقدم الكرادلة وأمامه الصليب البابوي إلى شرفة فوق كنيسة القديس بطرس تطل على الساحة الكبرى، وأخبر الشعب بالانتخاب قائلا: «أبشركم بفرح عظيم، فإن حبرنا الجديد هو الكردينال سارتو وقد دعي بيوس العاشر»، وألقى من الشرفة ورقة تتضمن هذه البشرى تناولتها ألوف من الأيدي فانتشر الخبر في رومية انتشار البرق، وللحال دقت نواقيس كنيسة القديس بطرس وأجابتها نواقيس المدينة كلها، وطير البرق هذا الخبر إلى أقاصي الأرض، وفي غد اليوم التالي جرت حفلات في غاية العظمة والأبهة في قصر الفاتيكان، فإنهم ألبسوا البابا في إحدى ردهاته السفلى ملابسه الحبرية، وساروا به إلى المعبد السكستي، فبعد صلاة وجيزة ارتقى العرش البابوي فتقدم إليه الكرادلة ونالوا من قداسته البركة، وفي اليوم عينه عقد الحبر الأعظم مجلسا لسفراء الدول في إحدى قاعات الفاتيكان حيث تقبل تهانئ الدول جميعها.»
وقد تولى رئاسة الكنيسة في رومية إلى الآن 263 بابا منهم 214 إيطاليا، و21 من الشرقيين - أي الأروام والمصريين والسوريين - و17 فرنسويا و5 ألمانيين و3 إسبانيين وبورتغالي وإنكليزي وهولاندي. وأول من تولى رئاسة الكنيسة في رومية بطرس الرسول من سنة 42 إلى 66 وخلفه القديس لينوس من سنة 66 إلى سنة 77، وتوالى بعد ذلك الأحبار الآخرون، وفي سنة 1305 نقل الكرسي البابوي من رومية إلى أفنيون من أعمال فرنسا على عهد البابا كلمان الخامس وبقي فيها لغاية تنصيب غريغوريوس الحادي عشر، وفي أيامه - أعني في سنة 1370 - أعيد الكرسي إلى رومية. والبابا بيوس العاشر من أصل وضيع ولد في قرية ريز من إيطاليا في 2 يونيو سنة 1835 ورقي إلى رتبة كردينال في سنة 1893 على فنسيا (البندقية)، وهو الذي أجرى بعض ترميمات في كنيسة مار مرقص الشهيرة يشكر عليها، وانتخب بابا في 4 أوغسطس سنة 1903.
البابا بيوس العاشر.
ولما كانت رومية في ملك البابوات كانت تطلق المدافع من القلعة وتدق الطبول وتستعرض العساكر، ويعقد موكب للانتخاب بهي يسير من قصر الكيرينال (المقيم به الآن ملك إيطاليا) إلى بلاط الفاتيكان، فتظهر البابوية بكل رونقها. وكان البابا يركب عجلة ملكية بديعة تجرها الخيل المطهمة ويتقدمه الكرادلة، كل منهم في مركبته لابسين دروع الحرير الأحمر والبردة الأرجوانية المحشاة بالقاقم، وكان هذا الموكب يمر من شوارع رومية الغاصة بجماهير الخلق حتى يبلغ قصر الفاتيكان.
نابولي
إذا عدت مدن الأرض المعروفة بجمال الموقع وغرابة المشاهد كانت مدينة نابولي في مقدمتها بلا مراء؛ فإن الواصل إليها يذهله فرط بهائها وكثرة غرائبها؛ لأنه يدخل في جون من البحر مقوس الشكل والعمائر البديعة مرصوصة حوله من طرف إلى طرف على ضفة الماء ، وتتصل الأبنية والطرق المنظمة من البحر إلى هاتيك الروابي والتلال البهية الواقعة وراء المدينة، وكلها تتخللها الحدائق والأغراس والرحبات والميادين، وبقية أشكال الجمال الموصوف في المدن العظيمة، ومن وراء الكل جبل النار (فزوفيوس) يتقد جوفه اتقادا فيقذف النار من فوهته، ولطالما أوقع هذا البركان بعمائر الآدميين وله في تاريخهم ذكر كبير، فمن وقائعه تدمير مدينة بومبي الباقية آثارها على مقربة من نابولي، وهي من المشاهد العظمى التي يقصدها السائحون من كل جوانب الأرض، وعامة الناس هنا يقولون في أمثالهم «انظر نابولي ومت»، ولا عجب فإنها من أشهر مواضع الأرض في آيات الحسن، وهي أهم مدن إيطاليا وأكبرها لا يقل عدد سكانها عن سبعمائة ألف نفس، وفيها من المتاحف والمشاهد والآثار ما يقل نظيره، ولكن السياح الكثار الذين يفدون على هذه المدينة آلافا مؤلفة يشكون مر الشكوى من أهلها؛ فإنهم حالما يصلونها يزحمهم التراجمة والمرشدون والحوذيون والبياعون وصغار المنادين هؤلاء يعرضون عليك كبريتا ويعترضونك في المسير، وهؤلاء يصيحون في أذنك بأسماء الجرائد والصور التي يحاولون بيعها للذين يتعبون منهم ويتضجرون، وهؤلاء يضجون من حولك ويلغطون وبعضهم يقتفي منك الأثر ويضيق صدرك بإلحاحه، طالبا أن يكون رفيقك ويدور معك على المشاهد بأرخص الأجر أو يقدم لك ما شئت من الخدم وغير هذا كثير.
وعلى الجملة فإن نابولي مدينة كثيرة المشاهد والآثار والغرائب، يحار المرء في كيف يبدأ بوصفها، وأحسن ما يكونان يجعل المتفرج فاتحة الأمور زيارة «فيال ناسيوناله»، وهو متنزه ممتد بجانب البحر غرست فيه الأشجار والأزهار وأنشئت برك الماء، وهناك تصدح الموسيقى كل يوم من بعد الظهر، وفي وسط هذا المتنزه محل الأسماك، وهو بناء متسع جمعت فيه أنواع السمك والوحوش البحرية الغريبة الشكل مما يقل نظيره، وقد رأيت فيه السمك الكهربائي (نوربيل) وهو إذا مسه المرء شعر بقوة كهربائية، ورأيت أيضا المرجان الأحمر والأبيض، وقل أن يأتي أحد الناس إلى نابولي ولا يزور هذا المحل، وهو تحت إدارة لجنة لها مرتبات سنوية من حكومة إيطاليا ومن الحكومات الأجنبية، مثل ألمانيا وإنكلترا، تدفع ذلك تنشيطا لجمع ما يمكن جمعه من الجزر والخلجان من الوحوش والحشرات البحرية، والأجانب يأخذون إلى بلادهم كل نوع غريب الشكل بعد أن يدفعوا رسما صغيرا.
فتركت هذا المكان وذهبت إلى قصر الملك، وهو بعد قصر رومية أجمل القصور الملوكية في إيطاليا، فيه صور وتماثيل ملوك نابولي مدة الثمانمائة سنة التي حكموا فيها هذه البلاد، وشيء كثير من آثارهم والهدايا التي أرسلت إليهم، وبجوار القصر المذكور تياترو أو ملهى سان كارلو، وهو من أحسن الملاهي في شكله وزخارفه وغير بعيد عنه رواق أومبرتو سمي باسم الملك، وهو حديث بني في سنة 1890 بمبلغ اثنين وعشرين مليون فرنك، يبلغ طوله 185 مترا، ويقسم إلى أروقة نقشت وزخرفت وله في الوسط قبة جسيمة تحتها المخازن والحانات يزدحم فيها الناس على مثل ما ترى في كل مركز مثل هذا المركز الشهير.
وبعد ذلك سرت في شارع توليدو، ويقال له أيضا شارع رومية، وهو يخترق البلد من الجنوب إلى الشمال في طول ميل ونصف، ويمتد من البحر إلى الجهات العالية، وهو أبدا مزدحم بالخلق يتصل ببعض الميادين، منها ميدان كافور يقرب منه المتحف، وهو أحسن متاحف إيطاليا، فيه غرف كثيرة العدد ملئت بالنقوش على الحجر والتماثيل الرخامية والصور الزيتية ما لا يعد ولا يحصى. وفي نابولي البركان أو جبل النار لا ينقطع دخانه المتصاعد يبلغ 4000 قدم تقريبا في الجو، ولما يشتد هيجانه يقذف حجارا وصخورا ومواد أخرى مصهورة، ويسمع له صوت كقصف الرعد أو دوي المدافع يخرج من باطن الأرض، وقد تألفت شركة مدت سكة حديدية توصل إلى قمة هذا الجبل يصعدون بها إلى أعلاه ثم يعودون. ولطالما انفجر هذا البركان وألحق الأذى بالساكنين حوله، وأهم انفجار له في التاريخ حدث سنة 79 بعد المسيح حين انصبت مصهوراته الملتهبة على غير انتظار فوق مدينة بومبي ومدينة هيرا كولانوم فطمستها، وأبقت آثارهما العجيبة كما سبق القول وآثار بومبي من مشاهد إيطاليا الممدودة إلى الآن، وما زال البركان يشتد وينفجر من حين إلى حين حتى إنه بلغ درجة كبرى في سنة 306 حين علا رماده وطارت به الرياح حتى موقع الآستانة، وقد تكون من هذا الرماد وعلى شاطئ البحر جبل آخر في مدة 24 ساعة بلغ علوه 130 مترا وسماه الأهالي الجبل الجديد، وفي 1631 و1638 و1660 و1680 عاد إلى الهيجان ولم يكن ضرره كبيرا. وأما في سنة 1790 فإن مقذوفاته المصهورة أحرقت كل شيء أصابته من زرع وضرع. وفي سنة 1794 كان الانفجار شديد الهول حتى إن الرماد أحرق قرية توري التي أعيد بناؤها بعد ذلك. وفي سنة 1872 كان الانفجار أشد هولا فارتفع من فوهة الجبل عامود نار كان علوه 1300 متر، مات مئات من الأنفس في القرى المجاورة. ومن عهد ليس بعيد - أعني في شهر أبريل من سنة 1906 - هاج بركان فزوف هياجا شديدا، وفتحت له فوهة جديدة وقد ذعر أهالي القرى من قضاء سان جيوزيبه المجاورة له، وجعلوا يفرون إلى مدينة نابولي والبركان يصب عليهم نارا حامية، وكانت الأحجار تخرج من الفوهة ألوفا وتعلو لحد 3000 قدم ثم تتساقط، وجرى نهر من المواد المصهورة علوه 20 قدما وعرضه 600 قدم؛ فأغرق قرية بوسكو، وكان سيره بمعدل نصف ميل في الساعة، وكان الرماد يغطي القرى المجاورة، وتعذر على أهاليها الوصول إلى نابولي حتى إنهم لجئوا إلى الكنائس، وأصيبت قرية أوتاجانو بضرر عظيم؛ لأن الرماد أوقع سقف كنيسة سان جوزيبة فقتل فيها 150 نفسا، وعلا الرماد في قرية لتوري وتراكم فوق السوق فسقط من ثقله وقتل تحته 14 قتيلا وجرح 124، وخرب البركان القرى المجاورة له فباتت جردا ليس فيها نبت أخضر، وبلغ سمك الرماد في بعض الجهات ست أقدام، وكانت الغازات المتصاعدة من جوفه تقتل الذين يستنشقونها، وقد علموا فيما بعد أن اتساع الفوهة كان 1500 متر، وبلغ عدد الذين قتلوا في قضاء سان جوزيبة مائتين، فلما سمع ملك إيطاليا بهذا الحادث أصدر أمره إلى بعض البواخر الحربية أن تذهب إلى ثغر نابولي للإسعاف، وسار هو إليها بنفسه من رومية ومعه الملكة فذهبا إلى جبل فزوف وكان في ذهابهما خطر؛ لأن الرماد والرمال كانت تنسف في الوجوه، حتى إنها حجبت الهواء وجعلت التنفس أمرا عسيرا، ومع ذلك فإنهما تقدما ولم يضطربا، وقد زارا كل القرى المصابة، وأمرا بتوزيع 4000 جنيه للمصابين في هذا الحادث الأليم، وما زال ملك إيطاليا وقرينته يظهران مثل هذه المروءة في جميع الحوادث المحزنة، وقد خاطرا بالنفس في خرائب مسينا ورجيو الأخيرة حين دهمتهما الزلازل في أوائل سنة 1909 وقتلت من أهلهما 70 ألف نفس، وأضرت بمئات الألوف، وهي أكبر حوادث الزلزال في التاريخ الحديث، ربما كان سببها فعل هذا البركان، وما أحدث بمقذوفاته من الفراغ في جوف الأرض حتى هبط سطحها وأحدث المصاب المذكور.
Page inconnue