والحمامات هنالك واسعة كثيرة العدد، منها ما يختلط فيه الرجال والنساء، ومنها ما حفظ للرجال وحدهم وللنساء وحدهن، وقد عني أصحاب هذه المحلات بما يلزم للسيدات من أسباب الراحة مع الحمام؛ فصنعوا عربات خاصة تسير بالتي تريد الاستحمام إلى الماء، ولما تنتهي منه تعود بالعربة إلى حيث يمكن لها المسير، وتلبس ملابسها بالعربة، وكل ذلك حتى لا تتحمل مشقة المشي على الرمل إذا أرادت، وهنالك كراسي كبيرة من القش يجلس إليها المرء أو السيدة بعد الاستحمام، ويلذ حينئذ شرب المنعشات أو مطالعة الصحف والروايات، وإلى جانب الحمامات تلك الرمال التي ذكرناها والناس يتفننون في المشي عليها أو اللعب على طرق شتى، وبعضهم يركبون الحمير والخيل وبعضهم يجرون على الأقدام والبعض يتمرغون أو يتكئون، والبعض يقفون، فترى على ذلك الشاطئ البهي نحو خمسة آلاف شخص على كل حالة من الحالات يلعبون ويطربون حتى إذا تم لهم ذلك، دخلوا الكازينو لسماع الأنغام في قاعة الموسيقى أو لتناول الطعام على تلك الموائد الشهية، ويقومون بعد العشاء إما للرقص والمخاصرة في قاعة «البالو»، أو ينفرد الرجال منهم جماعات جماعات في غرفة المقامرة واللعب، فيقضون معظم الليل فيها، وعلى هذا يقضي الناس أوقاتهم هنا، حيث لا يعرف الهم ولا يخطر على البال كدر ولا غم.
روتردام:
ولما فرغنا من مشاهدة لاهاي وضواحيها البهية سرنا إلى مدينة روتردام، وهي تعد أكبر مراكز التجارة في بلاد هولاندا لا تفوقها في ذلك أمستردام، وإن تكن تلك أقل منها في عدد السكان، وهم يبلغون 250 ألفا، وقد بنيت هذه المدينة على ضفاف نهر الموز المشهور ووصلتها بالبحر ترعة عظيمة تسير بها البواخر خمس ساعات من البحر إلى داخل المدينة، ولا يقل عدد البواخر التي تمر بها في السنة عن خمسة آلاف، أكثرها تنقل المتاجر بين هولاندا وأقاصي الشرق في الهند وما يليها والغرب في أميركا. ويتفرع من هذه الترعة ترع أخرى صغيرة تخترق المدينة في أكثر جوانبها، وفي كل موضع سفن صغيرة تسير بالبخار ويتنقل عليها الناس للفرجة والنزهة ومشاهدة حركة تجارتها العظيمة وتلك الركام المتراكمة من الأبضعة المراد نقلها إلى شاسع الأقطار، وكلها تنقل إلى السفن أو منها إلى البر بالآلات البخارية الرافعة؛ تسهيلا للعمل واقتصادا لأجرة العمال الكثيرين. وفي هذه المدينة مخازن عظيمة ملأى بقوالب الجبن الهولاندي المشهور يأتيها من القرى في داخلية البلاد، ويرسل منها إلى جميع الأقطار، وهو يعرف باسمها في كل مكان.
وشوارع هذه المدينة كلها أو جلها واسعة صنعت على نسق واحد بديع المنظر، فإنك ترى في أحد الجانبين صفا من الأبنية النظيفة وأمامه رصيف واسع لمرور الناس عليه، ومن بعده مجال واسع للعربات ومن بعد ذلك صف من الشجر الجميل وبعده الترعة، والترع كما علمت داخلة في أكثر أنحاء المدينة، وفي الجهة الثانية من الترعة شجر فمجال للعربات الذاهبة والآيبة، فرصيف للمارة فمنازل الناس ومخازنهم، بحيث إنك إذا أردت الوصول من طرف أحد الشوارع إلى الطرف الآخر لزم لك العبور فوق القنطرة، وكل ذلك المجال في جانبي الشارع، والنزهة في ترع روتردام ولا سيما الترعة الكبرى فيها من أجمل ما يمكن للسائح أن يمتع به الطرف، فهي تشبه ترعة السويس في أهميتها وجمال السفر فيها شبها كبيرا. وفي المدينة مشاهد كثيرة، منها حديقة بديعة حوت نباتا وزهرا عني أصحاب العلم بنقله من أقصى أنحاء الشرق والغرب ولأشكاله الكثيرة غرابة وجمال.
ولما انتهينا من مشاهدة هذه المناظر عزمنا على مبارحة بلاد هولاندا والسفر إلى بلاد البلجيك، وهي كما علمت متاخمة لها فقمنا منها ومررنا على بلد روزنتال وعلى جسر عظيم بني فوق نهر الموز عند مصبه في البحر الشمالي، ولذلك الجسر شهرة واسعة لأنه يعد من أطول الجسور في الأرض كلها ومن أكثرها جمالا وغرابة، يسير فوقه القطار نحو خمس دقائق، وقد بني على 14 قنطرة يبلغ المجال بين الواحدة منها والثانية مائة متر، وفيه من الحديد ما يزيد وزنه عن أحد عشر مليونا وسبعمائة وتسعين ألف كيلو، لا يقل ثمنه عن اثني عشر مليون فرنك، وكان الركاب جميعهم مدة مرور القطار فوق هذا الجسر يتطالون ويتطلعون حتى لا يفوتهم منظر من أجمل المناظر، واستمر بنا الرتل يقطع المسافات حتى بلغنا بلدة أشن، وهي عند الحدود الفاصلة بين هولاندا وبلجيكا فنزلنا هنالك للتفتيش المعتاد عند الحدود، وانتهينا بهذا من السياحة في هولاندا وهي بلاد الاجتهاد والنشاط الكثير.
البلجيك
خلاصة تاريخية
تقدم معنا أن تاريخ هذه البلاد مرتبط بتاريخ هولاندا التي أتينا على وصف الأهم فيها، ولا بد من القول هنا إن بلاد البلجيك هذه كانت جزءا من بلاد أعظم وأكبر تعرف بهذا الاسم نسبة إلى القبائل القديمة التي عمرت هذه البلاد واسمها «بلجا» امتدت أطرافها إلى نهر الرين من جهة ونهر السين من جهة أخرى، وكان أول ما روى المؤرخون عنها أن يوليوس قيصر القائد الروماني المشهور وصلها في حروبه مع القبائل الشمالية؛ فأخضعها في سنة 52 قبل التاريخ المسيحي، وظلت من ملحقات السلطنة الرومانية نحو أربعمائة عام حتى ضمها كلوفيس إلى أملاكه، وكان كلوفيس هذا أول ملوك فرنسا من الدولة الميروفنجية، وظلت البلاد جزءا من فرنسا إلى ما بعد موت شارلمان المشهور وتجزئة مملكته فانقسمت أجزاء، وكان كل جزء منها قائما بنفسه ثم ألحق بعضها بفرنسا وبعضها بألمانيا، ولكنها حافظت في كل تلك المدة على استقلالها في الشئون الداخلية وتقدمت تقدما يذكر. وفي القرن الخامس عشر صارت هذه البلاد كلها ملكا لملوك فرنسا بحكم الوراثة، ثم انتقلت إلى ملوك النمسا ثم صارت من أملاك إسبانيا وعادت في القرن الثامن عشر فصارت من أملاك النمسا حتى عام 1795 حين ضمت إلى فرنسا على عهد الجمهورية الأولى، ولكنها عادت واستقلت بمساعدة دول أوروبا في سنة 1813 وصارت مع هولاندا مملكة واحدة كما علمت في تاريخ هولاندا، ففصلت عنها سنة 1830 بطلب أهل البلجيك وعين البرنس ليوبولد من آل ساكس كوبرج ملكا عليها، ومن ذلك الحين أقرت أوروبا استقلالها وعزلتها وجعلتها بمثابة الحاجز بين أملاك ألمانيا وفرنسا؛ فزهت البلاد ونمت نماء عجيبا حتى صار فيها نحو سبعة ملايين ونصف مليون مع أنها أرض صغيرة، فهي أكثر بلاد أوروبا خلقا وعمرانا بالنسبة إلى ضيق أرضها، وفي هذا دلالة كافية على تقدمها. وملكها الحالي ليوبولد الثاني تولى إدارة أمورها على الطريقة الدستورية المعروفة وساعدته التقادير على إنشاء سلطنة كبيرة لا يقل عدد سكانها عن عشرين مليونا في بلاد الكونجو بإفريقيا، ففتحت الأبواب لمتاجر البلجيكيين واتسع النطاق لصناعتهم وهم الآن يعدون من أهل الطبقة الأولى في الصناعة والتجارة، ولهم شهرة واسعة في المصانع الحديدية، وفي الهمة والإقدام على الأمور العظيمة لا يجهلها المصريون، وهم يرون من آثارها شركة الترامواي في مصر وإسكندرية وغيرها من الشركات التي تجمع الأرباح الوافرة، والبلجيكيون من نوعين، أكثرهما عددا الفلمنكي والثاني النوع الولوني، والكل يتكلمون الفرنسية وهي لغة البلاد الرسمية، ولكن في معظم القرى الشمالية تعد الفلمنكية لغة أهل البلاد، وأكثر الأهالي من الطائفة الكاثوليكية.
ألبير الأول ملك البلجيك.
أنفرس
Page inconnue