يجب المحافظة على جميع المرضى والجرحى والاعتناء بهم، بقطع النظر عن جنسهم أو دينهم، ويحق للقواعد أن يسلموا الجرحى والمرضى بعد الاتفاق بين الفريقين، حينما تسمح الأحوال.
هذه أهم الشروط التي اتفقوا عليها سنة 1846، وقد جعلوا الصليب الأحمر علامة هذه الجمعيات؛ لأنه علامة جمهورية سويسرا التي ابتكرت هذا النظام، والشعار المذكور كثير في مصر يلبسه عمال المستشفيات في الجيش الإنكليزي ويطبع على عرباتهم، وقد أبدل بالهلال الأحمر في الجيش المصري ومستشفياته، وقد جروا على هذه السنة في كل حرب حتى إنه كلما نشبت حرب تألفت جمعيات الصليب الأحمر من أهل الأقطار الباقية على الحياد، وأرسلت عمالها وبواخرها وأدويتها لخدمة المتحاربين على السواء.
وسكان جنيف مع ضواحيها نحو 80 ألفا، نصفهم من البروتستانت، وكلهم يتكلمون الفرنسية، والسبب في تكاثر البروتستانت هنا مذبحة يوم برثلماوس المشهورة التي حدثت في فرنسا سنة 1572، حين هرب جون كالفن وبعض الذين أصابهم اضطهاد وخيم، وقام هذا الرجل خطيبا في المدينة يلقي الأقوال الحماسية حتى ضم الأهالي إلى رأيه وحملهم على اعتناق مذهبه وطرد أسقفهم الكاثوليكي، فكثر أهل هذا المذهب من ذلك الحين. والمدينة على الجملة جوهرة من جواهر سويسرا، وهي من أجمل مدائنها، يحدها من الشرق والغرب والجنوب إقليم سافوا الذي ذكرناه، وقد كان ملكا لأمراء سردينيا - وهم ملوك إيطاليا الحاليون - فأهدته حكومتهم لفرنسا سنة 1860 جزاء مساعدتها لفكتور عمانوئيل الثاني على توحيد إيطاليا، وجعلها مملكة واحدة له ولنسله من بعده. وقد امتاز أهل جنيف من قدم بصياغة المعادن والجواهر وبعمل الساعات؛ فهم يصدرون منها كل سنة ما تبلغ قيمته 10 ملايين فرنك أو تزيد، وأول ما صنع من الساعات التي تدار بلا مفتاح كان في هذه المدينة. ولها شهرة بمدارسها أيضا؛ لأن التعليم فيها على قواعد قويمة حتى إن الطلبة يؤمون مدارسها من جميع الأقطار. وهي من قدم مثابة الأدباء، نبغ فيها الكاتب الفرنسي المشهور جان جاك روسو، وأقام فيها الشاعر الإنكليزي اللورد بيرون والقصاص الفرنسي لامارتين، وكتبوا فيها كثيرا من ذائع مؤلفاتهم.
وقد بني قسم من جنيف - وهو الأهم - على ضفتي بحيرتها المشهورة التي سنفرد لها فصلا خصوصيا. وأما القسم الآخر فبني على نهر الرون الذي يخرج من طرف البحيرة وعليه 8 جسور أو قناطر، أهمها جسر مون بلان، يذهب الناس عليه إلى الأحياء المبنية على ضفة البحيرة أو النهر. وجنيف مثابة السائحين والزائرين، قل أن يذهب امرؤ إلى سويسرا إلا ويقصدها؛ لأن موقعها بديع وهواءها طيب، وأسباب المعيشة فيها هينة، وليس فيها مع كل متنزهاتها وملاهيها عيوب المدن الكبيرة الداعية إلى الانهماك وإضناء القوى. والجبل القريب منها مرصع بالضياع العامرة والفنادق الحافلة بالزائرين، قد تقيم فيها العائلات برخيص الثمن، وتتمتع بلذيذ المأكول الذي لا يدخله غش؛ فإن لبنها وعسلها مما تضرب به الأمثال، وإذا أردت أن ترى شكل المدينة عامة فقف على جسر مون بلان الذي سبق ذكره تر البحيرة البهية تمخر فيها الباخرات المزخرفة، وإلى الضفتين صفان من شجر الدلب، تليهما الفنادق والمنازل الحسناء. ومن وراء هذا الجسر يرى الواقف كيف يخرج نهر رون الذي يروي قسما عظيما من أراضي فرنسا، فإذا سار المرء قليلا من هذا الجسر إلى الضفة اليمنى رأى تمثال دوك برنسوك، وهو من أفخر آثار الصناعة الحديثة في أوروبا كلها، كان سبب إنشائه أن هذا الأمير الألماني جار برعاياه فطردوه سنة 1830، فلجأ إلى جنيف وأقام فيها بقية أيامه، حتى إذا توفي سنة 1873 وهب المدينة عشرين مليون فرنك، فأقاموا له هذا الأثر الجميل بمليوني فرنك داخل حديقة صغيرة، وصرف الباقي في تحسين المدينة. ويليه الكورسال، وهو مثابة النزلاء والسائحين، فيه مواضع للمقامرة، ووراءه متحف إريانا فيه آثار سويسرية. وكل هذا الطريق يرى السائر إلى يمينه البحيرة وباخراتها، وإلى يساره صفوف البناء المنسق والحوانيت الملأى بصناعة السويسريين، مثل الحلي والجواهر على أنواعها، ويمكن الوصول من هنا إلى قصر البارون روتشلد وحديقته بتذكرة تعطى في الفنادق مجانا. وفي هذا القصر من بدائع التماثيل الرخامية ما يستوقف الأنظار.
هذا مجمل ما في الضفة اليمنى. وأما الضفة اليسرى من البحيرة فلا بد للذهاب إليها من الرجوع إلى جسر مون بلان واجتيازه؛ حيث يرى المرء عند طرفه قهوة كورون يختلف إليها الناس ألوفا، وجماعة النزلاء المصريين على نوع أخص. وعلى مقربة منها تمثال الاتحاد الوطني، وهو عبارة عن فتاتين ضمت إحداهما الأخرى تمثلان ولاية جنيف وبقية الولايات السويسرية حين انضمامها سنة 1815 بعد سقوط نابوليون الأول الذي استولى على جنيف في جملة أملاكه. وبقرب التمثال حديقة تعرف بالحديقة الإنكليزية، وهي من بدائع الموجودات تصدح الموسيقى فيها عصاري كل يوم، وتقام حفلات راقصة في الليالي المقمرة يأتيها أهل الطرب من جميع الأنحاء؛ ليمتعوا الأنظار بمنظر البحيرة وفسقيات هذه الحديقة، وهي يخرج الماء من نحو 30 حنفية فيها، ويندفع من صخور صناعية إلى علو 60 مترا، وقد يلونون الماء ليلا فيكون له منظر يطرب النفوس. وفي هذه الحديقة منظر يمثل شكل مون بلان (الجبل الأبيض)، يرى الناس فيه هذا الجبل وغرائبه بالمنظار إذا لم يمكنهم المسير إليه. ويمكن المسير من هذه الحديقة إلى متنزه أوفيف، وهو مجموع مطاعم وحدائق ومناظر شتى، تروق للألوف الذين ينتابونها في الليل والنهار.
وقد انتهينا الآن من وصف المناظر القائمة على ضفتي البحيرة، فعد إلى جسر مون بلان لنصف ما قام في مدينة جنيف على ضفتي نهر الرون، وهي متصلة بهذه القناطر أو الجسور . وأول ما تجد في طريقك ميدان مولار تباع فيه الأزهار على أنواعها، وفيه المحطة العمومية للترامواي الممتد إلى أطراف المدينة. واستمر على المسير من هنا تبلغ محلا بني فيه توربين، وهي آلات ميكانيكية لها قوة 4200 حصان، تدور من جري الماء عليها وضغطه، فتوزع منها المياه على المدينة، وتنار بالكهربائية وتدار بعض المعامل، وكل هذا بالقوة الكهربائية المتولدة من الحركة التي يولدها دفع الماء على هذه الآلات. ويمكن الوصول من هنا إلى موضع ملتقى النهرين، وهما نهر الرون الذي نحن بشأنه، ونهر آفر يجري معه، ويفرق بين النهرين لونهما؛ لأن الرون ماؤه أزرق كالفيروز الشهي، ونهر آفر أغبر فإنه يخرج من الجبل، ويجرف كثيرا في سبيله من المواد فيتعكر ماؤه. ويمكن المسير من هذا الموضع إلى متنزه الباستيون، وهو جميل كثير المراسح والملاعب والمناظر الحسناء، وهو من المواضع التي تقضى فيها الأوقات ولا تمل النفوس، والانتقال من طرف في جنيف إلى طرف هين يسير؛ لأن فروع الترامواي كائنة في كل جانب، والعربات كثيرة أينما سرت.
جبل ساليف:
هو أبهى ضواحي جنيف، لا يأتيها سائح إلا ويقصده، وقد جعله الأهالي مثابتهم في أيام الآحاد؛ لأنهم يبلغونه بسهولة وأجرة قليلة بعربات الترامواي إلى سفحه، ثم بقطار سكة الحديد إلى أعلاه. وقد ذهبت إليه في الصباح في رتل الترامواي مارا بين الحارات والأحياء داخل المدينة، وكروم العنب وبساتين الفواكه في ظاهرها حتى بلغت محطة أترامبية، وهي بدء سكة الحديد، فدخلت القطار وسار متعوجا متعرجا ملتفا بين هاتيك الصخور والأعشاب، وكان منظر البحيرة من دوننا بهيا، ورائحة العطر تتضوع من أشجار الصنوبر والكستنا، وحرجاتها كثيرة في تلك الوديان التي أشرفنا عليها من القطار، وبلغنا المحطة الأولى في الجبل واسمها مونتيه وهي على علو 750 مترا عن سطح البحر، فيها الفنادق الفاخرة تشرف على الوادي يقيم فيها المصطافون وينزلون منها إلى المدينة متى أرادوا، أو يصعدون أعلى الجبل في القطار، كما فعلنا حين عاد القطار إلى التثني والتعوج بين تلك المناظر الساحرة، حتى بلغنا محطة الثلاث عشرة شجرة، وهي آخر المحطات في أعلى الجبل ارتفاعها 1112 مترا، تفرق الركاب منها في أراض فرشت بالعشب السندسي، ولم تخطط فيها الشوارع؛ محافظة على جمال الطبيعة. وكان بعضهم يجمع رواميز من أعشاب ذلك الجبل وفراشه؛ ليحفظ منها مجموعا يفخر به مثل مجموع طوابع البوسطة. وعندهم في هذه المحطة خيل وحمير لمن أراد التنقل وانتياب أعلى المواضع. والمشي في الجبل كله هين؛ لما أنه متدرج الانحدار، فليس فيه مشقة في الصعود والنزول، وقد جعلوا له طريقا آخر إلى المدينة رجعت بها حتى أرى بقية المناظر المحيطة بهذا الجبل البهي. وكان القطار يسير على حافة لا يفصلها عن الوادي غير مترين، وقد اجتاز نفقا رأيت النور فيه خلافا لأمثاله؛ لأنهم جعلوا له نوافذ إلى الوادي يدخل منها النور والهواء، ولما انتهينا من هذا النفق وصل القطار إلى منبسط من الأرض فتركناه وعدنا بعد الظهر إلى المدينة، فكان يوم هذه النزهة من أجمل الأيام، وهي تستغرق يوما كاملا.
بحيرة جنيف:
ويقال لها ملكة البحيرات، طولها 45 ميلا وعرضها 8 أميال ومساحتها 225 ميلا، وماؤها أزرق نقي كماء البحار الكبرى، ولا مثيل له في البحيرات الأخرى. وهذه البحيرة تنقص في الشتاء وتزيد في الصيف مما يذوب وينصب فيها من جليد الجبال، وتمخر فيها الباخرات والسفن على أشكالها. وقد قامت على جوانبها 16 مدينة بهية زاهرة، بعضها في فرنسا والبعض في سويسرا، وسيأتي الكلام عنها. وفي هذه البحيرة أسماك شتى يأتون ببعضها من بعيد في البراميل ويلقونه فيها لينمو ويتكاثر، هذا غير طيور الماء التي تحوم حول البحيرة وتحط فيها، ولمنظرها بهاء معروف. والبحيرة هذه هي مدينة جنيف، كما أن البوسفور هو الآستانة - وقد قلت ذلك في حينه - وهي فاصلة بين سويسرا وفرنسا، فالباخرات تنتقل بين هذه المدائن من قطر إلى قطر، كما تنتقل بواخر البوسفور من الشاطئ الأوروبي إلى الشاطئ الآسيوي. وقد أنجزت السياحة في هذه البحيرة فكانت على النسق الذي يجيء.
Page inconnue