ولا زال يزحف حتى وصل إلى ساحل البحر، بعد صلاة الظهر قبيل العصر، ثم وهت قواعد قوته، وتداعت بناء بنيته، فاضطجع اضطجاع الميت، وترك التعلل بلو وليت، وكان قد مضى عليه خمسة أيام، ما تناول فيها شيئا من الطعام، فغاب عن الوجود، وكاد يلحق بقوم عاد وثمود، وقال لسان حاله، يشكو من صروف الزمان وأهواله:
أبى الله أن يصفو زماني ساعة
ويحلو ولو في النوم مما يكدر
فنصبر لا طوعا ولا عن إرادة
ولكننا رغما عن الأنف نصبر
وفي أثناء الاضطجاع، عبرت بالقرب من الساحل سفينة شراع، فوقع بصر رئيسها عليه، فانجذب قلبه إليه، ودنا بسفينته من البر في الحين، وأشار بالنزول إلى اثنين من الملاحين، وقال لهما: إن وجدتما الروح، في هذا الشبح المطروح، فاحملاه على كاهليكما بلا مهل، وبادرا به إلينا على العجل؛ لعله ينجو من الهلاك، ويتخلص من غائلة الارتباك، فامتثلا أمره وسارعا إليه، وقربا منه وعطفا عليه، وقبض أحدهما على نبضه، بعد ما تأمل في طوله وعرضه، ثم وضع يده على صدره، وجعل أذنه على فيه ونحره، فتراءى له أن النفس يتردد فيه، فرفعه على كتفه واستعان بأخيه، وسعى به إلى السفينة، التي كانت كقلعة حصينة، وكان فيها طبيب، ماهر لبيب، فعالجه حتى توجه إليه الشفاء، وزال عنه السقم والعناء، وصار يروح ويغدو بين الملاحة، ويثني على من ساق إليه صلاحه، وبعد شهر كامل عادت إليه الصحة، التي هي بلا شك أجل منحة، بيد أن البحر اضطرب بعد السكون، وأظلم الجو وزاغت العيون، وهبت من الجنوب رياح عاصفة، ولمعت بروق للأبصار خاطفة، وانحطت على السفينة أمواج كالجبال، من الأمام والخلف واليمين والشمال، فدارت ثلاث دورات بلا انقطاع، وهوت كلمح البصر إلى القاع، وبمصادفة القضاء والقدر، قبض أبو المسرات على لوح كان قد انكسر، وأنشد وهو يتقلب في أودية الخطر، ويتملل من البرد والمطر:
يا رب ما زال لطف منك يشملني
وقد تجدد لي ما أنت تعلمه
فاصرفه عني كما عودتني كرما
فمن سواك لهذا العبد يرحمه
Page inconnue