وعلمته الكر والإقداما
وصيرته ملكا هماما
وبلاغته سحبانية، وشهامته شيبانية، وحكمته يمانية، وعقيدته إيمانية، وعدالته عمرية، وهمته علوية، وهو جدير بما تمثل فيه بعض واصفيه:
ولو صورت نفسك لم تزدها
على ما فيك من شرف الطباع
والواقع أنه مستحق لما به اتصف؛ لأنه في وطنه أعلم الخلف، وقد أقمنا معه من الأعوام أربعة، فأنستنا مكارمه الزائدة منن ابن زائدة، وتذكرنا بحلمه وذكائه، وفهمه ودهائه، أحنف وإياس، وعبد الحميد وأبا فراس، وأخذنا عنه ما يملأ الوطاب، من كل معنى رقيق مستطاب، ولما حنت جوارحنا إلى الأوطان، وتاقت أنفسنا إلى الأهل والخلان، طلبنا منه الإجازة، بعد الاستعداد لقطع المفازة، وعندما سمح لنا بالتحول عن هذه البقاع، وسار معنا يوما كاملا للوداع، وقفنا وأقسمنا عليه، والدموع تنحدر من أعيننا وعينيه، أن يرجع مصحوبا بالصحة والنعم الشاملة، وأن لا يحرمنا في أثناء غيابنا عنه من المراسلة، ووعدناه أننا نعود بعد عامين إلى دياره، وأن لا نبرح بإرادتنا عن جواره، إلا إذا أذن بالرحلة، إن كان في الأجل مهلة، وبعد أن سلك كل منهما طريقه، وتأسف كل الأسف حين فارق رفيقه، تمادى الحسن وصاحبه على السير، مع القافلة إلى مكة المشرفة بلا ضير، وكان وصولهما إليها في موسم الحج، فنالا بالوقوف على عرفة والعج، ما تقر به أعين المؤمنين، وتفرح به قصاد بيت رب العالمين، ثم توجها إلى زيارة الرسول، وبعد الفوز منه عليه الصلاة والسلام بالقبول، تحولا عن هذه البقاع، وركبا سفينة من سفن الشراع، ووصلا بريح طيبة إلى مصر، في يوم خميس بعد صلاة العصر، هنالك أولمت الولائم، واجتمع فيها القاعد من الأقارب والقائم، وتوالى وفود الأحباب للسلام، مدة ثلاث ليال وثلاثة أيام.
وكان للشيخ أبي الحسن الأريب، صديق ماهر لبيب، وهو صاحب وجاهة شريف، ذو همة عالية ومقام منيف، كان لا يفتر عن ملازمته طرفة عين، قبل أن ينعق بينهما غراب البين، فلما حضر من غيبته، وازداد به سرور عترته، وسعى إلى زيارته جميع الجيران، وجاء سائر خلانه من أبعد مكان، تخلف عنه ذلك الصديق النبيل، والرفيق الذي هو نعم الخليل، فسأل عن هذا الوجيه، من أقاربه وذويه، فقيل له: إنه متوعك المزاج، إلا أن بضاعة صحته أخذت في الرواج، فقال: الآن وجب السعي إليه، والإقبال في هذا الوقت عليه.
ثم قام من منزله ومعه من جيرانه جماعة، في يوم الاثنين بعد ثالث ساعة، واستوى مع ثلاثة منهم في عربة، وأمر بسرعة السير؛ ليبلغ أربه، فطارت العربة بهم في سكة معتدلة، بغاية ما يمكن من العجلة، حتى وصلت في هنيهة يسيرة، إلى قصر في وسط حديقة نضيرة، فنزل على الباب، بمن معه من الأصحاب، وسأل الحاشية عن سيدهم المحترم، بيت الشرف والعلم والكرم، فقال له أحد الغلمان: إنه بعافية وهو جالس في الإيوان. قال الحسن: فلما أخذنا الإذن منه ودخلنا عليه، وتمثلنا على الفور بين يديه، قام واثبا على القدم، وكان كأنه الخلال من السقم، إلا أنه كان قد أخذ في النقاهة، فقابلنا سريعا بالوجاهة، وسلم سلام المشتاق، وبث ما عنده من ألم الفراق، ونبأ أنه كان يستنشق نسيم الأخبار، في مدة هذه الغيبة من السفار، ولو زال عنه ما كان اعتراه قبل التلاق، لسارع إلى المقابلة في جملة الرفاق، فعند ذلك ضمه إلى صدره، وقبله في عارضيه ونحره، وبالغ في الثناء عليه، وفرح بتوجه الشفاء إليه، وقال متمثلا فيه، بما أبداه المتنبي في سيف الدولة من معانيه:
المجد عوفي إذ عوفيت والكرم
وزال عنك إلى أعدائك الألم
Page inconnue