وعلما ) فقوله : ( ففهمناها سليمان ) [الأنبياء : 79] تقرير لإصابته عليه السلام في ذلك ، الحكم ، وإيماء إلى خلاف ذلك في داود عليه السلام ، لكن لما كان المجتهد معذورا مأجورا بعد بذله الوسع ، قال : ( وكلا آتينا حكما وعلما ) [الأنبياء : 79] وهذا من البيان الخفي فيما نحن فيه.
قال الحسن : والله! لو لا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين لرأيت أن القضاة قد هلكوا. فإنه أثنى على هذا بعلمه ، وعذر هذا باجتهاده. والنمط هنا يتسع ، ويكفي منه ما ذكر ، وبالله التوفيق.
ثم اعلم أن قصص القرآن الكريم لا يراد بها سرد تاريخ الأمم أو الأشخاص ، وإنما هي عبرة للناس. كما قال تعالى في سورة هود ، بعد ما ذكر موجزا من سيرة الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم : ( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ... ) [هود : 120] إلخ ، ولذلك لا تذكر الوقائع والحوادث بالترتيب ، ولا تستقصى فيذكر منها الطم والرم ، ويؤتى فيها بالجرة وأذن الجرة ، كما في بعض الكتب ، التي تسميها الملل الأخرى مقدسة. وللعبرة وجوه كثيرة. وفي تلك القصص فوائد عظيمة ، وأفضل الفوائد وأهم العبر فيها التنبيه على سنن الله تعالى في الاجتماع البشري ، وتأثير أعمال الخير والشر في الحياة الإنسانية. وقد نبه الله تعالى على ذلك في مواضع من كتابه كقوله : ( وقد خلت سنة الأولين ) [الحجر : 13]. وقوله : ( سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون ) [غافر : 85]. يذكر أمثال هذا بعد بيان أحوال الأمم في غمط الحق والإعراض عنه ، والغرور بما أوتوا ، ونحو ذلك. فالآية الأولى جاءت في سياق الكلام عن المعرضين عن الحق لا يلوون عليه ولا ينظرون في أدلته لانهماكهم في ترفهم وسرفهم ، وجمودهم على عاداتهم وتقاليدهم. والآية الثانية : جاءت في سياق محاجة الكافرين والتذكير بما كان من شأنهم مع الأنبياء. وبعد الأمر في السير في الأرض والنظر في عاقبة الأمم القوية ذات القوة والآثار في الأرض ، وكيف هلكوا بعد ما دعوا إلى الحق والتهذيب فلم يستجيبوا ، لما صرفهم من الغرور بما كانوا فيه ، ولم ينفعهم إيمانهم عند ما نزل بهم بأس الله وحل بهم عذاب التفريط والاسترسال في الكفر وآثاره السوءى. وليس المراد ، بنفي كون قصص القرآن تاريخا ، أن التاريخ شيء باطل ضار ينزه القرآن عنه. كلا. إن قصصه شذور من التاريخ تعلم الناس كيف ينتفعون بالتاريخ.
فمثل ما في القرآن من التاريخ البشري كمثل ما فيه من التاريخ الطبيعي من
Page 74