أو النفس، ويريد بها الشجاعة بمعنى الفعل الصادر عن الشخص ككل، إنه يعرفها بقوله: «أريد بالشجاعة تلك الرغبة التي تجعل كل إنسان يسعى إلى المحافظة على وجوده وفقا لتعاليم العقل وحده» (3، القضية 59).
ولكن هل يقف الأمر بتأكيد الذات عند هذا الحد؟
إنه - كما يقول إسبينوزا - هو المشاركة في تأكيد الذات الإلهية، فالقوة التي يحافظ بها كل موجود جزئي - وبالتالي الإنسان - على وجوده هي قوة الله (4، القضية 4). ومشاركة النفس في القوة الإلهية تفسر من خلال المعرفة والحب، فإذا عرفت النفس أنها جزء من الروح الأبدي، فستعرف وجودها في الله، وهذه المعرفة بالله وبوجودها في الله هي علة السعادة الكاملة، وهي تبعا لذلك أيضا علة الحب الكامل لسبب هذه السعادة، هذا الحب روحاني أو عقلي
intellectualis ؛ لأنه حب خالد؛ ولذلك فهو عاطفة لا تخضع للانفعالات المرتبطة بالجسد، وعن طريق المشاركة في الحب الروحي غير المتناهي يتأمل الله نفسه ويحب نفسه، وحبه لنفسه يجعله يحب ما يتعلق به من مخلوقات، أي يجعله يحب البشر.
هذه العلاقات تكشف لنا عن طبيعة الشجاعة، فهي من ناحية تفسر لنا لماذا كان تأكيد الذات هو الطبيعة الحقة لكل موجود، ومن ثم خيره الأسمى، فالتأكيد الكامل للذات ليس في الواقع فعلا منعزلا ينشأ في نفس الفرد، بل مشاركة في الفعل الإلهي الشامل لتأكيد الذات، وهو منشأ كل فعل فردي وقوته الدافعة، وفي هذا كله تعبير أساسي عن الشجاعة كفكرة وجودية «أنطولوجية»، وهي من ناحية أخرى تكشف لنا عن القوة التي تجعل الانتصار على الشهوة والقلق أمرا ممكنا، إن الرواقيين لم يستطيعوا أن يجدوا تفسيرا لذلك، حتى جاء إسبينوزا بفكرته عن المشاركة، فلقد عرف أن العاطفة لا تقهرها إلا عاطفة مثلها، وأن «عاطفة» العقل هي وحدها التي يمكنها أن تنتصر على عواطف الجسد وانفعالاته؛ لأنها هي عاطفة الحب الروحي أو العقلي التي تحس بها الروح نحو أصلها الخالد، وتعبر بها عن مشاركته في حب الله لنفسه؛ ولهذا كانت شجاعة الوجود ممكنة من حيث هي مشاركة في التأكيد الذاتي للوجود نفسه.
غير أن هناك سؤالا أخيرا يظل بغير جواب، سواء عند إسبينوزا أو عند الرواقيين، إن إسبينوزا نفسه يعبر عنه على هذا النحو في ختام كتابه العظيم «الأخلاق»: لماذا يهمل معظم الناس طريق الخلاص الذي أوضحه؟ ويجيب الفيلسوف إجابة لا تخلو من كآبة؛ لأنه عسير ومن ثم فهو نادر، ككل ما هو سام ونبيل ... •••
الشجاعة إذن هي تأكيد الذات الإنسانية بالرغم من ... ونسأل الآن: بالرغم من أي شيء؟ لا بد أن يكون الجواب: بالرغم من شيء يهدد تأكيد الذات أو يحاول أن يلغيه، أي أن الشجاعة التي وصفناها بشجاعة الوجود لا بد أن تواجه كل «عدم وجود» يحاول تهديدها، سواء على الصعيد الأنطولوجي أو الأخلاقي أو الاجتماعي ... إلخ. وإذا كانت هناك فلسفة اهتمت بألوان «عدم الوجود» التي تواجهها الشجاعة فتؤكد ذاتها «على الرغم منه» فهي فلسفة الحياة على اختلاف مذاهبها وأصحابها، فهي قد فسرت الوجود من ناحية الحياة أو التغير أو الصيرورة، وبذلك جعلت لعدم الوجود أهمية لا تقل عن أهمية الوجود نفسه، وكان لا بد لفلسفة الحياة أن تحاول تفسير هذا الشيء السلبي الذي يحاول - كما قلت - إلغاء الذات أو تهديد كيانها، والذي تثبت الشجاعة في وجهه على الرغم من ذلك، ولم تستطع الرواقية ولا الرواقية المحدثة أن تقدما تفسيرا لهذا الشيء أو هذه القوة السالبة، فإذا نظرنا إلى فلسفة إسبينوزا وجدنا من الصعب أن يكون لهذا الشيء أو القوة أو العنصر السلبي مكان في مذهبه ... فما دام كل شيء عنده ينبع ضرورة من طبيعة الجوهر الأزلي، فلن يكون لأي موجود من القوة ما يهدد به وجود شيء آخر أو تأكيده لذاته، سيكون كل شيء في مكانه وعلى حاله المرسوم، ولن تزيد كلمة تأكيد الذات عن كونها مبالغة في ذاتية شيء مع نفسه، صحيح أن إسبينوزا يتحدث عن تهديد حقيقي للذات، وعن تجربته التي علمته كيف أن معظم الناس يخضعون لهذا التهديد، وهو يتحدث عن الجهد أو السعي
Conatus
كما يتحدث عن قوة
تأكيد الذات، ولكن هذه الكلمات جميعا يجب ألا تؤخذ بحروفها بل من جهة التشبيه، فكلمة مثل كلمة القوة (سواء كانت قوة الإمكان
Page inconnue