هذا الصمود والانتصار، هذا التأكيد لوجود الإنسان الحق برغم كل المخاوف والشهوات، لا بد أن يخلق الفرح. إن سنيكا يحث تلميذه لوسيللوس في رسائله الجميلة إليه «أن يتعلم كيف يفرح»، ولكن هذا الفرح الذي يريده له لا يمكن أن يأتي نتيجة تحقيق الرغبات (فالفرح الحقيقي شيء قاس وعسير!) بل هو السعادة التي تحسها نفس «ارتفعت فوق جميع الظروف»، إنه التعبير العاطفي عن «نعم» شجاعة نتقبل بها وجودنا الحق ونثبته ونؤكده. وفي هذا الإثبات للوجود الذاتي الأصيل تتجمع الشجاعة والفرح، ويتحد الموت بالحياة، هناك يصل الإنسان إلى قمة وحيدة ومخيفة؛ فلا تزعجه المخاوف ولا تتلفه اللذات، ولا يخشى من الموت ولا من الآلهة كما يقول سنيكا في تعبيره القاسي الجميل. ولكن هل يستطيع الإنسان حقا أن يرتفع إلى هذه القمة أو يبلغ هذه الحكمة؟ وهل تستحق أن يبذل في سبيلها ذلك الثمن الباهظ الذي دفعه معظم الرواقيين؟ أليست هذه الشجاعة التي تعلو فوق الألم والعذاب - أو تكابدهما بغير أن تسمح لهما بالتأثير على ملكة العقل والتفكير - شيئا يقتصر بطبيعته على صفوة الناس دون غالبيتهم العظمى من البلهاء كما يحلو للرواقيين أن يسموهم؟ أليست شجاعة نابعة من الوحدة، لا بل من اليأس المطلق كما يقول سنيكا نفسه؟ وأي يأس هذا الذي يعلو بصاحبه فوق كل إحساس باليأس نفسه؟! أليس الصمود هنا اسما آخر للصدود، والعلو تعبيرا خاطئا عن الاستعلاء؟ وهل وصل الحكيم الرواقي نفسه إلى هذه «الحالة» التي تتجاوز كل حالة بشرية ممكنة؟! أسئلة كثيرة بغير شك، لا تحاول أن تشكك في صدق الرواقيين، بقدر ما تحاول الكشف عن استحالة طريقهم، وبيان ما فيه من تطرف في العزلة والتكبر والانفراد، وهو طريق يجد الحكيم فيه خلاصه، ولكن أين فيه الشجاعة التي تخلص الغير؟ وهل هناك أبعد من الفرق بين طريق الصدود والكبرياء وطريق الخلاص والنجاة؟ •••
تراجعت الرواقية عندما حل الإيمان بالخلاص الكوني محل شجاعة الزهد والصدود، ولكنها عادت في صورتها الحديثة عندما بدأ نظام العصر الوسيط الذي سادته مشكلة الخلاص في التحلل والانهيار، وأصبح ممثلوها صفوة من المفكرين الإنسانيين الذين رفضوا طريق الخلاص المسيحي، ولم يسيروا مع ذلك على طريق الرواقيين في التخلي والصدود. على أن المسيحية قد تركت أثرها على كل المذاهب الإنسانية الجديدة التي حاولت أن تحيي المذاهب القديمة، وإن أنكرت أفكار المسيحية في الخلق والتجسد أو تجاهلتها. يصدق هذا على محاولات إحياء الأفلاطونية والرواقية ومذهب الشك، كما يصدق على التجديد في الفن والأدب والسياسة وفلسفة الأديان، فقد تراجعت النظرة السلبية المتشائمة التي غلبت على أواخر العصر القديم أمام النزعة الإنسانية التي أصبحت تنظر إلى الحياة والتاريخ والإنسان نظرة متفائلة بالمستقبل والتقدم والأمل، ولم يعد الفرد كفرد رمزا لقيمة كلية فحسب كما كان الحال في العصر القديم، بل أصبح تعبيرا فريدا عن الكون كله، كما أصبح شيئا بالغ الخطر لا يمكن أن يتكرر أو يقارن بشيء سواه.
كان لهذا كله أثره الحتمي على مفهوم الشجاعة، فالنزعة الإنسانية في مطلع العصر الحديث ترفض فكرة الخلاص المسيحية، ولكنها ترفض كذلك فكرة الزهد الرواقية وتضع مكانها نوعا من تأكيد الذات يعلو على ذلك الذي عرفه الرواقيون؛ لأنه يتضمن الوجود المادي والتاريخي والفردي ، ومع هذا فقط نستطيع أن نسمي هذا الاتجاه الجديد بالرواقية المحدثة؛ لما فيه من عوامل مشتركة بينه وبين الرواقية القديمة، ولعل الفيلسوف الهولندي «إسبينوزا» (الذي يعرفه القارئ بمذهبه في وحدة الوجود أو بعبارته المشهورة الطبيعة أو الله)
2
هو خير ممثل لهذه المدرسة، وأهم من حاول وضع الأساس الوجودي الذي يقوم عليه الكيان الأخلاقي للإنسان، وذلك في كتابه الرئيسي «الأخلاق»، لا بل في عنوان هذا الكتاب نفسه. ولقد ركز إسبينوزا مذهبه الأخلاقي فيما يمكن أن نسميه اليوم «بشجاعة الوجود»، وهذه الشجاعة هي التعبير عن «تأكيد الذات»، وهو الفعل الأساسي الذي يشارك به كل شيء في الوجود، وتتضح أهمية تأكيدات الذات في مذهب إسبينوزا في قضية كهذه: «إن الجهد الذي يبذله كل شيء ليصمد في وجوده الخاص به، ليس إلا الماهية الفعلية لهذا الشيء نفسه (الأخلاق 3، القضية 7). هذا الجهد أو هذا السعي هو الذي يجعل الشيء على ما هو عليه، بحيث إذا اختفى فإن الشيء نفسه يختفي باختفائه، والسعي إلى المحافظة على الذات أو تأكيد الذات هو قوة وجود هذا الشيء أو حقيقته الفعلية، وقوة وجود الشيء هي فضيلته، وفضيلته هي جوهر طبيعته، والفضيلة هي القوة التي تجعل الإنسان يسلك وفقا لطبيعته الحقة، وتقاس درجة فضيلته بقدرته على تأكيد وجوده، وتأكيد هذا الوجود أو تأكيد الذات هو جماع الفضيلة، ولكن تأكيد الذات هو تأكيد الوجود الحقيقي، ولا تتأتى معرفة الوجود الحقيقي إلا عن طريق العقل، وهو قدرة النفس على امتلاك الأفكار الكافية؛ ولذلك كان السلوك النابع من الفضيلة مساويا للسلوك على هدي العقل من أجل تأكيد الوجود أو الطبيعة الحقة» (الأخلاق 4، القضية 24).
هكذا تتضح العلاقة بين الشجاعة وتأكيد الذات، ويستخدم إسبينوزا في الأصل اللاتيني لكتابه كلمتي:
Fortitudo
و
Animositas ، أما الكلمة الأولى فهي قوة النفس أو قدرتها على أن توجد وجودها الحق، وأما الكلمة الثانية فهي مشتقة من كلمة
Anima
Page inconnue