La Cité Parfaite selon les philosophes du dix-huitième siècle
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Genres
وإذا لم يتطرق إلينا كثير من الضجر فلنلق هذا السؤال العابر: «وما الأخلاق؟» دون انتظار للإجابة على سؤالنا؛ إذ قد ثبت بالاختبار أن تقريرات الفلاسفة تحير، وخذ مثلا آخر: تحديد فولني للقانون الطبيعي، وأقرنه بتحديد الحبر الملائكي (أي القديس توماس الأكويني) الذي سبق لنا ذكره، قال فولني: «(القانون الطبيعي) هو النظام المطرد الثابت للحقائق، وبه يدبر الله الكون في النظام الذي اقتضت حكمته أن يظهره لإدراك الإنسان الحسي والعقلي، لكي يكون لبني الإنسان قانونا موحدا مشتركا، يضبط تصرفاتهم، ويهديهم جميعا دون اعتبار ما لألوانهم وألسنتهم وشيعهم نحو الكمال والسعادة.»
25
عبارات هذا التحديد في ذاتها لا غرابة فيها، ولكن لو نفذ نظرنا إلى الفكرة نفسها، فهلا نرى أنها غريبة عنا، بعيدة بعد فكرة توماس الأكويني، ولا بأس بتحديد فولني إن استطعنا إثباته فلنسأله: كيف اكتسبت هذه المعرفة التامة بالله وبشئونه؟! ومن أنبأك أيها الرجل الشاك - اسمح لنا أن ننعتك هكذا؛ إذ إنك أنت الذي حملتنا على أن نتصورك شاكا - من أنبأك أن هناك نظاما ثابتا مطردا في الطبيعة؟ وهذا الحيوان الإنسان (ذلك النوع الممقوت كما وصفه فردريك الأكبر) كيف استطعت أن تثق - كما أنت واثق - من أنه يفهم معنى الكمال أو أن الكمال - بفرض أنه يبلغه - يجعله سعيدا؟
على هذا النحو من البساطة كانت تقريرات الفلاسفة تدعي صحة كل ما هو محتاج أشد الحاجة لإقامة الدليل على صحته، فكانت كما في اصطلاح علم المنطق مصادرات على المطلوب، على كل مطلوب يمكن أن يخطر ببالنا أن ننكره أو نتشكك فيه أو نثيره، فلا عجب أن يكون أول ما تتصور عقولنا المتصنعة عن أولئك الشاكين المسلمين بالكثير أنهم كانوا قوما سريعي التصديق سهلي الاقتناع جدا، وأنهم بالرغم عن كل شيء كانوا بسطاء جدا، وأن عواطفهم الإنسانية ساقتهم دون تفكير وروية إلى الترحيب بكثير من الكلام المعاد، وتقبل أنواع هزيلة من الدواء الذي يشفي من كل داء. ويحملنا رأينا هذا فيهم على أن نستشف - نحن المولعون باستجلاء كل سقيم - حقيقة حالهم، نريد أن نعرف علة هذا التفاؤل الهش، نريد أن نعرف سر قوام هذا الإيمان الصبياني وسر هذه الأهواء التي جعلتهم يرون فوضى هذا العالم المعقد نسقا واضحا بسيطا متماثلا. ترى هل جاءهم الوحي بنبأ فاستمدوا منه سلطانا للكلام باسم الله؟ والظاهر أنهم ادعوا شيئا من هذا، فهذا - مثلا - شريد جنيفا تراه على هوان قدره على نفسه يتحد كبيرا من كبراء الأساقفة بصوت متهدج النبرات قاصف كالرعد، وبعبارة أسرف فيها علوا: «أسألك أهو الطريق المستقيم، أهو الشيء الطبيعي أن يجد الله في البحث عن موسى ليكلفه إبلاغ أمر إلى جان جاك روسو.»
26
سؤال لا نستطيع نحن أن نجد له جوابا، وظاهر أن روسو كان يخفي في جيبه الجواب الذي يراه هو ويراه أصحابه الفلاسفة كافيا شافيا، وها نحن أولاء قد بدأنا نشعر أن أصحابنا هؤلاء اعتقدوا أن لهم وحدهم سببا يرتقون به للسماء أو مدخلا خفيا يلجون منه إليها، بابا موصدا دوننا، ولكنه يفتح لهم وحدهم حين يقرعونه قرعا متعارفا عليه بينهم، وإنا لنريد أن ندخل منه، نريد أن نعرف ماذا كان في صدر جان جاك روسو حينما طلب أن يعرف - رأسا ودون وسيط - رسالة الله له.
2
إن شئنا أن نحصل على المداخل الخفية الخلفية التي يلج منها أهل عصر من العصور خفية إلى دار المعرفة، فيحسن بنا أن نبدأ بالتفتيش عن كلمة السر بين كلمات معينة مبهمة المعنى، خفية المنزلة، تدور على الألسنة، وتجري بها الأقلام، دون تردد واستقصاء، كلمات فقدت بالتكرار المستمر معناها المجازي، فتوهمها الناس حقائق - ذات ماهيات ثابتة، كان للقرن الثالث عشر من هذا النوع من الكلمات: الله - الإثم - النعمة - النجاة - الجنة - وما إليها. وللقرن التاسع عشر: المادة - الحقيقة - الحقيقي - التطور - التقدم المطرد. وللقرن العشرين: النسبية - تعاقب الظواهر الملاءمة - الوظيفة - المركب. وللقرن الثامن عشر كلمات لا يستغني عنها مستنير ما، يبغي نتيجة يمكنه الوقوف عندها هي: الطبيعة - القانون الطبيعي - العلة الأولى - العقل - العاطفة - الإنسانية - القابلية للكمال. ولعل الثلاث الأخيرة كانت ألزم الكلمات لأصحاب القلوب اللينة منهم.
ومن خواص هذه الكلمات السحرية أنها تظهر وتذيع ثم تغيب وتختفي، وهي تفعل هذا وذاك خلسة، ولعل العلامة الوحيدة التي تنبئ باقترابها منا أو ابتعادها عنا، أننا نشعر أول ما تذكر بشيء قليل من الحرج، بشيء من الارتباك الذي يصحب الإتيان بما ليس مألوفا، فمثلا كلمة «التقدم المطرد»، نعمت بمنزلة طيبة منذ زمن طويل، ولكنا قد بدأنا نشعر حينما نستعملها بين الخاصة بضرورة التهوين من أمرها بعض الشيء، فنضعها - مثلا - بين علامتي حصر، والعلامتان كما نعرف هما الاعتذار التقليدي الذي يخلصنا عادة من الارتباك، أما الكلمات الأعرق نسبا، فإنها تسبب لنا عنتا أكبر، وإنا لنذكر كيف كان الرئيس ويلسون في خطبه في أثناء الحرب العالمية الأولى يسبب لنا ارتباكا غير قليل، حين كان يتحدث عن «الإنسانية» حديث صحبة وألفة، وحين كان يجهر صراحة بحبه لبني الإنسان. فإذا ما انتقلنا للكلمات: الإثم - النعمة - النجاة، كنا كمن يستحضر أشباحا من عالم الموتى، ولا عذر مطلقا لمن يفعل ذلك، فإن الالتقاء بأولئك المحضرين في مشهد لا عهد لأحد بشهوده مفزع حقا يعقل اللسان مهما كانت ظروف الالتقاء مواتية.
وهذه الكلمات السلطانية الكبرى لم تختف تماما في القرن الثامن عشر، ولكن استعمالها بدأ يبطل عند أرقى المثقفين على الأقل، حقيقة ظل اللاهوتيون - كما هو لازم - يكثرون من استخدامها، ولكن حتى هؤلاء شعروا بالحاجة إلى تبرير ذلك الاستعمال تبريرا عقليا، ومن الأمثلة على هذا كتاب الأسقف بطلر المشهور: تمثيل الدين طبيعيا ومنزلا (1737)،
Page inconnue